تكشف بيانات جديدة من "منظمة الصحة العالمية" أن التمويل العام للرعاية الصحية الذي تقدمه العديد من الحكومات لا يرقى إلى المستوى المطلوب للوفاء بالتزاماتها الحقوقية.
يعيش غالبية الناس في بلدان يُقوّض فيها انخفاض التمويل العام فرص حصولهم على الرعاية الصحية. يُعزى ذلك أحيانا إلى ضغوط كبيرة كالحروب والديون، لكن غالبا ما يُعزى فقط إلى عدم إعطاء الحكومات الأولوية لذلك.
ينبغي للحكومات ضمان تمتع جميع السكان بحقهم في الصحة عبر تقليل الاعتماد على مصادر التمويل التنازلية. ينبغي للحكومات الغنية دعم الإصلاحات الضريبية المناسبة، وتوفير إعادة هيكلة الديون أو تخفيف أعبائها عند الضرورة.
(جنيف) - قالت "هيومن رايتس ووتش" اليوم إن بيانات جديدة من "منظمة الصحة العالمية" تكشف أن التمويل العام الذي تقدمه العديد من الحكومات للرعاية الصحية لا يرقى إلى المستوى المطلوب للوفاء بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان.
يحصل معظم الناس بالكاد على خدمات الرعاية الصحية التي تعتبرها "الأمم المتحدة" "أساسية". مع تراجع الأنظمة الصحية حول العالم نتيجة قرار الولايات المتحدة المفاجئ بوقف الكثير من المعونات والمساعدات الخارجية، ينبغي للحكومات الغنية النظر في إعادة هيكلة الديون أو تخفيف أعبائها، وهو ما من شأنه، إلى جانب الإصلاحات الضريبية المناسبة، أن يُسهم في تحسين توفير الموارد للرعاية الصحية العامة.
قال مات ماكونيل، الباحث في العدالة والحقوق الاقتصادية في هيومن رايتس ووتش: "يعيش غالبية الناس في بلدان يُقوّض فيها انخفاض التمويل العام فرص تلقيهم لرعاية صحية. يُعزى ذلك أحيانا إلى ضغوط كبيرة كالحروب والديون، وفي أحيان أخرى لا يكون سوى نتيجة لعدم إعطاء الحكومات الأولوية لهذا. وفي كلتا الحالتين، يعاني الناس".
حللت هيومن رايتس ووتش أحدث "قاعدة بيانات للإنفاق الصحي العالمي" لمنظمة الصحة العالمية، والتي تتضمن بيانات الإنفاق على الرعاية الصحية لأكثر 190 دولة حول العالم في 2022. تُظهر هذه البيانات تراجع التمويل للرعاية الصحية عموما مع انحسار جائحة "كوفيد-19" وارتفاع التضخم العالمي.
بموجب القانون الدولي، تقع على عاتق جميع الحكومات التزامات باحترام وحماية وإعمال جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يشمل الحق في الصحة، الذي يتطلب الوصول إلى مرافق وسلع وخدمات رعاية صحية جيدة. يتعين على البلدان تخصيص أكبر قدر ممكن من الموارد للنهوض بالحق في الصحة وتجنب التراجع الذي يمكن أن يحدث عندما تخفّض الحكومات تمويلها لأنظمة الرعاية الصحية أو تتقاعس عن تلبية الاحتياجات المتزايدة لشعوبها.
لا تُنفق معظم الحكومات ما يكفي لضمان قدرة أنظمة الرعاية الصحية على إعمال الحق في الصحة. في 2022، أنفقت 141 حكومة أقل من 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية عبر الوسائل العامة، وهو معيار دولي للإنفاق مقبول على نطاق واسع لتقييم الإنفاق على الرعاية الصحية. كان حوالي 84% من سكان العالم، أي 6.6 مليار نسمة، يعيشون في بلدٍ لم يُحقق فيه تمويل الرعاية الصحية العامة هذا المعيار في ذلك العام.
تعتمد الدول الغنية عموما على مصادر التمويل العامة لتمويل الرعاية الصحية أكثر من البلدان الأكثر فقرا. لكن يتفاوت مستوى الدعم المالي العام الذي تُقدمه الحكومات بشكل كبير بين البلدان الغنية والفقيرة، مما يُشير إلى أن هذا يُعزى، جزئيا على الأقل، إلى خيارات السياسات العام لكل دولة.
العلاقة بين الإنفاق على الرعاية الصحية العامة وتحسين النتائج الصحية تتعقد نتيجة عوامل متعددة، من بينها المحددات الاجتماعية والتجارية للصحة. لكن تُظهر هذه البيانات أيضا أن ارتفاع مستويات التمويل العام يرتبط عموما بتحسن فرص الحصول على الرعاية الصحية.
ينبغي أن يخضع انخفاض التمويل العام للرعاية الصحية لتدقيق من منظور حقوق الإنسان، وما لم تبرر الحكومات ذلك بشكل كامل، حسبما حددته "لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، فقد يشكل ذلك انتهاكا لحقوق الإنسان.
يُلقي نقص التمويل العام بعبء تمويل الرعاية الصحية على الأفراد والأسر، مما قد يُقوّض بشكل كبير من فرص حصولهم على تلك الرعاية، لا سيما الأفراد ذوي الدخل المنخفض أو غير المنتظم. في العديد من البلدان، بما في ذلك بعض أفقر بلدان العالم، يتمثل الخيار الوحيد أمام شرائح كبيرة من السكان في دفع التكاليف بأنفسهم إذا كانوا يريدون الحصول على الرعاية الصحية.
هذه العوائق القائمة على التكلفة في الوصول إلى الخدمات الصحية تتعارض مع الرعاية الصحية كحق من حقوق الإنسان للجميع. كما أنها قد تُقوّض قدرة الأفراد على دفع ثمن السلع والخدمات الأساسية لإعمال حقوق الإنسان الأخرى، بما يشمل السكن والغذاء والتعليم.
تُظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أنه رغم محدودية الموارد المالية وتوزعها بشكل غير متساوٍ، يمكن لحكومات عديدة القيام بما هو أفضل. لو قامت 17 حكومة منخفضة الضرائب برفع إيراداتها الضريبية في 2022 إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي - وهي عتبة "نقطة التحول" التي حددها "البنك الدولي" والتي تقل كثيرا عن المتوسط العالمي البالغ 23% من الناتج المحلي الإجمالي - لكانت جمعت أموالا أكثر مما يكفي لإنفاق 5% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية.
تواجه بلدان عديدة، وبخاصة بلدان الجنوب العالمي، ضغوطا مالية وعملية كبيرة تحول دون تمويل الرعاية الصحية بشكل كاف من الموارد العامة. ربما تكون بعض البلدان الغنية قد ساهمت في العديد من هذه الضغوط بما في ذلك من خلال المصادرة القسرية للموارد، وينبغي لها بالتالي النظر في تحمل مسؤولية المساعدة في تخفيف هذه الضغوط.
في 2022، دفعت 48 حكومة على الأقل من حكومات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لخدمة ديونها للدائنين الأجانب أكثر مما أنفقته على الرعاية الصحية لشعوبها. شكلت الأموال من الحكومات الأجنبية أو الهيئات الحكومية الدولية، مثل البنك الدولي، أكثر من 20% من الإنفاق على الرعاية الصحية في 49 بلدا في 2022، وكانت آلية التمويل الرئيسية في 16 بلدا يواجه العديد منها الآن عجزا ماليا عقب تعليق الولايات المتحدة للمساعدات والمعونات الخارجية وتخفيضات أخرى في التمويل.
في يناير/كانون الثاني 2025، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يقضي بتعليق حوالي 44 مليار دولار أمريكي من المساعدات والمعونات الخارجية، مما أدى إلى تعطيل قرابة 12.4 مليار دولار مخصصة لمعالجة الأزمات الصحية الطارئة حول العالم. مع أن الإدارة الأمريكية أصدرت لاحقا إعفاءات محدودة للسماح لبعض هذه الأموال بمواصلة دعم البرامج الحيوية التي تحمي حقوق الإنسان وتعززها، لا تزال آثار هذا التعليق تتكشّف، ومن المتوقع أن تقوّض أكثر الحق في الصحة في العديد من البلدان.
يتفاوت مدى اعتماد الحكومات على الضرائب في الإنفاق الاجتماعي، إلا أنه يمكن لتحسين الإيرادات الضريبية زيادة الموارد المالية المتاحة للإنفاق على الخدمات الاجتماعية، كالرعاية الصحية، ومعالجة أوجه عدم المساواة في التمتع بالحقوق، مع إمكانية تحسين مساءلة الحكومات.
قالت هيومن رايتس ووتش إنه يتعين على الحكومات ضمان الحق في الصحة عبر تقليل الاعتماد على مصادر التمويل التنازلية، كالتكاليف المباشرة، وزيادة الإيرادات العامة المخصصة للرعاية الصحية من خلال الضرائب التصاعدية والحد من التجاوزات الضريبية.
يتعين عليها أيضا ضمان الشفافية والمساءلة من خلال وضع أهداف محددة لإنفاقها على الصحة، مثل حد أدنى قدره 5% من الناتج المحلي الإجمالي أو 15% من الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى تحسين جمع ونشر بيانات موثوقة عن الإنفاق الصحي، تتتبع التقدم المحرز في تحقيق هذه الأهداف.
ينبغي للحكومات الغنية الوفاء بالتزاماتها بالتعاون والمساعدة الدوليين. ينبغي للحكومات الدائنة تقييم آثار مدفوعات الديون على قدرة الحكومات المدينة على الوفاء بالتزاماتها الحقوقية، وتوفير إعادة هيكلة الديون أو تخفيف أعبائها عند الضرورة، لتمكين الحكومات المدينة من تمويل الرعاية الصحية بشكل كافٍ. ينبغي لهذه الحكومات أيضا دعم الإصلاحات التي تُراعي الحقوق في القواعد الضريبية الدولية خلال المفاوضات الجارية بخصوص "اتفاقية الأمم المتحدة بشأن التعاون الضريبي الدولي"، وتقديم الدعم المالي للمبادرات العالمية متعددة الأطراف في مجال الصحة، لا سيما في ظل الانسحاب الأمريكي الأخير.
ستتيح الأشهر القليلة المقبلة فرصا متعددة للحكومات لإحراز تقدم نحو إعمال الحق في الصحة، بما في ذلك خلال "الدورة الثامنة والسبعين لجمعية الصحة العالمية" في مايو/أيار، و"المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية" في يونيو/حزيران، و"القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية" في نوفمبر/تشرين الثاني.
قال ماكونيل: "من يدفع وكيف يدفع هو عامل رئيسي في جعل أنظمة الرعاية الصحية أكثر أو أقل قدرة على الصمود في وجه الصدمات التي تعرضت لها هذه الأنظمة في السنوات الأخيرة. الحد من التفاوتات في تمويل الرعاية الصحية بين البلدان وداخلها أمرٌ أساسي لبناء أنظمة رعاية صحية تُناسب الجميع، وتضمن تمكن الجميع من الاستفادة منها".
تحليل بيانات "منظمة الصحة العالمية" المتاحة حديثًا بشأن تمويل الرعاية الصحية
حسبما وثّقت "هيومن رايتس ووتش" في 2024، كلما أنفقت دولة ما المزيد على الرعاية الصحية من مصادر عامة محلية مثل الإيرادات الضريبية أو مساهمات التأمين الصحي الاجتماعي، قلّ اعتماد نظام الرعاية الصحية فيها على التكاليف المباشرة التي يدفعها الأفراد والأسر من جيوبهم الخاصة.
تشمل التكاليف المباشرة مجموعة من التكاليف مثل أسعار الأدوية التي تُصرف بدون وصفة طبية، والخصومات، والمشاركات في السداد لسلعة أو خدمة رعاية صحية. تُفاقم جميع التكاليف المباشرة أوجه عدم المساواة في الرعاية الصحية عبر خلق عوائق أمام الحصول على الرعاية الصحية بناء على القدرة على الدفع.
تعتبر منظمة الصحة العالمية إنفاق الأسرة أكثر من 40% من دخلها على الرعاية الصحية بعد دفع ثمن أشياء كالغذاء والسكن والمرافق "نفاقا كارثيا على الصحة". وفقا لتقديرات المنظمة، يصل خطر وصول الأفراد في بلد ما إلى هذا الحد الكارثي إلى مستويات ضئيلة فقط عندما لا يتجاوز متوسط التكاليف المباشرة 15% إلى 20% من إجمالي نفقات البلد على الرعاية الصحية.
موّلت التكاليف المباشرة أكثر من 20% من نظام الرعاية الصحية في 126 بلدا في 2022، بزيادة 7% عن السنة السابقة. في المتوسط، وحدها البلدان ذات الدخل المرتفع (18.4%) أبقت المدفوعات المباشرة دون الحد الأقصى لعتبة المخاطر للإنفاق الصحي الكارثي، بينما كان المتوسط أعلى بكثير للبلدان ذات الدخل المتوسط المرتفع (30.8%)، والدخل المتوسط الأدنى (35.6%)، وذات الدخل المنخفض (42.6%).
في 55 بلدا في 2022، كانت المدفوعات المباشرة المصدر الرئيسي لتمويل الرعاية الصحية، متجاوزة جميع أشكال التمويل العام والخاص المحلية، بالإضافة إلى مصادر التمويل الأجنبية كالمعونات والمساعدات. في 27 من هذه البلدان، شكّلت المدفوعات المباشرة غالبية الأموال المُنفقة على الرعاية الصحية، أي ما يعادل أكثر من ثلاثة من كل أربعة دولارات تُنفق على الرعاية الصحية في تركمانستان، وأرمينيا، وأفغانستان، ونيجيريا.
في 2021، وهو أحدث عام تتوفر فيه بيانات كاملة، كانت هناك علاقة تتراوح بين متوسطة إلى قوية بين حصة البلد من الإنفاق على الرعاية الصحية القادم من الأموال العامة وإنجازها في "مؤشر التغطية بالخدمات من أجل تحقيق التغطية الصحية الشاملة" (مؤشر تغطية الخدمات بالتغطية الصحية الشاملة) الذي وضعته منظمة الصحة العالمية، والذي يقيّم التقدم الذي تحرزه البلدان نحو تحقيق "الهدف 3.8.1 من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة" بشأن "تغطية خدمات الرعاية الصحية الأساسية".
معظم البلدان ما زالت لا تستوي معيار الـ 5% من الناتج المحلي الإجمالي
توصلت عدة دراسات أجراها خبراء اقتصاديات الصحة إلى أن تحقيق التغطية الصحية الشاملة، وهو إطار عمل طورته الأمم المتحدة لقياس إمكانية الحصول على الرعاية الصحية وعنصر مهم من عناصر الحق في الصحة، يتطلب عموما إنفاق الحكومات من 5% إلى 6% على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية.
تماشيا مع هذه النتائج، يُظهر تحليل بيانات منظمة الصحة العالمية المتاحة حديا لسنة 2022 وجود علاقة تتراوح بين متوسطة وقوية بين الإنفاق العام على الرعاية الصحية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي والتغطية بخدمات الرعاية الصحية الأساسية، وفقا لمؤشر تغطية الخدمات بالتغطية الصحية الشاملة الخاص بمنظمة الصحة العالمية. وكانت البلدان التي استوفت معيار الـ 5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 أقل عرضة للاعتماد على التكاليف المباشرة التنازلية بطبيعتها لتمويل نظام الرعاية الصحية لديها.
في المجمل، أنفقت 141 حكومة أقل من 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية في 2022. وحدها الدول ذات الدخل المرتفع (5.8%) تجاوزت هذا المعيار، مقارنة بالبلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى (4%)، وذات الدخل المتوسط الأدنى (2.4%)، وذات الدخل المتوسط المنخفض (1.2%). لم يحقق أي بلد منخفض الدخل هذا المعيار.
من بين جميع البلدان، بلغ المتوسط العالمي للإنفاق العام على الرعاية الصحية 3.8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في 2022. رغم أن هذا المعدل أعلى من متوسط ما قبل الجائحة البالغ 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019، إلا أنه استمر في انخفاضه السنوي منذ ذروة منتصف الجائحة البالغ 4% في 2020.
لم تكن التغيرات في التمويل العام خلال الجائحة موزعة بالتساوي. بين 2019 و2022، انخفض الإنفاق على الرعاية الصحية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في 69 بلدا. وفي ثلاث من هذه البلدان - سورينام، وجزر مارشال، وكوستاريكا - انخفض الإنفاق على الرعاية الصحية من أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 5%.
يساعد تقييم الإنفاق على الرعاية الصحية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي على ضبط الاختلافات في حجم اقتصادات البلدان، لكن بمرور الوقت، قد تُخفي التغيرات في النسبة المئوية ركودا أو تراجعا في القيمة المطلقة. مثلا، إذا بقي الإنفاق كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي على حاله بينما ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما، قد يقل التمويل الذي تتلقاه المستشفيات والعيادات.
شهدت بعض الدول الأكثر تضررا من الأزمات الاقتصادية والسياسية خلال الجائحة، مثل لبنان وأفغانستان، انخفاضا في الناتج المحلي الإجمالي وفي الإنفاق على الصحة العامة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. يعني ذلك أن إنفاقها الفعلي على الرعاية الصحية انخفض أكثر مما تشير إليه التغيرات في إنفاقها على الرعاية الصحية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
في بلدان أخرى، نما الناتج المحلي الإجمالي خلال هذه الفترة بينما انخفض الإنفاق على الصحة العامة كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، مثل غويانا، وإيرلندا، وبنغلاديش، وتنزانيا. زاد الإنفاق العام في بلدان أخرى بوتيرة أسرع من الناتج المحلي الإجمالي، ما يشير إلى إعطاء أولوية أكبر للإنفاق على الرعاية الصحية، بما في ذلك العديد من بلدان الجنوب، مثل نيبال، وبنين، وساحل العاج، وزيمبابوي، وغينيا بيساو.
معظم البلدان ما زالت لا تستوفي معيار الـ 15% من الإنفاق الحكومي
في المتوسط، تُعادل ميزانية أي بلد حوالي ثلث ناتجه المحلي الإجمالي؛ في 2022، بلغت هذه النسبة 33.5% عالميا. إذا كانت نسبة الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما قريبة من هذا المتوسط العالمي، فإن 15% من ميزانيته الوطنية تُعادل حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى الاستثمار العام الذي يتوافق بشكل عام مع تحسين الوصول إلى الرعاية الصحية ونتائجها.
يُعدّ هذا المقياس البالغ 15% من الميزانية مؤشرا وهدفا جيدا آخرا للحكومات الساعية لتحسين أنظمة الرعاية الصحية. لهذا السبب جزئيا، التزمت بلدان "الاتحاد الأفريقي" صراحة بتحقيق معيار الـ 15% من الميزانية، في "إعلان أبوجا لعام 2001 بشأن فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والسل، والأمراض المعدية الأخرى ذات الصلة".
مع ذلك، أنفق 147 بلدا في 2022 أقل من 15% من ميزانياتهم على الرعاية الصحية. هذا يعني أن حوالي 6.6 مليار شخص - 83% من سكان العالم - يعيشون في بلد لم يصل إلى الحد الأدنى.
في 2022، تجاوز التمويل العام للرعاية الصحية كنسبة من الميزانيات الحكومية، مستويات ما قبل الجائحة. وعلى الصعيد العالمي، ارتفع المتوسط من حوالي 10.4% في 2019 إلى 10.8% في 2022. لكن هذه التغيرات في التمويل العام خلال الجائحة لم تكن موزعة بالتساوي.
التغيرات المعدلة حسب التضخم في نصيب الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية بين 2019 و2022
اتجاهات الإنفاق على الرعاية الصحية العامة خلال الجائحة تكون أكثر وضوحا عند تعديل البيانات لتتناسب مع التغيرات في التضخم والقدرة الشرائية والنمو السكاني.
في المتوسط، نمت القيمة الحقيقية - القوة الشرائية الفعلية - لنصيب الفرد من الإنفاق العام على الرعاية الصحية حول العالم بنحو 27% بين 2019 و2022. مع ذلك، شهد 37 بلدا انخفاضا في القيمة الحقيقية لإنفاقها على الرعاية الصحية العامة عن مستويات ما قبل الجائحة، مثل لبنان وملاوي، حيث انخفض الإنفاق بنسبة 71% و41% على التوالي بين 2019 و2021.
تمويل الرعاية الصحية هو خيار سياساتي
قدمت بعض الحكومات تمويلا عاما للرعاية الصحية أكبر بكثير من متوسط إنفاق البلدان المماثلة لها في الدخل في 2022. مثلا، في غامبيا، شكلت الأموال العامة 46.9% من إجمالي الإنفاق على الرعاية الصحية، أي أكثر من ضعف المتوسط في البلدان منخفضة الدخل (حوالي 22%) وحتى أكبر من المتوسط بين البلدان الأكثر ثراء والبلدان ذات الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط (حوالي 40%).
في المقابل، أنفقت بعض الحكومات أقل بكثير من نظيراتها. عانت بعض الحكومات، التي أنفقت على الرعاية الصحية العامة أقل بكثير من نظيراتها من نفس فئة الدخل، من نزاعات مسلحة أو اضطرابات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وربما واجهت حكومات أخرى قيودا مختلفة جعلت تمويل الرعاية الصحية صعبا، بما في ذلك الدين العام.
زيادة الإيرادات العامة للإنفاق على الرعاية الصحية
لا يوجد معيار ضريبي دولي. حددت أبحاث البنك الدولي الحد الأدنى للضريبة عند 15% من الناتج المحلي الإجمالي، أو "نقطة التحول"، والتي تصبح الدول منخفضة الدخل، بعد تجاوزها، أكثر قدرة على الانتقال إلى فئة الدخل المتوسط. لكن هذه العتبة المنخفضة نسبيا قد لا تناسب جميع الدول.
وفقا لبيانات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، التي تنشر بيانات ضريبية عن 130 دولة، بلغ إجمالي الإيرادات الضريبية نحو 23% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط في جميع الدول في 2022. وحدها الدول ذات الدخل المنخفض سجلت متوسط إيرادات (13.5%) أقل من معيار 15% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، وجاءت الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى (17.3%) والمتوسط الأعلى (20.1%) والمرتفع (32.0%) أعلى منه.
وتظهر مقارنة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية بنسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي أن البلدان التي أنفقت مبالغ أقل على الرعاية الصحية (مقارنة بالمعايير الدولية) حققت عائدات ضريبية أقل بشكل كبير.
الدول الـ 43 التي لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بيانات ضريبية منها، والتي أنفقت أكثر من 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية في 2022، بلغت عائداتها الضريبية 31.8% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط. أما الدول الـ 87 الأخرى التي لم تحقق معيار الـ 5% في 2022، بلغت عائداتها الضريبية 18.8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط.
لم تتمكن أي دولة من إنفاق أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية في 2022 مع عائدات ضريبية أقل من 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
بإمكان العديد من الحكومات ذات الضرائب المنخفضة للغاية زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية بشكل كبير بزيادة الإيرادات الضريبية إلى هذا المقياس الذي يساوي 15% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يزيد قليلا عن المتوسط الحالي للبلدان المنخفضة الدخل.
بالنسبة لـ 17 من هذه الحكومات، كما هو موضح أدناه، فإن رفع الإيرادات الضريبية إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي من مستوياتها الحالية قد يُدرّ أموالا إضافية كافية لتغطية نفقات الرعاية الصحية البالغة 5% من الناتج المحلي الإجمالي بالكامل. يمكن لـ 35 حكومة إضافية تحقيق معيار الـ 5% بزيادة الإيرادات الضريبية إلى متوسط فئة دخلها.
مثلا، حققت حكومة سريلانكا حوالي 7.4% من الناتج المحلي الإجمالي من الضرائب في 2022، وأنفقت حوالي 1.8% فقط من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية. يتطلب تحقيق معيار الإنفاق على الرعاية الصحية البالغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي إنفاق 108 دولار أمريكي إضافية لكل فرد من الإنفاق العام على الرعاية الصحية، بينما يمكن أن تُولّد زيادة الضرائب إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي زيادة قدرها 252 دولار أمريكي لكل فرد.
قد تكون زيادة الإيرادات الضريبية صعبة سياسيا وعمليا، وخصوصا لحكومات البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط التي تواجه ضغوطا خارجية شديدة، بما فيها السباق العالمي نحو القاع في معدلات ضرائب الشركات، والشروط الضارة المرتبطة بالقروض المقدمة من جهات فاعلة مثل "صندوق النقد الدولي". بالإضافة إلى ذلك، تدعم بعض الضرائب إعمال الحقوق بشكل أفضل من غيرها.
مثلا، وكما أقرّ مؤخرا بيان صادر عن لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن ضرائب القيمة المضافة تنازلية بطبيعتها، ويمكن أن تعوض جزئيا عن منافع زيادة الإنفاق الاجتماعي التي تتيحها هذه الضرائب. لذا، من المهم للحكومات ضمان تحقيق عائداتها الضريبية بطريقة منصفة. وينبغي للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، التي تتفاوض حاليا على أول معاهدة عالمية للتعاون الضريبي الدولي، أن تضغط أيضا من أجل إصلاحات للقواعد الضريبية الدولية تتماشى مع الحقوق.
الدَين عائق كبير أمام الإنفاق على الرعاية الصحية بالنسبة للعديد من الحكومات
تعزيز التعاون الدولي بشأن حل مشكلة الديون العامة أمر حيوي أيضا لمساعدة الحكومات على زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، حيث تعرقل هذه الديون بشكل كبير جهود بلدان كثيرة، مثل سريلانكا، لتمويل الخدمات العامة.
تنفق حكومات كثيرة مبالغ طائلة لسداد الديون التي تراكمت عليها مع مرور الوقت. أحيانا قد تتجاوز تكلفة خدمة هذا الدين العام الإنفاق العام على الرعاية الصحية بشكل كبير.
يتضمن "نظام الإبلاغ عن الديون" التابع للبنك الدولي بيانات 116 دولة من أصل 132 دولة من ذوات الدخل المنخفض والمتوسط. عند قياسها بالدولار الأمريكي للفرد، أنفقت 48 دولة منها في 2022 على خدمة ديونها الخارجية العامة والمضمونة حكوميا أكثر مما أنفقته على الرعاية الصحية.
مثلا، أنفقت حكومة منغوليا 158 دولار أمريكي للفرد على الرعاية الصحية من الموارد العامة في 2022، ما يعادل حوالي 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن في العام نفسه، أنفقت منغوليا حوالي 631 دولار أمريكي للفرد في البلاد لسداد التزاماتها للدائنين.
يمكن أن تشكل التزامات الديون الخارجية هذه ضغوطا كبيرة على قدرة العديد من الحكومات على تمويل الرعاية الصحية بشكل كاف. من بين 141 حكومة أنفقت أقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية عبر الموارد العامة في 2022، دفعت 30 حكومة على الأقل للدائنين أكثر من المبلغ اللازم لزيادة الإنفاق العام على الرعاية الصحية للوصول إلى معيار 5%. مثلا، لتحقيق 5% من الناتج المحلي الإجمالي، كانت منغوليا بحاجة إلى زيادة الإنفاق العام على الرعاية الصحية بمقدار 95 دولار إضافي للفرد في 2022؛ مجرد 15% مما دفعته للدائنين في نفس العام.
لتحميل البيانات المستخدمة في هذا التقرير: