خطّط المعنيون بالمساعدات الإنسانية على مدار شهور لعمليات إغاثة الموصل، وشملت خططهم استيعاب ما يصل إلى 1.2 مليون مدني قد يهربون من القتال. على مدار الأسبوعين الماضيين، زرت 5 مخيمات تستضيف النصيب الأكبر من النازحين الذين يُقدّر عددهم بـ 33 ألف شخص فروا من المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" المسلح ("داعش")، منذ بدء عمليات استرجاع الموصل في 17 أكتوبر/تشرين الأول.
أول ما لاحظته أن المخيمات التي يذهب إليها النازحون نظيفة ومرتبة للغاية. لكن اتسمت المخيمات بأمور أخرى مقلقة. لعل الانتهاك الأوضح الذي لاحظته هو أن جميع مخيمات الحكومة المركزية أو حكومة إقليم كردستان لاستيعاب النازحين من عملية الموصل، لا تسمح للنازحين بالتنقل بحرية إلى خارج المخيمات والعودة إليها، في خرق لحق الأفراد في حرية التنقل.
ما إن يصل النازحون إلى المخيمات حتى تطالبهم السلطات العراقية وسلطات الإقليم بأن يعيشوا داخل المخيمات، وتمنعهم من الخروج تماما، إلا في الحالات التي تقرر فيها قوات الأمن العراقية أو الكردية بالمخيم نقلهم إلى مكان آخر، أو إخراجهم لرعاية طبية طارئة. أخبرني الحراس عند بوابات المخيمات أن هذا الإجراء يهدف إلى حماية النازحين الذين "قد يتأذون" خارج المخيمات، أو للحفاظ على أمن من هم خارج المخيمات.
في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، أخبرني جندي عراقي كان يرافق 200 شخص قدموا حديثا من أطراف الموصل إلى مخيم حسن شام الذي تسيطر عليه حكومة إقليم كردستان: "لعلمك، ثُلث هذه العائلات على الأقل تنتمي إلى داعش". هذا الانطباع منتشر لدى عدد كبير من قوات الأمن.
من هذا المنطلق، فإن معاملة النازحين من عملية الموصل أسوأ من معاملة الموجات السابقة من النازحين في مخيمين بمنطقة كركوك. رغم أنهم واجهوا بدورهم قيودا على التنقل – إذ كان يُسمح لهم بالخروج من المخيم في ساعات النهار فحسب، وهو أيضا خرق للحقوق – إلا أنهم لم يكونوا محرومين من الخروج تماما.
من الصادم أنهم بعد قضاء أكثر من سنتين في معاقل داعش كسجناء بحكم الأمر الواقع، ما زالوا سجناء في بلدهم، حتى بعد فحصهم أمنيا.
القيود المفروضة على حرية التنقل أضرّت بحق آخر رئيسي، وهو الحق في الصحة. في كل من المخيمات التي زرتها، صادفت أسرة واحدة على الأقل يعاني أحد أفرادها من مشكلة صحية مزمنة وخطيرة. لم يتمكن كثيرون من الحصول على العلاج الطبي المناسب تحت سيطرة داعش. بعد أن أصبحوا أحرارا، لا يُسمح لهم بمغادرة المخيمات، ولا يزال الكثيرون غير قادرين على تحصيل العلاج المنشود.
تسمح المخيمات لسيارات الإسعاف بإخراج من يحتاجون لخدمات طبية طارئة، لكن ليس في حالة الأمراض المزمنة المهددة للحياة. رغم أنه توجد عيادات طبية بالمخيمات، إلا أنها – بحسب الأطباء بالعيادات – غير مجهزة للتعامل مع الأمراض الخطيرة، مثل طفل رضيع رأيته، مُصاب بثقب في القلب ويحتاج لجراحة عاجلة.
هناك رجل من كوكجلي جنوبيّ الموصل، التي سيطرت عليها قوات الأمن العراقية مؤخرا، حكى لي عن أمه. أصيبت بالشلل في النصف الأسفل من جسدها، ولا يمكنها التبول دون مساعدة، وتحتاج لعلاج منتظم لتحفيز دورتها الدموية. لما كان داعش يسيطر على الموصل، وجد عيادة كانت تجري لها جلسة من الحين للآخر لتحفيز الدورة الدموية في ساقيها. أخبرني بأنهم منذ جاءوا المخيم: "لم نتمكن من علاجها خلال الأسبوعين الماضيين"، خشية العواقب.
في زليكان، وهو مخيم آخر تسيطر عليه حكومة إقليم كردستان، 29 كلم جنوب شرقيّ الموصل، قالت عائلات وفدت في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني إنه لم يُسمح لأي شخص بالمخيم بحيازة هاتف خلوي. بعض من وصلوا مؤخرا أخبروني بأنهم كانوا يأملون باستعادة هواتفهم بعد فحص "أسايش" – قوات أمن الإقليم – لهواتفهم، لتتبين أي صلات قد تربطهم بداعش، لكن بعضهم كانوا يعرفون حقيقة ما سيحدث، مثل أب أمضى 14 يوما في المخيم: "لن نستعيد الهواتف، لا أعتقد".
صادر حراس أسايش في المخيم الهواتف عند البوابة لدى وصول العائلات. هناك حارس على البوابة قال لي: "علينا عمل هذا. أولا هي مسألة أمنية، فقد يتصل هؤلاء الناس بداعش. ثانيا بالنسبة للشباب، قد يلتقطون صورا غير محتشمة للفتيات وينشروها على فيسبوك". بعد عامين من الانقطاع عن عائلاتهم وأقاربهم الذين كانوا خارج معاقل داعش، ما زالوا مقطوعين عن العالم في هذا المخيم.
المخيم الذي يقلقني بصفة خاصة هو الذي استقبل أكثر من 6 آلاف نازح، وهو أكبر عدد في أي من المخيمات التي تفقدتها. أمضيت مساء 31 أكتوبر/تشرين الأول في مخيم جدعة، 65 كلم جنوبي الموصل، وهو تحت سيطرة قوات الأمن العراقية. في المخيم لاحظت أن إدارته – المكوّنة من عاملين من منظمة غير حكومية محلية – هم جميعا من الرجال على ما يبدو. يقلقني أن يؤدي هذا لعدول آلاف النساء هناك عن طلب أدوات النظافة الشخصية الخاصة بالمرأة والمستلزمات الصحية، والخدمات التي منها الحماية من العنف الجنسي أو العنف القائم على الجنس.
لما كنت هناك، رأيت أيضا رجالا مسلحين في ثياب رسمية داخل المخيم. شهدت وجودا مكثفا للأمن العراقي. كان عناصر الأمن الوطني (فرع مخابراتي في بغداد تابع لرئيس الوزراء) ومقاتلي "كتائب بدر"، وهي جماعة بارزة ضمن "قوات الحشد الشعبي"، يحملون أسلحة آلية، ويُجرون دوريات داخل المخيم.
رغم أن تواجد قوات شرطة مسلحة ربما يكون ضروريا ومشروعا – على الأخص لحماية المحيط الخارجي للمخيم ولحفظ سلامة سكانه – إلا أن تواجد العناصر العسكرية في المخيمات الخاصة بالنازحين أو اللاجئين يقوض الطبيعة المدنية والإنسانية للمخيم، ويعرّض سكانه لخطر الهجمات العسكرية.
إضافة إلى ذلك، قد يعرّض التواجد العسكري سكان المخيم – لا سيما النساء والأطفال – لخطر بدني جسيم، فضلا عن خطر التجنيد القسري للرجال والصبية تحديدا. وثقنا بالفعل كيف جندت ميليشيات من قبيلتين 250 رجلا وصبيا بمخيم ديبكة، 40 كلم جنوبي أربيل، الذي يدخله المقاتلون ويخرجون منه بحرية.
أتفهم التحديات الكبيرة التي تواجه المعنيين بالمساعدات الإنسانية والمسؤولين العراقيين والأكراد، لكن ثمة تدابير قليلة وبسيطة – منها السماح للنازحين بتحصيل العلاج للأمراض المزمنة، والسماح بالهواتف الخلوية، ومنع العناصر العسكرية من دخول المخيمات – يمكنها ضمان أمن ورعاية آلاف العائلات المستضعفة المُقيمة في المخيمات حاليا.