يعاني العمال الوافدون من جنوب آسيا وأفريقيا منذ سنوات في ظل نظام الكفالة في الدولة الخليجية، وهم يستحقون تعويضات عن سرقة الأجور، والإصابات، والوفيات.
مع انطلاق "كأس العالم فيفا" لكرة القدم للرجال، تواجه قطر تدقيقا إعلاميا في سوء المعاملة والاستغلال بحق العمال الوافدين الذين شيّدوا وسلّموا بنية تحتية لكأس العالم تقدر قيمتها بنحو 220 مليار دولار، فضلا عن التمييز ضد النساء ومجتمع الميم. تحرص السلطات القطرية على صرف الانتباه عن سجلها الحقوقي من خلال الادعاء أن الانتقاد عنصري، لأن مثل هذه الانتقادات ضد دولة مضيفة لكأس العالم "غير مسبوقة". كما قال رئيس "الاتحاد الدولي لكرة القدم" (الفيفا) جياني إنفانتينو الشيء نفسه في الخطاب الممجوج الذي ألقاه عشية انطلاق البطولة.
قد تكون اعتراضات السلطات القطرية محقة بشأن التغطية الصحفية السطحية للعالم العربي، لكن أكبر انتقاد لقطر هو أن هذه الدورة من كأس العالم بنيت على الظلم العنصري – إنجازها كان ثمنه سوء المعاملة والاستغلال بحق العمال الوافدين ذوي الأجور المنخفضة الآتين بمعظمهم من جنوب آسيا وأفريقيا.
تعارض قطر الدعوة إلى التعويضات المالية أو سبل الإنصاف للعمال الوافدين الذين عانوا من سوء المعاملة على مدى السنوات الـ 12 الماضية، بما في ذلك سرقة الأجور والإصابات والوفيات دون تعويض، بينما كانوا يحضّرون الحدث الرياضي الكبير، مدعية أن الدعوة إلى التعويضات "حملة دعائية".
الحقيقة هي أن قطر تدير ما وصفته المقررة الخاصة السابقة للأمم المتحدة المعنية بالعنصرية تنداي أشيوم في 2019 بأنه نظام طبقي قائم بحكم الأمر الواقع على أساس الأصل القومي، حيث تأتي الغالبية العظمى من العمال الوافدين ذوي الأجور المنخفضة من الدول الآسيوية والأفريقية، بما فيها الهند، ونيبال، وبنغلاديش، والفلبين، وكينيا.
الأنظمة المجتمعية والعمالية المبنية على التصنيف العرقي في قطر اليوم راسخة وعميقة. لا يدرك الكثير من الناس أن تاريخ دول الخليج – الذي يشمل تجارة الرقيق، وغواصي اللؤلؤ العاملين بالسخرة، ونظام الكفالة للعمال الوافدين، الذي رسخ التسلسل الهرمي العرقي على أساس الأصل القومي – مرتبط بتاريخ الإمبراطورية البريطانية. من 1871 إلى 1913، كانت قطر جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وفي 1916 أصبحت قطر محمية بريطانية بعد الدخول في اتفاقية تسمح للبريطانيين بالسيطرة على سياستها الخارجية مقابل الحماية البريطانية حتى استقلالها في 1971.
كانت الكفالة تتعلق في البداية بالتقاليد البدوية العرفية في دول الخليج العربي، حيث يتحمل مضيفو الزوار الأجانب المسؤولية القانونية والاقتصادية عنهم بصفتهم الكفلاء أو الرعاة أو الضامنين لهم، بما في ذلك أي عواقب ناتجة عن أفعال ضيوفهم. إلا أن بحثا أكاديميا حديثا يجادل بأن نظام الكفالة الحالي – وهو مجموعة من القوانين وسياسات الهجرة التي نعرفها اليوم – كان إلى حد كبير من صناعة البريطانيين خلال فترة الحماية في أوائل القرن الـ 20.
مكّن النظام المسؤولين البريطانيين من جلب أعداد كبيرة من الرعايا الاستعماريين من جنوب آسيا والسيطرة عليهم، بالإضافة إلى توسيع سيطرتهم على عدد أكبر من العمال الأجانب الذين ازدادوا مع بداية التنقيب عن النفط. بعد الاستقلال عن الحكم البريطاني، حافظ حكام الخليج على نظام الكفالة وعززوه، بحيث أصبح جميع العمال الوافدين القادمين إلى بلدانهم يحتاجون إلى كفيل لتحمل المسؤولية عن وضعهم القانوني، بما في ذلك إمكانية دخول البلاد أو مغادرتها أو تغيير أصحاب العمل.
قطر الآن واحدة من أغنى دول العالم. جذبت العمال من كافة أنحاء العالم من خلال الوعد بأجور عالية. إلا أن نظام الكفالة فرض بُنية هرمية مبنية على التصنيف العرقي. الأقلية الصغيرة ولكن القوية من مواطني قطر – البالغة حوالي 380 ألف، والتي تشكل حوالي 10% من سكان البلاد البالغ عددهم حوالي 3 ملايين – تتربع على قمة الهرم الهرمي بمزايا الدولة التي تمولها ثروة الطاقة، في حين أن غير المواطنين، ومعظمهم من العمال الوافدين، يشكلون الـ 90% المتبقية.
هناك عمال مهاجرون في قطر، كما في بقية دول مجلس التعاون الخليجي، من دول أوروبا وأمريكا الشمالية والدول العربية يمكنهم كسب دخل خيالي في المجالات المرتفعة الأجر مثل الاستشارات والمحاماة، وغالبا ما يعيشون في مجتمعات مغلقة تتمتع بامتيازات وحريات يحسدهم عليها العديد من المواطنين المحليين. يأتي الوافدون أيضا من مجموعة من البلدان للعمل في مجالات الدخل المتوسط مثل التعليم والطب، لكن الغالبية العظمى منهم من العمال هم ذوو الأجور المنخفضة، يعملون في قطاعَي البناء والخدمات ويأتون من دول جنوب آسيا مثل الهند ونيبال وبنغلاديش والفلبين، وكذلك بشكل متزايد من البلدان الأفريقية مثل كينيا.
وجدت المقررة الخاصة السابقة للأمم المتحدة المعنية بالعنصرية أنه بالنسبة للعديد من مواطني جنوب آسيا والأفارقة الذين يمتلكون المهارات اللازمة، غالبا ما تشكّل جنسياتهم حاجزا أمام حصولهم على وظائف ذات رواتب أعلى ومزايا تعاقدية أفضل. وأشارت إلى أن التمييز الهيكلي في قطر يعني أن حاملي الجنسيات الأوروبية، والأمريكية الشمالية، والأسترالية، والعربية تتمتع منهجيا بحماية أكبر لحقوق الإنسان من جنسيات جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء. غالبا ما يحصل العمال على أجور مختلفة من أصحاب العمل عن نفس الوظيفة بناء على جنسيتهم، حتى في قطاعَي البناء والخدمات منخفضَي الأجر. الحد الأدنى الشهري للأجور الذي تم الترويج له كثيرا على أنه غير تمييزي، والذي يبلغ ألف ريال قطري (حوالي 275 دولار أمريكي) وتم تحديده في 2020، منخفض جدا بحيث لا يعالج فعليا التمييز في الأجور.
عندما منحت الفيفا قطر حق تنظيم كأس العالم 2022 في 2010، لم تصرّ على أي شروط لحقوق العمال رغم أنها كانت تعلم أن الأمر سيتطلب مئات الآلاف، بل ملايين العمال لبناء البنية التحتية اللازمة. منذئذ، تفتخر قطر الآن بثمانية ملاعب، وتوسعة للمطار، ومترو، وأكثر من 100 فندق، وطرق جديدة، ومدينة ساحلية جديدة بالكامل.
استفادت كل من قطر، والفيفا، وشبكة من الشركات متعددة الجنسيات، وأصحاب العمل القطريين والأجانب، ووكالات التوظيف من العمال الوافدين الذين يعيشون في ظل الفقر. سمح نظام الكفالة القطري وغياب الحماية العمالية الفعالة لأصحاب العمل ووكلاء الاستقدام بفرض رسوم استقدام غير قانونية على العمال، وإرهاقهم وحرمانهم من أجورهم، وإخضاعهم لظروف عمل قاسية في درجات الحرارة والرطوبة الشديدة التي جعلتهم عرضة للإصابة، والمرض، والموت.
مئات آلاف العمال الذكور يعيشون في معسكرات عمل كبيرة منفصلة، في مساكن بائسة في كثير من الأحيان. كما يتم إيواء العديد من النساء الوافدات ذوات الأجور المنخفضة في قطاع الخدمات في مساكن منفصلة، ويتعرضن لمنع الخروج والحبس. عاملات المنازل الوافدات، اللواتي تشملهنّ تدابير حماية قانونية أضعف، غالبا ما يُحتجزن في منازل أصحاب العمل ويكنّ بذلك الأكثر عرضة للانتهاكات، بما فيها الاعتداءات اللفظية، والجسدية، والجنسية.
يزعم وزير العمل القطري أن "كل وفاة هي مأساة"، لكن قطر لا تعامل جميع الأرواح على قدم المساواة. توفي آلاف العمال الوافدين ذوي الأجور المنخفضة من جنوب آسيا وأفريقيا، ولكن لم يتم تعويض أسرهم، إذ تم توثيق وفاتهم على أنها نتيجة "أسباب طبيعية" أو "سكتة قلبية".
حرمت السلطات القطرية هذه العائلات من تفسير لوفاة أحبتها، بما في ذلك ما إذا كانت وفاتهم مرتبطة بظروف العمل، وتركت أسرهم بلا تعويض وفي ضائقة مالية. ومع ذلك، فقد حققت في وفاة عامل بريطاني واحد في موقع بناء في 2017، وأظهرت أن بإمكانها التحرك إذا ما اختارت ذلك.
يُحرم العمال الوافدون من الحق في تكوين النقابات والمطالبة بحقوقهم، لكن العديد منهم ما زالوا يواجهون خطر الاعتقال والترحيل والمنع من العودة إلى قطر إذا رووا ما حدث لهم، وساعدوا زملاءهم في المحنة، وأضربوا واحتجوا على سرقة الأجور وسوء ظروف العمل.
بعد الكثير من الحملات والمفاوضات الدولية، أجرت قطر إصلاحات عمالية مهمة، لكن هذه الإجراءات إما جاءت بعد فوات الأوان، أو كانت ضيقة النطاق للغاية، أو فُرضت بشكل ضعيف للغاية بحيث لا يستفيد منها معظم العمال. في 2020، أجرت السلطات القطرية إصلاحات أساسية لنظام الكفالة للسماح أخيرا لمعظم العمال بالحق في مغادرة البلاد دون إذن صاحب العمل وتغيير الوظائف دون الحاجة إلى إذن صاحب العمل.
إلا أن هذه الإصلاحات فُرضت بشكل ضعيف لدرجة أن العديد من العمال ما يزالون محاصرين ويناضلون لنيل أجورهم. ما تزال الحكومة تطالب العمال الوافدين بالحصول على وثائق موقعة من صاحب العمل الأصلي بالموافقة على استقالتهم، ما يفرض عمليا الحصول على إذن صاحب العمل لتغيير الوظائف. كما ما يزال أصحاب العمل يتحكمون بدخول العمال إلى البلاد، فضلا عن وضعهم القانوني والإقامة، ويمكنهم الإبلاغ عن العمال بسبب "الهروب"، ما يؤدي إلى إبطال الوضع القانوني للعمال حتى لو كانوا يفرّون ببساطة من انتهاكات صاحب العمل.
لم يبدأ إعمال "صندوق دعم وتأمين العمال" الحكومي، الذي يدفع مقابل سرقة الأجور عندما يتخلف أصحاب العمل، إلا في 2020. الغالبية العظمى من العمال الذين تعرضوا لسرقة الأجور قبل هذا الوقت لم يتمكنوا من الاستفادة من هذا الصندوق عندما رفض أصحاب العمل دفع أجورهم، مع عودة الكثيرين إلى ديارهم خاليي الوفاض. حتى أولئك الذين تقدموا بطلبات منذ 2020 ما يزالون يواجهون مشاكل في الاستفادة من الصندوق.
تقاعست الفيفا، التي تتوقع عائدات بمليارات الدولارات من كأس العالم 2022، عن معالجة وتخفيف الضرر الناجم عن الأنظمة الهرمية الاستغلالية في قطر. في البداية، ركزت الفيفا على خطط قطر لبناء ملاعب مكيّفة لضمان صحة اللاعبين والمشجعين الزائرين، وكثير منهم من البلدان الغنية، وحتى تغيير وقت البطولة من الصيف إلى الشتاء. لكن يبدو أن الهيئة الحاكمة لكرة القدم لم تهتم كثيرا بظروف ملايين العمال الوافدين ذوي الأجور المنخفضة الذين كدّوا في درجات حرارة قصوى تزيد عن 50 درجة مئوية لسنوات.
يقدم تحالف عالمي من منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات حقوق المهاجرين، والنقابات العمالية، ومشجعي كرة القدم الدوليين دعمه إلى العمال الوافدين وأسرهم المطالبة بالتعويض عن الانتهاكات التي تعرضوا لها على مدار الـ 12 عاما الماضية أثناء بناء أو خدمة البنية التحتية لكأس العالم، بما في ذلك رسوم التوظيف غير القانونية، وسرقة الأجور، والإصابات والوفيات بدون تعويض. عشية كأس العالم، لم تصرّح الفيفا بأنها ستخصص أموالا لتعويض العمال الوافدين الذين واجهوا سوء المعاملة، بما في ذلك الطلب بتخصيص ما لا يقل عن 440 مليون دولار لمثل هذا الصندوق، ما يعادل قيمة الجائزة المقدمة إلى الفرق المشاركة في كأس العالم 2022.
قد يبدو الخلط بين الدعوات الحقيقية إلى التعويض والعنصرية تكتيكا مفيدا للعلاقات العامة لقطر والفيفا، لكنه إهانة للعمال الوافدين الذين عانوا بالفعل في ظل نظام العمل العنصري.
ينبغي لقطر معالجة الأسباب الجذرية للظلم العنصري الذي يهدد إرث كأس العالم. ينبغي لها أن تبدأ بالالتزام، إلى جانب الفيفا، بمعالجة الانتهاكات التي حدثت على مدى السنوات الـ 12 الماضية، بما فيها سرقة الأجور والإصابات والوفيات، ثم ينبغي لقطر البناء على إصلاحاتها الأخيرة لتفكيك نظام الكفالة بالكامل.