ملخص
"يمكنك أن تحصل على صور من أي شخص وتدعي وجود تعذيب... ليس هناك أي تحقق من هذه الأدلة. وبالتالي جميعها ادعاءات بلا أدلة".
الرئيس السوري بشار الأسد، مقابلة مع مجلة فورين أفيرز، 20 يناير/كانون الثاني2015.
"أعرف هذا المكان، من الصور، حجرا حجرا وطوبة طوبة. عشت هناك على مدار 24 ساعة في اليوم. كان عليّ أن أحمل (الجثث) بنفسي".
سليمان علي (اسم مستعار)، مجند سابق عمل في المشفى "601" العسكري.
منذ اندلاع الانتفاضة السورية في 2011 مات كثيرون في مراكز الاعتقال الخاضعة لإدارة المخابرات السورية سيئة السمعة. في 2012، حددت "هيومن رايتس ووتش" مواقع 27 من مراكز الاعتقال هذه في جميع أنحاء البلاد، الكثير منها في العاصمة دمشق. تواترت شهادات عديدة من المعتقلين المفرج عنهم والمنشقين عن تفشي الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي والتعذيب وموت المعتقلين بأعداد كبيرة في سوريا. لكن يبقى نطاق التعذيب وعدد الوفيات في المعتقلات غير معلومين.
في يناير/كانون الثاني 2014، راجت أنباء عن مغادرة منشق لسوريا حاملا آلاف الصور، يظهر الكثير منها جثث معتقلين ماتوا في مراكز الاعتقال السورية. التقى فريق من محامين دوليين ونشطاء سوريين المنشق الملقب بـ "قيصر"، الذي قال إنه، بصفته مصور الطب الشرعي الرسمي للشرطة العسكرية، صوّر بنفسه جثث معتقلين وساعد في أرشفة آلاف مثلها.
التقطت هذه الصور، على ما يبدو، كإجراء روتيني لجهاز الأمن السوري لإعداد سجل صور فوتوغرافية لآلاف الذين ماتوا في المعتقلات منذ 2011، وكذلك عناصر قوات الأمن التي قتلت في هجمات المجموعات المعارضة المسلحة. الغرض الدقيق من الصور غير واضح. في مقابلة مع أحد الصحفيين، قال قيصر نفسه: "لطالما تساءلت" عن الهدف من ذلك. لكنه يرى أن "النظام يوثق كل شيء بحيث لا ينسى شيئا بالتالي، فإنه يوثق هذه الوفيات... في حال قام القضاة يوما ما بإعادة فتح القضايا، فإنه سيحتاج إليها".
في الإجمال، طبقا لفريق الخبراء الدوليين الذي أعد التقرير الأول عن هذه المجموعة من الصور، هرّب قيصر أكثر من 50 ألف صورة من سوريا على أقراص ممغنطة وأقراص تخزين صغيرة حتى انشق.
عهد بهذه الصور إلى "الحركة الوطنية السورية"، وهي منظمة سياسية معارضة. شكل أعضاء الحركة "الجمعية السورية للمفقودين ومعتقلي الرأي" (الجمعية السورية)، التي تسلمت ملفات هذه الصور. في مارس/آذار 2015، قدمت الحركة الوطنية السورية 53275 ملفا فريدا من نوعه لـ هيومن رايتس ووتش، قائلة إن هذه الملفات تمثل المجموعة الكاملة للبيانات التي جمعها قيصر. وقالت إن هذه الصور لم يطرأ عليها تغيير سوى إعادة التحجيم التي حدثت بفعل نقلها رقميا. وفقا لتواريخ الملفات، التقطت هذه الصور بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013، الشهر الذي انشق فيه قيصر.
صور قيصر
يمكن تقسيم صور قيصر التي حصلت عليها هيومن رايتس ووتش إلى 3 فئات.
أكبر فئة من هذه الصور، ضمت 28707 صور، تستنتج هيومن رايتس ووتش أنها لأشخاص توفوا وهم رهن الاعتقال في أي من مراكز الاعتقال العديدة، أو بعد نقلهم إلى مستشفى عسكري. ما يميز هذه المجموعة أن كل الجثث فيها تحمل أرقام تعريف، عبارة عن 3 أرقام منفصلة؛ إما مكتوبة على الجثة مباشرة، أو مكتوبة على ورقة موضوعة على الجثة، أو معلقة في إطار الصورة. توجد صور عديدة للجثة الواحدة، في الغالب ما بين 4 إلى 5 صور. لكنها قد تتراوح أحيانا بين 3 وأكثر من 20 صورة. الجمعية السورية، التي راجعت المجموعة الكاملة وسجلت صور كل جثة على حدة، وجدت أن الصور الـ 28707 هذه تخص ما لا يقل عن 6786 جثة لكل منها أرقام تعريف خاصة بها.
الفئة الثانية من الصور الفوتوغرافية تخص جثث جنود الجيش أو عناصر الأمن. التقطت هذه الصور، أيضا في مشارح مستشفيات عسكرية. لكن، عكس الفئة الأولى، تتضمن البطاقات الخاصة بهذه الصور اسم الشخص المتوفى، وأحيانا تاريخ وفاته. في العديد من الحالات، يسبق اسمه كلمة "شهيد"، ورتبته العسكرية. إضافة إلى البطاقات، غالبا ما تكتب كلمة شهيد والرتبة العسكرية للمتوفى في اسم الملف.
الفئة الثالثة من الصور، التي التقطتها الشرطة العسكرية السورية، يمكن وصفها بصور مسرح جريمة، التقطت في أعقاب هجمات حصلت خلال النزاع. هذه الصور التقطت في أعقاب أحداث متعددة، مثل التفجيرات، واغتيال ضباط الأمن، وإطلاق النيران، والسيارات المفخخة. يشير اسم الملف الذي تُحفظ فيه مجموعة الصور إلى نوع الحادث وتاريخه، وأحيانا، اسم الضحية. استطاعت هيومن رايتس ووتش التأكد من بعض هذه الحوادث والاغتيالات التي غطتها وسائل الإعلام السورية في حينها، وقدمت دليلا إضافيا على صحة الصور.
هذا التقرير يركز على تحليل الفئة الأولى من الصور بقدر كبير من التفصيل.
وفيات في الحجز
كل صور الفئة الأولى من صور قيصر - صور الجثث التي تستنتج هيومن رايتس ووتس أن أصحابها توفوا في المعتقلات - التقطت داخل ما يبدو أنها حجرات في مشارح، أو في فناء قال قيصر إنه مرآب سيارات في أحد المستشفيات العسكرية. أخبر قيصر كلا من فريق المحامين الدوليين الذي يحقق في الصور والكونغرس الأمريكي، أن الصور التقطت داخل المستشفيات العسكرية السورية. وقال أمام الكونغرس: "ما ترونه هنا مرآب مستشفى عسكري. اعتدنا أن نستغل المشرحة، لكنهم كانوا يحضرون مزيدا من الجثث، لذا قررنا استعمال المرآب بشكل دائم". باستخدام صور الأقمار الصناعية وتقنيات تحديد الموقع الجغرافي، فضلا عن أدلة قدمها منشق من المشفى 601 العسكري، تأكدت هيومن رايتس ووتش أن صور الفناء التقطت في فناء المشفى 601 العسكري في المزة في دمشق. أسماء الملفات في مجموعة الصور، وصور التقارير الطبية، وأوامر النظام القضائي العسكري المتضمنة في المجموعة، تدل على أن مصوري الشرطة العسكرية السورية، بالتنسيق مع مسؤولي الطب الشرعي، التقطوا الصور في المشفى 601 العسكري ومشفى تشرين العسكري، الموجود في دمشق أيضا.
لفهم ما تشير إليه أرقام التعريف في الصور، راجعت هيومن رايتس ووتش شهادة قيصر أمام الكونغرس الأمريكي، والتقارير التي أعدها فريق محامين دوليين قابلوا قيصر على مدار 3 أيام وتضمنت وصفا مفصلا لنظام الترقيم. كما قابلنا منشقين اثنين من الفروع الأمنية في دمشق، ومجندا سابقا في المشفى 601 العسكري، وممرض سابق في مشفى تشرين العسكري. أفاد منشقون سابقون أنهم رأوا أرقاما مكتوبة على جثث المعتقلين أو على بطاقات ملصقة بها قبل أن ينقل الحراس الجثث من الفروع الأمنية.
أخيرا، راجعت هيومن رايتس ووتش وثائق مسربة تتضمن أوامر بتصوير الجثث ونقلها. بعض هذه الوثائق من مجموعة قيصر، وبعضها حصلت عليه هيومن رايتس ووتش مباشرة من منشقين. بناء على المعلومات التي جُمعت، تعتقد هيومن رايتس ووتش أن الأرقام الثلاثة تشير إلى:
- رقم الفرع: رقم مخصص لكل فرع أمني تديره أجهزة المخابرات السورية. فمثلا، الفرع 215 (تديره شعبة المخابرات العسكرية)؛ والفرع 227 (فرع المنطقة، وتديره شعبة المخابرات العسكرية)؛
- رقم المعتقل: رقم مخصص لكل معتقل يمنحه له الفرع الأمني الذي يحتجزه؛
- رقم الفحص أو رقم الوفاة: رقم يخصصه الطبيب الشرعي في المستشفى العسكري لكل معتقل، ويُمنح في الوقت الذي يسجل فيه الطبيب الوفاة، ويعد تقريرا طبيا عنها، ويأمر مصورا عسكريا (مثل قيصر) بتصوير الجثة.
العدد الأكبر من الصور في مجموعة قيصر التقط في مراكز اعتقال الفروع الأمنية الخمسة التالية، وجميعها تقع في دمشق (تدير شعبة المخابرات العسكرية السورية 4 منها):
الفرع الأمني |
عدد ضحايا قيصر معرفا برقم الفرع |
215 (المخابرات العسكرية) |
3532 |
227 (المخابرات العسكرية) |
2043 |
المخابرات الجوية (تعرّف بحرف ج) |
352 |
216 "دوريات" (المخابرات العسكرية) |
293 |
235 "فلسطين" (المخابرات العسكرية) |
127 |
شملت الصور أيضا تلك التي التقطت في العديد من الفروع الأمنية الأخرى مثل الفرع 248 (المعروف باسم فرع التحقيق العسكري، المخابرات العسكرية)، والفرع 220، وهو فرع المخابرات العسكرية في سعسع، جنوب غرب دمشق، ومركز اعتقال الفرقة الرابعة، وسجن صيدنايا العسكري.
من المهم الإشارة إلى أن صور قيصر لا تمثل سجلا شاملا للوفيات في المعتقلات في منطقة دمشق في الفترة الزمنية التي التقطت أو جمعت فيها هذه الصور. فرغم أن العديد من مراكز الاعتقال أرسلت موتاها إلى مشفى تشرين والمشفى 601 العسكريَين، قال منشق عن أجهزة أمن الدولة السورية عمل حارسا في فرع أمن الدولة في الخطيب لـ هيومن رايتس ووتش إن من ماتوا في مركز الاعتقال الذي عمل به نقلوا إلى مشفى حرستا العسكري شمال شرق دمشق، وليس إلى مشفى تشرين أو المشفى 601 العسكري، حيث التقط قيصر الصور. علاوة على ذلك، الصور ليست عينة عشوائية، لكن تمثل الصور التي توصل إليها قيصر واحتفظ بنسخ منها، حين شعر أنه يستطيع أن يفعل ذلك، بقدر من الأمان النسبي. لذا، فإن عدد الجثث في مراكز الاعتقال، كما ظهر في صور قيصر، لا يمثل إلا جزءا من عدد من توفوا في مراكز الاعتقال في دمشق، أو حتى في هذه المنشآت بعينها، خلال فترة الـ 27 شهرا التي التقطت فيها الشرطة العسكرية والطب الشرعي هذه الصور. بناء على تتابع أرقام الفحص والوفاة، تعتقد الجمعية السورية أن صور قيصر تشير إلى ما لا يقل عن 11 ألف جثة صورت في مستشفيين عسكريين في دمشق من مايو/أيار 2011 إلى أغسطس/آب 2013، حين انشق قيصر.
التحقق من الصور: قصص الضحايا
سعت هيومن رايتس ووتش إلى الإجابة عن 3 مجموعات رئيسة من الأسئلة حول صور المعتقلين المتوفين: (1) هل الصور أصلية؟ هل هي حقا صور معتقلين متوفين؟ (2) إذا كانت كذلك، ما سبب وفاة هذا العدد الكبير؟ و(3) كيف وصلت هذه الجثث إلى المستشفيات العسكرية؟ وماذا حدث لها بعد ذلك؟
للتحقق من صحة الصور، أجرت هيومن رايتس ووتش تحقيقات معمقة في 27 حالة وفاة في المعتقلات لأشخاص ظهرت جثثهم في الصور. تضمنت التحقيقات فحص الأدلة التي قدمتها أسر المتوفين وزملاؤهم المعتقلون. كما فحصت هيومن رايتس ووتش صور المعتقلين الــ 27 قبل القبض عليهم وقارنتها بصور جثثهم التي هرّبها قيصر من سوريا.
مما سهّل البحث عن أقارب المعتقلين المتوفين الذين كانت صورهم ضمن صور قيصر، أن في مارس/آذار 2015، نشرت الجمعية السورية عدة آلاف من الصور للمعتقلين المتوفين، كما قامت بذلك جريدة "زمان الوصل" الإلكترونية السورية، ثم تناقلتها حسابات "فيسبوك" عديدة أخرى مخصصة للمختفين والمعتقلين والقتلى في سوريا. رغم أن وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم نشرت قصة صور قيصر في يناير/كانون الثاني 2014، ونشرت صورا ضبابية لجثث هزيلة أو غطت بعض أجزائها، فإن نشر الصور في مارس/آذار 2015، جعل الأسر تبحث، لأول مرة، عن أقاربها المفقودين بين الصور. قضى العديد من أقارب المعتقلين والنشطاء وأصدقائهم أياما في فحص الصور، بحثـا عن أقاربهم المفقودين. بعضهم اتصل مباشرة بالجمعية السورية، وبعد أن قدموا الدليل على أنهم أقارب المختفين، تلقوا مجموعة كاملة من صور أقاربهم.
تمكنت هيومن رايتس ووتس من التحقق من حالات 27 معتقلا، تطابقت بيانات أفراد أسرهم، بخصوص القبض عليهم وسماتهم الجسمانية، مع الأدلة الفوتوغرافية. الحالات الـ 27 تضمنت حالة صبي (14 عاما)، وامرأة. ورد وصف كلتا الحالتين في هذا التقرير. لمساعدتها على التعرف على الضحايا الــ 27، طلب باحثو هيومن رايتس ووتش من الأسر أن تذكر بعض القسمات المميزة بما فيها الوحمات والندوب والوشوم، وقارنت بين تواريخ القبض على المختفين وربطتها بصور الضحية، وسعت للحصول على أدلة من معتقلين سابقين رأوا الضحية في المعتقل.
في 8 حالات، رأى معتقلون سابقون الضحايا في المعتقل. وفي 4 حالات، شهد معتقلون سابقون وفاتهم أو رأوا جثثهم. وفي بعض الحالات الموثقة في هذا التقرير، حصلت الأسر من الجمعية السورية على صور تظهر جثت الأقارب بالكامل، ومن ثم تمكنت من التعرف القطعي عليهم بناء على ملابسهم، أو غيرها من العلامات المميزة التي لا تُرى في الصور المنشورة على الإنترنت. من بين 27 حالة، وافقت 8 أسر على نشر تفاصيل عن حالات أقاربها. الحالات الثماني وردت في التقرير.
إجمالا، يستند هذا التقرير إلى 27 مقابلة مع أفراد أسر معتقلين ماتوا في المعتقلات، و37 معتقلا سابقا، و4 منشقين عملوا في مراكز اعتقال تابعة للحكومة السورية أو المستشفيات العسكرية في دمشق.
تعرفت منظمات المجتمع المدني السورية على العديد من الضحايا الآخرين، إضافة إلى الحالات التي حللتها هيومن رايتس ووتش. قالت الجمعية السورية لـ هيومن رايتس ووتش إن أكثر من 700 أسرة تواصلت معها وقالت إنها تعرفت على أقاربها المفقودين في صور المعتقلين المتوفين. كانت أسرة واحدة من أصل كل 10 أسر راغبة في الحديث علانية عن أقاربها المتوفين، امتنع الباقون عن ذلك خشية الانتقام منها أو من أفرادها الذين ما زالوا في سوريا، وفقا للجمعية.
سعت هيومن رايتس ووتش، أيضا، إلى التحقق من الصور عبر المزيد من الوسائل التقنية. في حين أن معظم الصور الفوتوغرافية للمعتقلين فقدت بيانات التعريف حين نُسخت لتهرّب خارج سوريا، فإن ما لا يقل عن 271 صورة احتفظت بجزء من بيانات التعريف، تحدد الأنواع الأربعة للكاميرات المستخدمة في التصوير وبعض التواريخ. في يوليو/تموز 2015، ذكرت تقارير إخبارية أن "مكتب التحقيقات الاتحادي" الأمريكي حلل مجموعة من صور قيصر، ولم يجد دليلا على التلاعب فيها.
أخيرا، تحقق باحثو هيومن رايتس ووتش من صحة مجموعة من صور التقارير الطبية، وشهادات الوفاة، وبطاقات الهوية، والأوامر العسكرية وراجعوها، وهي كانت ضمن المجموعة التي هرّبها قيصر خارج سوريا. تقدم هذه الوثائق دليلا آخر على أن أصل الصور هو المستشفيات العسكرية السورية وأنها التقطت بناء على أوامر عسكرية من القضاء العسكري السوري. تؤكد الأوامر العسكرية أن الفروع الأمنية نقلت الجثث إلى المستشفيات العسكرية لتسجيلها ودفنها.
أسباب الوفاة
عرضت هيومن رايتس ووتش مجموعة من 72 صورة، لـ 19 ضحية منهم الثمانية الذين وردت عنهم لمحات في هذا التقرير، على منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" لتحليل الأدلة الجنائية. راجع فريق الأطباء الشرعيين من أطباء من أجل حقوق الإنسان الصور للحصول على أدلة على التعذيب، أو معرفة سبب الوفاة. وجد الأطباء الشرعيون أدلة على صدمات جسدية شديدة، والخنق، والتجويع، وفي حالة واحدة طلق ناري في الرأس. في بعض الصور التي راجعتها هيومن رايتس ووتش وأطباء من أجل حقوق الإنسان، ظهرت جروح كبيرة مفتوحة في أجسام المعتقلين، أو جروح جراء طلق ناري، أو دماء جافة خرجت من تجاويف الجسم. الكثير من الصور أظهرت أجسادا هزيلة وآثار تعذيب.
راجع طبيب يعمل لحساب الجمعية السورية (ليس خبيرا جنائيا) جميع صور المعتقلين وعددها 28707 وسجل الخصائص التي رآها. وفقا لتحليله، أكثر من 40 % من الجثث كانت هزيلة مع بروز ضلوع القفص الصدري وعظام الحوض، وفيها وجوه غائرة. تضمنت صور الموتى امرأة واحدة و100 صبي تقريبا، تعرف عليهم الطبيب عن طريق مؤشرات مثل شعر الوجه والجسم، وفقا لتحليل الجمعية السورية.
لفهم المزيد عن كيفية وفاة المعتقلين من خلال صور قيصر، حققت هيومن رايتس ووتش في أوضاع الفروع الأمنية في دمشق، بما فيها الفروع الأمنية الأربعة التي احتجز فيها العدد الأكبر من الضحايا الذين التقطت لهم الصور:
- الفرع 215 سيئ السمعة (تديره المخابرات العسكرية) يطلق عليه العديد من المعتقلين السابقين "فرع الموت"؛
- الفرع 227 أو فرع "المنطقة" (المخابرات العسكرية)؛
- فرع المخابرات الجوية في دمشق؛
- الفرع 235 (المخابرات العسكرية) المعروف باسم فرع فلسطين.
قابلنا 37 معتقلا سابقا وحارسَين سابقَين في الفروع الأمنية بدمشق، لمعرفة العلاج الطبي الذي كان متاحا، وكيف كان يُعامل المعتقلون، وما حدث للمعتقلين بعد وفاتهم. قابل الباحثون أيضا ضابطي جيش سابقين خدما في مشفى حرستا ومشفى (في المزة)601 العسكريين، وممرض سابق في مشفى تشرين العسكري. كما قابلت هيومن رايتس ووتش منشقين وممرضات لديهن معلومات مباشرة عن نظام الترقيم المستخدم لتتبع المعتقلين.
احتجزت السلطات المعتقلين في ظروف لا إنسانية، بوضعهم في زنازين قذرة مكتظة لشهور أو حتى سنوات. قال معتقلون إن الطعام الذي قُدم لهم غير كاف لدرجة أنهم عانوا من الجوع. قال معتقل سابق إنه خسر 35 كيلوغراما، نصف وزن جسمه تقريبا، في 6 أشهر فقط من الاعتقال. وقال رجلان أجريت معهما مقابلة لأجل هذا التقرير كانا معتقلين في فرع فلسطين، إنهما كانا يغتسلان مرتين في الأسبوع بشراء صابون من الحراس. قال الآخرون كلهم جميعا إنهم قضوا شهورا دون صابون، وإن الحراس لم يسمحوا لهم بالاستحمام. قال جميع المعتقلين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش إن التهوية شبه معدومة في زنازينهم، وإنها ذات درجة حرارة ورطوبة عاليتين. قال بعض المعتقلين إن الحرارة والرطوبة كانتا عاليتين، لدرجة أن ملابسهم تحللت بعد أسابيع قليلة من بقائهم في المعتقل.
مع إصابة المعتقلين بالضعف جراء نقص الطعام والهواء النقي والراحة، ومع العيش في أوضاع الاكتظاظ هذه، تنتشر الأمراض بسهولة. صدمة الاعتقال، علاوة على التعذيب الذي عانى منه كثير من المعتقلين تسببا، أيضا، في ضعوط نفسية، منها حالات أمراض عقلية خطيرة. قال معتقلون سابقون، قابلناهم لغرض هذا التقرير- منهم طبيبان - إن الأسباب الشائعة للموت في المعتقل كانت كما يلي:
- التهابات الجهاز الهضمي، التي تنطوي أحيانا على إسهال وجفاف شديدين؛
- الأمراض الجلدية المعدية؛
- التعذيب؛
- الضغوط النفسية التي تقود المعتقلين إلى رفض الأكل والشرب؛
- الأمراض المزمنة (مثل ارتفاع ضغط الدم، أو مرض السكري، أو الربو، أو أمراض الكلى) التي لم يحصل المعتقلون على الدواء أو العلاج اللازم لها.
حرمت السلطات المعتقلين من الرعاية الطبية الكافية. قال بعض الشهود إن المعتقلين المرضى لم يتلقوا إلا الباراسيتامول - وهو مسكن للألم يصرف دون وصفة طبية - حتى في الحالات الشديدة. قال آخرون إن حتى الأطباء الذين تواجدوا، أحيانا، في بعض الفروع، ضربوا المعتقلين وأساؤوا معاملتهم إلى حد أن المعتقلين فضلوا ألا يطلبوا مساعدتهم. قال منشق، قضى أكثر من 7 سنوات حارسا في فرع أمن الدولة في الخطيب بدمشق، لـ هيومن رايتس ووتش إنه طلب مرارا من رئيس الفرع أن يحصل حتى ولو على حبة مسكن واحدة لكل معتقل. قال عدد قليل من المعتقلين الذي قابلتهم هيومن رايتس ووتش إنهم نقلوا إلى مشفى 601 ومشفى تشرين العسكريين للعلاج، لكنهم تعرضوا لأوضاع تعسفية، كبل فيها الحراس أيديهم في أسرة المستشفيات، وضربوهم وعرضوهم لأصناف أخرى من الإساءة. أكد منشقون روايات عن هكذا إساءات في هذه المنشآت.
كما وصف معتقلون سابقون أنواعا مختلفة من التعذيب في الفروع الأمنية منها الشبح (تعليق المعتقلين من معاصمهم لساعات أو أيام)، وضرب المعتقلين على رؤوسهم أو صدورهم بأنابيب بلاستيكية، والجلد بأسلاك معدنية، والصعق بالكهرباء، والحرق. قال معتقلون قابلتهم هيومن رايتس ووتش إن المحققين أو الحراس في فروعهم ضربوا المعتقلين حتى الموت، وعلقوهم أو تركوهم حتى الموت بعد نوبات من التعذيب الشديد.
إجراءات ما بعد الوفاة
بعد وفاة المعتقل، ينقل حراس فرع الأمن جثمانه إلى مستشفى عسكري حيث يُوضع في المشرحة، أو في مرآب مكشوف حين يفوق عدد الجثث طاقة المستشفى. وفقا لمنشقين اثنين خدما في مستشفيين عسكريين، بعد أن يجمع مستشفاهما مجموعة من جثث المعتقلين، يأتي طبيب شرعي إلى المشرحة أو المرآب ويعطي كل جثة "رقم فحص" معينا (يظهر- كما توضح صور قيصر- جنبا إلى جنب مع كل من رقم الفرع الأمني الذي كان يعتقله، ورقمه الذي يحدده هذا الفرع). ثم يكتب الطبيب تقريرا طبيا، ويسمح بتصوير الجثمان من قبل مصور الطب الشرعي العسكري، ويأمر المجندين بوضع الجثمان في أكياس بلاستيكية. وفقا لفهد المحمود، وهو منشق خدم في مشفى حرستا العسكري، عادة ما تذكر هذه التقارير الطبية أن سبب الوفاة سكتة قلبية. وفقا للفريق القانوني الدولي الذي قابل قيصر، قال الأخير أيضا إنه بغض النظر عن السبب الفعلي للوفاة، تذكر التقارير الطبية سببين اثنين للوفاة: السكتة القلبية، أو الفشل التنفسي. راجعت هيومن رايتس ووتش 3 شهادات وفاة، سردت أحد هذين السببين، لكن أيا منها لم تذكر أسبابا أخرى للوفاة.
قال منشق من المشفى 601 العسكري، حيث تم نقل مئات الجثث التي صورها قيصر، لـ هيومن رايتس ووتش، إنه شهد بنفسه 2 من "جلسات التجهيز" هذه، وساعد في وضع الجثث في شاحنات بعد انتهاء هذه الجلسات. راجعت هيومن رايتس ووتش، أيضا، صورا لأوامر خطية من الفروع الأمنية ومن مسؤولين عسكريين تطلب من المستشفيات العسكرية فحص الجثث وإرسالها للدفن. تضمنت صور قيصر صورا لبعض هذه الوثائق، وحصلت هيومن رايتس ووتش- بشكل مستقل- على صور أخرى من منشق.
قال المنشقان اللذان قابلتهما هيومن رايتس ووتش وخدما في المستشفيين العسكريين إن جنودا نقلوا الجثث إلى مقابر جماعية في أرض عسكرية في منطقة دمشق الكبرى، منها مقبرة نجها، قرب القاعدة العسكرية للفرقة الثالثة، وقرب مطار الضمير العسكري. لم يتسن لـ هيومن رايتس ووتش التأكد من صحة ما ذكرا.
قضت أسر، أُجريت معها مقابلات لهذا التقرير، شهورا أو سنوات تبحث عن أبنائها وأزواجها وأقاربها وأصدقائها. دفع كثيرون منهم ملايين الليرات السورية رشى لمختلف المسؤولين الحكوميين والأمنيين. معظم الأسر لم تخاطب الفروع الأمنية سيئة السمعة خشية الاعتقال، ومع ذلك فإن الأسر التي تقدمت بطلبات رسمية للحصول على معلومات عن ذويها، لم تتلق تقريبا أي معلومات عن كيفية وفاتهم. بعضها حصل على شهادة وفاة تحدد، ببساطة، أن المتوفي مات جراء سكتة قلبية أو فشل تنفسي. لم تتسلم أي أسرة، ممن قابلتهم هيومن رايتس ووتس لأجل هذا التقرير، جثث أقاربها لدفنها.
على حد علم هيومن رايتس ووتش، لم يُشرع في أي تحقيق مستقل في وفاة أي سجين في عهدة الحكومة، ولم تنشر الحكومة نتائج أي تحقيقات داخلية قد تكون أجرتها. دعت منظمات دولية لحقوق الإنسان ومنظمات إغاثة والأمم المتحدة، مرارا، الحكومة السورية إلى السماح لها بالوصول إلى مراكز الاعتقال في فروع الأمن، لتحسين أحوال المعتقلين، والكف عن تعذيبهم. رغم هذه الدعوات المتكررة، استمر التعذيب في مراكز الاعتقال. الأنماط الممنهجة من سوء المعاملة المتعمد والتعذيب، وثقتها هيومن رايتس ووتش وغيرها من منظمات حقوق الإنسان، تشير بوضوح إلى أن التعذيب وسوء المعاملة سياسة دولة؛ لذا، يشكلان جريمة ضد الإنسانية.
الأدلة التي تقدمها صور قيصر، إضافة إلى تلك العمليات المحددة والمنظمة والمتكررة لتجهيز جثث المعتقلين، التي وثقتها هيومن رايتس ووتش وآخرون تشير، أيضا، إلى سياسة دولة تتسم بالتقاعس في التحقيق في وفيات المعتقلين وتخفيف الأوضاع المؤدية لمثل هذه الوفيات، بل هي في الواقع سياسة لتمكين وتسهيل وفيات جماعية في عهدة الدولة.
بالنظر إلى أن هذه الجثث كانت تُصور وتسجل أسبوعيا في المستشفيات العسكرية في العاصمة السورية، فإن رؤساء مراكز الاعتقال والمستشفيات العسكرية- وكذلك قادتهم- كانوا على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بتلك الوفيات الجماعية. أي أعمال داخل مراكز الاعتقال كانت جزءا من سياسة الدولة من القتل أوالتعذيب أو غيرهما مما يتسبب عمدا في معاناة شديدة، قد تصل إلى جريمة ضد الإنسانية. القادة الذين كانوا على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بالجرائم، وأخفقوا في منعها أو في محاكمة مرتكبيها، يقعون تحت طائلة المسؤولية الجنائية.
قد تُرتكب الجرائم ضد الإنسانية في أوقات السلم وفي حالات النزاع المسلح، على السواء. تتألف هذه الجرائم من أفعال محددة ترتكب على نطاق واسع أو منهجي كجزء من "هجوم على السكان المدنيين"، مما يعني أن هناك قدرا من التخطيط أو السياسة لارتكاب الجريمة. تشمل هذه الجرائم القتل والتعذيب والأفعال غير الإنسانية التي "تتسبب عمدا في معاناة شديدة، أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية".
المسؤولية عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا تقتصر على الأشخاص الذين يرتكبون الأفعال، بل تشمل أيضا من يأمرون بها أو يساعدون في ارتكابها، أو يشاركون بأي شكل آخر من أشكال التواطؤ فيها. وفقا لمبدأ مسؤولية القيادة، فإن المسؤولين العسكريين والمدنيين حتى القيادات العليا في سلسلة القيادة يقعون تحت طائلة المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ارتكبها مرؤوسوهم، حين يكونون على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بارتكاب هذه الجرائم، لكنهم لم يتخذوا التدابير المعقولة لمنعها.
في مقابلة مع مجلة فورين أفيرز في يناير/كانون الثاني 2015، رد الرئيس السوري بشار الأسد على مزاعم أن الحكومة السورية تعذب السجناء وتسيء معاملتهم قائلا: "في حال وجود طريقة منصفة وغير منحازة للتحقق من جميع هذه الادعاءات، طبعا نحن مستعدون، فذلك في مصلحتنا".
منذ نهاية أكتوبر/تشرين الأول تعقد مجموعة بلدان تكوّن ما يسمى "المجموعة الدولية لدعم سوريا"، وتضم إيران وروسيا والسعودية وتركيا والولايات المتحدة، مفاوضات في فيينا لدفع محادثات السلام في سوريا مجددا.
تدعو هيومن رايتس ووتش هذه الدول إلى أن تكفل هذه المفاوضات، على الفور، وضع حد للانتهاكات والتعذيب المتفشيين في مراكز الاعتقال؛ الضغط من أجل الإفراج على جميع المعتقلين المحتجزين بصورة تعسفية؛ كما تطالب بمنح مراقبين دوليين حرية الوصول إلى جميع مراكز الاعتقال في سوريا. كحد أدنى في أي عملية انتقالية في سوريا، ينبغي استبعاد جميع الأفراد المسؤولين الذين توجد ضدهم أدلة ذات مصداقية في التورط في التعذيب والجرائم الخطيرة الأخرى من أي مناصب قيادية في منظومة الاحتجاز أو الإشراف عليها.
على "مجلس الامن الدولي" أن يتبع قراره رقم 2139- الذي أدان بشدة الاعتقال التعسفي وتعذيب المدنيين في سوريا، فضلا عن عمليات الخطف والاختطاف، والاختفاء القسري- ويطالب سوريا بمنح مراقبين دوليين معترف بهم حرية الوصول إلى جميع مراكز الاحتجاز، الحكومية وغير الحكومية، دون إخطار مسبق. علاوة على ذلك، على مجلس الأمن تبني عقوبات تستهدف المسؤولين المتورطين في الانتهاكات وإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
على المجموعات السورية والدولية العاملة على قضية المفقودين في سوريا إنشاء نظام موحد لتسجيل جميع حالات الاختفاء في سوريا، بالإضافة إلى المعلومات عن رفات الجثث أو المقابر الجماعية المجهولة. يجب أن يكون هذا النظام مستودعا لكل المعلومات المتاحة من صور قيصر بخصوص مصير المختفين في سوريا، لتسهيل إجراءات التعرف عليهم وإعادتهم مستقبلا.
على روسيا وإيران، بوصفهما أكبر داعمين للحكومة السورية، إضافة إلى دعمهما التوصيات أعلاه، الضغط على هذه الحكومة كي تنشر، على الفور، أسماء جميع الأفراد الذين توفوا في المعتقلات السورية، واتخاذ جميع الخطوات الممكنة عمليا، لإخبار أسر المتوفين وإعادة رفاتهم إلى أقاربهم.
على الحكومة السورية أن تتيح حرية الوصول الفوري دون عوائق لمراقبي معتقلات دوليين معترف بهم لجميع منشآت الاعتقال، الرسمية وغير الرسمية، دون إخطار مسبق، بما فيها تلك المذكورة في هذا التقرير. على الحكومة ضمان ألا يكون احتجاز الأطفال سوى تدبير يتخذ كملاذ أخير ولأقصر فترة زمنية مناسبة. على الحكومة إطلاق سراح جميع الأشخاص المحتجزين بصورة تعسفية بمن فيهم الأشخاص الذين اعتقلوا لمجرد معتقداتهم السياسية، وعليها فورا وقف ممارسات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والاحتجاز، واستخدام التعذيب.
على كافة الدول الملتزمة بإنهاء الوفيات الجماعية للمعتقلين في سوريا، فضلا عن إنهاء التعذيب وإساءة معاملة المعتقلين على نطاق واسع، ممارسة الولاية القضائية العالمية أو أشكالا من الولاية القضائية، بما تنص عليه القوانين الدولية والوطنية؛ عليها التحقيق مع المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين يُزعم ارتكابهم جرائم جنائية ضد المعتقلين في سوريا في خرق للقانون الدولي، وعليها محاكمتهم في حال توفر الأدلة.
التوصيات
إلى أعضاء المجموعة الدولية لدعم سوريا التي تجتمع في فيينا لدفع عملية السلام السورية
- المطالبة، كحد أدنى في أي عملية انتقالية في سوريا، لوضع حد فوري للانتهاكات والتعذيب المتفشيين في مراكز الاعتقال، بما يلي:
- ألا يُمنح الأشخاص الذين توجد ضدهم أدلة ذات مصداقية بالتورط بالتعذيب والجرائم الخطيرة الأخرى أي مناصب قيادية في منظومة الاحتجاز أو الإشراف عليها؛
- بذل جهود لضمان المساءلة السريعة على الانتهاكات المتفشية في المراكز الاعتقال السورية؛
- منع الاحتجاز التعسفي بوضوح وعدم السماح بأي احتجاز من دون أساس قضائي واضح، يشير إلى تاريخ واضح لانتهاء الصلاحية بالاحتجاز؛
- منح مراقبي التفتيش المستقلين إمكانية الوصول إلى جميع مراكز الاحتجاز في سوريا. فتح مراكز الاحتجاز أمام الزوار، بمن فيهم الممثلين القانونيين؛
- عرض جميع المعتقلين بسرعة على قاض جنائي لتحديد قانونية احتجازهم.
- دعم إنشاء منظمة أو مؤسسة معترف بها دوليا تكون مسؤولة عن مصير المختفين والرفات البشرية والمقابر الجماعية المجهولة في سوريا. يجب أن تتمتع هذه المؤسسة بتكليف للتحقيق، بما في ذلك القدرة على مراجعة جميع السجلات الرسمية، مقابلة أي مسؤول، والوصول إلى أي وسيلة علمية أو تقنية أو قانونية ضرورية للتعرف على الرفات بواسطة الطب الشرعي وإستعادتها.
إلى مجلس الأمن
- مطالبة سوريا بمنح مراقبي الاحتجاز الدوليين المعترف بهم حرية الوصول إلى كل مراكز الاعتقال، الرسمية وغير الرسمية، دون إخطار مسبق، بما فيھا تلك المذكورة في ھذا التقرير؛
- إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية؛
- تبني نظام عقوبات محددة الھدف تجاه المسؤولين المتورطين في الانتھاكات والذين توجد ضدهم أدلة ذات مصداقية؛
- إلزام الدول بتعليق كافة المبيعات والمساعدات العسكرية بما فيھا التدريب والخدمات التقنية للحكومة السورية وأي مجموعة مسلحة توجد أدلة ذات مصداقية على تورطها في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، بالنظر للخطر الحقيقي المتمثل في إمكان استخدام تلك الأسلحة والتقنيات في ارتكاب انتھاكات حقوقية جسيمة؛
- مطالبة سوريا بالتعاون التام مع لجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة؛
- المطالبة بحرية التنقل للبعثات الإنسانية والصحفيين الأجانب ومنظمات حقوق الإنسان المستقلة.
إلى المجموعات السورية والدولية العاملة على قضايا المفقودين في سوريا
- إنشاء نظام موحد لتسجيل جميع حالات الاختفاء في سوريا، بالإضافة إلى المعلومات عن رفات الجثث أو المقابر الجماعية المجهولة. يجب أن يكون هذا النظام مستودعا لكل المعلومات المتاحة من صور قيصر بخصوص مصير المختفين في سوريا، لتسهيل إجراءات التعرف عليهم وإعادتهم مستقبلا. يجب توحيد معايير هذه البيانات وطرق جمعها لضمان فائدة المنظومة. يجب أن يتاح لأقرباء المفقودين القدرة على مراجعة أي معلومات عن أحبتهم تتوفر في هكذا منظومة.
إلى الحكومة السورية
- يجب نشر القوائم الرسمية لجميع المعتقلين الذين لقوا حتفهم في مراكز الاعتقال والسجون التابعة للحكومة السورية، بما فيها الفروع الأمنية التي تديرها هيئات المخابرات السورية؛
- نشر القوائم الرسمية لجميع الأفراد المحتجزين حاليا في مراكز الاعتقال السورية؛
- الإيقاف الفوري لممارسة الاخفاء القسري، والاعتقال والاحتجاز التعسفيين، واستخدام التعذيب؛
- إصدار شهادات وفاة لجميع المعتقلين المعروف وفاتهم في السجن، بناء على فحوص وافية من الطب الشرعي، وإتاحة وصول الأسر بسهولة إلى هذه الوثائق؛
- توفير حق الوصول الفوري ودون معوقات لمراقبي الاحتجاز الدوليين المعترف بھم إلى كافة مراكزالاعتقال، الرسمية وغير الرسمية، بدون إخطار مسبق، بما فيھا تلك المذكورة في ھذا التقرير؛
- تزويد المعتقلين بطعام ذي قيمة غذائية كافية للحفاظ على صحتهم وقواهم، تكون جيدة النوعية وحسنة الإعداد وتقدّم بصفة منتظمة، وجعل مياه الشرب متوفرة لكل المعتقلين والمعتقلات كلما كانوا بحاجة إليها، وفقا لـ "قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء"؛
- توفير المنشآت الصحية الكافية للمعتقلين وتمكينهم من الوصول بشكل منتظم إلى مرافق الاستحمام، بحد أدنى مرة واحدة في الأسبوع، وفقا لقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء؛
- توفير الحصول السريع على الرعاية الصحية للمعتقلين، وفقا لقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء؛
- إطلاق سراح جميع الأشخاص المحتجزين بصورة تعسفية بمن فيهم المعتقلين لمجرد معتقداتهم السياسية؛
- ضمان عدم احتجاز الأطفال في ذات المنشآت مع البالغين، وألا يكون احتجاز الأطفال سوى تدبير يتخذ كملاذ أخير، ولأقصر فترة زمنية مناسبة؛
- إيقاف أفراد الأجھزة الأمنية الذين توجد بحقھم مزاعم مقنعة بانتھاك حقوق الإنسان عن العمل، لحين انتهاء التحقيقات؛
- إلغاء المرسوم التشريعي رقم 14 بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 1969، والمرسوم التشريعي رقم 69 اللذين يوفران الحصانة لأفراد الأجھزة الأمنية. يفترض استصدار أمر ملاحقة من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة لملاحقة أي فرد من أفراد قوات الأمن الداخلي أو الأمن السياسي أو شرطة الجمارك قانونيا؛
- توفير حق الوصول الفوري دون معوقات لمراقبين مستقلين وصحفيين ومراقبي حقوق الإنسان، بمن فيهم مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالات الإعدام خارج نطاق القانون أو التعسفية، ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، ولجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان الأممي، والتعاون معهم.
إلى روسيا وإيران
بصفتهما الداعمين الأساسيين للحكومة السورية:
- يجب حث سوريا على تنفيذ التوصيات المذكورة أعلاه، لا سيما الضغط عليها للوصول الفوري ودون عوائق لمراقبين دوليين معترف بهم لجميع مراكز الاحتجاز، والإفراج عن جميع الأشخاص المحتجزين تعسفيا.
إلى كافة الدول
- يجب العمل بشكل فردي، أو مشترك من خلال الآليات الإقليمية عندما يكون ذلك مناسبا، على تبني أو تشديد العقوبات التي تستهدف مسؤولين سوريين متورطين بأدلة مقنعة في الانتھاكات الجسيمة الجارية للقانون الدولي لحقوق الإنسان؛
- ممارسة الولاية القضائية العالمية أو غيرها من أشكال الاختصاص المنصوص عليها في القانون الدولي والقانون الوطني للتحقيق وجمع الأدلة التي تتيح ملاحقة قادة الجيش والمسؤولين المدنيين السوريين، الذين يُزعم تورطهم في جرائم جنائية ضد المعتقلين في سوريا، في انتهاك للقانون الدولي.
- حيثما يسمح القانون الوطني، جمع الأدلة التي قد تكون متاحة في البلد ويمكن استخدامها في إجراءات جنائية في المستقبل، في حال دخول المشتبه بهم أراضي دولة أخرى، أو لتسهيل ملاحقتهم قضائيا في أي مكان آخر، مستقبلا؛
- دعوة مجلس الأمن الدولي لإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، بوصفها الجهة الأكثر قدرة على التحقيق بشكل فعال مع الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية الأكبر عن الانتهاكات في سوريا، وملاحقتهم قانونيا.
منهجية البحث
استند هذا التقرير إلى 27 مقابلة مع أفراد أسر معتقلين توفوا في المعتقلات و6 من أصدقاء معتقلين ماتوا في الحجز، و37 معتقلا سابقا، و4 منشقين عملوا في مراكز الاعتقال الحكومية أو المستشفيات العسكرية السورية. أجريت المقابلات في لبنان وتركيا، وأيضا عبر الهاتف مع أفراد ما زالوا في سوريا. في المجمل، أجريت 82 مقابلة لأجل هذا التقرير.
أجريت معظم المقابلات بالعربية من قبل باحثين يتحدثون العربية، وبعضها كان بالإنغليزية بمساعدة مترجم فوري. في الحالات التي تضمنت نشر صور لمعتقلين متوفين، حصلنا على موافقة خطية من أحد أفراد الأسرة المباشرين، أو من صديق مقرب للعائلة، في حال عدم العثور على أحد أفراد الأسرة المباشرين على قيد الحياة. في كل الحالات التي ذكرنا فيها الأسماء الحقيقية لمن قابلناهم، حصلنا أيضا على موافقة خطية على ذلك. بسبب خطر الانتقام ممن تحدثوا معنا وما زالوا في سوريا، أو الانتقام من أسرهم التي ما زالت في مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة، بما فيها مراكز الاعتقال السورية، طلب العديد ممن قابلناهم ذكر أسماء مستعارة لهم. في كل حالة لم نذكر فيها الاسم الحقيقي، أشرنا إلى ذلك. لم يحصل من قابلناهم على أي مقابل مادي. وكانوا على علم تام بالغرض من المقابلة، وكيفية استخدام هيومن رايتس ووتش للمعلومات التي قدموها.
تلقت هيومن رايتس ووتش نسخا من 53275 صورة فوتوغرافية من الحركة الوطنية السورية، وهي مجموعة سياسية معارضة للحكومة كانت قد استلمتها من عسكري منشق عرف باسم "قيصر". أرسلت الحركة الصور بعد إقرار مذكرة تفاهم مع هيومن رايتس ووتش، تنص على استخدام الصور لأغراض البحث حصرا. (انظر الخلفية). وفقا للحركة، تمثل هذه الصور المجموعة الكاملة التي تلقتها من قيصر. راجع باحثون المجموعة المؤلفة من 28707 صور تظهر معتقلين ماتوا في الحجز، ونحو 24568 صورة تصور جنودا حكوميين قتلى ومسارح جرائم (تتضمن حوادث إرهابية، وحرائق، وتفجيرات، وسيارات مفخخة).
قابلت هيومن رايتس ووتش 33 شخصا قالوا إنهم تعرفوا على صور أقاربهم أو أصدقائهم ضمن صور قيصر. زودنا أقارب الضحايا بصورهم قبل القبض عليهم، وأخبرونا بملامح وعلامات ربما تظهر على جثة المتوفى. قارن الباحثون هذه المعلومات بصور جثث المتوفين. كما قارنا معلومات عن تواريخ القبض على الأفراد، وأي معلومات زودتنا بها أسرهم عن جهاز المخابرات الذي اعتقلهم. في بعض الحالات، علم أفراد الأسرة من معتقلين سابقين أو عبر اتصالات غير رسمية مع مسؤولين حكوميين، أن قريبهم محتجز في منشأة تحددت هويتها، لاحقا، برقمها في صورة قيصر. في 4 حالات، شهد معتقل سابق وفاة ضحية محددة الهوية في الحجز أو شاهد جثة الضحية في مركز احتجاز بعد موتهم.
عرضت هيومن رايتس ووتش 72 صورة لضحايا تعرفت عليهم أسرهم، منهم ضحايا وردت لمحات عنهم في هذا التقرير، على باحثين في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وهي منظمة مستقلة لتوثيق حقوق الإنسان، تستعين بالخبرات الطبية لتوثيق الانتهاكات الحقوقية. قدمت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان تقريرا أعده خبراء الطب الشرعي، يحلل الجروح البدنية والخصائص المُشاهَدة في هذه الصور، وما إذا كانت أي من هذه الإصابات ربما تسببت في الوفاة. وأجرت المنظمة تحليلها كالتالي:
طريقة التحليل الشاملة للصور الرقمية تكونت من استعراض النظير لكل صورة على شاشة عالية الوضوح مع مجموعة من الأطباء الشرعيين. الغرض من طريقة استعراض النظير هذه، التعرف على الإصابة على سطح الجثمان المكشوف، ومحاولة التكهن بآلية الإصابة، والدور الذي لعبته في وفاة المعتقل.
تضمن هذا التقرير إشارات إلى تحليل خبراء أطباء من أجل حقوق الإنسان، الذي قُدم خطيا لـ هيومن رايتس ووتش. على الرغم من تحديد أطباء من أجل حقوق الإنسان عدة أنواع من الإصابات والأسباب المحتملة للوفاة من الصور، فقد أشار خبراء المنظمة إلى أن الإصابات، التي تضمنت الاختناق، وفشل القلب والجهاز التنفسي، وإصابات الرأس الداخلية، والإصابات بصدمة داخلية عنيفة، لا يكون واضحا من تحليل الصور الفوتوغرافية. كما لفتت إلى أن "الصور الرقمية لم تظهر الجزء الخلفي من جثامين الضحايا، ومن ثم فإن أي إصابات قد تكون موجودة على الجزء الخلفي لا يمكن تقييمها".
سعت هيومن رايتس ووتش لمقابلة قيصر عبر منظمات قالت إنها تمثله، لكنها لم تفلح في ذلك. بدلا من ذلك، راجع باحثون نص شهادته أمام مجلس النواب الأمريكي، كما راجعوا ملخصا لمقابلته مع فريق قانوني دولي أعد تقريرا أوليا عن الصور، ومقابلة نشرت معه في صحيفة "غارديان".
أخيرا، راجعت هيومن رايتس ووتش وثائق قدمها منشقون، ذكرت تقارير أنها من داخل مراكز الاعتقال أو المستشفيات العسكرية السورية. بعضها ورد ضمن الملفات التي أخذها قيصر، وبعضها قدمه عنصر سابق في أمن الدولة.
مستعينة بمقابلات مع أفراد الأسر، ومعتقلين سابقين ومنشقين تعرفوا على مواقع ظهرت في الصور، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن الصور تمثل سجلا أصليا لوفيات السجناء في المنشآت الحكومية السورية.
خلفية: الاختفاءات القسرية والتعذيب والوفيات في المعتقلات
منذ اندلاع الانتفاضة السورية في مارس/آذار 2011، احتجزت السلطات أعدادا كبيرة من المعتقلين؛ تقدر منظمات محلية أعدادهم بعشرات الآلاف. احتجزت الحكومة هؤلاء المعتقلين في مراكز اعتقال- تديرها أجهزة المخابرات الأربعة الرئيسة- وفي السجون.
أجهزة المخابرات الأربعة الرئيسة، التي أشير إليها جميعها معا باسم المخابرات هي:[1]
- شعبة المخابرات العسكرية؛
- إدارة الأمن السياسي؛
- إدارة المخابرات العامة (تعرف باسم أمن الدولة)؛
- إدارة المخابرات الجوية.
تتداخل أجهزة المخابرات على نطاق واسع. لا توجد قواعد واضحة تحدد أي جهاز يأخذ المبادرة في عمل معين. تتمتع هذه الأجهزة، واقعيا، بسلطات مطلقة في تنفيذ عمليات التوقيف والبحث والاستجواب والاحتجاز. إنها أكبر من مجرد ذراع حكومية؛ فهي عمليا هيئات مستقلة تقدم تقاريرها مباشرة لكبار المسؤولين في الدولة السورية، وطبقا لبعض المحللين، إلى الرئيس السوري مباشرة.[2]
قبل اندلاع الانتفاضة في سوريا، تنافست هذه الأجهزة فيما بينها أحيانا على احتجاز المعتقلين أو الحق في التحقيق معهم. لكن بعد 2011، بدأت تعمل بتناغم أكثر. بدأت "خلية إدارة الأزمة السورية"، وهي هيئة تنسيقية يرأسها بشار الأسد، وتضم رؤساء الأجهزة الأمنية الأربعة في عقد اجتماعات دورية. [3]
يحتفظ كل جھاز من ھذه الأجھزة الأربعة بمقر مركزي في دمشق، إضافة إلى فروع إقليمية وعلى مستوى المدن وفروع محلية في أنحاء البلاد. بعض ھذه الفروع تُسمى أو يُشار إليها باسم المنطقة التي تقع فيها، في حين تُسمى أخرى برقم الفرع (مثل الفرع 215 أو 235).
في جميع هذه الفروع، توجد مراكز احتجاز متفاوتة الأحجام. في بعض الحالات، حين لا تستوعب مراكز الاحتجاز عدد المعتقلين، يُنقلون إلى مراكز أخرى مثل السجون أو القواعد العسكرية، مع استمرار تبعية المعتقل للفرع المنقول منه. يُعرف السجناء المنقولون باسم "إيداع"، وفقا لحارس سابق في فرع أمن الدولة بالخطيب في دمشق. [4]
يُحتجز المعتقلون في منشآت المخابرات السورية بمعزل عن العالم الخارجي دائما. ليس لديهم وسائل رسمية للتواصل مع أسرهم. فقط، في حالات نادرة للغاية يمكنهم الوصول إلى وسائل غير رسمية، مثل رشوة الحراس لإجراء مكالمات هاتفية. الأسر التي أجريت معها مقابلات لغرض هذا التقرير اعتمدت على معلومات قدمها معتقلون سابقون، اتصلوا بعد الإفراج عنهم بأسر معتقلين قابلوهم في مراكز الاعتقال وأطلعوهم على أوضاعهم. لم يُسمح للمعتقلين بزيارات عائلية إلا- أحيانا- بعد نقلهم إلى سجون مركزية مثل سجن عدرا.
يمكن وصف معظم حالات الاعتقال التي نفذتها أجهزة المخابرات ووثقتها هيومن رايتس ووتش على مدار السنوات الأربع الماضية بأنها حالات اختفاء قسري. الاختفاء القسري في القانون الدولي ھو تلك الحالات التي تقوم فيھا أجھزة الدولة، أو أشخاص آخرين يتصرفون بمساندة الدولة، باعتقال شخص ثم رفض الاعتراف باعتقاله، أو اخفاء مصيره أو مكانه.[5]
في معظم الحالات التي وثقتھا ھيومن رايتس ووتش، لم تحصل عائلات المعتقلين على معلومات عن مكانھم أو مصيرھم عقب الاعتقال طيلة أسابيع أو شھور في بعض الحالات، رغم استعلامھم لدى مختلف أجھزة المخابرات. عموما، لم تسمح السلطات للمعتقلين بأي اتصال مع العالم الخارجي وتركت عائلاتھم تتساءل إن كانوا على قيد الحياة أم ماتوا.
وثقت هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ولجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة انتهاكات ممنهجة لحقوق المعتقلين شملت التعذيب، ونقص الطعام، والحرمان من العلاج الطبي، منذ اندلاع التظاهرات المناهضة للحكومة في مارس/آذار 2011. [6]في 2012، وثقت هيومن رايتس ووتس الاستعمال الممنهج لبعض طرق التعذيب على يد عناصر قوات الأمن والمحققين في 27 مركز اعتقال سوري.[7] وفقا للمقابلات التي أجريناها مع معتقلين سابقين على مدار 4 سنوات، اعتقلت السلطات أشخاصا في ظروف مقيتة على نحو متزايد، معرضة إياهم للتكدس، ونقص الطعام، وعدم كفاية التهوية، وسوء الخدمات الطبية، والظروف الصحية السيئة للغاية التي تتسبب في انتشار العدوى والأمراض الجلدية والإسهال بين المعتقلين.
عادة ما فرق معتقلون سابقون بين ما أسموه زنازين جماعية وزنازين فردية. تتفاوت مساحات الزنازين الجماعية، وتصل إلى 70 مترا مربعا. على سبيل المثال، قال معتقلان سابقان لـ هيومن رايتس ووتش إن زنزانة جماعية تبلغ مساحتها نحو 20 مترا مربعا في فرع المخابرات العسكرية 291 في دمشق، تضم من 60 إلى 75 شخصا.
أوضح معتقلون سابقون لـ ھيومن رايتس ووتش أن ما يطلقون عليه الزنازين الفردية كان في أكثر الأحيان حجيرة مساحتھا متر مربع أو اثنين، في كثير منھا حفرة في وسط الأرض بمثابة مرحاض. ورغم أن بعض المعتقلين السابقين أبلغوا عن اعتقالھم بمفردھم في مثل تلك الزنازين، إلا أن معظم المعتقلين قالوا إن تلك الزنازين الفردية كانت تضم عادة عدة أشخاص. في الزنازين الجماعية والفردية على حد سواء، كان الازدحام من السوء بحيث لم تتسع الزنازين في أحيان كثيرة إلا لوقوف المعتقلين، أو اضطرتھم للنوم بالتناوب. (لمزيد من التفاصيل بشأن ظروف الاعتقال، انظر القسم الثالث).
زار باحثو هيومن رايتس ووتش منشآت المخابرات العسكرية وأمن الدولة في الرقة في أبريل/نيسان 2013 بعد سيطرة مجموعات مسلحة على المدينة. وجد الباحثون أن أوصاف زنازين السجن وغرف الاستجواب وأدوات التعذيب التي رأوها في هذه المنشآت تتفق مع أقوال معتقلين سابقين.[8]
وثقت هيومن رايتس ووتش وفيات سجناء في منشآت الاعتقال الحكومية السورية قبل الانتفاضة السورية ووثقت تزايد أعداد الوفيات في المعتقلات منذ 2011.[9] ونادرا ما قدمت السلطات للعائلات معلومات عن الظروف المحيطة بوفيات أقاربھم. على حد علم هيومن رايتس ووتش، لم يجر أي تحقيق مستقل في وفاة أي سجين في محتجز لدى الحكومة. [10]
في 2011، وثقت هيومن رايتس ووتش حالات اضطر فيها أقارب الذين ماتوا رهن الاحتجاز للتوقيع على وثائق تبين أن "عصابات مسلحة" ھي التي قتلت أقاربھم، كما اضطروا للتعھد بعدم إقامة جنازة عامة كشرط لتسلم الجثة. لكن قلما تسلمت الأسر التي أجريت معها مقابلات في السنوات التالية، جثامين أقاربها. [11] بعضها تسلم شهادات وفاة لكنها لم تتسلم متعلقات الميت الشخصية أو رفات الجثة.[12]
بالنظر إلى محدودية قدرة المراقبين المستقلين على التنقل، والسرية شبه التامة التي تحيط بالاعتقال ومراكز الاحتجاز في سوريا، ورفض السلطات الحكومية تزويد الأسر بمعلومات رسمية عن أقاربها المعتقلين في حالات عديدة، يكاد يكون مستحيلا التحقق من عدد الأشخاص الذين توفوا في مراكز الاحتجاز السورية منذ اندلاع التظاھرات المناهضة للحكومة في مارس/آذار 2011.
حتى 24 يوليو/تموز 2015، وثق "مركز توثيق الانتهاكات في سوريا" 7502 حالة لأفراد ماتوا رهن الاحتجاز. ووثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" 11358 حالة وفاة في المعتقلات حتى 26 يونيو/حزيران 2015.[13] من المرجح أن الرقم الإجمالي أكبر من ذلك أخذا في الاعتبار الحالات العديدة التي لم يبلغ عنها.
كما وثقت هيومن رايتس ووتش الاعتقال التعسفي والتعذيب على يد الجماعات المسلحة غير الرسمية، بما في ذلك مارس/آذار 2014. لكننا في هذا التقرير ركزنا على التحقيق في صور قيصر، التي تمثل مصدرا فريدا للأدلة التي تشير إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
I. صور قيصر
قصة قيصر ونشر الصور للعموم
في يناير/كانون الأول 2014، أصدر فريق من المحققين الدوليين في جرائم الحرب والخبراء الجنائيين تقريرا يقيم "مصداقية منشق من سوريا، كان يخدم في الشرطة العسكرية للحكومة السورية"، الذي "هرب، أثناء عمله، عشرات الآلاف من صور جثث صورها هو وزملاؤه".[14]في المجمل، أبلغ الخبراء أن المنشق السوري، الذين أطلقوا عليه اسما رمزيا هو "قيصر"، هرّب ما يقارب 55 ألف صورة هو وسوريون آخرون. الخبراء الذين قابلوا قيصر فحصوا مؤهلاته العسكرية، وأجروا تحاليل الطب الشرعي لعيّنة من 5500 صورة (قدروا أنها تمثل 1300 جثة). وجدوا أن 42% من الجثث مصابة بالهزال، وبدت علامات "الإصابة بصدمات" (أو رضّ) على 20% منها. كما لاحظوا أن هناك صورا لأشخاص "بدا عليهم تغير اللون وتقرحات في منطقة القدمين وقصبة الساق بالأساس". تضمن أحد الملاحق صورا منتقاة من المجموعة، تبين الصور مقسمة إلى فئات من وجهة نظر الطب الشرعي. أعد التقرير مكتب "كارتر روك وشركاه" للمحاماة في لندن، بتفويض من الحكومة القطرية. لكن تدخل قطر، وهي دولة معروفة بتأييد جماعات مسلحة مناهضة للحكومة في سوريا، قاد البعض للتشكيك في نزاهة هذا الجهد.[15]
في مقابلته مع فريق المحققين القانوني، على مدار 3 أيام في يناير/كانون الثاني 2014، أخبر قيصر الفريق أنه عمل في الشرطة العسكرية السورية لمدة 13 عاما. أضاف أنه في السنوات الثلاث التي سبقت انشقاقه، كان عمله تصوير وتوثيق جثث المعتقلين الذي قتلوا. لم يتضح الغرض الدقيق من الصور. في مقابلة مع أحد الصحفيين، قال قيصر: "لطالما تساءلت" عن السبب في ذلك. لكنه يرى أن "النظام يوثق كل شيء بحيث لا ينسى شيئا. وبالتالي، فإنه يوثق هذه الوفيات... في حال قام القضاة يوما ما بإعادة فتح القضايا، فإنهم سيحتاجون إليها".[16]
وصف قيصر كيف بدأ تخزين الصور على أقراص ذاكرة محمولة، عهد بها إلى أحد أقاربه. [17] في أغسطس/آب 2013، قرر قيصر خشية "خطر وشيك على حياته" الفرار من البلاد.
ازداد اهتمام وسائل الإعلام بالصور. في أبريل/نيسان 2014، راجع أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مجموعة من الصور، وفي 31 يوليو/تموز 2014، قدم قيصر شهادة أمام مجلس النواب الأمريكي.[18] في شهادته، قال قيصر إنه كان مسؤولا عن تصوير الجثث في دمشق وريفها، وأحيانا في ضواحي درعا، إضافة إلى الإشراف على أرشفة صور الطب الشرعي العسكري الواردة من جميع أنحاء سوريا[19]. قال إنه بدأ تخزين الصور التي يأخذها والصور الأخرى من أرشيف الحكومة على أقراص ذاكرة أو ينسخها على أقراص ممغنطة. كان يفعل ذلك بشكل متقطع، وكانت عملية الاختيار عشوائية نسبيا. لكن بعض الملفات فقدت أو تلفت في عملية النقل.[20] في أغسطس/آب 2013، انشق هاربا من سوريا، حاملا معه الملفات التي نجح في نسخها طوال أكثر من عامين.[21]
سرعان ما نفت السلطات السورية صحة الصور. ووصفت وزارة العدل التقرير بأنه "من دون أساس" و"مسيس"، و"يفتقر إلى الموضوعية والمهنية". وقالت الوزارة في بيان أوردته وكالة الأنباء السورية الحكومية "سانا" إن التقرير "عبارة عن تجميع لصور أشخاص غير محددي الهوية ثبت أن عددا منهم من الإرهابيين الأجانب الذين ينتمون إلى جنسيات متعددة ممن سقطوا أثناء مهاجمتهم للنقاط العسكرية والمنشآت المدنية، وقسما منهم من المدنيين والعسكريين الذي قضوا نتيجة تعذيبهم وقتلهم من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة بداعي موالاتهم للدولة".[22]
وكرر الرئيس الأسد هذا النفي في يناير/كانون الثاني 2015، في مقابلة مع مجلة فورين أفيرز:
"ليس من الواضح صور من هي... هناك صور لرأس مقطوع... على سبيل المثال... مع بعض الندوب... من قال إن ذلك من فعل الحكومة وليس من فعل الجماعات المسلحة… من قال إن الضحايا سوريون وليسوا من مكان آخر؟".[23]
لم تتأخر الإجابة عن أسئلة الأسد. تسرب عدد من صور قيصر إلى بعض وسائل الإعلام الموالية للمعارضة في يناير/كانون الثاني 2014، ووردت أنباء أن بعض أقارب المعتقلين تعرفوا عليهم. في مارس/آذار 2015، نشرت الجمعية السورية آلاف الصور على الإنترنت. بعض النشطاء السوريين ومنظمات المجتمع المدني الأخرى نشرت بعضا من هذه الصور على مجموعات فيسبوك أو صفحات إلكترونية تديرها. وبينت الصور، التي نشرت من بين ما يقارب 50 ألف صورة، أفراد كلهم تقريبا رجال بالغين، توفوا في مراكز الاعتقال السورية.[24] في معظم الصور التي نشروها لم يظهر جسد الضحايا بالكامل، بل وجوههم ورؤسهم فقط.[25] وسرعان ما انتشرت الصور مع بحث السوريين عن أفراد أسرهم أو أقاربهم أو أصدقائهم الذين اعتقلتهم الحكومة أو لمجرد أنهم اختفوا.
بدأت الأسر التي لا أخبار لديها عن أعزائها في المعتقلات الحكومية والتي اختفى أقاربها في البحث في الملفات. تقدم الكثيرون منهم وقالوا إنهم تعرفوا على أزواجهم وآبائهم وأبنائهم وإخوانهم الذين يعتقدون أنهم اختفوا في مراكز الاعتقال السورية. قالت الجمعية السورية لـ هيومن رايتس ووتش إن أكثر من 700 أسرة اتصلت بها قائلة إنها تعرفت على أقاربها.[26]
كما تلقت منظمات حقوقية سورية أخرى، اتصالات من أقارب أو أصدقاء قالوا إنهم تعرفوا على أقاربهم أو أصدقائهم في الصور.[27] قالت منظمة رصد سورية تدعى "اللجنة السورية لحقوق الإنسان" إنها تعرفت على 101 فرد، وردت صورهم ضمن صور قيصر من خلال أفراد أسرهم أو أصدقائهم؛ وقال "مكتب دمشق الإعلامي" إنه تعرف على 286 حالة.[28]
تحليل هيومن رايتس ووتش لصور قيصر
عهد قيصر بالصور إلى الحركة الوطنية السورية وهي مجموعة سياسية معارضة. أعضاء المجموعة كوّنوا الجمعية السورية للمفقودين وسجناء الرأي، التي تضم رئيس الحركة د. عماد الدين الرشيد، والتي تولت حفظ الملفات. في مارس/آذار 2015، سلّمت الجمعية 53275 ملفا فريدا لـ هيومن رايتس ووتش، قائلة إن هذه الملفات تمثل المجموعة الكاملة من البيانات التي جمعها قيصر.[29]
نُقلت الصور بعد إعداد مذكرة تفاهم مع هيومن رايتس ووتش، تنص على أن الصور يمكن استخدامها فقط لأغراض البحث. علمت هيومن رايتس ووتش لاحقا أن الحركة شاركت الصور مع عدد محدود من المجموعات، منها وزارة الخارجية الأمركية، علاوة على اللجنة الأممية لتقصي الحقائق، أيضا بعد إقرار مذكرات تفاهم معها حول الهدف من استخدام الصور.
وفقا لتواريخ الملفات، التي أُخبرت هيومن رايتس ووتش أنها الملفات نفسها التي نسخها قيصر في البداية من أجهزة الكمبيوتر الحكومية، التقطت هذه الصور في الفترة بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013. توقفت الصور حين انشق قيصر في أغسطس/آب 2013. أظهرت بيانات التعريف الجزئية التي كانت لا تزال سليمة في 271 من ملفات الصور، استخدام كاميرات من نوع "نيكون كول بكس" و"فوجي فاين بكس" في التقاط الصور.[30] من بين مجموعة الصور، أعيد تحجيم بعض الصور، وفي حالات قليلة اُستعين ببرنامج رسم بسيط، لتعزيز الأرقام التي تظهر على الصور.
حلل مختبر الأدلة الرقمية التابع لمكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي مجموعة صغيرة تضم 242 صورة من صور قيصر. ذكر المختبر في تقرير أصدره (لكن لم ينشره في وسائل الإعلام) أن "صور الجثامين والمشاهد... لا تظهر لمسات مصطنعة أو تناقضات تشير إلى أنه قد تم التلاعب بها".[31] من بين الصور الــ 242 التي فحصها مكتب التحقيقات الاتحادي لإصدار تقريره، فإن 22 صورة "شهدت تغييرا بإضافة نص لبطاقة في المشهد المصور، لكن هذا التغيير لم يؤثر على الجثامين أو ما تبقى من المشهد المصور فيها".[32]
تشمل الصور التي تلقتها هيومن رايتس ووتش 3 فئات مختلفة.
- الفئة الأولى، التي تتكون من 28707 صور، لموتى إما في المشرحة أو ما يبدو أنه مرآب. ما يميز هذه المجموعة من الصور هو أن معظم الجثث بها 3 أرقام تعريف منفصلة؛ إما مكتوبة مباشرة على الجسم، أو على ورقة توضع على الجسم، أو تعلق كي تظهر في الصورة. استنادا إلى المعلومات المتاحة، هذه الصور لمعتقلين توفوا في المعتقل، أو بعد نقلهم من المعتقل إلى مستشفى عسكري. استقطبت هذه الفئة الأولى اهتمام معظم وسائل الإعلام.
- الفئة الثانية هي أيضا صور لموتى التقطت في المشارح لكنها تحمل تعريفا لهوية الشخص المُصوَر بالاسم أو بظرف الوفاة. هذه الفئة تتكون من صور أناس عُرِّفوا على أنهم جنود حكوميون قتلى، أو مقاتلون مسلحون آخرون، أو مدنيون قتلوا جراء هجمات أو تفجيرات أو محاولات اغتيال. على عكس الصور في الفئة الأولى، لا توجد أرقام مرتبطة بالجثث، بل الاسم الكامل مكتوبا على ورقة ومصوَّر. بالنسبة للجنود القتلى، كانت كلمة "شهيد" تسبق الاسم وأحيانا الرتبة. بالنسبة للمدنيين، رُتبت الصور وفقا للتاريخ والاسم. التقطت صور جثامين الجنود داخل مشرحة.
- الفئة الثالثة تتألف من صور مواقع الهجمات العسكرية. يبدأ التسلسل الزمني للصور في مايو/أيار 2011، وفقا لتواريخ الملفات، ويستمر حتى أغسطس/أب 2013، تاريخ انشقاق قيصر.
أخيرا، تتضمن الصور المسربة عددا قليلا لصور شهادات الوفاة، ومراسلات بين أذرع أجهزة المخابرات، وتقارير داخلية عن الوفيات في المعتقلات.
يركز هذا التقرير على الوفيات في المعتقلات. لكن هذا لا ينفي أن الصور الأخرى مهمة أيضا. من حيث توفر الأدلة، تعزز هذه الصور صدقية مزاعم قيصر بشأن دوره كمصور شرعي مع قوات الأمن السورية أو على الأقل كشخص لديه حق الوصول إلى صورها. كما أن هذه الصور يمكن أن تساعد، أيضا في توثيق الجرائم الأخرى التي حصلت في سوريا.
صور المحتجزين الموتى
الكثير من الجثث لها صور متعددة، وفقا للجمعية السورية، التي راجعت حصيلة الصور بالكامل ورتبت الصور في ملفات وفقا لجثة كل متوفى.
تتضمن كل صور المعتقلين الموتى 4 صور لكل جثة، لكنها قد تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 20 صورة. بناء على ذلك، ووفقا للجمعية فإن الــ 28707 صورة في هذه الفئة للمتوفين في المعتقلات هي لـ 6786 شخصا ميتا على الأقل. في حين أن هيومن رايتس ووتش لم تصنف الصور من جانبها، فقد حصلت على قاعدة بيانات الجمعية السورية وتستطيع أن تؤكد أن تحليلها يبدو متقنا. تحاول الصورعادة أن ترصد أي وشم أو جرح على الجسد. لكنها لم ترق إلى مصاف المعايير الدولية لصور الطب الشرعي التي تلتقط في سياق التحقيقات التي تجرى في مسرح الجريمة.
وفقا لفريق من الخبراء الجنائيين الدوليين الذين قيّموا الصور في البداية:
"لم تلتقط الصور بالطريقة المعتمدة للأدلة كالصور التي يلتقطها محققو الجرائم... الصور لا تحمل سجلا بمقياس الصورة ولا تحوي صورا مقربة للإصابات كل على حدة. كما لم تظهر معظم الصور الجانب الخلفي للجثث، وعليه لم يتسن تقييم الإصابات في حال وجودها على ذلك الجانب".[33]
لم تظهر إلا امرأة واحدة ضمن صور الضحايا والباقي ذكور. قال طبيب راجع الصور لـ هيومن رايتس ووتش إن من بين الـ 6785 صورة للذكور، يبدو منها 100 صورة على الأقل لأطفال.[34] تحققت هيومن رايتس ووتش من حالتين لصبيين تحت الـ 18 ماتوا في المعتقل عن طريق أفراد أسرتيهما. لكن هيومن رايتس ووتش لم تجر مراجعة مستقلة لكل الصور لتقييم أعمار الضحايا.
بعض الملفات التي رفعت فيها الصور السابقة، وبعض أسماء ملفات اسمية أقدم زمنيا سميت بأسماء القتلى. على سبيل المثال، أحد الملفات يسمى "صور حادث وفاة سجين الأمن إسماعيل مومنة". بعد عملية بحث على الإنترنت، اكتشفت هيومن رايتس ووتش أن إسماعيل مومنة كان متظاهرا مناوئا للحكومة من بلدة قطنة بالقرب من حدود لبنان، ومات في أغسطس/آب 2011.[35] ذكرت تقارير إعلامية، في ذلك الوقت، أن السلطات الحكومية اعتقلت مومنة وأنه مات "تحت التعذيب".[36] بعض الملفات الأخرى تأخذ مسميات مثل "سجين أمني تحت مسؤولية" المخابرات الجوية أو المخابرات العامة. بعض الأشخاص الذين صُوروا في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2011، كانوا ما زالوا يرتدون ملابسهم وجميعهم صُوروا في مشرحة.
ظهر ترقيم الجثث لأول مرة في الصور التي وضعت في الملف المؤرخ في أكتوبر/تشرين الأول 2011. في هذه الصور، ظهرت للمرة الأولى البطاقات البيضاء التي توضع على الجثة. تحمل البطاقات التي لصقت على الصور في هذا الملف أرقاما من خانة واحدة. يحتوي الملف صور جثامين معتقلين مرقمة بالأرقام 1 و2. تشير البطاقات أيضا إلى اعتقالهم لدى المخابرات الجوية، إما عن طريق كتابة كلمات على البطاقة، وإما عن طريق كتابة حرف "ج". ظهرت عبارة "سجين أمني" رقم 3 في ملف مؤرخ نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
لكن في الشهر نفسه، تظهر أسماء بعض المعتقلين ضمن اسم ملف يضم صور جثثهم. كما تظهر في الملف جثة معتقل آخر تحمل الرقم 1. يبدو أن بعضا من أوائل المعتقلين عولجوا في مستشفى؛ إذ تظهر الأنابيب الوريدية وأقطاب جهاز مزيل رجفان القلب في الصور.
استمر ظهور أسماء المعتقلين المتوفين ضمن أسماء الملفات حتى مايو/أيار 2012. ظهرت أسماء 7 سجناء حتى ذلك التاريخ. حتى الملف المسمى أغسطس/آب 2012، كانت الصور تلتقط داخل الغرف في ما يبدو أنها مشرحة. في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، صُورت جثث على الأسفلت. في الشهر نفسه، التقطت أول صور، على ما يبدو في فناء، حددت هيومن رايتس ووتش أنه مرآب في المشفى 601 العسكري في المزة.
قال قيصر أمام مجلس النواب الأمريكي: "اعتدنا أن نستعمل المشرحة، لكنهم كانوا يحضرون مزيدا من الجثث، لذا قررنا استعمال المرآب بشكل دائم".[37] باستخدام صور الأقمار الصناعية وتقنيات تحديد المواقع الجغرافية، تأكدت هيومن رايتس ووتش أن صور الفناء التقطت في فناء المشفى 601 العسكري في المزة في دمشق. لكن أحد ملفات الصور في الفئة الثانية، التي تضم صور جنود حكوميين، حمل اسم "مشفى تشرين" مما يشير إلى أن الصور التقطت في مستشفى عسكري آخر في العاصمة دمشق.
تقريبا كل الملفات التي وضعت فيها الصور سميت تبعا للتواريخ. الكثير من الملفات سميت ببساطة بأسماء الشهر والعام (بدءا بمايو/أيار 2011)، في حين عنون بعضها بتاريخ محدد. بناء على محادثات مع فريق عمل الجمعية السورية الذين تواصلوا مع قيصر، وبناء على الحالات التي حققنا فيها، تعتقد هيومن رايتس ووتش أن هذه التواريخ تطابق الشهور التي صُورت فيها هذه الجثث وسُجلت في المستشفى العسكري (انظر القسم الرابع: إجراءات ما بعد الوفاة). لكن نظام حفظ الملفات هذا لا يبدو دقيقا؛ إذ إن بعض الصور ظهرت في ملفات غير مؤرخة.
الصور التي رأيناها أظهرت العديد من الجثث المصابة بالهزال، وظهرت عليها كدمات وندوب وعلامات أخرى من التعذيب. كما ظهر على بعضها جروح مفتوحة وغائرة.
في الصور، تظهر معظم الجثث وقد ربط شريط لاصق أبيض على الجبهة يحمل رقمين، أو أحيانا يكتب الرقمان مباشرة على الجسد بقلم. وتعلق ورقة على الصدر يتكرر فيها الرقمان الموجودان على الجسم بالإضافة إلى رقم ثالث.
وتشير عملية بحث أجرتها هيومن رايتس ووتش إلى أن الأرقام الثلاثة تمثل:
- رقم الفرع: رقم مخصص لمنشأة كل فرع أمني تديره أجهزة المخابرات السورية، مثل الفرع 215 (الذي تديره شعبة المخابرات العسكرية)؛
- رقم المعتقل: رقم مخصص لكل معتقل عن طريق الفرع الأمني الذي يحتجزه. قال قيصر إنه يخصَّص وقت وصول الشخص المعتقل إلى الفرع الأمني. لكن منشقا آخر عمل حارسا في فرع أمني قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الفرع الأمني يخصص هذه الأرقام حين يتوفى المعتقل في الحجز.
- رقم الفحص أو رقم الوفاة: رقم يخصصه الطبيب الشرعي في المستشفى العسكري لكل معتقل، ويُعطى حين يسجل الطبيب الجثة، ويعد تقريرا طبيا عنها، ويأمر مصورا عسكريا (مثل قيصر) بتصوير الجثة. قال منشق عن جهاز أمني خدم في مستشفى عسكري لـ هيومن رايتس ووتش إن موظفي المستشفيات العسكرية يطلقون على ذلك "رقم الفحص".[38]
الرقمان الأوليان يكتبان إما على شرط طبي يلصق على جسد المعتقل، أو بقلم على الرأس أو الصدر، داخل الفروع الأمنية، قبل نقل الجثة إلى عهدة المستشفى.
قالت الجمعية السورية لـ هيومن رايتس ووتش إن رقم الفحص يصل حتى 5000 ثم يعاد بإضافة الحرف الذي يليه مثل: 5000 أ، و5000 ب. استنادا إلى تتابع رقم الفحص، تعتقد الجمعية أن صور قيصر تشير إلى ما لا يقل عن 11 ألف جثة صورت في المستشفيات العسكرية في دمشق بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013، حين انشق قيصر. الصور التي راجعتها هيومن رايتس ووتش تظهر 6786 جثة، وفقا لتحليل شامل أجرته الجمعية السورية.
بعض الصور التي سربت في وقت سابق للمعتقلين تتضمن بطاقات تعرض أسماءهم بدلا من الأرقام الثلاثة التي ورد وصفها سابقا.
من المهم الإشارة إلى أن صور قيصر لا تمثل سجلا شاملا لكل الوفيات في معتقلات منطقة دمشق طوال الـ 27 شهرا التي تغطيها.
في حين أن العديد من منشآت الاعتقال في دمشق كانت ترسل موتاها إلى مشفى تشرين والمشفى العسكري 601، قال منشق من أجهزة الأمن السورية، عمل حارسا في فرع أمن الدولة في الخطيب لـ هيومن رايتس ووتش، إن من يُتوفون في المعتقل في المنشأة التي عمل فيها كانوا يُنقلون إلى مشفى حرستا العسكري شمال شرق دمشق، وليس إلى مشفيي تشرين و601 العسكريين حيث التقط قيصر الصور. كما أن الصور لا تشمل كل الجثث التي نقلت إلى مشفى تشرين والمشفى العسكري 601 بل فقط التي تمكن قيصر من الوصول إليها ونسخها حين شعر أنه يستطيع أن يفعل ذلك بقدر من الأمان النسبي. لهذا، فإن عدد الجثث التي جاءت من منشآت احتجاز وظهرت في صور قيصر لا تمثل إلا جزءا ممن ماتوا في مراكز الاحتجاز في دمشق أو حتى في هذه المنشآت بالذات بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013.
طبقا لأرقام الفرع على هذه البطاقات، جاء العدد الأكبر من المعتقلين (4551 معتقلا) من الفرع 215 التابع لشعبة المخابرات العسكرية في دمشق المعروف لدى السوريين باسم "فرع الموت".[39] ثاني أكبر عدد (2819 معتقلا) نقلوا من الفرع 227 التابع لشعبة المخابرات العسكرية (يعرف بفرع المنطقة).[40] كما نقل مئات المعتقلين من فرع المخابرات الجوية، الفرع 235 التابع للمخابرات العسكرية المعروف أيضا باسم فرع فلسطين، والفرع 216 (الدوريات) الذي تديره المخابرات العسكرية.
استنادا إلى أرقام الفروع المشار إليها، وكذلك شهادة قيصر نفسه، جاءت الجثث كلها تقريبا من مراكز اعتقال تقع في منطقة دمشق الكبرى.[41]
الكثير من الصور التقطت في مرآب المشفى العسكري 601 في المزة، جنوب غرب دمشق، وبها أيضا قاعدة عسكرية ومطار والقصر الرئاسي. مجند جيش انشق من المستشفى بعد أن عاش وعمل به لمدة عامين و3 أشهر وصف المنشأة بالتفصيل لـ هيومن رايتس ووتش، وحدد على إحدى الخرائط موقع المرآب، حيث التقطت الصور.
قال إنه شهد بعينيه، في مناسبات عديدة، عناصر يكدسون الجثث في المرآب، وموظفو المستشفى "يجهزون" عملية تصوير الجثث.[42]
التقطت صور أيضا في مشرحتيّ المشفى 601 ومشفى تشرين العسكريَين، وفقا لمنشقين من هاتين المنشأتين، وأسماء ملفات الصور. كلا المستشفيين في دمشق.
بعض الصور ربما تكون التقطت في مشفى حرستا العسكري في ضاحية تقع شمال شرق دمشق، الذي استقبل أيضا جثث معتقلين لتجهيزها. لكن لم يتسن لـ هيومن رايتس ووتش التأكد إذا ما كانت صور مشفى حرستا ضمن صور قيصر. فروع المخابرات في دمشق وريف دمشق تجلب جثث المعتقلين إلى هذه المستشفيات العسكرية الثلاثة.[43]
.II تسمية الموتى: لمحات لضحايا من صور قيصر
قابلت هيومن رايتس ووتش 27 أسرة مختلفة قالت إنها تعرفت على أقاربها بين صور قيصر، و9 معتقلين سابقين قالوا إنهم تعرفوا من الصور على ضحايا قضوا معهم وقتا في المعتقل. لكن 8 أسر فقط وافقت على نشر معلومات عن وفاة أقاربها. خشيت الأسر الأخرى على أمان أفرادها الذين بقوا في مناطق ما زالت خاضعة لسيطرة الحكومة، أو أقاربها الذين ما زالوا في مراكز اعتقال في سوريا. مخاوفهم هذه ليست من دون أساس؛ إذ قال عدة معتقلين سابقين قابلناهم إنه ألقي القبض عليهم عوض قريب لهم كان مطلوبا للحكومة، أو لمجرد أنهم من أسرة فرد مطلوب.
حين قابل الباحثون أفراد أسرة معتقل أو معتقلين سابقين تعرفوا على الضحايا من الصور، طلبوا منهم تقديم صور لأقاربهم قبل القبض عليهم ومقارنتها بصورة قيصر؛ ذكر إذا ما كان لديهم علامات مميزة أو وشومات أو متاعب صحية قبل القبض عليهم؛ ذكر تاريخ القبض عليهم، والمعلومات التي استقوها من معتقلين سابقين رأوا أقاربهم في المعتقلات. حين تمكنا من الوصول إلى هؤلاء المعتقلين السابقين، قابلناهم، أيضا، للحصول على معلومات تتعلق بمعاملة الضحايا في المعتقل، ومظهرهم البدني وملابسهم، ومركز الاعتقال والزنزانة التي كانوا معتقلين فيها، وتاريخ احتجازهم في هذا المكان. ثم قارنا هذه المعلومات بالتواريخ وأرقام المنشأة التي تكون أسماء ملفات صور قيصر. في معظم الحالات، ظهرت أرقام المنشأة على البطاقات البيضاء في كل صورة.
أولى الباحثون عناية كاملة للبحث عن كل أسرة زعمت أنها تعرفت على قريب لها بين الصور، والتحقق منها. لكن هذا النوع من التحقق يشكل تحديا جراء التغيرات البدنية الشديدة التي طرأت على بعض المعتقلين، إضافة إلى رداءة الصور التي وزعت على الإنترنت، والأحاسيس العميقة التي تشعر بها العائلات تجاه حل مسألة اختفاء أحبائها. تعتقد هيومن رايتس ووتش أن، في كلّ من الحالات الثماني التي ترد لاحقا، ثمة احتمال كبير أن تكون الضحية بالفعل الشخص الذي تعرفت عليه الأسر، والمعتقلون السابقون في بعض الحالات. مع ذلك، ثمة حاجة في المستقبل إلى إجراء مطابقة جنائية مناسبة، مع استمرار هامش الخطأ.
من بين الوفيات التي حققنا فيها، كان بمقدورنا أن نؤكد وفاة طفلين اثنين في المعتقل، سترد لمحة عن أحدهما لاحقا (كان عمره 14 عاما وقت القبض عليه)، وكذلك امرأة واحدة.
في الحالات الـثماني من بين الـ 27 حالة التي تحققنا منها، استطاعت هيومن رايتس ووتش أن تقابل معتقلا سابقا رأى المتوفين على قيد الحياة في المعتقل، وعلم أسماءهم وخلفياتهم واتصل بأسرة المتوفى فور الإفراج عنه أو عنها من المعتقل. قدم معتقلون سابقون معلومات قيّمة عن أماكن المتوفى علاوة على حالته البدنية والعقلية. في 4 من الحالات التي وثقتها هيومن رايتس ووتس، كان المعتقلون السابقون يعرفون الضحية شخصيا، ورأوا الضحية تموت، أو رأوا جثتها في المعتقل.
عبد الله أرسلان الحريري
عبد الله أرسلان الحريري (36 أو 37 عاما) عامل من نامر في درعا كان متزوجا من دون أطفال.[44]
وفقا لشقيقه، أصبح عبد الله قائدا بارزا في التظاهرات المناوئة للحكومة في بلدته نامر بعد اندلاع الاحتجاجات في 2011. بدأ لاحقا في مساعدة المنشقين من الجيش السوري الذين رغبوا في ترك البلاد.[45] داهمت قوات الأمن السورية منزله مرات عديدة، لكن عبد الله لم يكن في المنزل وقت المداهمات.[46]
في 16 يونيو/حزيران 2012، قبضت الشرطة العسكرية على عبد الله مع قريب له يدعى طلعت.[47]
نفذت الشرطة العسكرية مداهمات عديدة في نامر في صباح ذلك اليوم، كما قال طلعت لـ هيومن رايتس ووتس. أضاف أنه هو وعبد الله ذهبا وحاولا الاختباء في مشارف البلدة. لكن الشرطة العسكرية أطلقت النار وأصابت عبد الله في كتفه وهما يحاولان تجنب القبض عليهما. قبضت عليهما الشرطة العسكرية وكبلت أيديهما وعصبت عيونهما بشريط.
"طلب مني ضابط أن أربط كتف (عبد الله) بقميصي وفعلت وهذا كل ما في الأمر. كان هناك أشواك في الجرح جراء سقوطه لكن لم يسمحوا لي بتنظيفه".
أقتيد طلعت وعبد الله إلى فناء الشرطة العسكرية في إزرع التي تتبع محافظة درعا أيضا. كان طلعت معصوب العينين وكان يسمع بالكاد استجواب عناصر الشرطة. وقال لـ هيومن رايتس ووتش:
"كنا في الفناء (بدائرة الشرطة العسكرية)... أهانوه، وكنت أسمعهم وهم يضربونه. وكنت أسمعه يتألم. اُستجوب عبد الله عن مشاركته في الاحتجاجات. ضربوه. قالوا له: أنت مقاتل. رد عبد الله: لا، لست مسلحا. آخر شيء سمعته كان: لدي إرهابي مصاب، تعال وخذه من هنا. ثم سمعت صوت سيارة. أنا متأكد أنها ليست سيارة إسعاف، لأنهم كانوا لا يزالون يصرخون عليه ... لم أره مرة ثانية قط".
أفرج فرع المخابرات العامة عن طلعت بعد بضعة أيام. خوفا على سلامتها، لم تتقدم أسرة عبد الله بأي استفسارات رسمية. لم تتوفر لهم أي معلومات أخرى لحين تسريب صور قيصر. تعرفت عليه الأسرة من مجموعة صور نشرت على فيسبوك.
صور جثة عبد الله في أرشيف قيصر لم تعرّفه على أنه مرتبط بفرع أمني خاص. ظهرت الصور في ملف مؤرخ يونيو/حزيران 2012، الشهر الذي اعتقل فيه عبد الله. تضمن الأرشيف 7 صور لجثته. كان جرح الرصاصة في كتفه ما يزال يُرى بوضوح في بعض الصور. بيّن اسم الملف أنه تحت مسؤولية الفرقة التاسعة، التي تعمل في درعا.
في تقرير أعدته منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان عن التحليل الجنائي للصور الرقمية (لم تقدم هيومن رايتس ووتش لأجل هذا التحليل أي معلومات تخص الفرد)، قال فريق الأطباء الشرعيين من المنظمة إن الصور تظهر رجلا في الثلاثينيات به 4 إصابات بطلق ناري، منها جرحان لرصاصة دخلت وخرجت من الرأس، ومدخل الجرح "يشير إلى أن الرصاصة أطلقت من مدى قريب"، إضافة إلى رصاصتين في الكتف اليمنى والذراع اليمنى. [48]
خالد هدلة، داريا
كان خالد هدلة متزوجا ولديه 3 أطفال. عمل نجارا، وعاش في داريا قرب دمشق. وفقا لشقيقه عامر هدلة الذي يعيش خارج سوريا، قبض عناصر المخابرات الجوية على خالد في يناير/كانون الثاني 2013، بعد أن داهموا منزله، أمام مرأى من زوجته وأطفاله.[49] في يناير/كانون الثاني 2013، اشتبكت القوات الحكومية والقوات المناوئة لها في معارك شرسة للسيطرة على داريا. استعاد الجيش السوري المدينة من الجماعات المسلحة المناوئة للحكومة في أوائل ذلك الشهر.[50] ألقي القبض على أناس كثيرين في هذه الفترة.[51]
قال شقيق خالد لـ هيومن رايتس ووتش إن عائلة هدلة معروفة في داريا بعدائها للحكومة:
"الجميع (في داريا) يؤيدون الثورة، حتى النساء. عائلتنا هدلة معروفة بأنها من مؤيدي (الثورة)... أفراد العائلة الجنود في الجيش السوري انشقوا وأصبحوا أعضاء في الجيش السوري الحر".[52]
لكنه قال إن خالد كان معروفا بأنه أهدأ شخص في العائلة، لم يشارك إلا في الاحتجاجات السلمية. أضاف أن ضابط الاستخبارات الجوية في المنطقة بشار ضاهر، هدد خالد وآخرين من عائلة هدلة في مناسبات عديدة، وذهب عدة مرات إلى بيت خالد لتهديده، وفقا لأفراد من عائلته في داريا.
بعد القبض على خالد، علمت أسرته في ما بعد من معتقلين سابقين رأوه في المعتقل أنه في فرع المخابرات الجوية في المزة.
أضاف عامر أن الضابط ضاهر ذهب إلى أشقائه الآخرين بعد اعتقال خالد، وقال لهم: "اعترف خالد بكل شيء تحت التعذيب. لن نعيده لكم". أخبر معتقل سابق عائلة هدلة أنه رأى خالد في المعتقل في مقر المخابرات الجوية في المزة، لكنه لم يقدم تفاصيل تذكر عن حالته.
أضاف عامر أنه بعد القبض على خالد وما تردد عن اعترافه القسري، قُبض على جميع أخوته الأربعة الباقين وأخته. لم يفرج إلا عن واحد فقط منهم. ما زال مصير الأربعة الباقين غير معروف. تعرف عامر على شقيقه من بين صور قيصر المسربة، بعد أن أخبره أحد معارفه أن من بينها صورا لأحد أفراد عائلة هدلة:
"كنت في غاية الحزن في البداية. لم أشأ أن أنظر في الصور. قلت لنفسي لا علاقة لي بتلك الصور. لكن شخصا ما قال لي إنه تعرف على شخص من عائلة هدلة. أرسلوا لي رسالة قصيرة (مع) صورة. كان الأمر صحيحا. كان هو. إنها صورته 100%".
كما تحدثت هيومن رايتس ووتش إلى مأمون وهو شقيق آخر لخالد أكد أنه تعرف عليه في الصورة.[53] البطاقة البيضاء في الصورة التي تحمل اسم عائلة خالد كانت تحمل، أيضا، الحرف "ج" الذي يشير إلى أن المعتقل كان في عهدة المخابرات الجوية. كانت الصورة في ملف مؤرخ 4 يونيو/حزيران 2013، بعد 5 شهور من القبض على خالد. كان عمر خالد وقت القبض عليه 39 عاما.
أطلعت هيومن رايتس ووتش أطباء شرعيين في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان على الصور التي تردد أنها صور خالد بعد وفاته. قال خبير جنائي إن الصور تظهر رجلا يبدو في الأربعينيات، وتظهر الصور إصابات ناتجة عن صدمة قوية خصوصا في ذراعه اليسرى. [54] وذكر الخبير في تقريره أن الضحية علق من معصميه. [55]
أسامة حسين سليم
أسامة سليم، فلسطيني كان يعيش في سوريا، من مخيم اليرموك بجوار دمشق. وفقا لشقيقه فراس، كان متزوجا ولديه طفلان.[56] عمل محاسبا في جامعة دمشق. قبض عليه عناصر من "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" (مجموعة مسلحة فلسطينية موالية للحكومة السورية) نحو الساعة 10 صباح 24 فبراير/شباط 2013، من نقطة تفتيش عند مدخل اليرموك، حين كان يحاول دخول المخيم. أحد أصدقاء الأسرة كان موجودا في المكان لحظة القبض على أسامة فأبلغها.
علمت الأسرة من جهات اتصال فلسطينية على صلة وطيدة بالحكومة السورية أن أسامة نُقل إلى الفرع 235 لشعبة المخابرات العسكرية، المعروف باسم فرع فلسطين. طلبت جهات الاتصال من الأسرة دفع 50 ألف ليرة سورية (708 دولارات أمريكية) لتأمين إطلاق سراحه. جمعت الأسرة المال لكن جهات الاتصال ظلت تؤجل اللقاء، وفي نهاية المطاف أخبرت الأسرة أنها لن تستطيع مساعدة أسامة.
قال فراس لـ هيومن رايتس ووتش:
"قضيت 7 أشهر أسأل عنه. كنت موظفا في جامعة دمشق، فسألت الأساتذة في الجامعة. تعرف أن بعضهم بشر، ما زال لديهم قلب، ولم ينحازوا. سألتهم لأنهم على صلات جيدة. واصلت السؤال عنه. لكن كل ما حصلت عليه كان أكاذيب".[57]
وفقا لفراس، لم يكن أسامة ناشطا أو ضالعا في أي عمل مناوئ للحكومة. قال فراس لــ هيومن رايتس ووتش: "لم يكن له علاقة بأي شيء". أضاف أن أسامة كان مصابا بمرض كبدي قبل القبض عليه.
بعد مرور 7 أشهر من القبض على اسامة، أوقف عناصر الأمن فراس عند بوابة جامعته. وقالوا له: "إذا واصلت السؤال عن شقيقك، سنقطع لسانك". في ذلك اليوم، فر فراس من سوريا.
واصلت الأسرة بحثها عن أخبار أسامة، لكنها لم تعرف شيئا، حتى من معتقلين سابقين إلى أن نشرت صور قيصر على الإنترنت. من الصور التي أخذت من ملفات قيصر، كتب على جسد أسامة كلمات "الفرع الإداري للقوات الجوية" مكتوبة بقلم تحديد على بطنه. جاءت الصورة من ملف مؤرخ فبراير/شباط 2013، الشهر الذي قبض عليه فيه. تعرفت الأسرة على أسامة عن طريق وشمين على ذراعه اليسرى وكذلك من بنطاله وقميصه، إضافة إلى مظهره.
عرضت هيومن رايتس ووتش 4 صور لجثة حسين على أطباء من أجل حقوق الإنسان. لاحظ فريق من الأطباء الشرعيين كدمات وخدوش وتآكل على الوجه في الصور، ودليل على إصابات ناتحة عن صدمة شديدة. [58]
أيهم غزول
أيهم غزول كان طالبا في جامعة دمشق يدرس الماجستير في طب الإسنان، وناشط حقوقي عمل مع "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، و"مركز توثيق الانتهاكات في سوريا".
كان عمره 25 عاما حين اعتقله أعضاء بـ "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" الموالي للحكومة في جامعة دمشق يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، وسلموه للمخابرات العسكرية. كانت قوات الأمن اعتقلته من قبل يوم 16 فبراير/شباط 2012، واحتجزته إلى أن أطلقت محكمة عسكرية سراحه في مايو/أيار.
"م." وهو طالب آخر بجامعة دمشق ألقي القبض عليه في اليوم نفسه، قال إن عناصر الأمن أخذوه إلى غرفة في الكلية الطبية بجامعة دمشق.[59] كان أيهم يدرس في الكلية. عذب الضباط الطالبين لما يقارب 4 ساعات؛ ضربوهما بأيديهم، وبالعصي الكهربائية، وجلدوهما بأسلاك الكهرباء والخراطيم. ثم نقلوهما إلى الفرع 215 (المخابرات العسكرية) معا، واعتقلا في الزنزانة نفسها.
في اليوم الرابع لاعتقالهما، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، قال م.:
"اقترب مني أيهم وقال لي: أنا متعب للغاية وأريد أن أنام فقط. قلت له: تعال وضع رأسك على ساقي. بعد 45 دقيقة جاء حراس الأمن لتنظيف الممر الذي كنا نجلس فيه، حاولت وقتها أن أوقظ أيهم لكنه لم يرد. ناديت على طبيب من حلب، كان (هو أيضا) سجينا. جاء ووضع يده على رقبة أيهم ويده، وقال إنه مات... بعد مرور 30 دقيقة، كان جثمان أيهم باردا جدا حين لمسته. ثم أحضر (الحراس) بطانية ولفوا فيها أيهم... ووضعوا رقما على رأسه... وأخذوه".[60]
لم تعلم أسرة أيهم عن وفاته حتى 20 يناير/كانون الثاني 2013، بعد أكثر من شهرين على وفاته حين أُفرج عن م. الذي وصف لهم كيف توفي أيهم في الفرع 215.[61]
في 2014، بدأت أسرة أيهم البحث عن تأكيد رسمي لوفاته. توجهت أمه مريم إلى كل من فرع الأمن 215 وفرع الأمن 248 المخابرات العسكرية في دمشق، لكن ضباط الأمن لم يقدموا لها أي معلومات في البداية. [62] في 10 مايو/أيار 2014، أحالتها الشرطة العسكرية في القابون على مشفى تشرين العسكري، الذي أمدها بشهادة وفاة ذكرت أن سبب وفاته أزمة قلبية.[63] طلبت مريم استرجاع متعلقات أيهم الشخصية (محفظته، ومفاتيح، وبطاقة هوية) من سلطات المستشفى، كما قدمت طلبا لدى مكتب الادعاء العسكري.[64] لكن متعلقاته الشخصية لم تعد إليها قط. [65]
عرضت هيومن رايتس ووتش 3 من صور قيصر، عُرّفت على أنها لجثة أيهم، على أطباء شرعيين من أطباء لأجل حقوق الإنسان. بناء على هذه الصور، لم يستطيعوا التعرف على السبب المحتمل لوفاته ولم يتعرفوا على إصابات كبيرة في جسده.[66]
أحمد المسلماني، طفل
أحمد المسلماني كان يبلغ من العمر 14 عاما من نامر في درعا. قبل اندلاع الانتفاضة السورية، كان في الصف السابع. بعد مقتل شادي أخيه الأكبر بالرصاص يوم 23 مارس/آذار 2011 في تظاهرة في بدايات الانتفاضة في درعا، أرسلت الأسرة أحمد إلى لبنان خوفا على حياته. كان عمر أحمد 13 عاما حين غادر سوريا إلى لبنان.
ماتت أم أحمد لأسباب طبيعية في سوريا حين كان بعيدا عن الأسرة في لبنان. في 2 أغسطس/آب، 2012، حين كان عمره 14 عاما، قرر العودة إلى سوريا لتشييع جثمان والدته. كان مسافرا في حافلة صغيرة مع 5 أشخاص آخرين. أحدهم عثر على أسرة أحمد ووصف لها طريقة القبض عليهم. قال أفراد في أسرة أحمد لـ هيومن رايتس ووتش إنه وفقا لرواية زميل أحمد في السفر، أوقف عناصر من المخابرات الجوية السيارة عند نقطة تفتيش على جسر الكسوة على الطريق بين دمشق ودرعا وسأل ضابط أحمد: "لماذا تبكي؟". أجاب أحمد: "أبكي لأن أمي ماتت".[67]
أخذ الضابط هواتف المسافرين وفتش فيها، فوجد أغنية مناوئة للأسد في هاتف أحمد. بدأ بإهانة أحمد قائلا له: "أنت حيوان"، وغيرها من الكلمات البذيئة. ثم سحب أحمد إلى غرفة صغيرة عند نقطة التفتيش، حسب ما قال زميله المسافر لأسرته بعد يوم من هذه الواقعة. وواصل بقية الركاب رحلتهم من دونه.
عمل ضاحي المسلماني، عم أحمد، قاضيا لمدة 20 عاما قبل أن يفر من البلاد في مارس/آذار 2013. قال ضاحي لـ هيومن رايتس ووتش إنه ذهب لرؤية العديد من المسؤولين الحكوميين بعد اختفاء أحمد، بمن فيهم وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية علي حيدر، لمعرفة أي أخبار عن قضية أحمد. كما اتصل بالفرع الأمني 248 الخاضع لإدارة المخابرات العسكرية ليستفسر إن كان أحمد محتجزا هناك، بناء على معلومة من أحد معارفه، لكنهم أخبروه أن أحمد ليس من بين المعتقلين.
في ديسمبر/كانون الأول 2012، بعد مرور 5 شهور على القبض على أحمد من دون أي أخبار عنه، جاء رجل له اتصالات حكومية قوية -رفض ضاحي ذكر اسمه - إلى مكتب ضاحي، وأخبره أنه إذا دفع 600 ألف ليرة سورية (تساوي تقريبا 8451 دولارا أمريكيا في ذلك الوقت)، سيُفرج عن أحمد. قال له الرجل إن الأموال ستدفع لعضو برلماني موالٍ للأسد. دفع ضاحي للرجل واصطحبه لتسليم المبلغ.
قال ضاحي إنه بعد 10 أيام استقبل مكالمة من الرجل:
"أخبرني الرجل أن أحمد حي يرزق. هو معتقل في فرع المخابرات الجوية في الزبلطاني. قلت له: أريد أن يفرج عن أحمد. أجاب: كنت تريد أن تعرف مكانه، والآن عرفت. إذا أردت المزيد يتعين عليك أن تدفع مليوني ليرة سورية. أجبت: لا أملك كل هذا المال؛ لست لصا أو ثريا جدا".[68]
باع ضاحي قطعة أرض وجمع مليون ليرة (تساوي تقريبا 14065 دولارا أمريكيا في ذلك الوقت). لكن الرجل أخبره أن المبلغ غير كاف. وقال: "بدأت أستعطفه. أنا قاض وأصبحت شحاذا. أنا قاض وسأقبل قدميه كي يقبل". اصطحب الرجل وانتظر في السيارة وهو يسلمه المبلغ. وقال ضاحي إنه شاهد عضو البرلمان يأخذ حقيبة النقود. عاد الرجل إلى ضاحي قائلا إنه سيُفرج عن أحمد في غضون 10 أيام. لكن أحمد لم يعد إلى البيت.
بعد 3 شهور، تلقى ضاحي مكالمة من فرع المخابرات الجوية في الزبلطاني تطلب منه القدوم إلى الفرع. قال ضاحي لـ هيومن رايتس ووتش: "طلب مني أبناء أخي ألا أذهب. (قالوا): سيقبضون عليك ويقتلونك". أضاف أنه هو وأبناء أخيه غادروا في اليوم التالي تحضيرا للذهاب إلى الأردن. في 16 مارس/آذار، اليوم الذي غادروا فيه، أخبره أفراد الأسرة الذين تخلفوا عن السفر أن منزله تعرض للدهم.
واصلت الأسرة البحث عن أحمد من الأردن، وبدأت مناشدات في وسائل الإعلام للإفراج عنه.[69]
حين سُربت الصور، بحث ضاحي عن أحمد بين الصور.
قال:
"فتحت مباشرة ملف المخابرات الجوية، ووجدته. (انهار وهو يتحدث). كانت صدمة. ياهَ! كانت صدمة حياتي أن أراه هنا. بحثت عنه 950 يوما. كنت أعد كل يوم. قالت لي والدته وهي تحتضر: أتركه في حمايتك. أي حماية أقدمها؟".
ظهرت 5 صور لأحمد بين صور قيصر. ظهرت الصور في ملف مؤرخ أغسطس/آب 2012، الشهر الذي اعتقل فيه. عرضت هيومن رايتس ووتش الصور الخمس على أطباء من أجل حقوق الإنسان، التي لاحظ أطباؤها الشرعيون أنها تصور صبيا في سن المراهقة به آثار إصابات ناتجة عن صدمة شديدة.[70]
رحاب العلاوي
رحاب العلاوي من سكان دمشق وأصلها من دير الزور. كانت تدرس الهندسة في جامعة دمشق قبل الانتفاضة في سوريا. صورتها كانت الوحيدة المنشورة لامرأة من بين صور قيصر للمتوفين في المعتقلات.
كانت رحاب العلاوي تبلغ نحو 25 عاما حين قبضت عليها "سرية المداهمات"، وهي وحدة خاصة للمداهمة في الشرطة العسكرية يوم 17 يناير/كانون الثاني 2013. جاءت الفرقة إلى منزل الأسرة في دمشق نحو الساعة 10 ليلا. وفقا لشقيقها حمزة، قال ضابط لأم رحاب إن الأمر سينتهي في غضون ساعات قليلة.[71]
قال شقيق رحاب لـ هيومن رايتس ووتش إنها عملت في إحدى لجان التنسيق المحلية في دمشق- شبكات موسعة من النشطاء- وكانت تساعد النازحين الذي تركوا حمص. بعد القبض عليها، سعت الأسرة للحصول على معلومات عنها عبر معارف شخصية من مسؤولين في الحكومة السورية. دفعت الأسرة أكثر من 18 ألف دولار أمريكي لمسؤولين مختلفين في الجيش وأجهزة الأمن السورية للحصول على معلومات عن رحاب، ولمحاولة تأمين الإفراج عنها، لكنها لم تحصل على أي معلومات.
قال أخوها إن بعد أشهر قليلة، أخبر عميد سوري أسرة رحاب أنها ماتت بسكتة. طلب بسام شقيق رحاب الثاني أن يرى قبرها، وفي مارس/آذار 2013، اصطحبه ضابط إلى مقبرة نجها على مشارف دمشق. أطلع بسام الحراس على صورة لرحاب وسألهم إن كانوا شاهدوا جثتها. قال له الحراس: "نعم، أحضروا 3 فتيات الساعة ليلا منذ 10 أيام". وطلب حمزة من بسام أن يتم نبش قبرها لكنه لم يستطع. حين سأل الضابط، أجابه: "لا نستطيع أن نفعل أكثر من ذلك". لم تستلم الأسرة قط شهادة وفاة. أقامت الأسرة مراسم تأبين لرحاب في الأردن فورا بعد ذلك. كما أقامت مراسم أخرى في يونيو/حزيران 2013 في السعودية، حيث يعيش شقيقان آخران لها.
في الشهر نفسه الذي أقيمت فيه مراسم التأبين الثانية لرحاب (يونيو/حزيران 2013)، اتصل أحد معارف الأسرة على صلة بوزير العدل السوري بأسرة رحاب وأخبرهم أنها ما زالت على قيد الحياة. قال حمزة: "قلنا له إن بسام رأى قبرها. فقال لنا: هي في فرع المخابرات العسكرية، رأيت اسمها في السجل. لو كانت ماتت لما ورد اسمها فيه".
بعدها بشهور، في أكتوبر/تشرين الأول 2013، اتصل ضابط أمن في الجيش بالأسرة وطلب 90 ألف دولار لتأمين الإفراج عن رحاب، منها 50 ألف دولار نظير خدماته و40 ألفا لتأمين خروجها من سوريا إلى تركيا. التقى بسام وسيطا ودفع له في إسطنبول. بعد تحويل المبلغ، قال الضابط لأسرة رحاب إنها تركت سوريا إلى لبنان. قال حمزة لــ هيومن رايتس ووتش: "صدقناه. بحثنا في جميع أنحاء لبنان، بحثنا في كل خيمة. طوال 8 شهور كنا نأمل في العثور عليها".
قالت معتقلة سابقة تدعى هنادي لـ هيومان رايتس ووتش إنها اعتقلت مع رحاب لأكثر من 3 أسابيع في فرع أمن الدولة 215.[72] وصلت رحاب في أواخر يناير/كانون الثاني أو أوائل فبراير/شباط 2013، وفقا لهنادي ومعلومات من معتقلين سابقين آخرين زودا بها أسرة رحاب.
قالت هنادي:
"قضينا 24 يوما معا في الزنزانة، بجوار بعضنا البعض، حدثتني عن أبويها. كانت تريد رؤيتهما.
كما تحدثت عن أشقائها وشقيقاتها، كانت خائفة على أسرتها".[73]
نُقلت هنادي إلى سجن عدرا بعد 3 أسابيع ونصف. لم تر رحاب ثانية قط. بعد ذلك بنحو شهر، وصلت معتقلة جديدة إلى سجن عدرا قادمة من الفرع 215. قالت هنادي إنها سألت المعتقلة الجديدة عن رحاب. قالت المعتقلة إن ذات ليلة نحو الساعة 11 ليلا بعد شهر ونصف من نقل هنادي، جاء الحراس وقالوا لرحاب: "أحزمي أغراضك. ستذهبين إلى المنزل".
في مارس/آذار 2015، بعد نشر صور قيصر على الإنترنت، اتصل أحد أبناء عمومتها بالأسرة واستفسر إن كانت صورة رحاب من بين الصور المسربة. قال ابن العم: "إنها تشبه رحاب تماما".
رغم تعرف الأسرة على رحاب، طلبت من معتقلات سابقات رأينها في السجن أن يؤكدن هويتها في الصورة، لأن مظهرها تغير كثيرا خلال فترة الاعتقال.
قالت هنادي لـ هيومن رايتس ووتش:
"ذات يوم اتصل شقيقها بي وسألني إن كانت صورة رحاب من بين الصور التي نشرت. زاد وزنها كثيرا في المعتقل... لأننا لم نكن نتحرك، وكنا نأكل البطاطس والأرز والبرغل. تعرفت على البيجاما التي كانت ترتديها، وعلى وجهها. حتى شكل أصابع قدميها كان كما هو. حينما وصلت لم تكن مريضة، ولم يكن وجهها أصفر، وكانت نحيفة جدا".
في الصور التي سربت لجثتها، كُتب الفرع 215 على جبهتها. حفظت 3 صور يبدو أنها لرحاب في ملف مؤرخ 4 يونيو/حزيران 2013. أطلعت هيومن رايتس ووتش منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان على الصور. لاحظ الأطباء الشرعيون أن الصور لامرأة في العشرينات من عمرها يظهر فيها إبرة مصل في ذراعها اليسرى، ما يشيرإلى تدخل طبي.[74] لم يجدوا دليلا مرئيا على جروح أو صدمة ناتجة عن ضربة شديدة. [75]
عقبة المشعان
وقت القبض على عقبة المشعان، كان عمره 32 عاما. عاش في بلدة مو حسن في محافظة دير الزور. عمل موظفا في مديرية الزراعة. كان متزوجا ولديه بنتان؛ علياء التي تبلغ 4 سنوات الآن، ورحاب وعمرها 3 سنوات الآن.[76]
ينتمي عقبة لأسرة كبيرة تضم 5 أشقاء وأخت. كانت الأسرة تعرضت لمأساة من قبل حين أطلقت القوات الحكومية الرصاص وقتلت شقيقه الأصغر زهير خلال تظاهرة مناوئة للحكومة في 2011.
قبض مسلحون موالون للحكومة على عقبة في 28 مارس/آذار 2012، وهو في طريقه إلى البيت وسلموه لفرع المخابرات الجوية في البلدة. شاهد عدد من المارة القبض على عقبة وأخبروا أسرته.
قال أخوه الأكبر قتيبة لـ هيومن رايتس ووتش إنه حين ذهب للبحث عن عقبة قُبض عليه هو أيضا. أمضى قتيبة 30 يوما معتقلا في الفرع 291 الذي تديره المخابرات العسكرية في دمشق.
قال والدا قتيبة لـ هيومن رايتس ووتش إن في أكتوبر/تشرين الأول 2012، قتل 2 من أشقائه. أحدهما قتله قناصة موالون للحكومة، وقتل الثاني في هجوم عشوائي. أضافا أن أصغر أبناء الأسرة بشار قتل في 2014 في معركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو يحاول مساعدة الجرحى. أُطلق سراح قتيبة لكن عقبة ظل مفقودا.
قال علي المشعان والد قتيبة لـ هيومن رايتس ووتش:
"في البداية، كنا نعرف مكانه. لم نستطع رؤيته، لكننا تلقينا معلومات من منشقين ومن معتقلين سابقين. علمنا من منظمة أنه في (المخابرات) الجوية. علمنا أنه اعتقل (في فرع المخابرات الجوية) في المزة، ثم أرسل إلى سجن صيدنايا. سمعنا أن عقبة بخير".[77]
دفعت الأسرة أموالا لوسطاء كي يتصلوا مع الحكومة لمعرفة المزيد عن وضع عقبة. سمعوا أن عقبة متهم بالتظاهر، وتجارة السلاح، وتشجيع الاحتجاجات. تقدم والده بطلب رسمي لوزارة العدل للاستعلام عن حالته، لكنه لم يتلق ردا لمدة 7 شهور. وقال علي المشعان لـ هيومن رايتس ووتش: "أخيرا، أتى الجواب من وزارة العدل: ليس لدينا معلومات عنه".
بعد وفاة الابن الاصغر، فر والدا عقبة إلى تركيا مع ابنيهما المتبقيين، وبعض أحفادهما.
في مارس/آذار 2014، بعد مرور عامين من القبض على عقبة، تسربت صور قيصر. اعتقد أحد أصدقاء الأسرة أنه تعرف على عقبة بين الصور، وأرسل صورة إلى ياسمين أخته. تلقت الصورة الساعة 1 صباحا وتعرفت على أخيها من الصورة. أخبرت أحد أخويها الناجيين، قتيبة. لكنهما لم يدريا كيف يخبران أبويهما أنهما فقدا ابنا آخر من أبنائهما.
قالت أمه لــ هيومن رايتس ووتش:
"رأيتهما وسألتهما: أخبراني ماذا يحصل؟ قالا لي: أبو علياء (عقبة) مات. أجبت أنني أريد أن أذهب إلى سوريا لتلقي العزاء هناك. ذهبت إلى هناك، ورأيت زوجته وطفلتيه. قالت ابنته، وعمرها 3 سنوات ونصف: الحمد لله. سيستريح أبي الآن، فقد تخلص من المعاناة والظلم".[78]
تضمنت صور قيصر 3 صور لعقبة. أكدت ورقة على صدره أنه كان في عهدة فرع المخابرات الجوية. الملف الذي تضمن الصور مؤرخ مارس/آذار 2013، أي بعد مرور عام على تاريخ القبض عليه. مع أن جثمانه كان هزيلا للغاية، قالت أسرته إنها متأكدة أنها تعرفت عليه.
أطلعت هيومن رايتس ووتش منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان على هذه الصور. وجد الأطباء الشرعيون دليلا على "جوع من متوسط إلى حاد"، فضلا عن "القصور الوريدي المزمن في الأطراف السفلية" (دوالي الساقين)، وهو- كما قال الأطباء الشرعيون- أعراضه "تتماشى مع الوقوف لمدة طويلة".[79]
محمد طارق مجيد
طارق، كما تطلق عليه أسرته، كان يبلغ 23 عاما، حين قبض عليه عناصر المخابرات العسكرية في فندق كان يقيم فيه في دمشق. كان طالبا، يدرس المحاسبة في السنة الثانية في أحد المعاهد التقنية. كانت المخابرات الجوية في المزة في دمشق ألقت القبض عليه من قبل في 2011 لمدة 20 يوما. ووصفه أخوه بشار بأنه ناشط سلمي، واصل المشاركة في الاحتجاجات المنددة بالحكومة في داريا حيث تنحدر عائلته، حتى بعد إلقاء القبض عليه أول مرة.[80]
في 16 فبراير/شباط 2013، ألقي القبض على طارق في فندق يقيم فيه في دمشق. قال شقيقه لـ هيومن رايتس ووتش: "لا أعرف لماذا قبض عليه، كان الأمر مجرد جزء من مداهمات. بطاقة هويته تقول إنه من داريا". معروف عن داريا أنها منطقة مناوئة للحكومة. علمت الأسرة بالقبض على طارق من أصدقاء كانوا يقيمون معه في الفندق ذاته. رغم أن الأسرة بحثت عن أخبار عن طارق، لكنها لم تعلم عن مكانه حتى نهاية العام، حين أفرج عن 2 من أصدقائه من المعتقل. أخبرا الأسرة أن طارق معتقل في الفرع 215 (تديره المخابرات العسكرية). قالا لشقيقه: "عُذب كثيرا، لدرجة... أنه فَصَل. فقد عقله".
قال بشار لــ هيومن رايتس ووتش: "لم نصدق هذه الأخبار". أضاف أن طارق كان في حال جيدة ولم يكن يعاني من متاعب صحية قبل أن يدخل المعتقل.
بحثت الأسرة عن جهات على صلة بالأجهزة الأمنية، للحصول على معلومات عن طارق. قال بشار: "قدموا لنا بعض الأدلة، وأعطونا بعض المعلومات، لكن كانت كلها كذبة". ذهبت والدة طارق وبشار إلى الشرطة العسكرية، وقدما طلبات عديدة للحصول على معلومات عن طارق، لكنهما لم يتلقيا ردا. أخبرهم معتقل سابق، تعرفه العائلة وخرج من الفرع 215، أن طارق مات منذ شهر في المعتقل.
حين نُشرت صور قيصر على الإنترنت، بحث بشار عن صور لشقيقه. تعرف على طارق من مظهره، ومن ندبة مميزة في كتفه اليمنى. أصيب طارق بشظية خلال قصف داريا، وهو يقدم المساعدة في مستشفى ميداني محلي. كانت ندبة الشظية ظاهرة في الصور. ظهرت الصور في ملف مؤرخ مارس/آذار 2013، الشهر الذي ألقي القبض فيه على طارق، مما يؤكد معلومات ذكرها 3 معتقلين سابقين أخبروا أسرته أنه مات فور اعتقاله. تشير ورقة بيضاء علقت في الصورة إلى أنه كان في حجز الفرع 215 (المخابرات العسكرية). الورقة عبارة عن صفحة من دفتر وصفات طبية، طبع أعلاها عبارة "إدارة الخدمات الطبية العسكرية". ندبة الشظية واضحة تماما في كتفه اليمنى.
III. أسباب الوفيات في المعتقلات
"إذا التقطت صورا للمعتقلين الآن، لرأيت أناسا يشبهون أولئك الذين في صور قيصر، في ما عدا أنهم على قيد الحياة... محظوظون أولئك الذين ماتوا". – د. سامي، معتقل سابق في الفرع 215.
أحد الأسئلة الرئيسة التي تثيرها صور قيصر: ما السبب في هذا العدد الكبير من الوفيات في المعتقل؟ للإجابة عن هذا السؤال، قابلت هيومن رايتس ووتش 37 معتقلا سابقا، منهم 4 أطباء، استطاعوا وصف الحالة الطبية لزملائهم المعتقلين، وشهدوا وفاتهم في زنازينهم، علاوة على منشقَّين خدما في الفروع الأمنية، و2 آخرين خدما في مستشفيات عسكرية نقل إليها بعض المعتقلين.
المقابلات مع المعتقلين السابقين الذين تعرفوا على زملائهم السجناء من الصور أو شاهدوهم في المعتقل، مع المنشقين الأربعة الذين خدموا في الفروع الأمنية أوالمستشفيات العسكرية، وشهادة قيصر نفسه؛ كلها تشير إلى أن معظم المعتقلين ماتوا في مراكز الاعتقال في الفروع الأمنية. في بعض الحالات، نقل المعتقلون إلى مستشفيات عسكرية للعلاج وماتوا فيها. في صور قيصر، توجد صور عديدة ظهر فيها مجسات جهاز مزيل الرجفان (الذي ينعش القلب) ملصقة بصدر الشخص المُصَوّر.
المقابلات مع المعتقلين السابقين والمنشقين أعطت إحساسا بحجم الوفيات في المعتقل. فهد المحمود منشق عمل طيلة 7 سنوات ونصف حارس سجن في فرع الخطيب (الفرع 285 لأمن الدولة) في دمشق، الذي قال إنه كان يضم نحو ألف معتقل. قال أحمد لـ هيومن رايتس ووتش إنه "بعد بدء (الانتفاضة)، كان يموت يوميا من 6 إلى 7 أشخاص (في الفرع)... ليس أقل من 2 إلى 3. ذات يوم (في سبتمبر/أيلول 2012) مات 11 معتقلا".[81]
كل المعتقلين السابقين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير رأوا سجناء كثيرين يموتون في زنازينهم. كارم، معتقل سابق في الفرع 235 للمخابرات العسكرية (يُعرف باسم فرع فلسطين)، قال إن 83 شخصا ماتوا في زنزانته خلال 9 شهور في المعتقل في 2014 (بمتوسط 9 في الشهر).[82] وقال إن الزنزانة ضمت ما بين 80 إلى 170 معتقلا خلال هذه الفترة.
جميع المعتقلين السابقين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش وصفوا الأوضاع في زنازينهم التي تنتهك حقوق المعتقلين في الصحة والحياة، وتصبح في بعض الحالات من قبيل المعاملة اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة أو التعذيب. وفقا لمعتقلين حاولوا أن يطلبوا تحسين الأوضاع ووفقا، أيضا، لمنشق عمل حارسا في أحد الفروع الأمنية، كانت السلطات على علم بهذه الأوضاع وفرضتها عن طريق حرمان المعتقلين من الطعام الكافي، والرعاية الطبية، ومرافق الصرف الصحي، والتهوية، والمساحة.
وفقا لمعتقلين سابقين قابلتهم هيومن رايتس ووتش، منهم طبيبان احتجزا في المعتقل لشهور عديدة، فإن الأسباب الرئيسة للوفاة كانت:
- التهابات الجهاز الهضمي، التي تنطوي، أحيانا، على إسهال وجفاف شديدين؛
- الأمراض الجلدية المعدية؛
- التعذيب، متضمنا الضرب المبرح؛
- الضغوط النفسية التي تقود المعتقلين إلى رفض الأكل والشرب؛
- الأمراض المزمنة (مثل ارتفاع ضغط الدم، أو مرض السكري، أو الربو، أو أمراض الكلى) التي لم يحصل المعتقلون على الدواء أو العلاج اللازم لها؛
- الجوع.
بمراجعة صور قيصر، أكد فريق من الأطباء الشرعيين من منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان الكثير من مزاعم المعتقلين السابقين هذه.[83] في تقرير يستند إلى نتائج عمل فريق الأطباء الشرعيين، وجدت المنظمة أدلة على التجويع، الصدمة الناتجة عن ضربة شديدة، الاختناق، والتعذيب.[84] وجد الفريق دليلا على أن 4 أشخاص ماتوا جراء الحرمان من الطعام والرعاية الطبية والمرافق الصحية الملائمة، مما أضعف المعتقلين إلى حد أن إصابتهم بأمراض بسيطة قد تؤدي إلى عواقب مهلكة. تواترت أقوال المعتقلين إن مراكز الاعتقال كانت تزودهم بكميات ضئيلة من الطعام تجعلهم يفقدون وزنهم باستمرار طوال فترة الاعتقال. قال معتقل سابق في فرع فلسطين: "بعد شهرين أو 3... تفقد كل قوتك".[85]
تفشى التعذيب أيضا في مراكز الاحتجاز. أورد العديد من المعتقلين أنهم واجهوا تعذيبا مستمرا شمل التعليق من المعصمين لساعات عديدة (يسمى الشبح)، والضرب بخراطيم وعصي، والجلد، والصعق بالكهرباء، والحرق. منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، التي شكلت فريقا من الأطباء الشرعيين لفحص 72 من صور قيصر، وجدت أنه "في حالات عديدة فُحصت... ثمة دليل للوصول إلى نتيجة مفادها أن "الشبح" و"الدولاب" و"الفلقة" من طرق التعذيب التي استُخدمت".[86]
بيئة قاتلة: الأمراض وسوء النظافة والجوع ونقص الرعاية الطبية
قال معتقلون سابقون قابلتهم هيومن رايتس ووتش، منهم طبيبان اعتقلا لشهور عديدة، إن الأمراض المعدية سرعان ما قد تؤدي إلى الوفاة في المراكز الأمنية. قال هيثم وهو معتقل سابق في فرع فلسطين: "أصغر إصابة قد تفضي إلى مرض معدٍ نتيجة الأوضاع في الزنزانة".[87] قال كرم، الذي كان محتجزا في فرع فلسطين أيضا، إن طالبا جامعيا سابقا في زنزانته طلب من زعيم الزنزانة مزيدا من الطعام فتم التبليغ عنه إلى الحراس فضربوه بشدة. وقال: "التقط عدوى، ومات بعد 3 أيام".[88]
يشيع نوعان من الأمراض المعدية وهما: التهابات الجهاز الهضمي والأمراض الجلدية المعدية.
التهابات الجهاز الهضمي المعدية بما فيها الإسهال
مزيج الازدحام، وسوء الطعام وتحلله، وقذارة الزنازين، والافتقار إلى الرعاية الطبية، تفاقم من الأوضاع التي تتفشى فيها التهابات الجهاز الهضمي المعدية. معظم المعتقلين أخبروا هيومن رايتس ووتش أن الحراس لا يسمحون لهم باستخدام الحمام إلا مرات قليلة في اليوم في أوقات محددة لمدة دقيقة أو اثنتين فقط، ما لا يتيح لهم وقتا للاغتسال. قال جهاد، وهو معتقل سابق في فرع فلسطين (المخابرات العسكرية): "في 61 يوما، لم أستحم ولو لمرة واحدة".[89] من بين 37 معتقلا لم تكن حرية دخول غرفة الاغتسال أو المرحاض في الزنازين متاحة إلا لاثنين فقط، وكان على الباقين أن يحصلوا على إذن من الحارس لاستعمال الحمام.
بعض المعتقلين السابقين وصفوا كيف أن زملاءهم المعتقلين ماتوا إثر إصاباتهم بإسهال شديد. على سبيل المثال، تحدث هيثم عما وصفه هو وزملاؤه بـ "الإسهال الأسود"، الذي قال إنه يفضي إلى وفاة المعتقلين في غضون 10 إلى 15 يوما. قال سامي، وهو معتقل سابق في الفرع 215 وطبيب، لـ هيومن رايتس ووتش: "كان الإسهال السبب الرئيسي للوفاة"، في الفرع الذي كان يحتجز فيه.
كارم، الذي قضى شهور في الفرع 235 مخابرات عسكرية (فرع فلسطين)، تحدث أيضا عن
وفاة سجين عانى من إسهال شديد:
"كان يوجد معتقل من كبار السن، كان مثل عم لي ولشقيقي. أخبرنا أنه سيدعونا يوما ما لمنزله وسنذوق طبيخ زوجته. كان يحب الحلوى، فلو حصلنا على مربى (ضمن وجباتنا) كنا نعطيها له. أصابه إسهال وفصل (فقد عقله). توقف عن الأكل وبدأ يتغوط على نفسه. في يوم وفاته، في آذار ( مارس 2014)، كل من في الزنزانة صلى لروحه".
طه، معتقل سابق في فرع فلسطين (المخابرات العسكرية) قال لـ هيومن رايتس ووتش:
"مات مأمون (معتقل آخر) في 12 ديسمبر/كانون الأول، 2013، من الإسهال. أصيب بالإسهال لمدة 5 أشهر. لم نطلب طبيبا لفحصه لأننا إن فعلنا، سيضربنا الحراس. (بعد أن مات)، حين طلبنا من الحراس أخذ جثته، بدأوا بصفعنا على رؤوسنا".[90]
الأمراض الجلدية
أفاد معتقلون سابقون أن الأمراض الجلدية تفشت بين المعتقلين. تحدثوا عن أنواع شتى من الأمراض الجلدية أصابت عددا كبيرا في زنازينهم، بما فيها الجرب، والطفح الجلدي أو بقع لا تعرف طبيعتها، وأثرت على عدد كبير من المعتقلين في زنازينهم. كما تحدثوا عن القروح والجروح المتقيحة المفتوحة. أفاد العديد من المعتقلين السابقين أنهم أصيبوا بالجرب أو القمل في الاحتجاز. بعض المعتقلين أصيبوا بحالات شديدة من الجرب وتوفوا متأثرين بالالتهابات الناجمة عنه.
قال طه وهو معتقل سابق في فرع فلسطين لـ هيومن رايتس ووتش: "أصبت بتقرحات في جميع أنحاء جسدي. كانت التقرحات مثل ثقوب في الجسد جراء الحك المستمر في الجلد. مات (معتقل آخر) بسبب الجرب. أصيب بنوع شديد من الجرب".[91]
معتقل سابق آخر خدم في الجيش السوري لمدة 12 عاما حتى اعتقاله، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه أثناء احتجازه في الفرع 248 (المخابرات العسكرية) في المزة، أصيب بمرض جلدي. قال: "بدأت التقرحات تظهر بعد شهر واحد (في المعتقل)، وربما أقل. كنت أخدش جلدي حتى أصل إلى العظم. في البداية لم يعطونا أي نوع من الدواء، لكن حين أصبنا جميعا، كان الحراس يعطوننا زجاجة دواء صغيرة كل 3 أو 4 أيام. لكنها لم تكن كافية".[92] قال إن الجروح ظلت طوال فترة 3 شهور ونصف قضاها في المعتقل، واستغرق شفاؤه منها شهرين بعد الإفراج عنه.
جندي سابق آخر بالجيش السوري اعتقل في الفرع 227 (فرع المنطقة)، الذي تديره المخابرات العسكرية، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه خلال فترة اعتقاله:
"رأيت عناصر الأمن يحضرون معتقلين مصابين بجروح متعفنة ويضعونهم تحت المغسلة. علمت لاحقا أن الغرض من ذلك هو أن تعريض جروحهم للماء والرطوبة يفاقم من جروحهم. رأيت ما لا يقل عن 30 حالة... كان بوسعي أن أرى جروحهم التي كانت كما لو أن جلودهم تتآكل. كانت أشبه ما يكون بثقب في الجسم".[93]
قال معتقلون سابقون لـ هيومن رايتس ووتش إن الأمراض الجلدية تفشت لتقاعس السلطات عن السماح للمعتقلين بالاستحمام المنتظم، وحرمانهم من الرعاية الطبية وارتفاع معدل الرطوبة في الزنازين. من بين 37 معتقلا قابلتهم هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير، قال 2 فقط إنهما كانا يغتسلان بانتظام (مرتين أسبوعيا)، بعد أن يدفعا لحراس السجن مقابل الحصول على الصابون.
قال الآخرون إنهم قضوا أسابيع وشهورا غير قادرين على الاستحمام. وأفادوا أن الحراس لم يزودوهم بالصابون أو يسمحوا لهم بوقت يكفي للاغتسال، وأن زنازينهم لم تنظف قط. قال دكتور كريم مأمون وهو طبيب اعتقل لمدة شهرين في الفرع 215 لأمن الدولة: "كان الصديد والسوائل الجسدية على الأرض. سمح لي بالخروح من الزنزانة مرتين في اليوم للذهاب إلى الحمام. لم يكن به أي دوش؛ مجرد مرحاض فقط".[94]
عدم الحصول على العلاج الطبي
نقص أدوية الأمراض المزمنة
قال العديد من المعتقلين لـ هيومن رايتس ووتش إنهم شهدوا وفاة زملائهم المعتقلين جراء مضاعفات سببها نقص أدوية الأمراض المزمنة مثل السكري، أو أمراض القلب، أو الربو. كارم، وهو معتقل سابق في فرع فلسطين، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن أحد زملائه المعتقلين توفى إثر نوبة ربو. وأوضح: "لم يستطع التنفس. طلبنا من الشاويش (السجين المسؤول عن الزنزانة) أن يقرع على الباب لكنه رفض. أغمي عليه، ثم مات. تركوه على الأرض".
بلال، معتقل سابق في الفرع 215، وصف وفاة سجين زميل بالقول:
"كان مصابا بالسكري. طلبنا أدوية، لكنهم رفضوا إعطاءنا أي دواء. بعد أسبوع واحد فَصَل؛ خلع سرواله وبدأ في التبرز على نفسه. في الأسبوع التالي، بدأ يرتجف، ثم مات".
نقص الرعاية الطبية
قال معتقلون سابقون، أيضا، إنهم عانوا من النقص الشديد في المساعدات الطبية المتاحة في مراكز الاعتقال، حتى لمن يصابون بجروح خطيرة بعد ضربهم أو تعذيبهم، أو للمعتقلين الذين يعانون من أمراض مزمنة. أفاد المعتقلون أن الحراس لا يقدمون إلا الباراسيتامول، وهو مسكن يصرف دون وصفة طبية، لأشد الحالات خطورة، ولمرة واحدة فقط.
قال فهد المحمود وهو منشق من فرع الخطيب في دمشق لـ هيومن رايتس ووتش:
"الطبيب في فرعنا... أسوأ طبيب. يوجد أيضا ممرضان. إذا شعر بالأسى على شخص ما يعطيه باراسيتامول. ليس معه إلا صندوقان؛ أحدهما به أدوية للأمراض المعدية، والثاني به باراسيتامول. حين كنت أرى (معتقلين) ليسوا على ما يرام، كان علي أن أذهب إلى الرئيس (رئيس الفرع)، وعليك وقتها أن تطلب ثم تطلب ثانية، كي تحصل على حبة باراسيتامول".
قال معتقلون سابقون إن أطباء السجن كانوا يضربون السجناء أحيانا ضمن طرق أخرى لإساءة معاملتهم بدنيا. قال الطبيب سامي وهو معتقل سابق في الفرع 215 لـ هيومن رايتس ووتش:
"طبيب الفرع اعتاد ضرب المعتقلين. كان يستعمل الإبرة نفسها لـ 10 أشخاص لحقنهم بمهدئ ديكلوبينال الصوديوم... طلبت من (المعتقلين الآخرين) ألا يذهبوا إليه ثانية، بسبب خطر نقل الأمراض جراء مشاركة الإبرة".
قال هيثم، وهو معتقل سابق في فرع فلسطين إنه إذا أراد المعتقلون استدعاء طبيب، كان عليهم إخبار الشاويش الخاص بهم (سجين زميل يدير الزنزانة)، الذي يتحدث مع الحارس، "ثم يأتي الحارس ويخرج المعتقل، ويضربه، ويقذف به ثانية إلى داخل الزنزانة". وأضاف أنه بدلا من مناداة الحارس، يلجأ هو وزملاؤه السجناء إلى استخراج الصديد عن طريق الضغط.
رفض السلطات توفير المساعدة الطبية والأدوية اللازمة للمعتقلين ينتهك حقوقهم في الصحة والحماية من المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة كما يضمنها "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.
الألم النفسي الشديد المفضي إلى الموت
قال العديد من المعتقلين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش إن معتقلين عانوا من ألم نفسي شديد أفضى في بعض الحالات إلى وفاتهم. قال 7 معتقلين سابقين إن الضغوط الشديدة الناجمة عن التعذيب والازدحام أفضت إلى حالات من الإحباط الشديد الذي يفضى إلى فقد القدرة على إدراك الزمان والمكان. تحدث معتقلون عن حالة عقلية أطلقوا عليها "فصل"، أو فقدان الشخص عقله، ووقف التفاعل مع الآخرين. يصبح المعتقلون المصابون بهذه الحالة مشوشين، ويهلوسون، ولا يدركون ما يحيط بهم، ويتوقفون عن الأكل والشرب. وفقا للعديد من المعتقلين الذين شهدوا مثل هذه الحالات في زنازينهم، يموت المعتقل المصاب بهذه الحالة بعد نحو أسبوع.
بشار طبيب من اللاذقية اعتقل في كل من فرع فلسطين (الفرع 235 الذي تديره المخابرات العسكرية) والفرع 291 (المخابرات العسكرية) وكليهما في دمشق، قال لـ هيومن رايتس ووتش:
"في كلا المعتقلين رأيت أشخاصا منفصلين عن الواقع. يتخيلون أنهم ليسوا في السجن، وخروجهم من هذه الحالة يستغرق وقتا أحد المعتقلين... اقتنع أن مدير الفرع قد جاء... وأخبره أنه سيُفرج عنه قريبا. استغرق 4 أيام كي يعود ثانية إلى الواقع".[95]
نقص الطعام
دأبت الفروع الأمنية في سوريا على عدم تقديم كميات كافية من الطعام للمعتقلين مما يسهم في إضعاف صحتهم. يبدو الهزال الشديد على الكثير من الضحايا الـ 6786 الذين ظهروا في صور قيصر؛ برزت ضلوعهم بشكل واضح، وتقلصت بطونهم، وبرزت عظام الحوض بروزا شديدا. راجع محمد عياش، وهو طبيب يعمل لصالح الجمعية السورية، جميع صور المعتقلين. وجد عياش أن 2936 من الضحايا أو ما نسبته 43% أصابهم الهزال. وجدت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان أن 6 من الضحايا- في مجموعة راجعتها تضم 72 صورة (تمثل 19 ضحية) - يعانون من الجوع، الذي يرجّح أنه ساهم في وفاة 4 منهم.[96]
قال معتقلون أجريت معهم مقابلات لغرض هذا التقرير إنهم حصلوا على مقادير ضئيلة من الطعام وخارت قواهم بعد مرور أشهر قليلة على اعتقالهم. سليمان علي (اسم مستعار)، وهو منشق اعتقل لاحقا، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه كان يزن 75 كيلوغراما في بداية اعتقاله، لكنه فقد 35 كيلوغراما في 6 أشهر.[97]
كان الحراس يوزعون مقادير محدودة من الطعام على كل زنزانة يتقاسمها المعتقلون في ما بينهم. قال معتقلون عديدون إن الشاويش في زنزانتهم كان يأخذ أكثر من نصيبه العادل، ويفعل ذلك أحيانا السجناء الآخرين الذين يساعدونه في فرض قوانين الزنزانة. بقية المعتقلين كانوا يقسمون أنفسهم إلى مجموعات تضم ما بين 8 و10 أشخاص يتشاركون في مقدار صغير من الطعام.
الطبيب كريم مأمون (اسم مستعار) وهو معتقل سابق في الفرع 215 (المخابرات العسكرية) قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الطعام اليومي الذي تشاركه مع 8 معتقلين آخرين عبارة عن 5 ملاعق من اللبنة في الإفطار، أما في الغذاء فيحصل كل منهم على قطعة خبز وحفنة من البرغل المغلي والخضراوات المقطعة، علاوة على 5 بيضات مسلوقة يتقاسمونها، ومثل ذلك في وجبة العشاء.[98]
وصف هيثم وهو معتقل سابق في فرع فلسطين وجباته:
"في الإفطار، اعتدنا تناول مربى البرتقال، لكن الكمية كانت صغيرة إلى درجة أن الشاويش كان يخلطها بالماء. في الغداء نتناول البرغل لكنه لم يكن مطهوا جيدا. وجبة العشاء تتكون من حبتي بطاطس مسلوقتين لمجموعة من 10 سجناء. اعتدنا أن نحصل على 3 أو 4 أرغفة يوميا، لكن... لم يكن هناك هواء في الزنزانة وكانت رطبة جدا، مما كان يفسد الخبز ونضطر إلى أكله متعفنا".
الاكتظاظ ونقص التهوية
عاش المعتقلون في زنازين مكتظة دون إضاءة، لا يجدون مكانا للاستلقاء على الأرض أو الجلوس بشكل مريح. لم يسمح لهم قط بمغادرة الزنزانة أو استنشاق هواء منعش. قال منشق عمل حارسا في فرع الأمن العام في الخطيب في دمشق لـ هيومن رايتس ووتش إنه قبل أن ينشق عام 2013، كانت زنزانة في الفرع مصمَّمة لتستوعب 200 معتقل تضم نحو 600. أضاف: "كانت مليئة بالروائح والأمراض".[99]
وصف العديد من المعتقلين الصدمة التي شعروا بها من ارتفاع درجة الحرارة والرائحة والرطوبة والاكتظاظ حين دخلوا لأول مرة طابق الفرع الأمني الذي يُحتجز فيه المعتقلون، الذي يكون في معظم الأحيان تحت الأرض. قال بلال الذي كان محتجزا في الفرع 215 الذي تديره المخابرات العسكرية: "حين دخلت الزنزانة لأول مرة شعرت بموجة حارة. كانت تحمل رائحة حيوان ميت. كان (الهواء) مثل النار".
قال الطبيب مأمون الذي احتجز في الفرع نفسه:
"كان هناك باب حديدي وضعونا خلفه. كانت الجو رطبا جدا جدا جدا. بدأت أتعرق على الفور. كنت أشم رائحة مميتة، لم أكن أعرف كيف أتحملها. كان الناس يجلسون على الأرض دون ملابس. وجدنا أشخاصا يقفون أمام الحمامات. في الغرف، وفي الممرات، الجميع يجلس القرفصاء. في كل الفروع التي رأيتها، لم أر أي شيء مثل هذا. الملابس كانت تتحلل في 10 أيام".[100]
منذر، الذي اعتقل في الفرع 248 (المخابرات العسكرية)، قال إنه قضى 25 يوما في زنزانة مساحتها 4 أمتار في 5 أمتار وبها 115 معتقلا. أضاف أن أبعد ركن عن الباب كان يسمى "ركن الموت"، لأنه لا يصله هواء يذكر. قال: "كنا نريد أن نُضرَب لمجرد أن نستطيع (أن نغادر الزنزانة و) نتنفس". تابع: "العقاب كان أسهل من الرائحة، والجو".[101]
هيثم، معتقل سابق في فرع فلسطين، وصف زنزانته قائلا:
"كان عرضها من 4 إلى 5 أمتار وطولها 10 أمتار. كان لها باب حديد صغير تعلوه قضبان. لم تكن الغرفة مضاءة. كانت توجد لمبة نيون في المدخل، ترسل نورا خافتا من بين قضبان الباب... كل المعتقلين، من 100 إلى 110 أشخاص، لم يكونوا يرتدون ملابس، بسبب ارتفاع درجة الحرارة ومعدل الرطوبة. كانوا جميعا بالملابس الداخلية (أو) بدون ملابس داخلية، لأنهم معتقلون منذ فترة طويلة اهترأت فيها ملابسهم الداخلية. كنا نتبادل ورديات تمتد لثلاث ساعات. في الأولى تقف، ثم تجلس القرفصاء (و)تستريح".[102]
جميع المعتقلين الذين قابلناهم لغرض هذا التقرير قالوا إن الشاويش في زنازينهم يحدد لهم عدد معين من بلاط الأرضية، من 1 إلى 3، يطلب منهم البقاء عليها. قال الطبيب مأمون:
"أرضية الزنزانة بها بلاط مقاس 40 سم في 40 سم. كل شخص له بلاطة. ينظم الشاوش وضع الناس على البلاط المجاور للحائط كي ينالوا قسطا من الراحة بالاستناد إلى الحائط؛ هؤلاء مسنون جدا قبض عليهم منذ وقت طويل ولا يستطيعون الوقوف، ومرضى. تورمت سيقان الناس وكواحلهم كثيرا، لتشبه أرجل الفيل. ترى أشخاصا نحفاء لكن أرجلهم وكواحلهم متورمة، وبعد فترة تبدأ أرجلهم في التسوس والتعفن".[103]
مجند سابق في المشفى 601 العسكري في دمشق، رأى مئات الجثث التي تسلمها المستشفى، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن سيقان الجثث كانت مصابة بالغرغرينا.[104] قال العديد من المعتقلين السابقين إنهم رأوا سيقان زملائهم المعتقلين منتفخة ومتقرحة من أسفل.
كل المعتقلين الذين أجريت معهم مقابلات لغرض هذا التقرير قالوا إن الزنازين كانت رديئة التهوية، وكانوا يكافحون ليتنفسوا. قال كارم الذي قضى 9 أشهر في فرع فلسطين: "بعض الناس كان يغمى عليهم بين الآخرين".
قال شقيقه كرم الذي كان معتقلا في الزنزانة نفسها:
"لم يكن هناك مكان للنوم، لذا كنا ننام بوضعيّة الرأس نحو القدمين. نظرا لعدم وجود أماكن كافية حتى للنوم بهذه الكيفية كنا ننام بعضنا فوق بعض، مع رؤوسنا على أقدام الآخرين، في صفين. مات شخصان مختنقين بسبب هذه الطريقة في النوم."[105]
التعذيب والضرب المفضيان إلى الموت
أفاد شهود أيضا أنهم رأوا معتقلين زملاءهم يموتون بعد ضرب مبرح أو تعذيب، إضافة إلى أنهم عانوا أنفسهم من التعذيب فترات طويلة. كل من قابلتهم هيومن رايتس ووتش تقريبا من المعتقلين السابقين قالوا إنهم تعرضوا للتعذيب (تعمد إحداث ألم شديد للحصول على معلومات أو لأغراض أخرى مثل العقاب) خلال فترة اعتقالهم، كما أنهم رأوا تعذيب آخرين. أشد حالات التعذيب تحدث أثناء جلسات التحقيق، غالبا في غرف تحقيق منفصلة، أو غرف تعذيب، أو في ممرات وردهات في بعض مراكز الاعتقال الصغيرة. خلال هذه الجلسات، عادة ما يريد المحققون والضباط من المعتقلين الاعتراف بالمشاركة في تظاهرات، وذكر أسماء آخرين شاركوا في التظاهرات ونظموها، والاعتراف بامتلاك أسلحة واستخدامها، وفي بعض الحالات تقديم معلومات عن التمويل الخارجي المزعوم للتظاهرات.
لكن العديد من المعتقلين السابقين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش يعتقدون أن السبب الرئيس للجوء إلى التعذيب ليس مجرد الحصول على المعلومات، بل لعقاب المعتقلين وترهيبهم.
استخدم المحققون والحراس وعناصر الأمن تشكيلة واسعة من أساليب التعذيب، تشمل الضرب لفترات طويلة، الذي كثيرا ما يتم بأدوات مثل العصي والأسلاك، وشل حركة المعتقلين في أوضاع مجھدة لمدد طويلة، واستخدام الكهرباء والصدمات الكهربائية. العديد من المعتقلين في الفروع المختلفة في دمشق وصفوا أساليب التعذيب التالية:
- الشبح: تعليق المعتقل من المعصمين لفترات طويلة من الزمن. بعض المعتقلين علقوا والمعصمين من الأمام، في حين علق آخرون والمعصمين وراء الظهر؛
- الضرب بأنابيب بلاستيكية: في بعض الحالات كان الحراس يضربون المعتقلين مباشرة في الصدر بطرف الأنابيب. لأن الأنابيب غالبا ما تكون خضراء اللون، أطلق المعتقلون على هذا النوع من التعذيب "الأخضر الإبراهيمي"، بعد أن زار الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية الخاص سوريا بين 2012 و2014؛
- الضرب بالأسلاك: قال معتقلون إن الضرب بأسلاك معدنية يسبب جروحا عميقة في جلودهم. في بعض الحالات، تصاب هذه الجروح بالتلوث. كانوا يُضربون على ظهورهم وأرجلهم وباطن القدمين؛
- الكرسي الألماني: وصف المعتقلون كيف يُوضعون على كرسي منزوع منه مسند الظهر، مع توجيه قضيب معدني نحو الظهر، ويُسحبون للخلف حتى يشعروا أن ظهورهم سوف تنكسر. وقالت معتقلة إنه أغمي عليها من الألم؛
- بساط الريح: قال معتقلون إنه بهذه الطريقة جرى تثبيتهم على لوح مسطح، على شكل صليب أحيانا، كي لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم عندما يُضربون. في بعض الحالات، قال معتقلون سابقون إن الحراس يطوون اللوح مما يؤدي إلى شد أطرافهم بشكل قاس وخطير؛
- الصدمات الكهربائية: تحدث معتقلون عن تفشي استخدام الصدمات الكهربائية كشكل من أشكال التعذيب. ذكر معتقلون أن المحققين أو مساعديهم عذبوهم بالصدمات الكهربائية في جميع أنحاء أجسامهم، بما في ذلك المناطق التناسلية؛
- الاختناق: قال معتقلون إن الحراس يضعون أحذيتهم على عنق المعتقل، ويخنقون المعتقل بخرطوم مطاطي؛
- الفلقة: ضرب الضحية بالعصي أو الهراوات أو السياط على باطن القدمين؛
- الدولاب: يرغم الضحية على الانحناء من الخصر، ووضع رأسه وعنقه وساقيه وأحيانا ذراعيه داخل إطار سيارة، بحيث تشل حركته تماما ويعجز عن حماية نفسه من الضرب اللاحق.
في مجموعة من 72 صورة تصور 19 ضحية، وجدت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان أن "في ما لا يقل عن مجموعتين (من الصور) يظهر المعصمان مقيدين مع وجود أدلة على الضرب والتجويع والتهاب النسيج الخلوي"، علاوة على وجود 3 حالات تعذيب بالدولاب، وما لا يقل عن حالتي تعذيب بالفلقة. ظهر على بعض الأشخاص أكثر من نوع من التعذيب. أخيرا، وجدت المنظمة "أدلة على أن الكثير من المعتقلين بهم إصابات عديدة نتيجة قوة صادمة. مثل هذه الإصابات تكون قاتلة في كثير من الأحيان، خاصة في معتقلين تعرضوا للتجويع والحرمان من النوم، وبهم العديد من القروح الجلدية والالتهابات، بما فيها التهاب النسيج الخلوي في الأطراف السفلية".
أفاد شهود أن بعض المعتقلين عادوا من جلسات التعذيب بهم إصابات كثيرة أفضت إلى موتهم بعد وقت قصير. وصف هيثم وفاة معتقل زميل في فرع فلسطين:
"كان هناك شخص من دمشق يدعى أبو حسن. كان رياضيا عمره 39 عاما. اعتادوا أن يستدعوه للتحقيق مرتين في اليوم. بعد أسبوع عاد إلى الزنزانة مغطى بالدم. بعد 3 أيام، ساءت حالته للغاية. كنت معه خلال الـ 15 دقيقة الأخيرة (قبل وفاته). واصلت القول إن عليه الصبر وإنه سيتحسن".[106]
الطبيب مأمون، المعتقل السابق في الفرع 215، وصف آثار الاعتقال على ابن أخيه محمد الذي اعتقل في الفرع في الوقت نفسه، ومات هناك:
"عندما دخلت الزنزانة، شخص ما عرفني. عندما رفع رأسه، [رأيت] أسنانه مكسورة. كان شديد الهزال. كان شعره خفيفا وقصيرا. قلت: هل تعرفني؟ قال: نعم، أنا ابن أخيك محمد. أنا الذي أعمل في السوبر ماركت المجاور لعيادتك. بدأ بالبكاء. قال إنه لم ير نفسه، منذ اعتقل قبل 10 شهور ونصف.
قال الطبيب مأمون لـ هيومن رايتس ووتش إن ابن أخيه مات بعد هذا اللقاء بشهر ونصف:
"وضعوا يده في النار، عانى من ألم مبرح. كان يقرفص ولا يتحرك. ذهبت إلى طبيب كان معتقلا هو أيضا. أعطوني حبتي مسكن، حبتين فقط. بعد يومين، أرسل شاويش (زنزانة محمد) شخصا ليقول لي إن ابن أخي مات. أخذوه إلى غرفة الجثث".
قال شهود إن في بعض الحالات كان يتوفى المعتقلون أثناء جلسات التعذيب أو الضرب. أوضح الطبيب مأمون لـ هيومن رايتس ووتش أن معتقلا آخر قبض عليه في القضية نفسها معه، مات أثناء جلسة تعذيب:
"نادوا على ... 3 (من مجموعتنا). علقوهم من معصمي أياديهم... (2 منهم) عادا أحياء. عاد أحمد ميتا. قال (معتقل آخر من مجموعتنا) إنهم علقوه (بشكل متكرر) ومات. أُعدم بالاختناق".
سامي عدنان (اسم مستعار)، وهو معتقل سابق في الفرع 227، وصف لـ هيومن رايتس ووتش طريقة أخرى من طرق الموت:
"ذات لم يوم لم أكن أستطيع التنفس. أحدثنا بعض الضوضاء لأننا كنا نريد أن نخرج من الزنزانة. ستُضرب لكن على الأقل ستتنفس حين يفتح الحراس الباب ويأخذونك ليضربوك. المعتقل الذي كان يقف بجانبي أخذ دوري وخرج، كي يستطيع أن يتنفس. عاد ميتا".[107]
سوريا دولة طرف في المعاھدات الدولية الأساسية التي تحظر التعذيب في كافة الظروف، حتى في حالات الطواريء المعترف بھا، وتفرض التحقيق مع المسؤولين عن التعذيب وملاحقتھم قضائيا.[108]
حين يتم التعذيب كجزء من ھجوم ممنھج وواسع النطاق على السكان المدنيين فإنه يمثل جريمة ضد الإنسانية بموجب القانون الدولي العرفي ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[109].
يتحمل الأفراد الذين نفذوا جرائم ضد الإنسانية - أو أمروا بارتكابھا- مسؤولية جنائية فردية عن تلك الجرائم بموجب القانون الدولي، بما فيه نظام روما الأساسي.[110]
يتحمل القادة العسكريون ومسؤولو المخابرات أيضا المسؤولية عن الانتھاكات التي ارتكبھا أفراد تحت قيادتھم المباشرة أو الضمنية، اتفاقا مع مبدأ مسؤولية القيادة، إذا كانوا يعلمون أو كان يجب أن يعلموا بالجرائم وفشلوا في منعھا أو في تقديم القضية للعدالة.[111]
ينطبق ھذا، دون استثناء، لا على المسؤولين المشرفين على مراكز الاعتقال فحسب، بل أيضا على رؤساء الأجھزة الأمنية، وأعضاء الحكومة، ورأس الدولة، الذين لا يُعفى أحدھم من المسؤولية.[112]
IV.إجراءات ما بعد الوفاة
دور فرع الأمن
بعد وفاة السجناء في مراكز الاعتقال والسجون في أنحاء دمشق، قال معتقلون سابقون إن جثثهم تظل أحيانا في الزنزانة لمدة يوم أو يومين قبل نقلها.[113] ثم، تحمّل في باصات نقل صغيرة إلى مستشفى للتجهيز. في بعض الأحيان، يشارك السجناء أنفسهم في حمل الجثث، لا سيما شاويش الزنزانة. يكتب ضباط الفروع الأمنية الأرقام على ملصقات طبية تلصق بجثامين المعتقلين، سواء على الجثامين مباشرة أو على بطاقات توضع في الملابس الداخلية للمعتقلين.
قال جندي سابق اعتقل في الفرع 227 (فرع المنطقة الذي تديره المخابرات العسكرية) إن الفرع الأمني أمره هو و2 من زملائه المساجين أن يلفوا الجثث في بطاطين ويحملوها إلى مدخل الفرع:
"رأينا 3 جثث... كانت الكدمات تغطي جميع أنحاء الجثث لا سيما منطقة الظهر... أعطاني الحارس بطانية لففت فيها الجثة... كتب الحارس اسما على قطعة ورق بها رقم. أدخل البطاقة في الملابس الداخلية للميت... حملت الجثمان ووضعته في مدخل الفرع الأمني. جاءت سيارة وحملت الجثث... نقلت 40 جثة خلال 10 أيام".[114]
قال معتقل آخر إنه فقد الوعي أثناء تعذيبه وتُرك ظنا أنه ميت:
"حين استعدت وعيي، كنت ملقى فوق جثث. الجثث وأنا كنا على الرصيف. أعتقد أنهم كانوا ينتظرون شاحنة لحملنا. رأوا أنني لست ميتا. صدموني بالكهرباء ليتأكدوا، (و)أعادوني إلى زنزانتي".[115]
استنادا إلى مقابلة مع منشق علاوة على وثيقة مسربة، يكتب الفرع الأمني إلى الشرطة العسكرية يخطرها بوفاة معقتل. وفقا للمنشق، دائما ما يُكتب أن سبب الوفاة توقف القلب.[116]
مذكرة من الفرع 227 ورد فيها: "خلال التحقيق مع [الموقوف] ساء وضعه الصحي، فتم إسعافه إلى مشفى /601/ العسكري وبتاريخ 2/6/2013، توفي المذكور نتيجة توقف قلبه وتنفسه. وأودعت جثته في براد المشفى المذكور برقم /2040/. يرجى الإطلاع ودفن جثته... بالتنسيق مع مكتب دفن الموتى، وذلك عملا بقرار مكتب الأمن الوطني"، مع نسخة إلى 3 فروع أمنية. © 2013 مجموعة صور "قيصر"
صور المعتقل 2040 تكشف أن جثمانه صور في 7 يونيو/حزيران 2013. تظهر على جثته كدمات زرقاء في الرقبة والبطن وأسفل ساقيه، مع أكثر من جرح في أسفل ساقيه، وجرح في جبهته.
أمر الفرع الأمني مؤرخ في 9 يونيو/حزيران 2013.
النقل إلى المستشفيات العسكرية
وفقا لمقابلات مع منشقين ومعتقلين سابقين نقلوا إلى مستشفيات عسكرية، إضافة إلى شهادة قيصر أمام الكونغرس الأمريكي، تنقل جثث المعتقلين من الفروع الأمنية في دمشق إلى 3 مستشفيات عسكرية هي:
- المشفى 601 العسكري في المزة؛
- مشفى تشرين العسكري؛
- مشفى حرستا العسكري.
في بعض الحالات، تنقل الجثث أولا إلى مستشفى آخر للتسهيل. عنصر أمن دولة سابق عمل حارسا في فرع الخطيب، ونقل ليحرس في مشفى حرستا العسكري لمدة 45 يوما، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الحراس يحضرون جثث من ماتوا في فرع الخطيب إلى مشفى الهلال الأحمر في دمشق، وهو مستشفى مدني يقع أمام الفرع، لتوضع في المشرحة ولاستلام التقرير الطبي.
"تنقل الجثث شاحنتان لونهما أخضر زيتي. في مستشفى الهلال الأحمر، يفحصون المعتقل، ويعلنون وفاته ويكتبون تقريرا يتضمن التاريخ واسم ورقم المعتقل. ثم يعلنون أن سبب الوفاة أزمة قلبية، وأنهم حاولوا رد الوعي، وأخيرا يعلنون وفاتك. تبقى الجثة في المستشفى حتى تتجمع لديهم 6 أو 7 جثث، ثم ينقلونها إلى (المشفى العسكري في) حرستا".[117]
في حالات أخرى تنقل الجثث مباشرة من مركز الاعتقال إلى المستشفى العسكري.
قال منشق ثان من المشفى 601 لـ هيومن رايتس ووتش إن معتقلات المخابرات الجوية والأمن العسكري تنقل الجثث إلى المشفى 601 العسكري في المزة.[118] كما تنقل بعض الجثث إلى مشفى تشرين العسكري، المعروف أيضا باسم المشفى 607 في شمال دمشق. معتقلان سابقان في سجن صيدنايا، الذي ضم ضحايا ظهرت صورهم ضمن صور قيصر، قالا لـ هيومن رايتس ووتش إنهما رأيا جثثا تؤخذ من سجن صيدنايا إلى مشفى تشرين.[119] قال معتقل سابق إن 7 جثث كانت ملقاة على أرضية شاحنة نقلته إلى مشفى تشرين للعلاج.[120] قال معتقل آخر إن الشاحنة كانت تحمل جثتين حين نقل لمشفى تشرين للمرة الثانية. قال إن حراس المستشفى أجبروه على وضع نحو 20 جثة في أكياس خلال المدتيّن اللتين قضاهما في المستشفى.[121]
تقع المستشفيات الثلاثة على مشارف وسط دمشق. المشفى 601 العسكري، حيث صورت العديد من الجثث التي ظهرت في صور قيصر، وموقع المرآب حيث صورت مجموعات من الجثث بشكل جماعي، يقع على بعد دقائق قليلة بالسيارة من عدد من الفروع الأمنية في كفر سوسة.
الإجراءات في المشفى 601 العسكري ومشفى حرستا العسكري
بعد نقل جثث المعتقلين من الفروع الأمنية، يحضرها عناصر الأمن إلى المستشفيات العسكرية للفحص على يد الطبيب الشرعي، والتصوير ثم النقل للدفن. هذا التقرير الطبي كان جزءا من ملفات سربها قيصر ويبين الإجراء المتبع:
وفقا لمجند انشق بعد أكثر من عاميّ خدمة في المشفى 601 العسكري، زاد عدد الجثث التي تصل إلى المستشفى، بما فاق قدرة حجرات التبريد في المشرحة على الاستيعاب، فبدأ المشفى في تخزين الجثث في المرآب حيث يجري تصليح سيارات الجيش. قال إن المشفى كان يخصص جلستين أسبوعيا لتجهيز الجثث. أوضح أن أيام الثلاثاء والسبت يقف طبيب شرعي بصحبة مجندين اثنين على كل جثة ويعطيها "رقم فحص"، ويكتب تقريرا طبيا، ثم يقوم مصور عسكري بتصوير كل جثة.
فهد المحمود الذي قضي من 45 إلى 50 يوما (بين يوليو/تموز وأغسطس/آب 2012) حارسا لمستشفى حرستا العسكري، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه رأى مجموعتين من الجثث يتم تجهيزهما وإرسالهما للدفن. أوضح أن المجموعة الأولى تضم قرابة 60 جثة، في حين تضم الثانية نحو 40 جثة.
وقال:
"حين تصل الجثث تسأل (الطبيبة الشرعية وهي أيضا ضابطة جيش) عن عدد الجثث الموجودة. ثم تطلب (من المجندين) لف الجثث. تعطي كل جثة رقما ثالثا على ضمادة. تكتب في السجل: رقم المعتقل، ورقم الفرع، ورقم المشفى (رقم الفحص). ثم يضعون الجثث في البراد (المشرحة)".[122]
شهادات الوفاة والتخلص من الجثث
بعد تجهيز الجثث في المستشفى العسكري، يحملها المجندون في شاحنات. سليمان علي، مجند انشق من المشفى 601 العسكري، سمع من زملائه أنها أرسلت للحرق. منشق آخر هو فهد المحمود الذي قضى فترة خدمة في مشفى حرستا العسكري، قال إن سائقي المركبة العسكرية أخبروه أن الجثث أرسلت للدفن في أرض عسكرية في الصحراء.[123] لم يتسن لـ هيومن رايتس ووتش تأكيد أي من الزعمين.
من بين 27 أسرة قابلتها هيومن رايتس ووتش وتعرفت على أقاربها الضحايا في صور قيصر، تلقت أسرتان فقط شهادات وفاة لأقربائهما الأموات. في إحدى الحالات، تسلمت زوجة شهادة وفاة زوجها بعد عام و4 أشهر من القبض عليه. استلمت الزوجة كلا من شهادة الوفاة والتقرير الطبي من نقابة الأطباء، التي قالت إن زوجها توفي بعد توقف الجهاز التنفسي.[124] في حالة ثانية، تلقت امرأة شهادة وفاة ابنها بعد عام ونصف من وفاته (التي علمت بها من رجل آخر كان معتقلا معه). تقول الشهادة إن ابنها أصيب بسكتة قلبية، وتوفي بعد محاولات لإبقائه على قيد الحياة.[125]
صدرت شهادتا الوفاة من الإدارة العامة للشؤون المدنية بوزارة الداخلية في الجمهورية العربية السورية.[126]
V. الاختفاءات القسرية ومعاناة العائلات
غالبية حالات الاعتقال التي وثقتها هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير يمكن وصفها بالاختفاءات القسرية. الاختفاء القسري في القانون الدولي ھو تلك الحالات التي تقوم فيھا أجھزة الدولة، أو أشخاص آخرون يتصرفون بمساندة الدولة، باعتقال شخص ثم رفض الاعتراف باعتقاله، أو إخفاء مصيره أو مكانه.[127]
كل الأسر الـ 27 أو الأقارب الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير قالوا إنهم قضوا شهورا أوأعواما في البحث عن أخبار أحبائهم في المعتقل. بعضهم قصد المكاتب الحكومية وقدم طلبات رسمية للحصول عن معلومات. البعض الآخر خشي القبض عليه أو فضل عدم تقديم طلبات رسمية، لأنهم لا يثقون في أن الحكومة ستمدهم بمعلومات دقيقة. الكثير من الأسر التي أجريت معها مقابلات لغرض هذا التقرير دفعت رشىً لوسطاء لديهم اتصالات مع الحكومة، أو يعملون في الحكومة أو أجهزة الأمن. في أغلب الحالات، حصل كلا الطرفين- من تقدم بطلبات رسميا، أو استفسارات غير رسمية- على معلومات متضاربة عن مكان ذويهم، أو لم يتلقوا معلومات على الإطلاق. في بعض الحالات تلقوا معلومات صحيحة عن أماكنهم، أو معلومات تتيح لهم مجرد التحقق من ذويهم بعد نشر صور قيصر، وفقا لأرقام الفرع وتاريخ الصور.
دفعت عائلات آلاف وفي بعض الحالات ملايين الليرات السورية لمصادر اتصال ووسطاء يعملون في مختلف الهيئات الحكومية والأجهزة الأمنية. أسرة رحاب العلاوي (انظر الجزء الخاص باللمحات) دفعت أكثر من 100 ألف دولار رشىً لمسؤولين حكوميين وأمنيين شتى.
قالت الأسر إنه في حالات عديدة، كانت تخشى مخاطبة الفروع الأمنية مباشرة خشية القبض على أفرادها أنفسهم. بدلا من ذلك، سعت لإجراء اتصالات شخصية، أو بحثت عن أي طرف حكومي وعدها بالمساعدة. كما قدم معتقلون أفرج عنهم من السجن معلومات لبعض الأسر عن أقاربها.
في حالات قليلة-وثقتها هيومن رايتس ووتش- خاطبت بعض الأسر مسؤولين حكوميين وفروعا أمنية من خلال القنوات الرسمية. مريم حلاق، أم أيهم غزول، (انظر الجزء الخاص باللمحات) أخبرت هيومن رايتس ووتش أنها علمت بوفاة ابنها من معتقل سابق بعد عدة أشهر من القبض عليه.
بعد نحو عام ونصف من اختفاء ابنها، بدأت مريم زيارة مكاتب الفروع الأمنية بحثا عن معلومات رسمية عن وفاته:
"بدأت أذهب إلى المدعي العسكري في دمشق والشرطة العسكرية في القابون (في دمشق أيضا). في المرة الأولى أرسلوني إلى الفرعين 248 و215 حيث رفضوا إعطائي أي نوع من المعلومات. لكن في 10 مايو/أيار 2014 في مكتب الشرطة العسكرية، أعطوني ورقة وأرسلوني إلى مشفى تشرين العسكري قسم الطب الشرعي حيث أعطوني شهادة (وفاة) تقول إن أيهم قُتل".
المستشفى العسكري لم يعد رفات أيهم إلى أمه ولم يسلمها أيا من أغراضه الشخصية.
في 28 سبتمبر/أيلول 2014، تقدمت مريم بشكوى رسمية لدى الشرطة العسكرية في القابون تطلب معلومات عن ملابسات وفاة أيهم.[128] في 27 أكتوبر/تشرين الأول، تقدمت بطلب رسمي إلى المدعي العام العسكري في دمشق للحصول على معلومات، أيضا، عن ملابسات وفاته.[129] لكنها لم تتلق أي رد، وبعدها بقليل فرت من سوريا. كما لم تتلق أي أسرة ممن قابلتهم هيومن رايتس ووتش جثث أحبائها لدفنها.
شكر وتنويه
كتب هذا التقرير بريانكا موتابارثي، الباحثة في قسم الطوارئ، ونديم حوري، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أجرى بحوث هذا التقرير كل من بريانكا موتابارثي ونديم حوري، ورشا معاوية الباحثة المساعدة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأولي سولفانغ، كبير الباحثين في قسم الطوارئ، وجوش ليونز، محلل صور الأقمار الصناعية في هيومن رايتس ووتش، الذي حلل بيانات ملفات الصور الرقمية بالإضافة إلى تحليل صور الأقمار الصناعية. قدم مساعدة بحثية سركيس بلخيان، المنسق في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان"، لا سيما مدير برنامج الطب الشرعي الدولي ستيفان شميت، ود. نظام بيروني رئيس الفحص الطبي في مقاطعة تارانت بولاية تكساس، ومستشار الطب الشرعي لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وفريقا من من الأطباء الشرعيين من مكتب الفحص الطبي في مقاطعة تارانت، قدموا تحليلا ومساهمات قَيِّمَة لهذا التقرير. هيومن رايتس ووتش تعرب عن امتنانها لمساهمتم.
حرر التقرير كل من نديم حوري، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكلايف بالدوين، استشاري قانوني أول، وتوم بورتيوس، نائب مدير قسم البرامج. راجع أجزاءً من هذا التقرير بيل فان إيسفلد، باحث أول في قسم حقوق الأطفال؛ ريتشارد بيرهاوس، باحث أول في قسم الصحة وحقوق الإنسان؛ وبلقيس جراح، مستشارة أولى في قسم العدالة الدولية. أعد التقرير للنشر رشا معاوية الباحثة المساعدة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغريس شوي مديرة المطبوعات، وجوزيه مارتينيز، منسق أول. أنتجت الوسائط المتعددة المصاحبة للتقرير فيرونيكا ماتوشاج، مديرة الفيديو والصور الوثائقية في هيومن رايتس ووتش.
نشعر بالامتنان العميق للأسر التي شاركتنا قصصا مؤلمة من بحثها للعثور على ذويها، وكذلك المعتقلين السابقين الذين رووا تجاربهم في المعتقلات. رغم تجربتهم المؤلمة للغاية، كثير منهم تحدث لنا عن رغبة في تحسين ظروف آلاف ما زالوا في مراكز الاعتقال السورية، وكذلك لتحقيق المساءلة عن مقتل أصدقائهم وأحبائهم.