مرّت أربعة أشهر تقريبا منذ بدء القصف الإسرائيلي على غزة، إثر مقتل مئات المدنيين على يد مسلحين تقودهم "حماس" في جنوب إسرائيل. نزح داخليا 80% تقريبا من سكان غزة الـ 2.2 مليون، ولجأ أكثر من مليون منهم إلى رفح على الحدود المصرية. وبحسب السلطات المحلية، قُتل أكثر من 26 ألف شخص، بينهم 10 آلاف طفل على الأقل.
حتى قبل انتهاء الأعمال الحربية، يتركز الاهتمام حول ما يجب فعله بعد أن يخمد القتال. قالت الحكومة الأمريكية إنه يجب السماح لسكان غزة المهجرين بالعودة إلى ديارهم، وهو حق يحميه القانون الدولي. إلا أن العديد منهم ليس لديهم منازل يعودون إليها. وأفادت الأمم المتحدة أن أكثر من 60% من الوحدات السكنية في القطاع قد تضررت أو تهدمت. كما تضررت بشدة شبكة الكهرباء، ونظام المياه والصرف الصحي، والنظام الصحي، والمطاحن، والأراضي الزراعية، وغيرها من البنى التحتية المدنية. علاوة على ذلك، معظم سكان غزة هم أصلا لاجئون، أو ينحدرون من لاجئين هربوا أو طُردوا من الأراضي التي أصبحت جزءا من دولة إسرائيل. عليه، إلى أي ديار يحق لفلسطينيي غزة العودة؟
أنا يهودية إسرائيلية-أمريكية، متزوجة من لاجئ فلسطيني من غزة. تاريخ أسرتي وأسرة زوجي يقدم جوابا عن هذا السؤال. المرة الأولى التي طرد فيها الجيش الإسرائيلي حماتي من منزلها كانت في سن الخامسة تقريبا (لا تملك شهادة ولادة). في 1948، مع اقتراب الجنود الإسرائيليين من قريتها الواقعة في ما يُعرف اليوم بالساحل الإسرائيلي الجنوبي، هربت أسرتها إلى غزة، مع أكثر من 700 ألف فلسطيني هربوا أو طُردوا خلال الحرب التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل. (يطلق الفلسطينيون على هذه الهجرة الجماعية اسم "النكبة"). عاشوا في خيمة في مخيم للاجئين قبل الانتقال إلى منزل إسمنتي صغير سقفه صفيح. في المخيم، تزوجت رجلا من قريتها، التي دمرتها لاحقا السلطات الإسرائيلية. أنجبا خمسة أطفال.
المرة الثانية التي دمر فيها الجيش الإسرائيلي منزلها، كانت أما عزباء في الثلاثينات من عمرها، تربي أطفالها وحدها – هرب زوجها إلى مصر خلال الغزو الإسرائيلي لقطاع غزة في 1967. هدم جيش الاحتلال الإسرائيلي منزلها في السبعينات، بحجة تأمين مساحة إضافية لتحرك القوات العسكرية داخل المخيم المكتظ باللاجئين. فانتقلت مع أطفالها للعيش عند أقاربها. في التسعينات، بعد تسليم إسرائيل إدارة جزء كبير أراضي غزة للسلطة الفلسطينية، حصلت على مكان في المخيم لبناء منازل العائلة، منزل لها، ومنزل لكل من ابنيها وأسرتيهما.
كانت في سن الـ80 عندما أجبرها الجيش الإسرائيلي على مغادرة منزلها للمرة الثالثة. في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هربت إلى رفح مع أولادها، وأحفادها، وأحفاد أولادها بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أمرا إلى سكان غزة المليون بالفرار إلى الجنوب. بعد فرارهم بوقت قصير، تلقى شقيق زوجي اتصالا من مسؤول في الجيش الإسرائيلي يحذره، ويأمره بإخلاء منزل الأسرة، لأنه سيُقصف خلال 10 دقائق. أجاب: "لن أغادر"، رغم أنه كان قد صار في رفح. لدى شقيق زوجي حس فكاهة مفعم بالصمود.
منذ أكتوبر/تشرين الأول، شهد بقية أولاد حماتي وأحفادها على تدمير منازلهم، أو تلقوا اتصالات تحذير مشابهة. نخشى أن تكون هي وأولادها وأحفادها من بين مئات آلاف الفلسطينيين المهجرين الجدد في غزة. في هذه الأثناء، تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تدعو سكان غزة إلى مغادرة القطاع تشبه كثيرا التهجير القسري، أي جريمة حرب. كما أنها تغذي الصدمات العابرة للأجيال، لحماتي ونحو 1.7 مليون لاجئ يعيشون في غزة – 77% من السكان. ترفض الحكومة الإسرائيلية، منذ 75 عاما، السمح لهم بالعودة إلى الأماكن التي تركوها – هذا واحد من الانتهاكات الحقوقية الخطيرة التي تؤجج الأعمال القتالية الحالية.
حماتي لها الحق في اختيار أين تعود – إلى منزلها الذي خسرته في أكتوبر/تشرين الأول، أو منزلها الذي خسرته في 1948. إذا أراد صناع السياسة الأمريكيون الالتزام الدقيق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، فينبغي لهم ليس معارضة التهجير القسري فحسب، وهو ما فعلوه عن حق، بل أن يدعموا أيضا حق اللاجئين في أن يختاروا هم إلى أين يعودون ويعيدون بناء ما تدمر، بما يشمل المناطق التي أصبحت اليوم جزءا من إسرائيل. هذا لأن الحق في العودة – المكرس في القرار 194 الصادر عن "الجمعية العامة للأمم المتحدة" و"العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية" – يستمر حتى في حالة تغيّر حكام إقليم ما، طالما أن اللاجئين ومن يتحدر منهم، بغض النظر عن مكان ولادتهم، حافظوا على صلات مع المنطقة كي يعتبروها "بلدهم". لا يمكن المساومة على هذا الحق.
الجهة الأخرى من أسرتي لديها أيضا تجربة جماعية مع التهجير. بعد خمسة أعوام من فقدان حماتي منزلها في 1948، خسر والدي منزله في بغداد، بعد أن جعلت الحكومة هناك حياة اليهود مستحيلة في أعقاب قيام دولة إسرائيل. جرّدته الحكومة العراقية من جنسيته مقابل السماح له ولأهله بالمغادرة. لجأ إلى إسرائيل، حيث أصبح مواطنا. بالنسبة إلى أبي والعديد من اليهود الإسرائيليين، فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى إسرائيل تثير الخوف من فقدان الملاذ الآمن الذي يوفره البلد لهم، والأغلبية اليهودية التي يريدون المحافظة عليها.
يحمل يهود إسرائيليون كثر ذكريات عابرة للأجيال من "الهولوكوست" أو "المحرقة" في أوروبا – التي تسببت بوفيات أكثر بسبب رفض الدول حول العالم استقبال يهود أوروبا كلاجئين – إلى اضطرارهم إلى الفرار من البلدان العربية بعد 1948. بالنسبة للعديد من اليهود، فاقمت جرائم الحرب المرتكبة بحق مدنيين إسرائيليين في 7 أكتوبر/تشرين الأول هذه الصدمة. أي شخص كان له الحق في ملاذ آمن، والقانون الدولي لحقوق الإنسان يمنح الحكومة الإسرائيلية حرية واسعة لوضع سياسات الهجرة – بما يشمل تشجيع هجرة اليهود – وفي الوقت نفسه، اتخاذ تدابير لحماية مواطنيها والمقيمين فيها. لكن القانون الدولي لحقوق الإنسان ينص على أن الملاذ الآمن يجب ألا يكون على حساب انتهاك حق الفلسطينيين في الأمن، وحقوق أساسية أخرى، منها حق العودة.
ما العمل؟ ما لم تحدث تغييرات جذرية في سياسات الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية، لن تتمكن حماتي في المستقبل المنظور من إعادة بناء منزلها الذي خسرته وهي طفلة. سأشعر بالارتياح بمجرد السماح لأسرة زوجي بالعودة إلى شمال غزة، وحصولها على الدعم لإعادة بناء منزلها هناك. إذا كانت الحكومة الإسرائيلية لن تسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إل منازلهم الأصلية، عليها على الأقل ألا تهجّرهم من مخيمات اللاجئين التي أسسوا فيها حياة جديدة. لكن إذا أردنا إنهاء ليس العنف الدائر حاليا فقط بل دوامة القمع التي تجتاح إسرائيل وفلسطين، فعلينا أن نعتمد مقاربة ثابتة قائمة على الحقوق – مهما كانت مخيفة أو مزعجة للبعض – تعالج الأسباب الأساسية للعنف. وهذا يتضمن احترام حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.