Skip to main content
تبرعوا الآن

   

مقدمة

ما هي قواعد القانون الدولي واجبة التطبيق على النزاع المُسلح الأخير في غزة؟

لماذا المحاسبة هامة؟

ما هي التزامات الدول عامة إزاء احترام قوانين الحرب؟

من المسؤول الأساسي عن ضمان محاسبة الأفراد الذين ينتهكون قوانين الحرب؟

متى تُعتبر انتهاكات القانون الإنساني الدولي جرائم حرب؟

هل حققت إسرائيل وحماس ما عليهما من التزامات سابقة في تحميل الأفراد مسؤولية الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب؟

ما هي الآليات الأخرى المتوفرة حين تخفق الدول في التحقيق في هذه الانتهاكات؟

هل يمكن لمجلس الأمن التحقيق في مزاعم انتهاك قوانين الحرب التي تم ارتكابها أثناء النزاع في غزة؟

ماذا عن التحقيق الذي أمر به مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؟

هل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أو أي محكمة دولية أخرى قائمة أن تحقق مع الأفراد الضالعين في الجرائم الجسيمة المُرتكبة في غزة وأن تلاحقهم قضائياً؟

هل يمكن أن تلعب محكمة العدل الدولي دوراً؟

ماذا عن عقد اجتماع مع كافة الأطراف السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف؟

ماذا عن عقد اجتماع مع كافة الأطراف السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف؟

هل يمكن مقاضاة المشتبهين في انتهاكات قوانين الحرب الجسيمة في دول أخرى؟

ألا توجد ازدواجية في المعايير بشأن العدل الدولي، في ظل عدم مقاضاة إلا الأفراد التابعين لدول ذات ثقل سياسي أقل؟

مقدمة

في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008، بدأت إسرائيل عملية عسكرية موسعة على قطاع غزة وكان هدفها المُعلن هو وقف الهجمات الصاروخية التي تشنها حماس وجماعات مسلحة فلسطينية أخرى على إسرائيل. وانتهى القتال في 18 يناير/كانون الثاني 2009 بعد أن أعلنت إسرائيل وحماس بصفة منفصلة وقف إطلاق النار أحادي الجانب. وطبقاً للأمم المتحدة ووزارة الصحة الفلسطينية، فقد أسفر القتال عن مقتل أكثر من 1300 فلسطيني، من بينهم مقاتلين. ومن هذه الخسائر قيل إن 40 في المائة تقريباً من الأطفال (412) والنساء (110)، بالإضافة إلى عدد غير معروف من المدنيين الرجال الذين لم يشاركوا في أعمال القتال. وأفادت التقارير إصابة أكثر من 5000 فلسطيني، وعدد كبير منهم من المدنيين والكثير منهم إصاباتهم خطيرة. ولحقت أضرار موسعة بالممتلكات والأعيان العامة والخاصة. وأثناء فترة الثلاثة أسابيع نفسها، تناقلت التقارير تسبب الصواريخ وقذائف الهاون الفلسطينية في مقتل ثلاثة مدنيين إسرائيليين وجندي واحد، وإصابة أكثر من 80 مدنياً آخريون، وإلحاق الأضرار بالمنازل وغيرها من الأعيان، بالإضافة إلى مقتل تسعة جنود إسرائيليين في أثناء القتال في غزة.

ودفع المدنيون أغلب كلفة هذا النزاع، وكانت معاناتهم فادحة. وتحقق هيومن رايتس ووتش حالياً في جملة من الانتهاكات الجسيمة المزعومة بحق القانون الإنساني الدولي (قوانين الحرب) التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي وحماس والجماعات المسلحة الفلسطينية الأخرى. وتشمل هذه الانتهاكات الاستخدام العشوائي بلا تمييز للأسلحة من قبيل المدفعية الثقيلة في مناطق كثيفة السكان، واستخدام المدنيين كدروع بشرية أو تعريضهم لمخاطر لا ضرورة لها، وإطلاق النار على سيارات الإسعاف والمسعفين أو منعهم من الوصول إلى الأشخاص المحتاجين للإسعاف، وإطلاق الصواريخ عمداً أو بصورة عشوائية بلا تمييز على مناطق مأهولة بالمدنيين، واستهداف أشخاص يسعون للكشف عن صفتهم المدنية بالتلويح بأعلام بيضاء، واستهداف مبانٍ مدنية افتراضاً مثل المقار الحكومية والمساجد ومراكز الشرطة التي لا تُستخدم في أغراض عسكرية.

وجميع أطراف النزاع المسلح - وهم بالأساس كل من الدول والجماعات المسلحة من غير الدول - مسؤولون عن الالتزام بمطالب القانون الإنساني الدولي. ومن ثم فإن كل طرف في النزاع ينبغي عليه احترام وضمان احترام قوانين الحرب، وأن تراعيه قواته المسلحة وغيرها من الأشخاص أو الجماعات التابعين لهذا الطرف أو الخاضعين لإدارته أو توجيهه. وهذا الالتزام لا يعتمد على التبادلية - أي أن على أطراف النزاع احترام مطالب القانون الإنساني الدولي سواء التزم بها الطرف الآخر أو لم يلتزم. كما لا يعتمد على السبب وراء دخول الأطراف المعنية الحرب، سواء الدول ("مكافحة الإرهاب") أو الجماعات المسلحة ("وضع حد للاحتلال"). وجميع أطراف النزاع المسلح عليهم الالتزام بنفس المعايير، بغض النظر عن مدى التفاوت في الأضرار الواقعة جراء الانتهاكات المفترض وقوعها.

والطرف في النزاع المسلح مسؤول عن الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب التي ترتكبها قواته المسلحة أو الأشخاص أو الكيانات التي تعمل تحت إمرته أو توجيهه أو رقابته. وهذه المسؤولية، سواء كان الفاعل دولة أو من غير الدول، يستتبعها مطلب التعويض الكامل عن الخسائر أو الإصابات الواقعة، والتعويض يمكن أن يأخذ شكل إعادة الوضع إلى ما كان عليه أو منح التعويض (المادي) أو الترضية (مثل الاعتراف الرسمي أو غير ذلك من الأعمال) للطرف أو الكيان أو مجموعة الأشخاص الآخرين. وكما سيُعرض أدناه، فعلى الدول أيضاً الالتزام بتحميل الأفراد الخاضعين لإدارتها مسؤولية ما يتم ارتكابه من انتهاكات جسيمة لقوانين الحرب.

ما هي قواعد القانون الدولي واجبة التطبيق على النزاع المُسلح الأخير في غزة؟

يحكم النزاع المسلح بين إسرائيل وحماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة قانون المعاهدات الدولية وقواعد القانون الإنساني الدولي العرفي. والقانون الإنساني العرفي، الذي يستند إلى ممارسات فضلى للدول، يُلزم جميع الأطراف في النزاع المسلح، سواء كانت دول مثل إسرائيل أو جماعات من غير الدول مثل حماس وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلحة، وهو معني بسلوك الأطراف أثناء أعمال القتال. وتشمل أحكام قانون المعاهدات ذات الصلة المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تحدد المعايير الدنيا لمعاملة الأفراد في عهدة أي من الأطراف، وقانون تنظيم الاحتلال الوارد في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، الذي ما زال ينطبق على غزة جراء سيطرة إسرائيل القائمة على مختلف جوانب الحياة في غزة رغم انسحاب قواتها سابقاً.

لماذا المحاسبة هامة؟

تحميل الأفراد مسؤولية الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب هامة لأنها قد تردع الأطراف عن ارتكاب انتهاكات في المستقبل، وتعزز احترام القانون وتوفر سبلاً لانتصاف الضحايا. والقوات المسلحة التي تُحمل عناصرها الأفراد المسؤولية بموجب هذه القوانين تعزز بذلك من الانضباط والاحترافية في صفوف قواتها، وتصون القيادة المسؤولة، وتحسن من العلاقات بالسكان المدنيين. والجماعات المسلحة من غير الدول والدول التي تخفق في فرض هذه المحاسبة تقوض من موقفها في مناطق النزاع وعلى مستوى العالم، وتزيد من احتمال التحرك الدولي ضدها. ومثل هذه المحاسبة ضرورية أيضاً لضحايا انتهاكات قوانين الحرب ولأسرهم الذين يسعون للجوء للعدالة انتصافاً من مصابهم.

ما هي التزامات الدول عامة إزاء احترام قوانين الحرب؟

كل الدول، سواء كانت أطرافاً في النزاع أو لا، عليها مسؤولية بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 بمحاولة الضغط إلى الحد المستطاع من أجل وقف انتهاكات القانون الإنساني الدولي. ومثل هذه الأعمال يمكن أن تقع بصفة أحادية أو ضمن إجراءات متعددة الأطراف، مثل فرض عقوبات جماعية ضد دولة أو جماعة مسلحة أو بعض الأفراد.

من المسؤول الأساسي عن ضمان محاسبة الأفراد الذين ينتهكون قوانين الحرب؟

ضمان إحقاق العدالة في حالات الخرق الجسيم للقانون الإنساني الدولي هي بالمقام الأول مسؤولية الدول التي يتورط رعاياها في الخروقات. وعلى الدول الالتزام بالتحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي يفترض ارتكاب عناصر من قواتها أو الأشخاص الخاضعين لولايتها لها. وعلى الدولة أن تضمن قيام محاكمها العسكرية أو العادية وغيرها من المؤسسات بالاضطلاع بواجب التحقيق النزيه في الانتهاكات الجسيمة التي تقع، والتوصل إلى الأشخاص المسؤولين عن هذه الانتهاكات وملاحقتهم قضائياً بموجب المعايير الدولية للمحاكمة العادلة وفرض العقوبات على الأفراد الذين يتبين مسؤوليتهم وأن تكون العقوبات متناسبة مع حجم الأعمال المُرتكبة.

وفيما لا تلتزم الجماعات المسلحة من غير الدول بنفس الالتزامات القانونية الخاصة بمقاضاة المخالفين لقوانين الحرب في صفوفها، فهي رغم ذلك مسؤولة عن ضمان الالتزام بقوانين الحرب وعليها المسؤولية حين تُجري المحاكمات بأن تجريها بما يتفق مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة.

متى تُعتبر انتهاكات القانون الإنساني الدولي جرائم حرب؟

الأشخاص الذين يرتكبون الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي بقصد إجرامي - أي عمداً أو عن إهمال - مسؤولون عن وقوع جرائم حرب. وجرائم الحرب تشمل جملة واسعة من الجرائم، منها الهجمات المتعمدة أو العشوائية أو غير المتناسبة في إلحاقها الضرر بالمدنيين، واتخاذ الرهائن، واستخدام الدروع البشرية، وفرض العقوبات الجماعية. كما يمكن تحميل الأفراد المسؤولية الجنائية جراء محاولة ارتكاب جريمة حرب، وكذلك جراء المساعدة في أو التحريض على أو تيسير ارتكاب جريمة حرب.

ويمكن أيضاً أن تقع المسؤولية على عاتق أشخاص يخططون أو يحرضون على ارتكاب جريمة حرب. ويمكن ملاحقة القادة والزعماء المدنيين بتهم جرائم الحرب بصفة مسؤولية القيادة حين يكونون على دراية أو من شأنهم أن يعرفوا بارتكاب جرائم حرب ولم يتخذوا ما يكفي من احتياطات لمنع وقوعها ولمعاقبة المسؤولين عن ارتكابها.

هل حققت إسرائيل وحماس ما عليهما من التزامات سابقة في تحميل الأفراد مسؤولية الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب؟

في أحيان كثيرة تتورط الدول التي يشارك مواطنوها في انتهاكات جسيمة لقوانين الحرب بواسطة نقص الإرادة أو القدرة على التحقيق في هذه الجرائم وملاحقة المشتبهين فيها قضائياً. وقد كتبت هيومن رايتس ووتش عن هذا الإخفاق في عدة سياقات، مثلاً فيما يتعلق بالقوات الأثيوبية في الصومال، والقوات الأميركية في العراق وأفغانستان، والقوات الكونغولية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والقوات الروسية في الشيشان.

وقد انتهت أبحاث هيومن رايتس ووتش في التحقيق والملاحقة القضائية للقوات الإسرائيلية بين عامي 2000 و2005 إلى أن ممارسات التحقيقات الإسرائيلية العسكرية وإجراءاتها ليست مستفيضة ولا نزيهة ولا تتم في الإطار الزمني المناسب. وعادة ما يجري الجيش الإسرائيلي "تحقيقات ميدانية" أو "تحقيقات عملياتية" تستند بالكامل على روايات الجنود في تحديد ما إذا كان ثمة حاجة إلى تحقيق كامل، دون التحدث إلى الضحايا أو الشهود المحايدين. والتحقيقات الميدانية، فيما يمكن أن تستخدم لأغراض عسكرية مفيدة، غير ملائمة تماماً في تحديد ما إذا كان ثمة أدلة على وقوع انتهاكات جسيمة لقوانين الحرب. والاعتماد على التحقيقات الميدانية هو ذريعة للزعم بالخطأ بأن إسرائيل قد أجرت التحقيقات المطلوبة والكافية.

وفي بعض الأحيان أسست إسرائيل لجان حكومية للتحقيق في سياسات وممارسات الحكومة. وفيما انتقدت هذه اللجان في بعض الأحيان الزعماء العسكريين أو السياسيين الإسرائيليين، فإنها لم تسهم في التكريس للمحاسبة الفردية على انتهاكات لقوانين الحرب. ومن الأمثلة الحديثة على هذا لجنة التقصي في الحملة العسكرية على لبنان في صيف 2006، والمعروفة بلجنة فينوغراد على اسم القاضي المتقاعد المُعين رئيساً لها. وأسفرت الحرب في عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله عن مقتل 1125 لبنانياً وإصابة زهاء 4400 آخرين، مع تشريد ما يُقدر عددهم بالمليون، وأغلبهم من المدنيين.

وفي تقرير اللجنة الصادر في يناير/كانون الثاني 2008، تم تكريس فصل من التقرير للقانون الدولي وانتهى إلى أن اللجنة لا تقدر على التقصي تفصيلاً في قضايا فردية لكن "إسرائيل سوف تجري التقصي المطلوب في كل حالة يبدو منها وقوع انتهاكات للقانون الدولي (أو الإسرائيلي)". كما أوصت اللجنة بأن تجري إسرائيل والجيش الإسرائيلي "تحقيقاً" موثوقاً وفي الوقت المناسب "في الأحداث المؤدية للانحراف عن القانون العسكري والقوانين الإسرائيلي وقوانين الحرب ضمن القانون الدولي"، ونصت تحديداً على إجراء مثل هذا التحقيق "تحت إشراف وتعاون فرع خارجي على النظام الموجهة ضده الشكوى".

وعلى حد علم هيومن رايتس ووتش فلم يتم إجراء أي تحقيق من هذا النوع. وتوصية اللجنة المُحددة الوحيدة ضمن هذه المجموعة من التوصيات كانت التقصي في استخدام إسرائيل للذخائر العنقودية. وتم إجراء تحقيقين داخليين في الجيش الإسرائيلي بشأن استخدام الذخائر العنقودية في لبنان، ولم يتم الإعلان عن نتائج أي من التحقيقين، وبرأا الجيش من أية انتهاكات لقوانين الحرب على صلة بإطلاق آلاف قذائف المدفعية والصواريخ الأرضية والقنابل الجوية التي أسقطت ما بين 2.6 و4 مليون قذيفة عنقودية صغيرة على مساحة كبيرة من الجنوب اللبناني، وأغلبها سقطت في آخر ثلاثة أيام من الحرب.

ولم تجر أية سلطة فلسطينية، سواء حماس في غزة أو السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، أي تحقيق من أي نوع في الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب التي ارتكبتها عناصر من قواتها أو الجماعات المسلحة التي تربطها الصلة بحماس أو فتح أو منظمات أخرى، مثل إطلاق الصواريخ بشكل عشوائي على الأماكن التي يشغلها المدنيون في إسرائيل.

ما هي الآليات الأخرى المتوفرة حين تخفق الدول في التحقيق في هذه الانتهاكات؟

تاريخياً، فإن الدول التي أخفقت في التحقيق في الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب فاقمت من مشكلة الإفلات من العقاب بالاستغلال المتكرر لمبدأ السيادة حين حاولت جهات أخرى النظر في المسألة. إلا أن القانون الجنائي الدولي لحقت به خطوات إيجابية وهامة على مدار العشرين عاماً الماضية جعلت من المحاسبة أمراً واقعياً أكثر، حتى في غياب الاستعداد والقابلية من طرف الدول فيما يتعلق بضمان حدوث هذه المحاسبة.

والمعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، التي تم تبنيها في عام 1998، ودخلت حيز النفاذ في عام 2002، تُمكن المحاكم من التحقيق والمقاضاة مع الأفراد المزعومة مسؤوليتهم عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، حين تكون الدول غير مستعدة أو غير قادرة على فعل هذا. ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تتولى التحقيقات الجنائية وأن تباشر عملية الملاحقة القضائية إذا كان الجناة المشتبهين من مواطني دولة طرف في المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، أو إذا كانت الانتهاكات المزعومة قد تم ارتكابها على إقليم دولة طرف في معاهدة المحكمة، أو إذا كانت دولة غير طرف في المعاهدة قد طلبت من المحكمة أن تتدخل في الانتهاكات المُرتكبة على إقليمها. وبالإضافة إلى هذا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تباشر التقاضي إذا أحال إليها مجلس الأمن أحد الأوضاع، كما حدث عام 2005 حين أحال مجلس الأمن الوضع في دارفور إلى المحكمة حتى رغم أن السودان لم يصدق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. وتحرك مجلس الأمن، كما في كل الحالات، يعتمد على التصويت بالموافقة لتسعة من 15 عضواً هم أعضاء المجلس، وعدم اعتراض أي عضو بالفيتو أو بالتصويت بالرفض من بين الأعضاء الخمسة الدائمين.

وكما هو معروض أدناه، فإن مجلس الأمن، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والأمانة العامة للأمم المتحدة يمكنهم أيضاً تشكيل لجان تحقيق دولية للتحقيق في انتهاكات قوانين الحرب المزعومة والتوصية بالتحقيقات الجنائية أو الملاحقة القضائية الجنائية بحق الأشخاص إذا كان هذا ملائماً.

وبعض فئات الجرائم الجسيمة التي تنتهك القانون الدولي، مثل جرائم الحرب والتعذيب، هي بدورها عرضة للاختصاص القضائي العالمي، مما يعني أن أية دولة يمكنها تفويض محكمة بمحاكمة الجناة فيها. وبعض الاتفاقيات، مثل اتفاقيات جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب، تطالب الدول الأعضاء بالقيام بالتحقيق الجنائي، وإذا تبينت الضرورة، ملاحقة المشتبهين جنائياً ممن يخضعون للاختصاص القضائي للدولة، حتى ولو بصفة مؤقتة، أي حتى إذا تم ارتكاب الجريمة من قبل شخص أجنبي بحق أجنبي آخر في دولة أجنبية. ومبدأ الاختصاص القضائي العالمي يُمكن الدول من الوفاء بهذه المسؤولية. كما يمكن الدول من محاكمة المسؤولين عن جرائم أخرى، مثل الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية.

هل يمكن لمجلس الأمن التحقيق في مزاعم انتهاك قوانين الحرب التي تم ارتكابها أثناء النزاع في غزة؟

نظراً للسجل المتواضع لكل من إسرائيل وحماس فيما يتعلق بإجراء التحقيقات النزيهة في الوقت الملائم بشأن انتهاكات قوانين الحرب الجسيمة من قبل عناصر قوات الطرفين، فإن هيومن رايتس ووتش تكرر مطالبتها مجلس الأمن بإنشاء لجنة تقصي للتحقيق في الانتهاكات المزعومة من قبل كافة الأطراف على صلة بالقتال الذي نشب مؤخراً في غزة. ويمكن أن يكون هذا مماثلاً للجان التقصي التي خولها مجلس الأمن مسؤولية العمل فيما يتعلق بنزاعات أخرى، مثل دارفور ويوغسلافيا السابقة. وأدى تحقيق اللجنة الخاصة بدارفور إلى إحالة الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأدى تحقيق لجنة يوغسلافيا السابقة إلى تأسيس المحكمة الجنائية الدولية المعنية بيوغسلافيا السابقة. والتقارير التي أعدتها اللجنتان المُشكلتان من خبراء دوليين، شملت تقصي الحقائق بشأن الإساءات وتوصيات لضمان المحاسبة.

وبموجب ميثاق الأمم المتحدة يتولى مجلس الأمن أغلب السلطة والمكانة فيما يتعلق بإعداد آلية للتحقيق. ونظراً لعدم التعاون فيما سبق من قبل مجلس الأمن في التصدي لمساءل على صلة بالمحاسبة في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، فربما كان من الضروري السعي وراء سبل أخرى لإحقاق العدالة. ودعت هيومن رايتس ووتش أيضاً الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى إنشاء لجنة تقصي للتحقيق في سلوك إسرائيل وحماس منذ أواسط عام 2007، بما في ذلك الهجمات الصاروخية التي شنتها حماس والجماعات الفلسطينية المسلحة الأخرى على المدنيين الإسرائيليين، والحصار الإسرائيلي المضروب على السلع والأشخاص إلى ومن غزة، وكذلك أثناء القتال ما بين 27 ديسمبر/كانون الأول إلى 18 يناير/كانون الثاني.

ماذا عن التحقيق الذي أمر به مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؟

صوت مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 12 يناير/كانون الثاني 2009 على إرسال "بعثة عاجلة مستقلة ودولية لتقصي الحقائق" إلى غزة. وأعضاء البعثة مُعينون من قبل رئيس مجلس حقوق الإنسان، وهو مارتين أوهومويبهي من الوفد النيجيري.

وولاية هذه البعثة قاصرة على البحث في انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي من قبل إسرائيل فقط، ولا تشمل الانتهاكات من قبل حماس والجماعات المسلحة الفلسطينية. وبغض النظر عن مقدار المسؤولية النسبية عن الانتهاكات التي ارتكبتها أطراف النزاع، فالتحقيق الذي يفحص سلوك طرف واحد فقط هو غير كاف ويسهل انتقاده بصفته متحيز لطرف ضد الآخر وغير كامل.

والتحقيق الموثوق والمُحايد يجب أن يشمل التحقيق في كافة مزاعم الإساءات من قبل كافة أطراف النزاع. ولجنة التقصي رفيعة المستوى التي شكلها مجلس حقوق الإنسان للتحقيق في حرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله في لبنان كانت مقتصرة بالمثل على فحص الانتهاكات التي ارتكبها الطرف الإسرائيلي. والخبراء المشاركون أقروا في تقريرهم بأن ولايتهم "لا تسمح لهم بالتحقيق الكامل في كافة أوجه النزاع، ولا تسمح بالنظر في سلوك كافة الأطراف". لكنهم أضافوا أن "أي تحقيق محايد ومستقل وموضوعي في سلوك معين أثناء مسار أعمال القتال يجب بالضرورة أن يشير إلى كافة الأطراف المتورطين". وعلق التقرير باقتضاب على المزاعم بأن حزب الله استخدم "دروعاً بشرية" - وهو انتهاك يُزعمم أنه اُرتكب من قبل الطرف اللبناني - لكن ليس على كافة هجمات حزب الله الصاروخية ضد مناطق سكنى المدنيين الإسرائيليين.

هل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أو أي محكمة دولية أخرى قائمة أن تحقق مع الأفراد الضالعين في الجرائم الجسيمة المُرتكبة في غزة وأن تلاحقهم قضائياً؟

ليست إسرائيل طرفاً في المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية. وبما أن الدول فقط هي التي يمكنها أن تكون أطرافاً في المحكمة، فيجب قبول السلطة الفلسطينية كدولة من قبل المحكمة قبل أن تصدق على المعاهدة وتنضم إلى المحكمة. وفي 22 يناير/كانون الثاني 2009 سلم وزير العدل بالسلطة الفلسطينية "إعلاناً بالصلاحية" للمحكمة يطلب فيه بتفعيل الاختصاص القضائي للمحكمة بشأن جرائم يُزعم وقوعها على أراضي فلسطينية، وهذا بدوره يتطلب اعتراف المحكمة الجنائية الدولية بالسلطة الفلسطينية كدولة. وبخلاف هذا فمن الواجب الإحالة من مجلس الأمن إلى المحكمة لكي تحقق وتقاضي في الجرائم المُرتكبة أثناء النزاع المسلح في غزة.

والمحاكم الدولية أو المختلطة بين الدولية والوطنية الجنائية الأخرى - ومنها التي تأسست للملاحقة القضائية في جرائم ارتكبت في كمبوديا ولبنان ويوغسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون - لا اختصاص قضائي لها على الجرائم المرتكبة في غزة. وولايتها تقتصر على جرائم محددة مرتبطة بمناطق جغرافية معينة حددتها قرارات لمجلس الأمن أو بالاتفاق بين الأمم المتحدة والدولة التي وقعت فيها الجريمة. وإذا أراد مجلس الأمن أن تتولى المقاضاة محكمة أخرى غير المحكمة الجنائية الدولية، فعليه أن يُنشئ محكمة مؤقتة جديدة.

هل يمكن أن تلعب محكمة العدل الدولي دوراً؟

لمحكمة العدل الدولي الولاية فقط على النظر في النزاعات بين الدول، وفقط بعد موافقة الحكومات المعنية على تدخلها. ويمكن أيضاً أن تقدم آراء استشارية في أسئلة قانونية ترسلها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وعلى أسئلة قانونية مرتبطة بأنشطة محددة من هيئات الأمم المتحدة ووكالاتها، مثل منظمة الصحة العالمية. ولا اختصاص لمحكمة العدل الدولي بشأن التحقيق مع الأفراد أو ملاحقتهم قضائياً.

ماذا عن عقد اجتماع مع كافة الأطراف السامية الموقعة على اتفاقيات جنيف؟

هذه خطوة من شأنها أن تتصدى لمسألة محاسبة الدول، لكنها لا تشمل آلية لمحاسبة الأفراد. والمادة 1 من اتفاقيات جنيف تُلزم الدول الأطراف (وجميع الدول التي صدقت على اتفاقيات جنيف) "باحترام وضمان احترام الاتفاقية الحالية في كل الظروف". وفي ديسمبر/كانون الأول 2001 تم عقد اجتماع للأطراف السامية المتعاقدة ودعى جميع الأطراف في النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين إلى احترام اتفاقيات جنيف، ودعى إسرائيل بصفتها السلطة المحتلة بالامتناع عن ارتكاب الخروقات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة، لكن لم يتم اتخاذ خطوات للتنفيذ. ويمكن تنظيم اجتماع مشابه لأعضاء اتفاقية جنيف الرابعة فيما يتعلق بالانتهاكات في غزة.

هل يمكن مقاضاة المشتبهين في انتهاكات قوانين الحرب الجسيمة في دول أخرى؟

يمكن للمحاكم الوطنية وعليها أيضاً أن تلعب دوراً في مكافحة الإفلات من العقاب في الانتهاكات الجدية للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وأحكام "الخروقات الجسيمة" في اتفاقيات جنيف بالإضافة إلى اتفاقية مناهضة التعذيب هي التي تُملي مدى ممارسة "الاختصاص القضائي العالمي". وهذا المصطلح يشير إلى اختصاص المحاكم الوطنية في محاكمة شخص مُشتبه بارتكاب جريمة دولية مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتعذيب والإبادة.

وتوجد في بلدان كثيرة قوانين تسمح لها بممارسة الاختصاص القضائي العالمي والمقاضاة على مثل هذه الجرائم الجسيمة. وقد تأخرت الممارسة عن القوانين الموضوعة، بدافع الخشية على التسييس المحتمل لهذه السلطة وكذلك ما يتعلق بالموارد المطلوبة لإجراء مثل هذه التحقيقات والملاحقات القضائية. وتزايد عدد القضايا التي يتم فيها ملاحقة الأشخاص قضائياً بموجب قوانين الاختصاص القضائي العالمي عبر السنوات العشر الماضية، لا سيما في غرب أوروبا. والملاحقة القضائية الناجحة في محاكم وطنية، منها فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا وإسبانيا وبلجيكا والنرويج في جرائم دولية ارتكبت في بلدان متنوعة منها موريتانيا وأفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا والبوسنة والهرسك، تُظهر تحول الاختصاص القضائي العالمي إلى واقع. والاختصاص القضائي العالمي يأخذ أيضاً تدريجياً في التحول إلى نظم قانون جنائي معمول بها في بعض الدول.

وحتى الآن لم تفلح الملاحقة القضائية في الجرائم الجسيمة التي تم ارتكابها في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بموجب قوانين الاختصاص القضائي العالمي. وثمة أفراد في بلجيكا تقدموا عام 2001 بشكاوى ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين آرييل شارون وغيره من الضباط العسكريين الإسرائيليين المزعومة مسؤوليتهم عن مذابح صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982. ثم تقدم آخرون بشكاوى ضد الزعيم الفلسطيني في ذلك الحين ياسرعرفات جراء مسؤوليته المزعومة عن أعمال إرهابية. وفي عام 2003 حكمت المحكمة البلجيكية العليا بأن الشكوى ضد شارون غير مقبولة لأنه - وبصفته رئيس الحكومة -  كان يتمتع بحصانة من الاختصاص القضائي في محكمة أجنبية. ومن ثم عدّل المشرعون البلجيكون من قانون الاختصاص القضائي العالمي في بلجيكا بحيث أصبح لا ينطبق إلا حين يكون الضحايا أو المتهمين من ذوي الجنسية البلجيكية أو من سكان بلجيكا، وبالنتيجة لم تتحول أي من هذه القضايا إلى تحقيق رسمي ومقاضاة رسمية أمام المحاكم البلجيكية.

وفي عام 2005 أصدر قاض بريطاني مذكرة توقيف بحق القائد العسكري الإسرائيلي المتقاعد دورون ألموغ، الذي كان في زيارة لبريطانيا، لكنه عرف بالمذكرة لدى وصوله ولم يغادر الطائرة التي وصل على متنها وعاد عليها إلى إسرائيل فتفادى إلقاء القبض عليه.

ألا توجد ازدواجية في المعايير بشأن العدل الدولي، في ظل عدم مقاضاة إلا الأفراد التابعين لدول ذات ثقل سياسي أقل؟

انتقد الكثيرون مجلس الأمن على تركيز جهوده بمجال العدل الدولي على الدول الأفريقية والعربية فقط، فيما اشتكى آخرون من أن جهود الأطراف الخاصة بالمبادرة بالتحقيقات الجنائية مع المسؤولين الإسرائيليين هي مبادرات سياسية الطابع للغاية. ويجب تحميل الجناة للجرائم الجسيمة التي تنتهك القانون الدولي المسؤولية بغض النظر عن الجنسية. إلا أن تطبيق العدل الدولي لم يتم بالتساوي بين مختلف الدول. فالدول، التي تتحرك عادة عبر قنوات مجلس الأمن، تقرر متى تنشئ محاكم دولية جنائية وما تفوضها إياه. والاعتبارات السياسية عامل هام في هذا الصدد، ومجال وسعة المؤسسات التي تم تشكيلها لا يضاهي مجال وجسامة الجرائم المرتكبة. وعلى الرغم من هذه الانتقائية، فإن هذه المؤسسات أسهمت في إرساء نظام من المحاسبة على الأقل فيما يتعلق بالنزاعات التي تدخل ضمن اختصاصها. ويجب المضي قدماً على هذا المسار إذ لا يُعقل حرمان ضحية انتهاك جسيم لقوانين الحرب من الانتصاف في المحكمة لمجرد أن ضحية أخرى مر مصابها دون وقفة في المحكمة. ورغم هذا فإن هيومن رايتس ووتش تسعى لكي تشمل جهود المحاسبة أسوأ الجرائم أينما تقع.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة