كانت حسيبة محسوب، سيدة أعمال مصرية عمرها 50 عاما، في مكان عام في الإسكندرية بمصر في أحد أيام نوفمبر/تشرين الثاني 2019 عندما اعتقلتها قوات الأمن. اقتادوها إلى مكان مجهول، على الأرجح إلى أحد مواقع الاحتجاز غير القانونية التابعة لـ "قطاع الأمن الوطني" حيث "يخفون" المعارضون عادة.
لم يُكشف عن مكانها إلا بعد 67 يوما، في 27 يناير/كانون الثاني 2020، عندما عرضها مختطفوها على النيابة العامة. كالعادة، لم تحقق النيابة في إخفائها القسري وأمرت باحتجازها على ذمة "التحقيق"، إذ "تبصُم" تلقائيا مزاعم أجهزة الأمن الغير مدعومة بأدلة بأنها عضوة في جماعة "إرهابية" لم تتكلف حتى عناء تسميتها.
ما من شيء خارج عن المألوف هنا.
منذ أواخر 2013، اعتقلت سلطات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحاكمت عشرات آلاف من المنتقدين السلميين، والصحفيين، والأكاديميين، والمدافعين عن حقوق الإنسان في "سلسلة متكاملة" من الانتهاكات الجسيمة. بيد أنّ استهداف حسيبة لم يكن منبعُهُ أيّ نشاط سياسي. اعتُقلت، على ما يبدو، فقط لأنها شقيقة محمد محسوب، وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس النيابية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي وقيادي في "حزب الوسط" المعتدل، حيث يقيم في باريس، منذ أن أطاح الجيش بمرسي في يوليو/تموز 2013 تحاشيا، للاضطهاد في مصر.
يندرج اعتقال حسيبة ضمن أساليب البلطجة الممارسة على نطاق واسع بحقّ عائلات المنتقدين والمعارضين الذين يعيشون الآن في الخارج، والتي تصاعدت في السنوات الأخيرة، لتشمل ن عشرات المداهمات المنزلية، والاعتقالات، وأوامر حظر السفر التي استهدفت أقرباء في مصر لا علاقة لهم بالسياسة.
يعيش المعارضون الذين يُستَهدف أقرباؤهم في كل مدينة رئيسية في أوروبا والولايات المتحدة تقريبا، لذا فإنه من المخزي ألا يتحدث حلفاء مصر علنا عن هذه الانتهاكات، وتحديدا في ظلّ معرفة حكومات تلك الدول بأنّ أجهزة المخابرات المصرية وظّفت جواسيس يعملون لجمع المعلومات حول أنشطة المعارضين في عواصمهم. يحضر هؤلاء العملاء، غير مدعوين، إلى الندوات، وورش العمل، والتظاهرات، للالتقاط الصور وتدوين الملاحظات حول ما يُقال.
لماذا يحدث ذلك ولماذا يجب أن ينتهي هذا الصمت؟
أحكمت حِبالُ القمع الغليظة في عهد السيسي الخناق على نشاط المعارضة السلمية داخل البلاد إلى حد كبير. في ظلّ حكمه، أصبحت مصر من أسوأ الدول التي تسجن الصحفيين، بعد الصين وتركيا. منذ 2017. حجبت حكومته حوالي 600 موقع إخباري وحقوقي. كما اضطرت العديد من منظمات المجتمع المدني إلى تصفية أو تقليص نشاطاتها، أو نقل عملها إلى الخارج. لم يعد في مصر مساحة تُذكر للتجمع السلمي، أو الحراك الجماهيري، أو حرية التعبير. أمّا الذين الذين يمارسون هذه الأنشطة فهم عرضة للسجن ووصفهم بـ"الإرهابيين"، كما أشارت العديد من بيانات "الأمم المتحدة".
مع ذلك، بقي تدفق منتظم للتقارير النقدية والاحترافية قادرا على كشف الواقع المرير في مصر. على الرغم من ملايين الدولارات التي تنفقها حكومة السيسي على العلاقات العامة لتلميع صورتها، لا تزال الانتهاكات الجسيمة تتصدر عناوين أبرز المؤسسات الإخبارية. يحدث هذا بفضل المصريين الشجعان، داخل البلاد، الجديرين بالتقدير والإعجاب، إذ واصلوا، على الرغم من كل شيء، عملهم السلمي من أجل كرامة وحقوق شركائهم في الوطن. كما أنّ عشرات المعارضين الذين غادروا مصر خوفا من الاضطهاد لم يلتزموا الصمت. انتشرت مجموعات حقوق الإنسان المصرية في أوروبا والولايات المتحدة، ويستخدم العديد من النشطاء الذين يعيشون في الخارج وسائل التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على ما يحدث في البلاد.
لا تعرف أجهزة السيسي الأمنية سوى طريقة واحدة للرد: المضايقة، والترهيب، والاعتقال. إذا تعذر الوصول إلى النشطاء، فلنعتقل أقربائهم! تسبب هذا الأمر بألم كبير للنشطاء في الخارج، الذين يرون أقرباءهم يُعاملون كرهائن من قبل قوات الأمن المستعدة للقيام بأي شيء. لكن إذا كان الهدف تحسين سمعتها من خلال إسكات هؤلاء المنتقدين في الخارج، فالحكومة المصرية بعيدة كل البعد عن النجاح، والنقاد يردّون بدلا من التزام الصمت.
لفهم ما أعنيه، شاهد التعابيرشديدة الغضب على وجه مدوّن الفيديو المقيم في شيكاغو، علي حسين مهدي، بينما يستعيد أمام الكاميرا ما حدث مؤخرا لعائلته في مصر. ينشر مهدي، الذي لديه أكثر من 400 ألف متابع على "فيسبوك"، بانتظام مقاطع فيديو تنتقد الحكومة المصرية. في أواخر يناير/كانون الثاني 2021، داهمت الشرطة منازل والده، وعمه، وابن عمه، واعتقلتهم وأخفتهم قسريا، رافضة الكشف عن مكانهم. توقف مهدي عن النشر لمدة أسبوع، لكنه كسر صمته في 11 فبراير/شباط. قال لمتابعيه: "أخذوا أبي من وسط مراته وعياله، إخواتي الصغيرين، فجعوهم وفزعوهم. سرقوا كل حاجة في البيت وبهدلوا البيت".
مثل مهدي، لم يتوقف العديد من المصريين في الخارج الذين استُهدف أقرباؤهم في الداخل عن نشاطهم. هناك مثلا الحقوقي المقيم في الولايات المتحدة محمد سلطان، الذي أُخفي والده المسجون منذ يونيو/حزيران 2020، أو هيثم أبو خليل، المذيع التلفزيوني المقيم في إسطنبول، والذي توفي شقيقه عمرو في السجن بعد شهور من الاعتقال الجائر.
أفرج قاضٍ عن حسيبة محسوب بشكل مشروط في 13 ديسمبر/كانون الأول 2020، من دون محاكمة، لكن عادت قوات الأمن واعتقلتها خلال أقل من 24 ساعة وضمّتها إلى قضية جديدة بناء على الادعاءات نفسها. يواصل محمد محسوب الكتابة عن مصر والطريق الذين ينبغي أن تسلكه للأمام.
على حكام مصر، بمَن فيهم الرئيس السيسي، أن يفهموا أنهم من خلال إيذاء أحباء المعارضين، يرسّخون سمعة حكومتهم كمنتهكة قاسية لحقوق الإنسان ليس إلّا، كما أن هذه الأساليب من المُستبعدِ أن تنجح. فبما أن الضرر قد وقع فعلا، كيف يلوذُ المعارضون بالصمت؟ ليس أمام المرء، للانتصار على الخوف، إلّا أن يَخبُرَه. إذا كان هدف الحكومة تحسين سمعة مصر في الخارج، فلن يتحقّق ذلك حتى توقف القمع الشامل والزج بالمعارضين في في السجون والمحاكم. عندها، ربما يعود المصريون في الخارج إلى ديارهم بأمان ليساهموا في إعادة الحيوية والتنوع إلى المجتمع المدني والحياة السياسية الواهنة في البلاد ، إذ أنّ مستقبل مصر بأمسّ الحاجة لذلك.
على الحكومات، خصوصا الغربية منها التي تزوّد مصر بالسلاح، الاستماع إلى هؤلاء النشطاء وجعل كرامة المصريين وحقوقهم محورية في علاقاتها مع الحكومة. أثبتت التجارب السابقة أنّ الإبقاء على نمط العلاقات كالمعتاد في مواجهة الانتهاكات الجسيمة يشجّع المنتهكين على الاستمرار في حلقة مفرغة من تعطيل آفاق الازدهار، والديمقراطية، والحكم الرشيد في الوطن.