"جماعات مسلحة"... "ميليشيات"... "مجموعات تتبع أوامر دولة أجنبية"... يستخدم المدافعون عن حقوق الإنسان في العراق هذه العبارات باستمرار عند الإشارة إلى المسلحين الذين ينفذون عددا كبيرا من عمليات القتل والخطف والتعذيب ضد المتظاهرين والنشطاء والصحفيين والمجتمعات التي يُنظر إليها على أنها قريبة من تنظيم "الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا بـ"داعش"). في الأيام الأخيرة، رأينا هؤلاء المسلحين يذهبون أبعد من أي وقت مضى، حيث حاولوا بكل وقاحة اغتيال رئيس الوزراء في منزله في 7 نوفمبر/تشرين الثاني باستخدام ثلاث طائرات بدون طيار مسلحة.
لا يجرؤ الكثيرون على تحديد هوية هؤلاء الرجال بالضبط، أو المجموعات التي ينتمون إليها، أو ممن يتلقون أوامرهم، أو على الأقل لا يفعلون ذلك علنا. لكن في 25 أكتوبر/تشرين الأول، في قاعة محكمة بالبصرة، كسر شخص الصمت أخيرا بشأنهم. وما قاله يطرح سؤالا أكبر: هل تستطيع الدولة العراقية فرض حكم القانون؟
باختصار، قال هذا الشخص في شهادته إن ميليشيا "قوات الحشد الشعبي" التي تشكلت للمساعدة في هزيمة داعش، وتربط بعض عناصرها صلات وثيقة بإيران، ربما تكون صاحبة الأمر والنهي في العراق، وهي مستقلة عن الحكومة وأقوى منها.
في ذلك اليوم، ترأس قاض في محكمة جنايات البصرة جلسة تحقيق مع حمزة كاظم العيداني المتهم بقتل شخصين في 10 يناير/كانون الثاني 2020، وهما أحمد عبد الصمد، مراسل تلفزيون "دجلة"، ومصوره صفاء غالي. غطت وسائل الإعلام المحلية على نطاق واسع إدانة العيداني بجرائم القتل وحكم الإعدام اللاحق الصادر في 1 نوفمبر/تشرين الثاني. لكن ما أعارته وسائل الإعلام اهتماما أقل ورفضت الحكومة التعليق عليه هو التصريحات الصادمة التي أدلى بها العيداني أثناء الجلسة.
قال شخصان حضرا الجلسة إن العيداني الذي كان مفوض شرطة بالبصرة اعترف بأنه كان أيضا عضوا في وحدة مسيئة تابعة لـ"قوات الحشد الشعبي" المعروفة بـ"الحشد"، الخاضعة رسميا لأوامر رئيس الوزراء. قال إنه قاتل مع الحشد لاستعادة مدينة الفلوجة من داعش في 2016. اعترف بأنه كان عضوا فيما يسمى بـ"فرقة الموت" وتورط في قتل الصحفيَين، بحسب المصدرين. قال العيداني إنه وأعضاء فرقته استخدموا مكتب هيئة الحشد الشعبي المحلية في البصرة للتخطيط لعمليات القتل ولإخفاء سياراتهم وأسلحتهم بعد التنفيذ.
قال شهود في المحكمة لـ"هيومن رايتس ووتش" إن العيداني أخبر القاضي بأن الشرطة لم تعتقل قائد فرقته ضمن الوحدة التابعة لقوات الحشد بل سمحت له بالفرار من البلاد. قال إن قائد الفرقة هو من قتل الصحفيَين أمامه. أضاف العيداني أن الرجل أبلغ الفرقة بأن المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، أصدر فتوى تقضي بقتل الصحفيين الذين يغطون الاحتجاجات ضد إيران وقوات الحشد الشعبي والمحرّضين على الاحتجاجات.
قال إنهم استهدفوا عبد الصمد لأنه غطى مظاهرة في 13 ديسمبر/كانون الأول 2019 في شارع أعاد الحشد الشعبي تسميته بشارع خامنئي في 2019، حيث أحرق المتظاهرون صورة كبيرة لخامنئي علقتها قوات الحشد الشعبي في الشارع. خلال تغطيته، سأل عبد الصمد المشاهدين لِمَ لَمْ تُعَد تسمية الشارع على اسم زعيم عراقي مثلا. قال القاضي في النهاية إنه لن يدرج هذه التفاصيل في المحضر.
تثير التصريحات المنقولة عن العيداني وحقيقة أنه كان يحاكَم بمفرده تساؤلا آخر: أين كان المشتبه بهم الآخرون في هذه القضية؟ في فبراير/شباط ، أعلنت السلطات أنها اعتقلت أربعة أشخاص كانوا وراء عمليات القتل. لكن بقدر ما أثارت أقوال العيداني أسئلة، فهي قدمت أيضا إجابات واضحة ومقلقة، بما في ذلك مدى نفوذ قوات الحشد الشعبي في العراق، إذا كان في وسعها إصدار أوامر لمفوض شرطة بتنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القضاء.
تشكلت قوات الحشد الشعبي في 2014 كميليشيات مسلحة غير رسمية خارج هيكل الدولة لمحاربة تقدم داعش. بعد انهيار الجيش العراقي، صوّت البرلمان العراقي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 على دمج قوات الحشد الشعبي في القوات المسلحة الحكومية. أعربنا حينها عن قلقنا من أن هذه الخطوة ستكون بمثابة السماح لثعلب بدخول حظيرة دجاج. لكن دبلوماسيين ومسؤولين عراقيين كبارا أكدوا لنا عندما اجتمعنا بهم أننا مخطئون في تقديرنا، وأن الهدف من هذا الإجراء هو تفكيك تلك الوحدات من خلال دمج مقاتليها في هياكل الدولة التي تخضع لرئيس الوزراء باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة. قالوا إن هذا سيكسر قوة الحشد الشعبي.
لكن ما حدث غير ذلك. فقد ظلت قوات الحشد الشعبي كيانات مستقلة، بعضها تربطه علاقات متفاوتة القوة بإيران، وبعضها يسعى لتحقيق رؤيته القومية، وبعضها له دوافع إجرامية تتمثل في السيطرة على الأموال والنفط والموارد الأخرى. تمكنت قوات الحشد الشعبي أيضا من التسلل إلى هياكل أمن الدولة والسيطرة على أجزاء منه. كانت نتيجة ذلك أن بعض الوحدات القتالية ووحدات إنفاذ القانون لا تستجيب للحكومة وليست مهتمة بحماية هياكلها، بل أصبح لها دوافع مختلفة تماما.
أظهرت الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق التي بدأت في 2019 كيف تستخف قوات الحشد الشعبي بتوجيهات الحكومة. بعد الأيام الأولى من المظاهرات في أكتوبر/تشرين الأول، ومع تزايد عدد القتلى من المتظاهرين، أمر رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي قواته علنا بعدم استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين. مع ذلك، واصلت قوات الأمن إطلاق الذخيرة الحية على الحشود، مما أسفر عن مقتل متظاهرين.
لم أشعر قط في تعاملي مع الحكومة أن عبد المهدي كان يكذب على العراقيين، لكن لماذا تم تجاهل هذه الأوامر الواضحة من القائد العام؟ الحقيقة هو أنه إما أن القوات التي أطلقت النار على المتظاهرين لم تكن تصغي لأوامره، أو أنها كانت تتلقى أوامر من جهات أخرى. تُبين شهادة العيداني أن هذا الاحتمال المرعب قد يكون حقيقة.
عندما توثق هيومن رايتس ووتش عمليات القتل غير المشروع في العراق، ندعو السلطات إلى محاسبة المسؤولين عنها بما يتماشى مع التزامات الحكومة بموجب القانونين الدولي والمحلي. لكن ما الذي بوسع سلطات الدولة فعله الآن حيال هذه الجماعات؟ أتذكر المرة الأولى التي استخدمت فيها عبارة "دولة فاشلة" عندما تحدثت عن العراق في 2020. كان أحد الدبلوماسيين يسأل عما يمكن فعله في رأيي للتصدي لموجة قتل المتظاهرين والنشطاء في سياق الإفلات من العقاب.
لم يكن هذا الإفلات من العقاب راجعا بالضرورة إلى نقص الإرادة لدى السلطات القضائية لمحاسبة القتلة، أو إلى نقص المعلومات حول من يقف وراء هذه الاغتيالات. بل في كثير من الأحيان، كان السبب هو معرفة السلطات بقدرة تلك الجماعات على إفشال أي محاولة من الحكومة لمحاسبتها. تثير شهادة العيداني مسألة ما إذا كانت الحكومة العراقية قادرة على فرض سيادة القانون في شوارعها. إذا كانت الإجابة بالنفي أو بـ"ربما"، فإن السؤال الحقيقي هو: ما العمل الآن إذن؟