تنصّل مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون من "المحكمة الجنائية الدولية" (المحكمة)، معلنا في خطابه يوم 10 سبتمبر/أيلول أن إدارة ترامب لن تتعاون معها بعد الآن، ومتوعدا إياها إن مسّت تحقيقاتها مواطني الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أي دولة أخرى حليفة لها.
أكثر ما أثار الاستغراب في خطاب بولتون تهديده بمقاضاة قضاة ومدّعي المحكمة أمام المحاكم الأمريكية إن اتخذوا إجراءات قانونية ضد أمريكيين.
كان بولتون وجه حملة أمريكية منسقة بدأت في ظل إدارة جورج بوش الابن لتقويض المحكمة، والمنشأة عام 2002 لمحاكمة أسوأ الجرائم الدولية. تسببت الجهود فقط في إضعاف مصداقية الولايات المتحدة في العدالة الدولية وأفسحت المجال تدريجيا لموقف أمريكي أكثر دعما. عام 2005، لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض ضد طلب "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة" من مكتب ادعاء المحكمة التحقيق في الجرائم في دارفور بالسودان.
إذن ما سبب الهجوم الكبير على المحكمة، ما الذي أسقط ادعاءات إدارة ترامب المعلنة بخصوص محاسبة الجرائم الخطيرة في سوريا وميانمار؟ قال بولتون إن طلب المدعية العامة للمحكمة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بفتح تحقيق في أفغانستان أكّد "أسوأ توقعات" إدارة بوش. أفغانستان عضو في المحكمة، ما يعني أن للمحكمة ولاية قضائية على جرائم الحرب المزعومة المرتكبة هناك، والتي يمكن أن تشمل تلك التي ارتكبها عناصر الجيش الأمريكي و"وكالة الاستخبارات المركزية". تدرس المدعية العامة للمحكمة أيضا فتح تحقيق في الوضع الفلسطيني. فلسطين أيضا عضو في المحكمة. استخدم بولتون الخطاب للإعلان عن قرار إغلاق مكتب تمثيل "منظمة التحرير الفلسطينية" في واشنطن بسبب تأييد تحقيق المحكمة في الجرائم الخطيرة المرتكبة في فلسطين.
صوّرت ملاحظات بولتون المحكمة على أنها تفتقر إلى الضوابط والتوازنات، لكن هناك قيودا كبيرة على قدرة المحكمة الجنائية الدولية على العمل. تناسى بولتون ما هو، في الواقع، أمرا أساسيا: هذه المحكمة هي محكمة الملاذ الأخير. يمكن للبلدان تجنب الخضوع للتدقيق في المحكمة من خلال إجراء تحقيقات فعلية والملاحقات القضائية المناسبة التي يتطلبها القانون الدولي. لكن لم تفعل الولايات المتحدة ذلك في أفغانستان ولا إسرائيل في غزة والضفة الغربية.
من غير المحتمل أن يُرهب ازدراء بولتون للمحكمة مسؤوليها والدول الأعضاء فيها. لكن خطابه كان إهانة صارخة لضحايا الجرائم الفظيعة الساعين إلى تحقيق العدالة. لدى المحكمة أوجه قصور، ولكنها ترسل إشارة قوية إلى الجناة والضحايا معا مفادها أن تحقيق العادلة ضد أسوأ الجرائم ممكن. رفضت الدول الأعضاء في المحكمة التهديدات الأمريكية زمن إدارة بوش، وعليها فعل الشيء ذاته هنا والقول بوضوح إنها ستضمن بقاء المحكمة المساحة الأساسية للعدالة التي يحتاج إليها العالم بشدة.