في أبريل/نيسان، أصدرت "هيومن رايتس ووتش" تقريرا من 213 صفحة بعنوان "تجاوزوا الحد"، خلص إلى أن السلطات الإسرائيلية ترتكب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضد الإنسانية. توصلنا إلى هذا القرار بناء على توثيقنا لسياسة حكومية شاملة للحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين، إلى جانب انتهاكات جسيمة تُرتكب ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.
في الأشهر التي تلت ذلك، تزايدت الأصوات، منها سفراء إسرائيليون سابقون في جنوب أفريقيا، وأعضاء "كنيست" حاليون، وأمين عام سابق للأمم المتحدة، ووزير الخارجية الفرنسي، التي تستخدم مصطلح الفصل العنصري فيما يتعلق بمعاملة إسرائيل التمييزية للفلسطينيين، ولا سيما في الأراضي المحتلة. ومع ذلك، فإن الكثيرين في ألمانيا، بمن فيهم منتقدون لانتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، ما زالوا مترددين في استخدام هذا المصلح لوصف السلوك الإسرائيلي.
إذا ما نظرنا إلى التاريخ، يمكن بالتأكيد فهم اهتمام ألمانيا برفاهية الشعب اليهودي، لكن هذا ينبغي ألا يتحول إلى تأييد سلوك الحكومة الإسرائيلية التعسفي والتمييزي، خاصة في الأراضي المحتلة. مع تزايد الاعتراف بارتكاب هذه الجرائم، فإن عدم إدراك هذه الحقيقة سيتطلب دفن الرأس في الرمل أعمق فأعمق.
بداية المشكلة تنبع من ممارسة الحكومة الإسرائيلية السيطرة الحقيقية لأكثر من نصف قرن على الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، بما في ذلك إسرائيل والأراضي المحتلة، حيث تعيش مجموعتان رئيسيتان من الناس متساويتان في العدد تقريبا. في جميع أنحاء هذه المنطقة، تمنح السلطات الإسرائيلية بشكل ممنهج امتيازات لإحدى المجموعتين، اليهود الإسرائيليين، الذين يخضعون لنفس مجموعة القوانين، مع نفس الحقوق والامتيازات، أينما كانوا. في الوقت نفسه، تخصص السلطات حُزَما مختلفة من الحقوق الأدنى للمجموعة الأخرى، الفلسطينيين، وتميز ضدهم بشكل ممنهج أينما كانوا، وعلى نحو أشد في الأراضي المحتلة.
قادنا إلى كتابة هذا التقرير إحساسُنا بأن أبحاثنا لم تكن تُبرِز هذه الحقيقة الأساسية.
عند توثيقنا لـ"الفصل واللامساواة" في التعليم المدرسي في إسرائيل، وطرد الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية المحتلة، والانتهاكات الجسيمة للحقوق الناجمة عن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، والإغلاق الخانق لقطاع غزة، شعرنا أن عملنا التقط ديناميات مهمة في مناطق معينة، بما في ذلك التمييز الراسخ، لكنه لم يعبّر عن النطاق الكامل للحكم الإسرائيلي التمييزي ضد الفلسطينيين.
شرعنا في التقرير بنيّة تقييم معاملة إسرائيل للفلسطينيين في مختلف أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة. وعلى غرار ما نقوم به في ما يقرب من 100 دولة نعمل فيها في جميع أنحاء العالم، بدأنا بتوثيق الحقائق، استنادا إلى سنوات من أبحاثنا الخاصة، ودراسات الحالات التي قارنت المناطق الفلسطينية مع المناطق ذات الغالبية اليهودية أو التي لا يسكنها إلا يهود، واستعراض لوثائق التخطيط الحكومية، وتصريحات لمسؤولين، ومجموعة من المواد الأخرى.
وجدت هيومن رايتس ووتش في مختلف أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة أن السلطات الإسرائيلية سعت إلى منح امتياز لليهود الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين. فعلت ذلك باتباع سياسات تهدف إلى التخفيف مما تصفه بـ"التهديد الديموغرافي" الذي يشكله الفلسطينيون، من خلال توسيع الأراضي المتاحة للمجتمعات اليهودية إلى أقصى حد ممكن، مع تركيز معظم الفلسطينيين في جيوب مزدحمة. تتخذ هذه السياسة أشكالا مختلفة ويتم اتباعها بشكل صارم خاصة في الأراضي المحتلة. تدخل في إطار هذه السياسة إجراءات وصفها مسؤولون إسرائيليون بارزون بأنها تسعى إلى "تهويد" منطقتي النقب والجليل في إسرائيل والحفاظ على "أغلبية يهودية صلبة"، كما جاء في وثائق تخطيط حكومية في بلدية القدس تشمل الجزء الشرقي من القدس التي ضمتها إسرائيل من جانب واحد وتحتلها. كما تشمل هذه السياسة "توطين [اليهود] في الأرض الواقعة بين مراكز الأقلية [الفلسطينية] ومحيطها" في الضفة الغربية، كما يتبين من الخطط التي استندت إليها الحكومة في مشروعها الاستيطاني، ومتابعة "الفصل" بين الضفة الغربية وقطاع غزة. تخدم السياسة الشاملة الهدف الأساسي نفسه: أكبر مساحة ممكنة من الأرض، وأقل ما يمكن من الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، وجدنا أن السلطات الإسرائيلية ارتكبت الانتهاكات الجسيمة اللازمة لاستكمال أركان جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة. فعلت ذلك، في جملة سياسات، من خلال فرض قيود شاملة على الحركة على قطاع غزة في شكل إغلاق شامل لمدة 14 عاما ونظام التصاريح التمييزي المفروض في الضفة الغربية، ومصادرة أكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية، وحرمان مئات آلاف الفلسطينيين وأقاربهم من حق الإقامة. فرضت إسرائيل حكما عسكريا قاسيا على ملايين الفلسطينيين، وعلّقت حقوقهم المدنية الأساسية، في حين يخضع الإسرائيليون اليهود الذين يعيشون في نفس المنطقة للقانون المدني الإسرائيلي المتساهل، وفرضت ظروفا قاسية في أجزاء من الضفة الغربية أجبرت آلاف الفلسطينيين على ترك منازلهم.
قيّمنا هذه الحقائق في ضوء المجالات ذات الصلة في القانون الدولي - في هذه الحالة، القانون المعمول به بشأن التمييز- والذي يتضمن منعا شاملا للفصل العنصري. ومع أن المصطلح صيغ نسبة إلى ممارسات محددة في جنوب أفريقيا، فإن المعاهدات الدولية تعرّف الفصل العنصري على أنه مصطلح قانوني عام يشير إلى شكل شديد القسوة من القمع التمييزي.
يُعرِّف القانون الجنائي الدولي، بما في ذلك "الاتفاقية الدولية بشأن قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها" لعام 1973 و"نظام روما الأساسي" لعام 1998 الخاص بـ "المحكمة الجنائية الدولية"، الفصلَ العنصري بأنه جريمة ضد الإنسانية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية: (1) نية هيمنة فئة عرقية على أخرى، و(2) اضطهاد المجموعة المهيمنة للمجموعة المهمَّشة بصورة منهجية، و(3) الانتهاكات الخطيرة للغاية والمعروفة بالأفعال اللاإنسانية.
يُفهم اليوم من مصطلح المجموعة العرقية أنها تشمل أيضا المعاملة على أساس النسب والأصل القومي أو الإثني. يعرّف القانون الجنائي الدولي أيضا الجريمة ضد الإنسانية ذات الصلة المتمثلة في الاضطهاد. بموجب نظام روما الأساسي والقانون الدولي العرفي، يتمثل الاضطهاد في الحرمان الشديد لمجموعة عرقية أو إثنية أو غيرها من الحقوق الأساسية بقصد تمييزي.
عزز تصديق دولة فلسطين على هاتين المعاهدتين في السنوات الأخيرة التطبيق القانوني لهاتين الجريمتين على أراضيها. أكد حكم صادر عن غرفة في المحكمة الجنائية الدولية في وقت سابق من هذا العام اختصاص المحكمة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الفصل العنصري والاضطهاد، المرتكبة في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 2014.
من خلال مطابقة الحقائق مع القوانين، خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن السلطات الإسرائيلية ترتكب الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد. وجدنا أن عناصر الجريمتين مجتمعة في الأراضي المحتلة كجزء من سياسة واحدة للحكومة الإسرائيلية. تتمثل هذه السياسة في الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة. وهي مقترنة في الأراضي المحتلة بقمع ممنهج وأعمال غير إنسانية ضد الفلسطينيين الذين يعيشون هناك.
في بعض الأحيان، أهم ما يمكن أن يفعله شخص يهتم بك حقا هو إطلاعك على الحقيقة المُرّة ودفعك لمواجهتها. حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين وزعماء في الولايات المتحدة، وهي أقرب حلفاء إسرائيل، بمن فيهم الرئيس السابق جيمي كارتر ووزير الخارجية السابق جون كيري، من مغبة الوقوع في الفصل العنصري إن لم تتغير الأوضاع.
اليوم، الفصل العنصري ليس سيناريو افتراضيا أو مستقبليا. 54 عاما من الاحتلال ليست شيئا مؤقتا. لقد تم تجاوز الحد. الفصل العنصري والاضطهاد الموازي له هما واقع ملايين الفلسطينيين المعيش. التعرف على المشكلة وتشخيصها بشكل صحيح هو أول خطوة لحلها، ووضع حد للفصل العنصري أمر حيوي لمستقبل كل من الفلسطينيين والإسرائيليين وقضية السلام. إذن، فعلاقة ألمانيا الخاصة بإسرائيل والتاريخ هي التي يجب أن تدفعها إلى الاعتراف بواقع الفصل العنصري والاضطهاد، واستخدام أنواع الأدوات اللازمة لإنهاء هاتين الجريمتين ضد الإنسانية.