بغداد – ذات صباح في يناير/كانون الثاني، دخل رجلان مسلحان إلى محل حدادة يملكه مسيحي، هو ليث هادي بهنام، في منطقة الكرامة الصناعية في الموصل، وطلبا منه إصلاح كاتم صوت أحد مسدساتهما. عندما رفض الرجل، طبقاً لاثنين من أصحابه، هدده أحد الرجلين المسلحين: "سوف أقتلك".
بعد عشرة أيام، في 29 يناير/كانون الثاني، عاد المسلحان. ورغم توسل بهنام – البالغ من العمر 56 عاماً – حتى يبقيا على حياته، أطلق عليه المسلحان النار، ثلاث رصاصات، أصابته في الوجه والصدر، فسقط قتيلاً في الحال. أعزت السلطات الجريمة إلى جماعة تسمي نفسها الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). لكن رغم وجود العديد من الشهود، فلم تزد تحقيقات السلطات عن ذلك ولم تقم بأية اعتقالات.
هذا الأسبوع، قامت داعش بكل جرأة بالاستيلاء على الموصل، إذ أخذتها من الجيش العراقي المدعوم أمريكياً، لدهشة بغداد وواشنطن العارمة. لكن الاستيلاء على ثاني كبريات المدن العراقية لم يكن واجباً أن يكون مفاجأة. فقبل سقوط المدنية الدراماتيكي بكثير، كانت داعش – التي تشكلت في أبريل/نيسان 2013 والقاعدة في العراق السابقة عليها – تعمل دون مواربة منذ سنوات في الموصل، وقد قتلت مدنيين مثل بهنام مع الإفلات من العقاب، وتلاعبت بنظام القضاء، بل وحتى جمعت ما أسمته "ضرائب الجهاد" من أصحاب الأعمال المحليين. لكن الجيش العراقي الكبير والجهاز الأمني مترامي الأطراف، لم يفعلا أي شيء تقريباً.
لقد زرت العراق في مايو/أيار، وكان جزء من سبب الزيارة هو التحقيق في انتهاكات داعش في الموصل في الآونة الأخيرة. قابلت سكان من الموصل في العاصمة بغداد، وفي إربيل، عاصمة كردستان العراق (كان من الخطر للغاية عليهم الحديث معي في مدينتهم). ومن رواياتهم، وضعت يدي على لمحات مرعبة لما يخبئه المستقبل إذا حققت هذه الجماعة هدفها بإنشاء "خلافة" في المنطقة.
على مدار الشهور التسعة الماضية على سبيل المثال، قتلت داعش أربعة من صحفيي الموصل وأصابت أكثر من اثني عشر آخرين. أحد المصابين، وهو مصور يعمل لصالح قناة الموصلية، فقد ساقه ولم يعد قادراً على استخدام الساق الأخرى، بعد أن وضعت داعش قنبلة في سيارته. تعتبر قناة الموصلية موالية للحكومة، لكن المصور وهو صلاح نزال، الأب لأربعة والبالغ من العمر 41 عاماً، قال لي إنه لا يعرف إن كان هذا هو سبب مهاجمته. قال: "جميع الصحفيين في الموصل أهداف لهم".
في أبريل/نيسان ومايو/أيار قامت داعش بإعدام اثنين من قضاة الموصل ميدانياً، وكانا يحققان في قضايا إرهابية، على حد قول صديق للقاضيين. تم قتل أحدهما بعد إطلاق الرصاص عليه أثناء خروجه من مسجد. أما الآخر فقد أصابته رصاصة في الرأس أمام بيته، وأمام زوجته وابنه الصغير. لم تتم اعتقالات على صلة بأعمال القتل هذه.
كذلك فرضت داعش "ضرائب الجهاد" على أغلب أصحاب الأعمال في الموصل، على حد قول سكان من الموصل، ومنها شركات الإسمنت التي تديرها الحكومة، ومؤسسات الهواتف الخلوية، وعيادات الأطباء، ومرآب انتظار السيارات، وأسواق المزارعين. وصف أحد التجار كيف تم قصف متجره عندما حاول الالتفاف على دفعة من الضرائب. وصف سكان آخرون اختطاف داعش لأصدقاء وأقارب طلباً للفدية.
قال أحد الصحفيين من الموصل، وهو يعكف على تحقيقات حول داعش: "في الموصل، تعمل الجماعات المسلحة وكأنها دولة ظل. عندهم مؤسساتهم الخاصة بهم، وفي كل منها عمال تحت إمرتهم. ليسوا مجرد مقاتلين. بينهم محاسبين وسكرتارية ورجال معهم شهادات عليا، وجواسيس بالطبع".
كان بين السكان الذين تحدثت معهم رجال سياسة ومحامين ورجال أعمال وأقارب لضحايا. اتفقوا جميعاً تقريباً على عدم الرغبة في نشر أسمائهم، خوفاً من انتقام داعش أو قوات الأمن المحلية، التي اشتبهوا أنها تواطأت في بعض الحالات مع الجماعات المسلحة. بينهم مسيحيون وشيعة وسنة. قالوا جميعاً إنهم يروعهم أن داعش تزعم أنها تتحرك تحت لواء الدين، ومما يروعهم بالقدر نفسه عدم قدرة أو عدم رغبة السلطات العراقية في تلجيم داعش.
جامعو "ضرائب الجهاد" على سبيل المثال يعملون في وضح النهار، وكانوا يصلون إلى البيوت والمتاجر غير مقنعين، ومعهم حقائب ممتلئة بالملفات حول هامش أرباح كل دافع ضرائب. لكن لم يتم القبض عليهم.
قال محمد، وهو مالك متجر للأدوات الكهربائية والمنزلية يبلغ من العمر 45 عاماً: "يعرف الجميع من هم، لكن لا يحاولون الاختباء". قال محمد إنه يدفع لداعش ما يوازي 200 دولار شهرياً، أي نحو 10 في المائة من دخله، على سبيل "الحماية" رغماً عنه، وكذلك تبرع لقضية الخلافة. قال: "أحياناً يجلسون ويشربون الشاي ويتناولون الغداء عندما يحضرون لأخذ نقودهم". كان بعض المسؤولين المحليين يخشون اتخاذ أية تحركات، لكن في حالات أخرى ظهر أنهم يتعاونون مع داعش وجماعات مسلحة أخرى، على حد قول محمد وسكان آخرين.
هناك قاضي من الموصل قال إنه عندما لم تنفذ الشرطة المحلية اعتقالات، كانت في العادة تتهم بالخطأ أشخاص يضطروا بعد اتهامهم لدفع رشاوى لإطلاق سراحهم، أو يفرجوا عن سجناء تحت ترهيب داعش. قال المحامي: "حتى إذا قبضت السلطات أحياناً على القاتل، بعد يومين أو ثلاثة يخلون سبيله". لم يكن الضغط خفياً. فأعضاء داعش كما قال، كانوا يدخلون إلى قاعة المحكمة ويهددوا القضاة أمام الجميع.
كما ظهرت بوادر على قوات الأمن، أنها ليست فقط فاسدة أو تتعرض للترهيب، إنما ظهر عليها أيضاً قلة الكفاءة التامة. وصف صحفيان نجيا من هجوم لداعش على حافلة للإعلام كان الجيش العراقي يستخدمها في نقل المراسلين إلى مراكز الاقتراع قبل انتخابات 30 أبريل/نيسان البرلمانية بيومين. الهجوم الذي تم بجهاز انفجاري مرتجل، ألحق الإصابات بستة صحفيين، وأحدهم كانت إصابته خطيرة، لكن ما كان ليصيب أحد لو كانت الحافلة مدرعة، على جد قولهم.
قال أحد الصحفيين: "عندما رأينا الحافلة اشتكينا للجيش وقلنا: خطر للغاية السفر في عربة غير مدرعة، قد نتعرض للهجوم. قال لنا الضابط المسؤول ألا نقلق. تمت مهاجمة الحافلة على مسافة 30 متراً من نقطة للجيش. أي أمن هذا؟"
إذا كان استيلاء داعش على الموصف يعري إخفاقات قوات الأمن العراقية، فهو يلقي الضوء أيضاً على الإخفاق الأعرض للسياسة الأمريكية في العراق. لقد قدمت واشنطن أكثر من 20 مليار دولار مساعدات عسكرية لبغداد منذ الغزو الأمريكي في 2003، بما في ذلك ذخائر وصواريخ هيلفاير وطائرات بدون طيار للمراقبة. لكن ظلت إدارة أوباما صامتة بشكل صادم عن انتهاكات القوات العراقية المتكررة بحق المدنيين، مثل المداهمات غير القانونية والاعتقالات والتعذيب، والقصف العشوائي والقصف بقنابل برميلية على مدينة الفلوجة ومناطق أخرى من الأنبار التي يعد أكثر سكانها من السنة. المدنيين السنة، الذين تعرضوا للتهميش من حكومة نوري المالكي التي يهيمن عليها الشيعة، تحملوا عبء هذه الهجمات، ومنها هجمات في الموصل.
رداً على إخفاق الموصل، تناقلت التقارير تفكير واشنطن فيما إذا كان عليها زيادة شحنات الأسلحة إلى العراق أم لا. إذا فعلت، فإن على إدارة أوباما وحلفائها ضمان أن أي دعم عسكري مقدم لن يستخدم في ارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان. عليهم الضغط على المالكي أكثر لتوفير مشاركة سياسية حقيقية للسنة والأقليات الأخرى مهضومة الحقوق، وهو إجراء مهم للغاية لتقليل الدعم لداعش.
إن مخاطر تقديم الأسلحة والذخائر للجيش العراقي دون هذه الإصلاحات واضحة، منذ حملة الشهور الستة العسكرية التي هدفت إلى إخراج داعش من الفلوجة. إن عدداً من الشيوخ السنة في الأنبار، مهد "مجالس الصحوة" – وهي ميليشيات بتمويل أمريكي اعتمدت بالأساس على المسلمين السنة – أخبروا هيومن رايتس ووتش إنهم يودوا لو يتم التخلص من متمردي داعش، كما حدث مرة في عام 2007. لكن في الوقت نفسه فإن ميليشياتهم تقاتل إلى جانب صفوف داعش لأن كراهيتهم للمالكي أكبر، والذي حنث وعوده بالتعويض وإدماج أعضاء مجالس الصحوة بالجيش، وقام باعتقال وقتل الكثيرين منهم.
على حكومة المالكي أيضاً ملاحقة جميع المسؤولين عن الانتهاكات الكبرى، بغض النظر عن الجانب الذي ينحاوزن إليه. بالنسبة لأهالي الضحايا، مثل حداد الموصل ليث هادي بهنام الذي خسر حياته عندما تحدى داعش، فقد يكون هذا الفعل الأهم من بين جميع الأفعال.