People pull plastic water containers down a muddy street amid destroyed buildings

الإبادة وأفعال الإبادة الجماعية

تعمُّدُ إسرائيل حرمان الفلسطينيين في غزة من المياه

فلسطينيون عائدون إلى خان يونس بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، يجرون حاويات مياه لتلبية احتياجاتهم الأساسية في ظل ظروف كارثية في 6 مايو/أيار 2024. © 2024 علي جادالله/وكالة الأناضول عبر غيتي إيمجز


 

الملخص

منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، تعمّدت السلطات الإسرائيليّة عرقلة حصول الفلسطينيين على ما يكفيهم من المياه للبقاء على قيد الحياة في قطاع غزّة.

وفقا لـ"منظمّة الصحّة العالميّة"، يحتاج الفرد ما بين 50 و100 لتر من المياه يوميا لضمان "تلبية أبسط احتياجاته الأساسيّة".[1] في حالات الطوارئ المطوّلة، الحدّ الأدنى المطلوب من المياه هو 15 لتر للفرد يوميا للشرب والاغتسال.[2] لكن، بين أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 وسبتمبر/أيلول 2024، تسبّبت أفعال السلطات الإسرائيليّة في حرمان أكثر من مليونَي فلسطيني يعيشون في غزّة من الحصول حتى على الحد الأدنى من المياه، ما ساهم في الوفيات وانتشار الأمراض.[3] بالنسبة للكثير من سكّان غزّة، فإنّ الجزء الأكبر من كميّة المياه التي حصلوا عليها، أو كلّها، كانت غير صالحة للشرب.

في ديسمبر/كانون الأول 2023، قال أب نازح إلى مدرسة في رفح لـ هيومن رايتس ووتش: "إذا لم نجد مياه صالحة للشرب، نشرب من ماء البحر.[4] سبق أن اضطررت إلى شرب مياه البحر مرّات عدة. لا تتصوّر كم نعاني".[5]

© 2024 Human Rights Watch
© 2024 Human Rights Watch

بسبب التدمير الذي تعرّض له نظام الرعاية الصحيّة في غزّة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بما في ذلك تتبّع الأمراض، فإنّ الحجم الحقيقي للأضرار والقتلى جرّاء أفعال السلطات الإسرائيليّة التي حرمت الفلسطينيين من المياه ما زال غير معلوم، وقد لا يُفهم حجمه الكامل أبدا. لكن يُرجّح أيضا أنّ هذه السياسات ساهمت في آلاف الوفيات.[6] قال أطباء وممرّضون لـ هيومن رايتس ووتش إنّهم شاهدوا العديد من الرُضّع، والأطفال، والبالغين يموتون بسبب سوء التغذية، والجفاف، والمرض.[7]

أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلات مع 66 فلسطينيّا في غزة بين 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و23 يوليو/تموز 2024، حدّثوها عن شبه استحالة تأمين المياه لأنفسهم وعائلاتهم. كما قابلت هيومن رايتس ووتش أربعة موظفين في "مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة"، و31 طبيبا وعاملا في مجال الرعاية الصحيّة، و15 شخصا يعملون مع وكالات الأمم المتحدة ومنظمات إغاثة دوليّة في غزة، حدّثوها عن أفعال ارتكبتها القوات الإسرائيليّة وتسببت في حرمان فلسطينيي غزّة من الماء، والآثار الصحيّة المدمّرة لذلك، بما فيها الوفاة. كما حلّلت هيومن رايتس ووتش صورا من الأقمار الصناعيّة، وصورا فوتوغرافية وفيديوهات تمّ التحقق منها، التُقطت منذ بداية الأعمال العدائيّة وحتى أغسطس/آب 2024. تُظهر هذه الصور أضرارا وتدميرا واسعا للبنية التحتيّة للمياه والصرف الصحّي، بما في ذلك التدمير الذي يُفترض أنه متعمّد ومنهجي للألواح الشمسيّة التي تغطّي أربعا من محطات معالجة مياه الصرف الصحّي الستّ في غزّة من قبل القوّات البريّة الإسرائيليّة، بالإضافة إلى تصوير جنود إسرائيليين أنفسهم وهم يهدمون خزّان مياه رئيسي.[8]

لم تردّ السلطات الإسرائيليّة على المراسلات في 10 يونيو/حزيران و29 نوفمبر/تشرين الثاني التي تطلب فيها هيومن رايتس ووتش معلومات عن هجمات محدّدة على البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحّي وثّقتها المنظمة.

عبّرت السلطات الإسرائيليّة بوضوح عن نيتها حرمان سكّان غزّة من الضروريات بعد في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ففي 9 أكتوبر/تشرين الأول، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي حينذاك يوآف غالانت بـ"حصار شامل" على غزة، قائلا: "لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا مياه، ولا وقود، كل شيء مغلق".[9] وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ردّد وزير الطاقة آنذاك ووزير الخارجية الحالي يسرائيل كاتس الدعوة إلى قطع الكهرباء والمياه والوقود، وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، دعا إلى قطع المساعدات الإنسانيّة أيضا.[10]

منذ ذلك الحين، حوّلت السلطات والقوات العسكريّة الإسرائيليّة هذه التصريحات إلى أفعال، فقطعت إمدادات المياه التي تُضَخّ من إسرائيل إلى غزة، ثم قيّدتها، وقطعت إمدادات الكهرباء من إسرائيل إلى غزة، التي كانت ضروريّة لتشغيل مضخّات المياه ومحطّات التحلية والبنية التحتيّة للصرف الصحي داخل غزة، ومنعت وقيّدت وصول الوقود اللازم لتشغيل المولّدات في غياب الكهرباء. كما منعت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانية من تسليم مواد حيويّة تتعلّق بالمياه، وغيرها من المساعدات الإنسانية من دخول غزة؛ وألحقت أضرارا بالبنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي وفي بعض الحالات دمرتها عمدا، في هجمات شملت مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية، ومنعت إجراء إصلاحات من خلال منع استيراد جميع المواد المتعلقة بالمياه تقريبا. وقد قتلت بعض الضربات الإسرائيلية عمال مرافق المياه أثناء محاولتهم إجراء إصلاحات، في حين دمّرت ضربات أخرى المستودع الأساسي لمرافق المياه في غزة، كانت تحتوي على قطع غيار ومعدّات وإمدادات أساسية لإنتاج المياه.[11]

في 26 يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت "محكمة العدل الدولية" تدابير مؤقتة تضمّنت إلزام إسرائيل بمنع وقوع الإبادة الجماعية على الفلسطينييّن في غزة، وتسهيل توفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة، ومنع التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية ومعاقبته.[12] اعتُمدت هذه التدابير ضمن قضيّة رفعتها جنوب أفريقيا ادّعت فيها أنّ إسرائيل تنتهك "اتفاقية الإبادة الجماعية" لعام 1948. في ذلك الوقت، رأت محكمة العدل الدولية أنّ "العديد من الفلسطينيين في قطاع غزة لا يحصلون على المواد الغذائية الأساسية، والمياه الصّالحة للشرب، والكهرباء، والأدوية الأساسيّة أو التدفئة".[13] ومنذ ذلك الحين، أصدرت محكمة العدل الدولية تدبيرين مؤقتين آخرين، مؤكدة بذلك أوامرها السابقة، وأعلنت في مايو/أيار أن الأوامر يجب أن "تُنفَّذ فورا وفعليا".[14]

منذئذ، خرقت إسرائيل إجراءات محكمة العدل الدولية، وشمل ذلك منع ˝الحرمان من الحصول على ما يكفي من الغذاء والمياه˝.[15]

تعمّد حرمان السكّان من الماء

في الأيام التالية للهجمات التي شنّتها الفصائل الفلسطينية المسلّحة بقيادة "حماس" في جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدلى مسؤولون إسرائيليون كبار، منهم وزير الدفاع السابق يوآف غالانت، ووزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، ووزير الطاقة السابق ووزير الخارجية الحالي يسرائيل كاتس بتصريحات علنيّة عبّروا فيها عن هدف الحكومة المتمثل في حرمان المدنيين في غزّة من المياه.[16]

منذ ذلك الوقت، استمرّت السلطات الإسرائيلية في الدعوة إلى معاقبة سكّان غزة جماعيا، بسبل تشمل قطع المياه وغيرها من المواد الأساسية للحياة. وفي حين أنّ السلطات الإسرائيلية أدلت أيضا بتصريحات تدعو إلى اتخاذ تدابير لاستهداف حماس والفصائل الفلسطينيّة المسلّحة في غزة تحديدا، إلا أنّ أفعال السلطات وصلت إلى حدّ قطع المياه وغيرها من المواد الأساسية للحياة أو تقييدها لجميع سكان غزة. هذه التدابير استمرّت حتى بعد أن أمرت محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2024 وفي قرارات لاحقة السلطات الإسرائيلية بالكفّ عن انتهاك "اتفاقية الإبادة الجماعية". في 5 أغسطس/آب، على سبيل المثال، أكّد وزير الماليّة الإسرائيلي، ووزير الإدارة المدنيّة بوزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش أنّ إسرائيل لديها ما يبرّر حرمان السكان المدنيّين في غزة من المياه.[17]

قطع وتقييد المياه والكهرباء والوقود

مباشرة بعد أن صرّحت السلطات الإسرائلية بأنها عازمة على قطع المياه عن غزة في أعقاب هجوم الفصائل المسلّحة بقيادة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، كان ذلك تماما ما فعلته. ففي 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قطعت المياه التي تُضخ من إسرائيل إلى غزة، والتي تمثل حوالي 12% من إجمالي إمدادات المياه في القطاع، وأكثر من نصف مياه الشرب فيه.[18]

في حين أنّ السّلطات الإسرائيليّة استأنفت ضخ بعض الماء إلى غزة في نهاية أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، إلّا أنها عمدت بدءا من سبتمبر/أيلول 2024 إلى تقييد كميّة المياه التي تدخل عبر الأنابيب.[19] لكن كميّة المياه من الأنابيب هذه لم تكن كافية لتعويض الانخفاض في إنتاج المياه الناجم عن قطع السلطات الإسرائيلية إمدادات الكهرباء، ومنع استيراد الوقود وتقييده، وإتلاف البنية التحتية للمياه أو تدميرها.

كما قطعت السلطات الإسرائيلية الكهرباء التي تزوّد بها غزة، ما أغرق القطاع في الظلام وأعاق تشغيل كل البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي في غزة تقريبا، فضلا عن البنية الأساسيّة الأخرى اللازمة لتوفير السلع والخدمات الأساسية للحياة، بما فيها المستشفيات.[20]

في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة" (أوتشا): "ما عادت مياه الصنابير أو المياه المستخدمة في الأغراض المنزليّة تصل إلى معظم سكّان قطاع غزة من مقدّمي الخدمات".[21]

كما منعت السلطات الإسرائيلية في البداية دخول الوقود إلى غزة بالكامل، ثم فرضت قيودا شديدة عليه لاحقا. عرقلة إسرائيل دخول الوقود كانت "مُنهِكة" بشكل خاص للبنية الأساسية للمياه والصرف الصحّي والنظافة في غزة، التي كانت تعتمد على مولّدات تعمل بالوقود بعد أن قطع المسؤولون الإسرائيليون الكهرباء.[22] بعد قطع جميع واردات الوقود عن غزة لمدة خمسة أسابيع في بداية الأمر، سمحت السلطات الإسرائيلية فقط بدخول ما يقارب خُمس الوقود اللازم للأنشطة الإنسانيّة الأساسيّة من 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى 31 أغسطس/آب 2024.[23]

نتيجة لذلك، أصبح الجزء الأكبر من البنية الأساسية للمياه والصرف الصحّي في مختلف أنحاء غزة خارج الخدمة، وفقا للأمم المتحدة.[24] كما أن الوقود ضروريّ للمستشفيات، وجهود الإنقاذ، وتوصيل المساعدات، وتشغيل المخابز، من بين احتياجات أساسيّة أخرى.[25] رغم أن السّلطات الإسرائيليّة سمحت بدخول كميّات متفاوتة من الوقود منذ بدء الأعمال العدائيّة، إلا أنّ هذه الكميّات أقل مما يكفي لتشغيل البنية الأساسية للمياه والصرف الصحي في غياب الكهرباء، وكانت أقل بكثير من مستويات ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، رغم تزايد الحاجة إليها.

في 29 فبراير/شباط 2024، صرّح "اتحاد بلديات قطاع غزة" أنّ "استنزاف الوقود أثر بشدة على توفير الخدمات الأساسيّة، ما أدّى إلى عجز كبير في إمدادات المياه، وتراكم النفايات الصلبة، وتسرّب مياه الصرف الصحي إلى الشوارع والمناطق السكنية".[26]

وفقا لـ أوتشا، بين أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 ومنتصف فبراير/شباط 2024، بلغ إنتاج المياه في غزة 5.7% فقط من المستوى الذي كان عليه قبل الأعمال العدائية الحاليّة.[27] كما قدّرت منظمة "أوكسفام" أنّ حوالي 80% من المياه المنتجة تضيع في التسريبات بسبب الأضرار التي لحقت بشبكة المياه خلال الأعمال العدائية، ما يعني أن كمية المياه التي يتلقاها الناس أقل بكثير من الكميّة المنتجة.[28]

في 28 مارس/آذار، أعادت محكمة العدل الدولية تأكيد أمرها الصادر في يناير/كانون الثاني وأشارت إلى تدابير إضافية تأمر السلطات الإسرائيلية بتوفير "دون عوائق" و"على نطاق واسع... الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية الضرورية بشكل عاجل بما في ذلك الغذاء والمياه والكهرباء والوقود والمأوى والملابس ومتطلبات النظافة والصرف الصحي".[29] وقد تجاهلت السلطات الإسرائيلية هذه الأوامر.[30]

حتى سبتمبر/أيلول 2024، كانت السلطات الإسرائيلية ما تزال مستمرّة في قطع الكهرباء عن غزة. رغم أنّها استأنفت ضخ بعض المياه إلى غزة في أبريل/نيسان 2024، إلّا أنّ المجموع الكلي للمياه المنتجة – بما فيها تلك الآتية من خطوط الأنابيب ومحطات تحلية المياه والآبار وغيرها من المصادر – ارتفع فقط إلى ما بين 10 و25 % من مستويات ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل.[31] حتى أغسطس/آب 2024، ظلت مستويات إنتاج المياه عند نحو 25 % من مستويات ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، وكمية المياه التي كان الفلسطينيون في غزة قادرين على الحصول عليها كانت أقلّ بكثير من كميّة المياه التي يحتاج إليها سكان غزة للبقاء على قيد الحياة.[32]

في أحدث وأدقّ دراسة لقياس الحصول على المياه في مختلف أنحاء غزة، قال قرابة ثلثي الأسر التي خضعت للتقييم في أغسطس/آب 2024 إنّها تحصل على أقل من ستة لترات من مياه الشرب والطبخ للشخص الواحد في اليوم، وهي أقل من تسعة لترات، الكميّة الموصى بها وفقا للمعايير الدولية، و"يواجه حوالي 1.4 مليون شخص ظروفا غير آمنة عند استخدام مرافق الصرف الصحي".[33] لم يتمكن المسح من جمع البيانات من بعض المناطق التي "يصعب الوصول إليها".[34]

كما هُجّر كل مدني تقريبا في غزة منذ بدء الأعمال العدائية، مع نزوح الكثير منهم إلى مناطق تفتقر إلى البنية الأساسية الكافية للمياه، ما يقوّض قدرة الناس على الحصول على المياه بغض النظر عن التحسينات الضئيلة في كمية الإنتاج.[35]

منع المساعدات المتعلّقة بالمياه

فرضت السلطات الإسرائيليّة أيضا قيودا كبيرة على دخول المساعدات الإنسانيّة إلى غزّة، ومنعت إيصال المساعدات إلى مناطق عدّة داخل غزّة في أوقات مختلفة، ومنعت بشكل خاص الإمدادات المتعلّقة بمعالجة المياه وإنتاجها.[36]

قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، كانت هناك حوالي 500 شاحنة تدخل غزة يوميا محمّلة بالبضائع التجارية والإنسانية.[37] لكن من 21 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 إلى 5 مايو/أيار 2024، حين سيطرت إسرائيل على معبر رفح وأغلقته، انخفض عدد الشاحنات التي تدخل يوميا إلى ما معدله 132 شاحنة فقط؛ ومن 5 مايو/أيار إلى 3 أغسطس/آب، كان معدلها 33 شاحنة فقط يوميا.[38]

منع الجيش الإسرائيلي الكثير من المساعدات، التي كانت تدخل قطاع غزة، من الوصول إلى الشمال. رغم أنّ الجيش الإسرائيلي أمر سكّان شمال غزة كلّهم، الذين يزيد عددهم عن مليون شخص، بإخلاء المنطقة في 13 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 - وهي واحدة من الإخلاءات القسرية العديدة التي نفذتها الحكومة الإسرائيلية والتي ترقى إلى جريمة حرب تتمثل في التهجير القسري – إلا أن الكثير منهم ظلّوا هناك، ومنهم من لم يتمكن من الفرار بسبب العمر أو الإعاقة أو أسباب أخرى، وآخرون عادوا لاحقا.[39] لم يتمكن من بقي من الحصول على مياه الشرب من 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى 15 أبريل/نيسان 2024 على الأقل.[40] ˝نظام الإخلاء˝ الإسرائيلي، الذي هجّر قسرا معظم الناس في غزة، يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.[41]

لعدّة أشهر، عمدت السلطات الإسرائيلية بشكل متكرّر إلى منع المساعدات التي دخلت غزة، بما فيها الوقود اللازم لتشغيل المولّدات الكهربائية للمياه والصرف الصحي، من الوصول إلى مناطق في الشمال، رغم صدور تقارير عن الجوع والعطش الشديدين اللذين يخضع لهما السكان هناك، وهو نمط وصفته أوتشا بأنه "منهجي".[42]

في 24 فبراير/شباط، قالت مجموعة من المنظمات الإنسانيّة العاملة في غزة: "ليس هناك أيّ مساعدات توزّع خارج رفح تقريبا"، وهي الأقصى جنوبا من بين محافظات قطاع غزّة الأربع.[43]

وفي المجموعة الثالثة من التدابير المؤقتة التي أقرتها محكمة العدل الدولية في مايو/أيار، أعادت المحكمة تأكيد أمريها السابقين، وأمرت إسرائيل بإبقاء معبر رفح مفتوحا "لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية العاجلة دون عوائق على نطاق واسع".[44] وقد انتهكت إسرائيل هذه الأوامر.[45] إذ تغلق القوات الإسرائيلية معبر رفح منذ 5 مايو/أيار.

بعد شهر على الأقل من بدء الجيش الإسرائيلي هجومه البرّي على رفح، لم تكن هناك أي مياه أو مساعدات إنسانيّة أخرى في المدينة، إذ أمعن الجيش في تهجير الجزء الأكبر من حوالي مليون شخص كانوا قد فرّوا من أماكن أخرى إلى هناك.[46] في كثير من الحالات، هُجّر الناس إلى مناطق لا تتوفر فيها خدمات، بما في ذلك الغذاء والمياه والمساعدات.[47] وضمن الهجوم البرّي على رفح، سيطر الجيش الإسرائيلي على المعبر الحدودي وأغلقه، وهو نقطة حيويّة لدخول المساعدات.[48]

منعت السلطات الإسرائيليّة دخول جميع المساعدات الإنسانيّة المتعلقة بالمياه تقريبا إلى غزة، بما فيها أنظمة تنقية المياه، وخزانات المياه، والمواد اللازمة لإصلاح البنية التحتية للمياه.[49] قال عاملون عدة مع منظمات إغاثية إنسانية لـ هيومن رايتس ووتش إنّ السلطات الإسرائيلية تمنع دخول المواد التي تعتبرها "مزدوجة الاستخدام"، والتي تقول إنها قد تُستخدم لأغراض عسكريّة. قال عمال الإغاثة إنّ السلطات الإسرائيليّة لم تقدّم قائمة بالعناصر المشمولة أو تفسيرات مكتوبة، ولا تسمح بالاعتراض على رفض المواد المنقذة للحياة.[50]

كما هاجمت القوات الإسرائيليّة عمال إغاثة، إذ شنّت ما لا يقل عن ثماني هجمات على قوافل ومنشآت إنسانيّة في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما أسفر عن مقتل أو إصابة ما لا يقل عن 31 عاملا ومن معهم، رغم أنّ منظمات الإغاثة قدّمت إحداثياتها للسلطات الإسرائيليّة لضمان حمايتهم.[51] حتى 28 أغسطس/آب 2024، قُتل أكثر من 294 عامل إغاثة في الأعمال العدائية.[52]

إضافة إلى ذلك، أوقفت حكومات عدّة كل تمويلها لـ"وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا)، التي كانت لها أهميّة كبرى في توفير المياه والغذاء والمأوى وغيرها من الخدمات الحيوية لمئات آلاف الفلسطينيين في غزّة، بعد أن ادّعت الحكومة الإسرائيلية أنّ 19 من موظفي الوكالة البالغ عددهم 30 ألفا شاركوا في الهجمات التي قادتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.[53] في 5 أغسطس/آب 2024، وجد تحقيق لـ"مكتب خدمات الرقابة التابع للأمم المتحدة" أنّه في عشر حالات لم تكن هناك أدلّة كافية، أو لم تكن هناك أي أدلّة أصلا، تدعم تورّط الموظفين، وأنّ الموظفين التسعة المتبقين ربما شاركوا في الهجمات، وجميعهم طُردوا أو توفوا منذ ذلك الحين.[54] خلُصت مراجعة مستقلّة أخرى إلى أنّ اللوم يجب ألا يُوجَّه إلى الوكالة بحد ذاتها.[55] رغم أنّ جميع البلدان، بخلاف الولايات المتحدة، استأنفت تمويل الأونروا، إلا أنّ انخفاض مستوى التمويل، ورفض الحكومة الأمريكية الوفاء بالمساهمات التي كانت تعهّدت بها منذ أواخر 2023، وامتناعها عن أيّ تمويل جديد حتى مارس/آذار 2025 على الأقل، كان لها تأثير شديد على قدرة الوكالة على الاستجابة للاحتياجات الهائلة في غزة.[56]

لطالما شنّت الحكومة الإسرائيلية حملات ضدّ الأونروا ودعت إلى إغلاقها.[57] في 28 أكتوبر/تشرين الأوّل 2024، أقرّ البرلمان الإسرائيلي مشروعَيْ قوانين، من المقرّر أن يدخلا حيّز التنفيذ في يناير/كانون الثاني 2025، ويهدفان إلى منع الأونروا من العمل داخل "الأراضي السياديّة" لإسرائيل، ومنع السلطات الإسرائيليّة من أي اتصال بالأونروا وممثليها، وإنهاء اتفاق يونيو/حزيران 1967 بين إسرائيل والأونروا، الذي يُسهّل عمليات الوكالة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.[58] صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنّ مشروعَي القوانين "يمكن أن يمنعا الأونروا من مواصلة عملها الأساسي" في فلسطين.[59] هذه التشريعات لن تهدّد المساعدات المقدّمة إلى غزة فحسب، بل ستقوّض القدرة الإقليمية للأونروا على تقديم المساعدات الإنسانية، والتعليم، وغيرها من الخدمات الأساسيّة.[60]

"مجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة في دولة فلسطين" (WASH Cluster) هي مجموعة تضمّ منظمات دوليّة، ووكالات تابعة للأمم المتحدة، ومنظمات غير حكوميّة دوليّة ومعاهد أكاديمية بقيادة اليونيسف، مهمّتها تنسيق الاستجابة الإنسانية في المسائل المتعلقة بالمياه والصرف الصحي والنظافة في الضفة الغربية وغزّة.[61] قال عامل في مجال الاستجابة المتعلقة بالمياه والصّرف الصحّي والنظافة في غزة إنّ المجموعة واجهت الكثير من التحديات من جانب السلطات الإسرائيليّة، منها منع إصلاح البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي والنظافة، ومنع دخول المواد اللازمة للمياه والصرف الصحّي والنظافة إلى غزة، وعدم ضمان سلامة الذين يقدّمون مساعدات متعلقة بالمياه والصرف الصحّي والنظافة.[62] قال: "لم يسبق أن اشتركت في استجابة أصبح الوضع فيها بعد شهرين من وصولي أسوأ مما كان عليه قبل مجيئنا. هذا كل ما في الأمر. أوقفتنا [السلطات الإسرائيلية] على العديد من المستويات".[63]

تدمير البنية الأساسيّة للمياه وعرقلة الإصلاحات

خلُصت أبحاث أجرتها هيومن رايتس ووتش إلى أنّه منذ بدء الأعمال العدائية، هاجمت القوات الإسرائيلية عمدا، وألحقت أضرارا بالعديد من مرافق المياه والصّرف الصحّي الرئيسية أو دمّرتها، منها أربع محطات لمعالجة مياه الصّرف الصحي من أصل المحطات الست في قطاع غزة، وخزان مياه أساسي يزوّد الناس بالمياه في رفح جنوبي القطاع. في حالات عدّة، وجدت هيومن رايتس ووتش أدلّة على أنّ القوات البرّية الإسرائيليّة كانت تسيطر على مناطق في الأوقات التي دُمّرت فيها بُنى أساسيّة للمياه والصرف الصحّي. من الأدلّة على ذلك فيديو لجنود يضعون متفجّرات داخل خزان مياه ويصِلونها بأسلاك، وصور بالأقمار الصناعية تظهر آثار سير جرّافة على مجموعات كبيرة من الألواح الشمسية المدمّرة التي كانت تُشغّل محطات مياه الصرف الصحي. تشير هذه الأدلة إلى أنّ التدمير لم يكن مجرّد نتيجة عرضيّة لهجمات على أعيان عسكرية، بل كان متعمدا.

الأضرار الإجمالية التي لحقت بالبنية الأساسيّة للمياه في غزة أثناء الأعمال العدائية كبيرة جدّا. في يناير/كانون الثاني 2024، قدّر "البنك الدولي" وشركة "إيبسوس"، المتخصصة في أبحاث السوق، أنّ حوالي 60% من البنية الأساسية للمياه والصرف الصحي والنظافة في غزة قد تضرّرت أو دُمّرت بسبب الأعمال العدائية.[64] حتى أغسطس/آب 2024، أفادا بأن نسبة البنية التحتية للمياه والصرف الصحّي التي دمّرت أو تضرّرت ارتفعت إلى 84.6%.[65] وبينما لم يُمكن تحديد الطرف المسؤول عن الأضرار أو التدمير من هذه التقارير، فإن التأثير المدمر على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي أثناء الأعمال العدائية يزيد احتمال إلحاق الضرر بالمدنيين في الحالات التي وثّقتها هيومن رايتس ووتش حيث تعمدت القوات الإسرائيلية تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة.  

في 24 يوليو/تموز، أفادت أوتشا بأن "وضع المياه [في غزة] [مستمر] في التدهور".[66] وبين 24 و27 يوليو/تموز 2024، نشر جندي إسرائيلي فيديو يظهره هو وجنودا آخرين وهم يضعون متفجرات لتدمير خزان مياه أساسي يخدم رفح في الجنوب. ينتهي الفيديو، الذي حُذف لاحقا ولكن أعيد نشره من قبل حسابات أخرى، بلقطة واسعة للخزان وهو يُدمّر في انفجار.[67]

عرقلة التصليحات والمساعدات والاعتداء على عمال المياه

كما هاجمت القوات الإسرائيليّة وقتلت عمالا في مجال المياه أثناء قيامهم بتصليحات وغيرها من الأنشطة لجلب المزيد من المياه للسكان، ودمّرت المواد اللازمة لإصلاح المياه. في يناير/كانون الثاني 2024، هاجمت القوّات الإسرائيليّة أيضا المستودع الرئيسي لمصلحة مياه بلديات الساحل، حيث كان العديد من الموظفين وأسرهم يحتمون، وأشعلت النار بمعدّات للمياه والصرف الصحي تبلغ قيمتها 8 ملايين دولار، كانت مخزّنة هناك، ما تسبّب في تدمير قدرة المصلحة على إصلاح البنية التحتية المتضررة.[68]

كما هاجمت عمال المياه الذين كانوا يحاولون إجراء تصليحات أو القيام بأعمال أخرى متعلقة بالمياه. وفي أعقاب عملية تُعرف بـ فك النزاع، تهدف إلى تمكين المرور الآمن للعاملين في المجال الإنساني في النزاعات، تمت مشاركة إحداثيات عمال المياه مع الجيش الإسرائيلي قبل إرسالهم لإجراء التصليحات، وفقا لموظفي مصلحة مياه بلديات الساحل.[69]

حجم الدمار الذي أصاب شبكة المياه بسبب الأعمال العدائية، وعدم القدرة إجمالا على إجراء تصليحات، تسببا في خسارة كميات كبيرة من المياه التي تدخل شبكة المياه في غزة. وقد قدّرت مصلحة مياه بلديات الساحل وأوكسفام أن حوالي 80% من المياه المنتجة في غزة، حتى يوليو/تموز 2024، كانت تضيع في التسرّبات في الشبكة، وكذلك في الانسكاب بسبب نقلها بالصهاريج.[70]

المرض والوفاة بسبب الحرمان من المياه والصرف الصحي

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، صرّح بيدرو أروخو-أغودو، المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي، أنّ إسرائيل تستخدم المياه "سلاحَ حرب" من خلال جعل توفير هذه الخدمة الأساسية مشروطا بتحقيق أهداف قتاليّة.[71] قال أروجو أغودو: "كلّ ساعة تمنع فيها إسرائيل توفير مياه الشرب الآمنة في قطاع غزة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، تجعل سكّان غزة معرّضين لخطر الموت من العطش والأمراض المرتبطة بنقص مياه الشرب الآمنة".[72]

في يوليو/تموز 2024، بعد إجراء اختبارات في الأردن، أعلنت وزارة الصحّة في غزة أنّه عُثر على فيروس شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي التي تمر بين الخيام المكتظة بالناس الذين هُجّروا بسبب الغارات الجويّة الإسرائيليّة.[73] بعد شهر واحد، في 16 أغسطس/آب، أكّدت وزارة الصحّة الفلسطينيّة أوّل حالة إصابة بشلل الأطفال لدى طفل غير ملقح عمره عشرة أشهر في غزة ــ وهي أوّل حالة تظهر في غزة منذ 25 عاما.[74] في التاريخ نفسه، أفادت "منظمة الصحة العالمية" عن وجود ثلاثة أطفال يحملون أعراض الشلل الرخو الحادّ، ما أثار مخاوف من احتمال انتشار الفيروس بين الأطفال في غزة. في 23 أغسطس/آب، أكّدت منظمة الصحة العالميّة أن الطفل البالغ من العمر عشرة أشهر، الذي تم اكتشاف أول حالة إصابة بشلل الأطفال لديه، صار مشلولا.

أفادت منظمة الصحة العالمية أنّ استهلاك المياه الملوثة زاد بشكل كبير من خطر الإصابة بالعدوى البكتيرية، مثل الإسهال.[75] وفقا لليونيسيف، "ارتفعت حالات الإسهال لدى الأطفال دون سنّ الخامسة من 48 ألف حالة إلى 71 ألف حالة في أسبوع واحد فقط، بدءا من 17 ديسمبر/كانون الأول".[76] تمثل الحالات اليوميّة الجديدة المسجّلة في ديسمبر/كانون الأول، والتي بلغ عددها 3,200 حالة، زيادة بنسبة 2,000 % عن المعدل الوسطي للحالات قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.[77] وفقا لمنظمة الصحّة العالميّة، حتى أكتوبر/تشرين الأوّل، تمّ تسجيل ما لا يقلّ عن 669 ألف حالة إسهال مائي حادّ منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.[78]

من المرجّح أن يكون عدد حالات الإسهال، والأمراض الأخرى، أعلى من ذلك بكثير، وفقا لعدّة أطباء ومسؤولين طبيين تحدّثوا إلى هيومن رايتس ووتش.[79]

قال طبيب تطوّع في غزة في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2024 لـ هيومن رايتس ووتش إنّه خلال الأسبوعين اللذين قضاهما في علاج المرضى هناك، أصيب هو وأطباء آخرون وكلّ شخص قابله تقريبا بالإسهال.[80]

قال رجل، متحدّثا عمّا حصل له بعد أن اضطرّ إلى الحصول على مياه غير نظيفة من بئر في حيّه بدلا من شبكة المياه العادية: "كنت أمرض، وكان طفلاي [عمرهما سنتان وثلاث سنوات] يتقيئان ولديهما إسهال، وأنا كان عندي إسهال. .... كان هذا منذ اللحظة التي بدأنا فيها بشرب المياه [القذرة]".[81]

كما أفادت منظمة الصحّة العالميّة بوجود أكثر من 132 ألف حالة يرقان، وهو أحد أعراض التهاب الكبد الوبائي أ، حتى أكتوبر/تشرين الأوّل 2024.[82] تحدّث طبيب وممرّضة عن وفاة العديد من المرضى، معظمهم أطفال، بسبب التهاب الكبد الوبائي أ – وهو مرض يمكن علاجه في الظروف العادية.[83] قال الدكتور حسام أبو صفية، مدير "مستشفى كمال عدوان"، إنّ حوالي 5-10% من الأطفال الذين جاؤوا إلى المستشفى بحالات يُشتبه في أنّها التهاب الكبد الوبائي أ ماتوا "في غياب القدرات اللازمة لتشخيصهم وعلاجهم ومراقبتهم"، مقارنة بمعدل وفيّات طبيعي لا يتجاوز 0.1% بين الأطفال دون سن 15 عاما.[84]

عدم إمكانية الاغتسال والاستحمام بشكل فعّال والظروف غير الصحيّة التي يعيش فيها الناس تسببت أيضا في أكثر من 225 ألف حالة إصابة بأمراض جلديّة، وساهمت في انتشار أكثر من مليون حالة التهاب تنفسي حادّ حتى 17 أكتوبر/تشرين الأوّل 2024، وفقا لمنظمة الصحة العالميّة.[85]

قالت امرأة (36 عاما) مُهجّرة في خان يونس: "عندما نعجز عن الحصول على مياه الشرب، يُصبح الاستحمام حلما".[86]

الجفاف وسوء التغذية يقوّضان أيضا قدرة الناس على التعافي من الجروح والأمراض، ما يؤدي إلى العدوى والوفاة. قال العديد من المتخصّصين في الرعاية الصحيّة لـ هيومن رايتس ووتش إنّهم تعاملوا مع الكثير من الناس الذين لم يستطيعوا التعافي من الإصابات، بما فيها الجروح الناتجة عن عمليّات جراحية، أو مع مرضى فتك بهم المرض بسبب ضعف أنظمتهم المناعيّة بسبب سوء التغذية والجفاف.[87] قال ممرّض في غرفة الطوارئ لـ هيومن رايتس ووتش إنهم كثيرا ما أجبروا على اتخاذ قرار بعدم إنعاش الأطفال الذين لديهم سوء التغذية الشديد والجفاف، موضّحا أنه "كان من الصعب إنعاش حتى [الأشخاص] المصابين بحروق أو جروح شديدة، لأنهم عندما لا يستطيعون شرب الماء يموتون بسرعة كبيرة".[88]

أفادت منظمة الصحّة العالمية أنّ "الأضرار التي لحقت بشبكات المياه والصرف الصحّي، وتناقص مستلزمات التنظيف، أدّت إلى استحالة الالتزام بالتدابير الأساسيّة للوقاية من العدوى ومكافحتها" في المرافق الصحيّة.[89] وفقا لطبيب يعمل مع منظمة الصحّة العالميّة، فإنّ انعدام المياه النظيفة والصرف الصحي جعل معالجة الأمراض المرتبطة بالمياه والصرف الصحّي صعبة، إن لم تكن مستحيلة.[90]

الآثار المدمّرة على الرُضّع، والنساء الحوامل والمرضعات، والأشخاص ذوي الإعاقة

روى العديد من الأطباء والممرّضين أنّهم شاهدوا أعدادا كبيرة من الرُضّع يعانون من سوء التغذية والجفاف والعدوى في الأشهر القليلة الأولى من حياتهم، ما أدّى في بعض الحالات إلى الوفاة.[91] قالت أسمى طه، وهي ممرّضة أطفال تطوعت في غزة في مايو/أيار 2024، إنّها كانت "كل يوم" تشهد وفاة ما يتراوح بين طفل واحد وثلاثة أطفال بسبب مزيج من هذه الأسباب.[92]

فقدت الأمّهات المرضعات في الغالب القدرة على الرضاعة الطبيعيّة بسبب سوء التغذية والجفاف، ما أجبرهنّ على إطعام الرضع حليبا صناعيا مخلوطا بالماء الملوّث.[93] قالت ممرضة الطوارئ التي تطوعت في غزة عبيرة محمد إنها رأت العديد من النساء الحوامل مصابات بالجفاف، ما تسبب في تباطؤ نبض قلب أجنّتهن.[94] قالت إنّ العديد من النساء الحوامل أصبن أيضا بصدمات تسمّميّة أو إنتانيّة (toxic shock or septic shock) بسبب مزيج من المرض وسوء التغذية.[95]

في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال بدر مُصلح، وهو ناشط في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ولديه إعاقة بصريّة وهو أب لثلاثة أطفال، لـ هيومن رايتس ووتش، إنّه كان يمشي ثلاثة كيلومترات كلّ يوم لملء حاوية بلاستيكية واحدة سعتها عدّة لترات بالماء لعائلته وخمس عائلات أخرى كان يستضيفها.[96] قال: "كان هناك 40 شخصا في منزلي، وهذا لم يكن كافيا. كنا نستخدم أكواب قهوة صغيرة لشُرب الماء للتأكّد من حصول الجميع على القليل منه". قُتل مصلح في غارة جويّة إسرائيليّة في 7 ديسمبر/كانون الأول 2023 بحسب تقارير.[97]

الحصول على المياه صعب بشكل خاص للأشخاص ذوي الإعاقة، وقد أفادت يونيسف سابقا أنّ الأطفال ذوي الإعاقة يواجهون عموما صعوبات إضافيّة في الوصول إلى المياه والصرف الصحّي والنظافة مقارنة بالأطفال الآخرين.[98]

قال أ.ج. (27 عاما)، الذي كان يستخدم كرسيا متحركا وكان قد لجأ إلى مدرسة في رفح في ديسمبر/كانون الأوّل 2023، مع والده الذي لديه شلل رباعي وأخته الضريرة، إنّه من الأصعب على الأطفال والبالغين من ذوي الإعاقة الحصول على كميات كافية من المياه بسبب إعاقتهم. قال: "لأنني على كرسي متحرك، لا أستطيع الخروج والبحث عن المياه". كميّة الماء المتاحة في المدرسة التي كان أ.ج. وعائلته يقيمون فيها شحيحة، حيث كانوا يحصلون على لتر واحد لكل شخص يوميّا، وكانت هناك أيام لم يحصلوا فيها على أيّ شيء.[99]

والدة غزل (14 عاما)، التي لديها شلل دماغي، قالت إن ابنتها وجدت صعوبة كبيرة في استخدام مرافق الصرف الصحي والاغتسال لأنّ هذه المرافق غير مواءَمة مع احتياجاتها، ولم تتمكّن من استخدام المرحاض أو الدوش إلا إذا كانت والدتها أو أختها حاضرتين لمساعدتها.[100]

حتّى سبتمبر/أيلول 2024، كانت غزل قد فرّت من رفح وتعيش مع عائلتها في خيمة في القرارة بخان يونس. ما يزال الحصول على المياه يُمثل مشكلة لها وعائلتها. قالت والدتها: "نحن جميعا نشرب مياه مسممة وملوثة وغير صالحة للشرب. لم تتوقف آلام معدتها [غزال]... ليس لدينا ما يكفي من المال لشراء المياه المعبأة، ولا نستطيع تحمل تكاليفها".[101]

نقص الإبلاغ عن الوفيات والأمراض الناتجة عن الحرمان من المياه

من المرجّح أن يكون الإبلاغ عن الوفيّات الناجمة عن الجفاف والأمراض المنقولة عبر المياه، والمضاعفات الأخرى التي يتسبب فيها انعدام المياه النظيفة والصرف الصحّي، ضعيفا إلى حدّ كبير.

التدمير الذي تعرّض له نظام الرعاية الصحيّة، بما في ذلك تتبّع الأمراض، يعني أنّ حالات المرض المؤكدة، وكذلك الأمراض والوفيات التي يُشتبه في أنّ لها صلة بالأمراض المنقولة عبر المياه، والجفاف، والجوع، لا تخضع للمتابعة والتبليغ بشكل منهجي.[102]

قالت طه إنّها تعتقد أنّ العديد من الوفيّات في العيادة التي تطوّعت فيها لم تُسجَّل لدى وزارة الصحة في غزة. قالت: "استقبلنا العديد من الأطفال وهم موتى ولديهم سوء تغذية. لا أعرف ما إذا كان أحد قد سجّلهم... [الأطباء] ليس لديهم وقت، كانوا مرهقين، ويعملون في نوبات 24 ساعة و36 ساعة.[103] في وقت معين، لم يكن لدينا حتى أوراق نكتُب عليها".[104]

في رسالة إلى إدارة بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2024، قال 99 طبيبا وممرّضا أمريكيا تطوّعوا في غزة بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأكتوبر/تشرين الأول 2024:

استمرار إسرائيل في تهجير السكان الذين لديهم سوء التغذية والمرضى في غزة، ونصفهم من الأطفال، إلى مناطق لا تتوفّر فيها مياه جارية أو حتى مراحيض أمر صادم للغاية. من المؤكد تقريبا أن يؤدي هذا إلى انتشار الوفيات على نطاق واسع بسبب أمراض الإسهال والالتهاب الرئوي الفيروسية والبكتيرية، وخاصّة بين الأطفال دون الخامسة. نحن قلقون من أنّ آلاف المجهولين ماتوا بالفعل بسبب هذا المزيج القاتل من سوء التغذية والمرض، وأنّ عشرات الآلاف سيموتون في الأشهر المقبلة، ومعظمهم من الأطفال.[105]

استشهدت الرسالة بتقارير لخبراء حول انعدام الأمن الغذائي في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي حدّدت عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات "طارئة" و"كارثية" من سوء التغذية. بناءً على متوسط ​​معدّلات الوفيات اليومية لكل 10 آلاف شخص عند انعدام الأمن الغذائي، قدّر مقدّمو الرعاية الصحيّة أن أكثر من 60 ألف شخص في غزة لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويونيو/حزيران 2024، بالإضافة إلى عشرات الآلاف الذين قتلوا بشكل مباشر في الأعمال العدائيّة.[106]

قالت لما عبد الصمد، وهي مستشارة فنية في المياه والصرف الصحي والنظافة في فريق أوكسفام الإنساني العالمي:[107] "حتى لو توقفت الحرب، فإنّ مستوى الدمار والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه والصّرف الصحّي يعني أن الجهود الإنسانية لن تستطيع الاستجابة بسرعة لإنقاذ الأرواح. وهذا يعني أنّ الناس سيستمرّون في مواجهة نقص المياه والغذاء، وقد يصابون بأمراض خطيرة بسبب نقص الصّرف الصحي وانتشار الأمراض".[108]

تدمير البنية التحتيّة للصحّة والإسكان والزراعة، والتهجير القسري

تفاقمت الآثار الناجمة عن تدمير القوّات الإسرائيليّة البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحّي وإلحاق الضرر بها بسبب الدمار الواسع خلال الأعمال العدائية الذي لحق بعناصر أخرى ضروريّة لاستدامة الحياة وإعمال حقوق الإنسان في غزة، بما في ذلك المرافق الصحيّة والإسكان والزراعة.[109]

في ديسمبر/كانون الأول، صرّحت "أطباء بلا حدود" أن هجمات السلطات الإسرائيلية على الرعاية الصحية أدت بحلول ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى "الانهيار الكامل ... لنظام الرعاية الصحية في غزة".[110] وقد أدى تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة إلى إصابة مئات آلاف الأشخاص بأمراض منقولة بالمياه والجفاف ومشاكل صحية أخرى مرتبطة بالمياه والصرف الصحي دون توفر الرعاية الصحية بشكل كافٍ.

كما يبدو أن القوات الإسرائيلية دمرت المنتجات الزراعية والأراضي، بما يشمل تدمير البساتين والحقول والدفيئات، وفقا لتحليل هيومن رايتس ووتش لصور الأقمار الصناعية. بحلول 30 ديسمبر/كانون الأول 2023، كانت صحيفة ˝وول ستريت جورنال˝ قد أفادت بالفعل أن ما يصل إلى 80% من المباني في شمال غزة قد تضررت أو دمرت في الأعمال العدائية، بالإضافة إلى نصف المباني في جميع أنحاء غزة، بناءً على تحليل بيانات الأقمار الصناعية.[111]

وحتى يتسنى إجراء عمليات إعادة إعمار كبيرة، فإن الدمار الواسع النطاق للبنية الأساسية الحيوية والإسكان والأراضي الزراعية سيكون له عواقب وخيمة على قدرة الناس على الحصول على المياه والصرف الصحي الأساسي.

كما فاقمت القوّات الإسرائيلية عجز الناس عن الوصول إلى الماء من خلال التّهجير المتكرّر للسكّان، بما في ذلك مليون شخص هُجّروا في مايو/أيّار 2024 عند توغل إسرائيل في رفح، دون توفير المياه أو تسهيل الحصول عليها في المناطق التي أُمِروا بالتوجه إليها.[112] تنصّ المادة 49 من "اتفاقية جنيف الرابعة" على أن تلتزم أطراف النزاع بالمعايير الإنسانية عند إجلاء السكان، بما في ذلك تنفيذ عمليات الإجلاء في "ظروف مرضية من وجهة السلامة والشروط الصحيّة والأمن والتغذية".[113] في 18 مايو/أيار، قال المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني إنّ "المناطق التي يفرّ إليها الناس الآن لا تتوفر فيها إمدادات مياه آمنة أو مرافق صرف صحي".[114]

المجموعة الثالثة من التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية توصلت إلى أن "إسرائيل لم تقدّم معلومات كافية بشأن... مدى توفر المياه والصرف الصحي والغذاء والدواء والمأوى في منطقة المواصي [التي صدرت أوامر للمدنيين في رفح بالتوجه إليها]".[115]

في 30 مايو/أيّار 2024، قال موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش: "لسوء الحظ، الوضع يزداد سوءا. لا أعرف كيف يمكن أن يقول أحد إنّ الوضع يتحسّن. كيف يمكن أن يتحسن الوضع إذا كان السكّان كلّهم متجمعين في منطقة واحدة... على جانب الشاطئ وفي محافظات المنطقة الوسطى... [حيث] لا يوجد ماء للاغتسال أو الشرب".[116]

وكانت هيومن رايتس ووتش قد وجدت سابقا أن إقدام السلطات الإسرائيلية على تهجير السكان المدنيين في غزة، إلى جانب تقاعسها عن توفير الضمانات الإنسانية في المناطق التي تستقبل من يتم إجلاؤهم، وغير ذلك من الانتهاكات للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، تشكل جرائم حرب متعددة وجرائم ضد الإنسانية تتمثل في التهجير القسري.[117]

خروقات القانون الدولي

يلزم القانون الدولي الإنساني إسرائيل، بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال في غزة، بتوفير الرعاية للسكان الخاضعين للاحتلال وضمان توفير احتياجات السكان المدنيين. [118]

كما يحظر القانون الدولي الإنساني على الأطراف المتحاربة مهاجمة الأعيان التي لا غني عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة (يشار إليها اختصارا فيما بعد بـ الأعيان الأساسية) أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها، ويشمل ذلك البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.[119] عندما يحدث ذلك عمدا، قد يرقى تدمير الأعيان الأساسية إلى جريمة حرب. في حالات عدة، استهدفت القوات الإسرائيلية عمدا البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة، في مناطق تشمل تلك الخاضعة لسيطرتها. كما قطعت السلطات الإسرائيلية عمدا إمدادات الكهرباء والوقود عن غزة، ما جعل تقريبا كل البنية التحتية للمياه والصرف الصحي غير صالحة للاستخدام.[120] بالتالي، تدمير السلطات الإسرائيلية المتعمد للأعيان الأساسية وإبطال فائدتها يرقى إلى جريمة حرب.

استخدام التجويع أسلوبَ حرب من خلال تدمير الأعيان الأساسية وإبطال فائدتها يشكّل جريمة حرب.[121] التجويع يشمل الحرمان من المياه.[122] أفعال السلطات والقوات الإسرائيلية المتمثلة في تعمّد تدمير البنية التحتية للمياه الأساسية لبقاء السكان المدنيين في غزة على قيد الحياة وتعطيلها هي أفعال تشكّل استخدام التجويع أسلوبَ حرب من خلال تعمد تدمير الأعيان الأساسية وتعطيلها، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب.

حرمان السلطات الإسرائيلية سكان غزة من المياه يشكل انتهاكا للحق في المياه والصرف الصحي بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.[123]

السلطة الحاكمة للسكان، والتي تشمل السلطة القائمة بالاحتلال، لديها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان التزام إيجابي "فوري" بحماية حق السكان في كل من المياه وأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة البدنية والعقلية.[124] انتهكت أفعال السلطات الإسرائيلية حقوق الفلسطينيين في غزة في المياه وفي أعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة البدنية والعقلية.[125]

الإبادة مدرجة كجريمة مستقلة ضد الإنسانية بموجب "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية" (نظام روما). تشمل الإبادة "تعمّد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكان"،[126] وتتضمن العناصر التالية: "أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر، بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروف ستؤدي حتما إلى هلاك جزء من مجموعة من السكان، أن يشكل السلوك عملية قتل جماعي لأفراد مجموعة من السكان المدنيين، أو يكون جزءا من تلك العملية، أن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، وأن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءا من ذلك الهجوم".[127]

بلغت السياسات الإسرائيلية حد تعمّد خلق ظروف معيشية بهدف تدمير جزء من السكان المدنيين في غزة. كانت السلطات الإسرائيلية مسؤولة عن التدمير المتعمد للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ومنع إصلاح البنية الأساسية للمياه والصرف الصحي المتضررة، وقطع المياه والكهرباء والوقود أو فرض قيود صارمة على هذه الموارد، ما تسبب على الأرجح في آلاف الوفيات، أي القتل الجماعي، ومن المرجح أن يستمر في التسبب في وفيات في المستقبل. كسياسة دولة، تشكّل هذه الأفعال هجوما واسع النطاق أو ممنهجا موجها ضد سكان مدنيين. وبالتالي فإن المسؤولين الإسرائيليين يرتكبون الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة.

الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الدولي، منصوص عليها في "اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية" ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.[128] تتضمن جريمة الإبادة الجماعية في القانون قصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، من خلال قتل أعضاء من المجموعة؛ أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من المجموعة؛ أو إخضاع المجموعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا؛ أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل المجموعة؛ أو نقل أطفال من المجموعة، عنوة، إلى مجموعة أخرى.[129]

خلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن السلطات الإسرائيلية فرضت على السكان الفلسطينيين في غزة على مدار العام الماضي "ظروفا معيشية يراد بها تدميرهم المادي كليا أو جزئيا". هذه السياسة، التي فُرضت كجزء من القتل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين في غزة، تعني أن السلطات الإسرائيلية ارتكبت الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة، والتي ما تزال مستمرة. هذه السياسة تشكل أيضا "أحد أفعال الإبادة الجماعية" بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948.

تتطلب جريمة الإبادة الجماعية ارتكاب أفعال الإبادة الجماعية بقصد الإبادة الجماعية. قالت "محكمة العدل الدولية" إنه لاستنتاج هذا القصد في نمط سلوك الدولة، يجب أن يكون "الاستنتاج المعقول الوحيد الذي يمكن استخلاصه" من الأفعال المعنية.[130] نمط السلوك المبين في هذا التقرير إلى جانب التصريحات التي تشير إلى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين كانوا يرغبون في تدمير الفلسطينيين في غزة قد يشير إلى هذا القصد.

التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية محظور أيضا بموجب المادة 3 (ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية.[131] بعض التصريحات العلنية المعينة، التي أدلى بها أشخاص بينهم من كان مسؤولا في السلطة في إسرائيل في الوقت الذي أدلوا فيه بالتصريحات، والتي تدعو إلى اتخاذ إجراءات تستهدف الوصول إلى المياه وغيرها من ظروف الحياة للفلسطينيين في غزة؛ والإجراءات التي أعقبت التصريحات من قبل السلطات الإسرائيلية بخلق ظروف حياة من المرجح أن تكون قتلت آلاف الفلسطينيين؛ وأحكام محكمة العدل الدولية بشأن التحريض؛ كل هذه العناصر مجتمعة تشير إلى أن بعض التصريحات ترقى إلى التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية. السلطات الإسرائيلية ملزمة، كما حكمت محكمة العدل الدولية، باتخاذ كافة التدابير اللازمة لمنع هذا التحريض ومعاقبته.[132]

تتضمن هذه الانتهاكات للقانون الدولي مسؤولية الدولة والمسؤولية الجنائية الفردية للمسؤولين الإسرائيليين.

التوصيات

على الحكومة الإسرائيلية الامتثال الفوري للتدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية، وعليها التوقف عن تدمير البنية التحتية للمياه في مختلف أنحاء غزة، وعن شن الهجمات غير القانونية على الأفراد والمعدات اللازمة للتصليحات. عليها أيضا رفع حصارها عن غزة فورا، وإعادة توفير المياه والكهرباء، والسماح بدخول المياه والغذاء والمساعدات الطبية والوقود، عبر سبل تشمل جميع المعابر البرية.[133] على الحكومة الإسرائيلية أيضا أن تسمح فورا بإجراء التصليحات الضرورية العاجلة للبنية التحتية المتضررة للمياه وتيسير هذه التصليحات.

على الدول والمؤسسات الدولية، لا سيما التي تتمتع بنفوذ على الحكومة الإسرائيلية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول "الاتحاد الأوروبي"، أن تتخذ إجراءات عاجلة لمنع الإبادة الجماعية والمزيد من الفظائع. يشمل ذلك تدابير مثل العقوبات الموجَّهة، وتعليق نقل الأسلحة والمساعدات العسكرية، ومراجعة الاتفاقيات التجارية والسياسية الثنائية، لوضع ضغوط ملموسة على الحكومة الإسرائيلية للامتثال للتدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية والتزاماتها الأخرى بموجب القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.
 

التوصيات

للسلطات الإسرائيليّة

· التحرك فورا لضمان أن المياه النظيفة، والوقود، والكهرباء كافية لتلبية حقوق جميع الناس في غزّة، وملائمة لضمان الصحة والبقاء على قيد الحياة بعد الحرمان المطوّل من الوصول إلى المياه. 

· السماح بإصلاح البنية التحتيّة للمياه، وتسهيل ذلك، والكف عن الهجمات غير القانونيّة على الأفراد اللازمين والمعدّات اللازمة للإصلاح.

· التوقف عن عرقلة المساعدات الإنسانيّة والسلع المدنيّة، بما فيها المياه والبنية التحتية المتعلّقة بالمياه وإمدادات الوقود، من دخول غزّة، وذلك بفتح المعابر البريّة بالكامل؛ ونشر قائمة بالمواد المحظورة، وتقديم تفسيرات مكتوبة على الفور والسماح بالاعتراض على قرارات منع الدخول؛ وضمان قدرة الوكالات الإنسانيّة والمدنيّة على توزيع المساعدات بأمان وانتظام في جميع أنحاء غزة.

· وقف جميع الهجمات غير المتناسبة والعشوائيّة والهجمات التي تستهدف المدنيين والأعيان المدنيّة، بما فيها البنية التحتية للمياه والصرف الصحّي.

· تجنّب استخدام الأسلحة المتفجّرة ذات التأثير الواسع في المناطق المأهولة بالسكّان.

· التحرك فورا لمعالجة قائمة الانتظار الخاصة بالمرضى المحالين إلى خارج غزّة التي قدّمتها منظمة الصحّة العالميّة، وتسهيل إجلائهم بشكل آمن.

· رفع الحصار عن غزة والسماح بحريّة تنقل الأشخاص والبضائع نحو غزة، مع اعتماد الفحص الفردي والتفتيش الجسدي لأغراض أمنيّة في أقصى الحالات.

· الامتثال لجميع التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدوليّة.

· ضمان حصول فلسطينيي غزة على المياه على قدم المساواة مع ما يُوفَّر للمواطنين الإسرائيليين، وتفكيك كل أشكال الهيمنة والقمع المنهجي الذي تُميّز لصالح اليهود الإسرائيليين وتقمع الفلسطينيين بشكل منهجي.

· سحب التشريعات الإسرائيليّة التي تحظر عمل الأونروا في إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وتسهيل نشاطاتها هي وغيرها من وكالات الإغاثة في قطاع غزة، ووقف الحملة لتدمير أهم وكالة مساعدات تابعة للأمم المتحدة وخاصة باللاجئين الفلسطينيين غي غزة وخارجها.

· التعاون مع المحكمة الجنائيّة الدولية، بما في ذلك الاستجابة لطلبات المساعدة والوصول.

· تقديم تعويضات لسكّان غزة عن حرمانهم من المياه لأشهر، بما في ذلك تعويض الأفراد، وتمويل وتسهيل تدابير الرعاية الصحيّة الفرديّة والعامة حسب الحاجة، وذلك للتعافي من الأمراض الناجمة عن الحرمان من المياه، والوقاية منها، وتمويل وتسهيل إصلاح وترميم البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحّي، والتأكد من المحاسبة، وتقديم ضمانات لعدم تكرار ما جرى.

· منح حق الوصول إلى الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة لآليات الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة، وباحثي حقوق الإنسان المستقلين، والصحفيين.

· تنفيذ قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة التابعين للأمم المتحدة بشأن إسرائيل وفلسطين، بما في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بتقديم المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة والامتثال للقانون الإنساني الدولي.

لجميع الدول

· اتخاذ كلّ التدابير في حدود سلطاتها لمنع الإبادة الجماعيّة من قبل السلطات الإسرائيليّة في غزة من خلال الضغط عليها لرفع الحصار والامتثال لأوامر محكمة العدل الدوليّة، بما في ذلك وقف أيّ مساعدات عسكريّة أو مبيعات أو نقل للأسلحة، وفرض عقوبات موجَّهة، ومراجعة الصفقات الثنائيّة والعلاقات الديبلوماسيّة.

· الإدانة العلنيّة لجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي واتفاقية الإبادة الجماعيّة من قبل السلطات الإسرائيليّة، وحثها على الكف عن هذه الجرائم فورا والتعاون مع الهيئات القضائيّة الدوليّة، وآليات التحقيق، والإجراءات الخاصة بالأمم المتحدة.

· زيادة الضغوط العلنية والسرية على الحكومة الإسرائيليّة للامتثال للقانون الإنساني الدولي في إدارة الأعمال العدائيّة، وفي ضمان دخول وتوزيع المساعدات الكافية والخدمات الأساسية على نطاق واسع في جميع أنحاء غزة.

· المطالبة بأن تنفذ إسرائيل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة التابعين للأمم المتحدة بشأن إسرائيل وفلسطين، بما في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بتقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة والامتثال للقانون الإنساني الدولي.

· مراجعة واحتمال تعليق الاتفاقيات الثنائيّة مع إسرائيل، مثل "اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل"، التي اقترحت حكومتا إسبانيا وإيرلندا مراجعتها.

· إنهاء جميع أشكال الدعم والتواطؤ في الفظائع التي ترتكبها إسرائيل، بما في ذلك تعليق المساعدات العسكريّة ونقل الأسلحة إلى الحكومة الإسرائيليّة طالما استمرّت قواتها في ارتكاب انتهاكات خطيرة وجرائم حرب ضدّ المدنيين الفلسطينيين بلا محاسبة.

· دعم عمل محكمة العدل الدوليّة وقراراتها بشكل علني بصفتها مؤسسة قضائيّة مستقلّة، والضغط على إسرائيل للامتثال لأوامرها المُلزمة.

· دعم عمل محكمة العدل الدوليّة بشكل علني في جميع المواقف الخاضعة لولايتها القضائيّة، بما في ذلك التحقيق الجاري في فلسطين، وتقديم أيّ مساعدات ضروريّة لجعل أوامر المحكمة نافذة، والحفاظ على استقلالها، وإدانة الجهود الرامية إلى ترهيبها أو التدخل في عملها هي أو مسؤوليها أو المتعاونين معها.

· دعم التحقيقات والملاحقات القضائيّة المحليّة الأجنبيّة بموجب مبدأ الولاية العالميّة، بحسب الاقتضاء، بحق المتورّطين بشكل موثوق فيه في جرائم خطيرة في غزة.

· على الولايات المتحدة التراجع فورا عن قراراتها تعليق تمويل الأونروا، والتعبير بوضوح عن نيتها مواصلة تمويل الوكالة، وعلى جميع الدول حث السلطات الإسرائيليّة على التراجع عن قراراتها حظر عمل الأونروا داخل إسرائيل.

· تمويل إصلاح البنية التحتية المدمّرة والمتضرّرة للمياه والصرف الصحّي، والضغط على إسرائيل للسماح بإصلاحها بشكل عاجل.

· دعم إنشاء آليّة دوليّة للنظر في تعويضات الفلسطينيين وإعداد سجل دولي للأضرار.

· حث السلطات الإسرائيليّة على السماح بأنظمة تصفية المياه، وخزانات المياه، والعناصر الأخرى اللازمة لإصلاح البنية التحتيّة للمياه، وتحسين إمدادات المياه إلى غزة.

· دعم الأمم المتحدة لوضع خطّة تضمن للفلسطينيين الحصول على الماء على الأقل على قدم المساواة مع ما يُوفّر للمواطنين الإسرائيليين، والضغط على إسرائيل لتسهيل الخطّة والمساهمة فيها.

· معالجة الإفلات طويل الأمد من العقاب للسلطات الإسرائيليّة والفصائل الفلسطينيّة المسلّحة عن الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي.

 

للمقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في المياه وخدمات الصرف الصحّي

· طلب الوصول إلى غزة لرصد حالة حقوق الإنسان فيما يتعلق بالوصول إلى المياه والصرف الصحّي، بما في ذلك الأضرار وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي؛ وعرقلة التصليحات واستهداف عمّال التصليح؛ والقيود على دخول الوقود؛ وآثار هذه الأفعال على حقوق الإنسان.

للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية

· التحقيق في أفعال السلطات الإسرائيلية وسياساتها التي حرمت السكان المدنيين في غزة من المياه، بما يشمل التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب، وجريمة ضد الإنسانية تتمثل في الإبادة، وإبادة جماعية.


 

المنهجيّة

يستند هذا التقرير إلى مقابلات مع 66 فلسطينيا من غزة، بالإضافة إلى 4 أفراد يعملون مع مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة، و31 اختصاصيا في الرعاية الصحية، و15 فردا يعملون مع وكالات الأمم المتحدة ومنظمات إغاثة دولية في غزة. أجريت جميع المقابلات بين 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و28 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

تمّت معظم المقابلات عن بُعد، بينما أُجري بعضها بشكل مباشر مع مدنيّين تم إجلاؤهم إلى خارج غزة، ومع موظفين غير حكوميين أو تابعين للأمم المتحدة. تمّت بعض المقابلات بالعربية، وتُرجمت لاحقا إلى الإنغليزية، وتمّت أخرى بالإنغليزية بحضور مترجم للعربيّة، وأخرى بالإنغليزية فقط. أبلغت هيومن رايتس ووتش جميع الأشخاص الذين قابلتهم بطبيعة البحث والهدف منه، واعتزامها نشر تقرير بالمعلومات التي يتم جمعها. أبلغنا كل شخص قابلناه أنه ليس ملزما بالتحدث إلينا، وأنّ هيومن رايتس ووتش لا تقدم مساعدة قانونية أو غيرها، وأنّه يمكنه التوقف عن التحدث إلينا أو رفض الإجابة عن أيّ سؤال دون عواقب سلبية. حصلنا على موافقة شفوية لكل مقابلة. لم يتلقَ الأشخاص الذين قابلناهم تعويضا ماديا مقابل التحدث إلى هيومن رايتس ووتش. في بعض الحالات التي طلب فيها الأشخاص الذين قابلناهم عدم ذكر أسمائهم أو حيث قيّمنا أن ذكر أسمائهم قد يعرّض أمنهم للخطر، استخدمنا أسماء مستعارة وحجبنا معلومات قد تحدّد هويتهم.

كما راجعت هيومن رايتس ووتش وحلّلت صورا ووثائق قدمتها مصلحة مياه بلديات الساحل و"مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة" في دولة فلسطين، التي قدّمت تفاصيل بشأن تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة. حللت هيومن رايتس ووتش هذه المعلومات، بالإضافة إلى تقارير إخبارية وخرائط أخرى وعشرات الصور عالية الدقة صُوّرت بالأقمار الصناعية بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وأغسطس/آب 2024 لعشرات المرافق المائية، بالإضافة إلى تفاصيل تتعلّق بالبنية التحتية للمياه قدّمتها منظمات دولية أخرى ووُجدت على وسائل التواصل الاجتماعي.

حلّلت هيومن رايتس ووتش وتحققت من صور وفيديوهات منشورة على الإنترنت لهجمات في جميع أنحاء غزة. قارن الباحثون المواد البصرية بصور الأقمار الصناعية لتحديد مكان تسجيل كل منها بالضبط. في بعض الحالات، راجعت هيومن رايتس ووتش تقارير وتحقيقات إعلامية تضمّنت صورا وفيديوهات عُثر عليها على الإنترنت لتوثيق النتائج الواردة في هذا التقرير.

كما جمّعت هيومن رايتس ووتش وحلّلت بيانات كميّة صادرة عن وكالات تابعة للأمم المتحدة ووكالات إغاثة أخرى حول الوصول إلى المياه والصرف الصحي وغيرها من المجالات. غالبا ما جُمّعت البيانات بنهج ذات أساليب مختلطة، شملت أخذ عيّنات احتمالية وعيّنات عمديّة، وأساليب نوعيّة ورصديّة مختلفة.

في 10 يونيو/حزيران و29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، راسلت هيومن رايتس ووتش الجيش الإسرائيلي لطلب مزيد من المعلومات بشأن هجمات محدّدة على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وثقتها هيومن رايتس ووتش في هذا التقرير، فضلا عن معلومات بشأن دخول المساعدات الإنسانية المتعلقة بالمياه، لكن السلطات الإسرائيلية لم تردّ.

أجريت غالبية الأبحاث والمقابلات الخاصّة بهذا التقرير بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وسبتمبر/أيلول 2024، ومعظم المعلومات الواردة في التقرير محدثة حتى سبتمبر/أيلول 2024.


 

الخلفيّة

على مدى ستة عقود تقريبا، مارست السلطات الإسرائيلية سيطرة شاملة على قطاع غزة، بما في ذلك على حركة الأشخاص والبضائع، والمياه الإقليمية، والمجال الجوي، والبنية التحتيّة التي يعتمد عليها القطاع، فضلا عن السجل السكّاني.[134] يعتمد سكان غزة، الذين أخضعتهم إسرائيل لإغلاق غير قانوني لمدة 17 عاما، بشكل شبه كامل على الحكومة الإسرائيلية للحصول على الوقود، والكهرباء، والأدوية، والغذاء، ومياه الشرب، وغيرها من السلع والخدمات الأساسية لحقوق الإنسان.[135] وجدت هيومن رايتس ووتش أن إغلاق الحكومة الإسرائيلية المطوّل لقطاع غزة يُعتبر شكلا من أشكال العقاب الجماعي، ويندرج ضمن جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضدّ الإنسانيّة ترتكبهما السلطات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

كانت غزة تواجه مستويات عالية من ندرة المياه حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، حيث أنّ 97% من المياه الجوفيّة، المصدر الطبيعي الوحيد للمياه في غزة، "غير صالحة للاستهلاك الآدمي"، لأنّ معظمها ملوّث بسبب الإفراط في الضخ، ممّا يؤدّي إلى تسرّب مياه البحر والتلوث بمياه الصرف الصحي، وفقا لأبحاث أوتشا في 2022.[136] لسنوات، ظلّت عشرات آلاف اللترات من مياه الصرف الصحّي غير المعالجة تُصبّ في البحر يوميا، مما يؤدي إلى تلوّث البحر ويؤثر على المياه الجوفية.[137] تفاقمت المشكلة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل بسبب إغلاق مرافق معالجة مياه الصرف الصحي.

حوالي 20% من إمدادات المياه في غزة تأتي من المياه التي تشتريها مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة،[138] وهي منظمة فلسطينية غير حكومية مسؤولة عن إدارة المياه والصرف الصحي في غزة، من إسرائيل وتوزّعها عبر ثلاثة خطوط أنابيب تسيطر عليها سلطة المياه الإسرائيلية "ميكوروت"، وكذلك من العديد من مرافق تحلية المياه في غزة.[139] تُوزَّع المياه القادمة من خطوط أنابيب ميكوروت ومرافق التحلية على السكان عبر شبكة من الأنابيب. رغم أنّ خطوط ميكوروت ومحطات تحلية المياه لم تكن تنتج سوى جزء ضئيل من إجمالي إمدادات المياه في غزة، إلا أن هذه المصادر هي التي كانت تزوّد غزة بمعظم مياه الشرب قبل أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، حيث إن بقية مياه غزة غير صالحة للشرب إلى حد كبير.[140]

أمّا نسبة الـ80% المتبقية فتأتي من طبقة المياه الجوفية الساحلية التي تقع تحت غزة، والتي تُستخرج من حوالي 300 بئر تديرها مصلحة مياه بلديات الساحل، والأونروا، ومورّدي القطاع الخاص غير المنظمين، وفقا لمجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في دولة فلسطين.[141] كما ذكرنا، فإنّ المياه المستخرجة من الطبقة الجوفية ملوّثة وغير صالحة للاستهلاك البشري.[142]

كانت البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة تعمل بالكهرباء التي توفّرها إسرائيل قبل الأعمال العدائية، ومن محطة توليد الكهرباء في غزة.[143] بدأت محطة توليد الكهرباء في غزة العمل في 2002، لكنها قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل مباشرة، كانت تعمل بشكل جزئي فقط، ويرجع ذلك في جزء منه إلى العديد من الهجمات الجوية الإسرائيلية في أعمال عدائية سابقة.[144]

خريطة توضّح البنية التحتيّة الأساسيّة للمياه والصرف الصحّي في قطاع غزة. البيانات ©مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في فلسطين، "أوبن ستريت ماب". الرسم © هيومن رايتس ووتش.

إضافة إلى ذلك، فرضت السلطات الإسرائيلية بشكل دوري قيودا، عقابية أحيانا وبسبب نزاعات بشأن المدفوعات أحيانا أخرى، على كمّية الوقود الصناعي التي سمحت للفلسطينيين بشرائها لتشغيل محطّة الطاقة.[145] رغم أنّ الطاقة الشمسية تساهم بكمية صغيرة من الكهرباء اللازمة لغزة، إلا أنّ السلطات الإسرائيلية قيّدت أيضا دخول الألواح الشمسية والبطاريات، مما أعاق جهود تطوير مصادر الطاقة البديلة، التي من شأنها أن تمنح غزة بعض الاستقلال في مجال الطاقة.[146] ظلّت غزة "معتمدة بشكل شبه كامل"، كما قالت المحكمة العليا الإسرائيلية في 2008، على إسرائيل في إمدادها بالكهرباء.[147]

أثّرت القيود التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على إمدادات الكهرباء في غزة، وعلى استيراد القطع اللازمة للتصليحات، على كمية المياه التي كان السكان يحصلون عليها قبل الأعمال العدائية الحالية. وفقا لمنظمة بتسيلم الإسرائيلية غير الحكومية، كان 97% من سكان غزة متصلين بشبكة المياه العامة في 2014، "ومع ذلك فإنّ الارتباط بالشبكة لا يضمن توفير المياه بشل منتظم. حيث يعاني القطاع نقصا في المياه والكهرباء – اللازمة لغرض ضخ المياه في الشبكة – ومشاكل مستعصية في البُنى التحتيّة"، بما في ذلك بسبب القصف الإسرائيلي السابق لغزة.[148] وفقا لبيانات مصلحة المياه الفلسطينية لعام 2021، استهلك الفلسطينيون في غزة ما معدله 82.7 لترا من المياه يوميا، وهو ما يندرج ضمن الحد الأدنى اليومي الذي حددته منظمة الصحة العالمية الذي يتراوح بين 50 و100 لتر، لكنّه لا يتجاوز ثلث معدّل لاستهلاك إسرائيل للمياه.[149]

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اخترقت الجماعات المسلحة الفلسطينية بقيادة حماس السياج بين غزة وجنوب إسرائيل ونفذت هجوما أسفر عن مقتل 815 مدنيا على الأقل، واحتجاز 251 شخصا كرهائن. خلُصت هيومن رايتس ووتش إلى أنّ الجماعات الفلسطينية المسلّحة ارتكبت عدّة جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، شملت القتل والاحتجاز غير القانوني أثناء الهجوم.[150] في اليوم نفسه، بدأت القوات الإسرائيلية عملياتها العسكرية في غزة بضربات جوية وقصف مدفعي، وفي 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، أمرت جميع سكان شمال غزة بالإخلاء.

في وقت لاحق، شنت القوات الإسرائيلية غزوا بريا، بالتزامن مع قصف جوّي، أدى إلى تقسيم غزة بشكل محوري من الشرق إلى الغرب، إلى ما تُسمّيه القوات الإسرائيلية "ممر نتساريم"، واحتلت العديد من مدن غزة، بما في ذلك مدينة غزة وخان يونس ورفح ودير البلح. منذ ذلك الحين، حدثت عمليات إخلاء أخرى للمدنيين في المناطق الوسطى والجنوبية في غزة.[151] حتى سبتمبر/أيلول 2024، ظلّ 86% من قطاع غزة تحت أوامر الإخلاء الصادرة عن إسرائيل، مما أدى إلى تهجير 90% من السكان، دون وجود مكان آمن يتوجهون إليه.[152]

قطعت السلطات الإسرائيلية أيضا الخدمات الأساسية، بما في ذلك المياه والكهرباء، عن سكان غزة، ومنعت دخول كل شيء باستثناء القليل من الوقود والمساعدات الإنسانية الأساسية، وهذه أعمال عقاب جماعي تشكل انتهاكا للقانون الدولي الإنساني، وترقى إلى جرائم حرب، بما في ذلك استخدام التجويع كأسلوب حرب.[153] حتى 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أسفرت العمليّات العسكرية الإسرائيلية التي نُفذت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 عن مقتل أكثر من 43 ألف فلسطيني وإصابة ما لا يقل عن 102 ألف آخرين وتحويل أجزاء كبيرة من غزة إلى أنقاض، مع تضرر أو تدمير الكثير من منازل غزة ومدارسها ومستشفياتها ومعظم بنيتها التحتية المدنية.[154] رغم أنّ الكثير من الناس مازالوا مفقودين في الوقت الحالي، والكثير من الجثث لم تُحدّد هويتها بعد، إلا أنّ حوالي 59% من القتلى الذين تم التعرف عليهم هم من الأطفال أو النساء أو كبار السن، وفقا لـ أوتشا.[155]


 

I. تعمّد حرمان السكّان من الماء

في الأيّام والأشهر التالية للهجمات التي قادتها حماس في جنوب إسرائيل، أدلى مسؤولون حكوميّون إسرائيليون بتصريحات لا لبس فيها حول قطع الماء والكهرباء والوقود، التي تعتبر ضرورية لتشغيل البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، عن كلّ سكان غزة، وحول منع المساعدات الإنسانية، بما في ذلك المواد اللازمة لإنتاج المياه الصالحة الشرب. كانت الإجراءات التي اتخذتها السلطات والقوات العسكرية الإسرائيلية في الأشهر التي أعقبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 متّسقة مع هذه التصريحات، ممّا يؤكّد وجود نيّة واضحة لحرمان السكان المدنيين في غزة من المياه.

قطعت السلطات الإسرائيلية الكهرباء والوقود عن قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل، وبعد يومين قطعت الماء. في 9 أكتوبر/تشرين الأوّل، أعلن وزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت "حصارا كاملا" لغزة.[156] في 10 أكتوبر/تشرين الأوّل، صرح وزير الطاقة آنذاك ووزير الدفاع الحالي إسرائيل كاتس على حسابه على إكس:

كُنّا ننقل 54 ألف متر مكعب من المياه و2,700 ميغاواط من الكهرباء إلى غزة يوميا، لكنّ ذلك انتهى الآن. بدون وقود، حتى الكهرباء المحليّة سوف تتوقف خلال أيام، وسوف تتوقف آبار الضخ خلال أسبوع. هذا ما سنفعله بأمة من القتلة وجزاري الأطفال. كل شيء لن يعود كما كان.[157]

وفي 11 أكتوبر/تشرين الأوّل، قال:

لقد زوّدنا غزة بالكهرباء والماء والوقود لسنوات. وبدلا من شكرنا، أرسلوا آلاف الحيوانات البشرية لذبح وقتل واغتصاب وخطف الأطفال والنساء وكبار السن - لذلك قرّرنا قطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود. والآن، انهارت محطة الطاقة المحلية الخاصة بهم، ولا توجد كهرباء في غزة. سنستمر في فرض حصار مُحكم حتى القضاء على تهديد حماس لإسرائيل والعالم.[158]

في 12 أكتوبر/تشرين الأول، أكّد كاتس على إكس أنّه بالإضافة إلى قطع كلّ الإمدادات التجارية من مرافق ووقود عن غزة، ستمنع إسرائيل المساعدات الإنسانية أيضا:

المساعدات الإنسانية لغزة؟ لن يتم تشغيل أي مفتاح، ولن يتم فتح أي صمام، ولن تدخل شاحنة وقود إلى غزة حتى يعود الرهائن الإسرائيليون إلى ديارهم. العمل الإنساني يُقابله عمل إنساني. لن نسمح لأحد بأن يعطينا دروسا في الأخلاق.[159]

تبنّى العديد من المسؤولين الإسرائيليين، وأعضاء في الكنيست والبرلمان، وضباط عسكريين نفس المنطق لتبرير تصرّفات الحكومة الإسرائيلية: عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى قطع المياه والكهرباء والوقود وغيرها من المرافق والسلع الأساسية عن سكان غزة للضغط على الجماعات المسلحة لإطلاق سراح الرهائن، أو لأن ذلك من شأنه أن يساعدها على هزم حماس.

  • في منشور على إكس في 9 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، صرّح اللواء غسان عليان، منسّق أعمال الحكومة في المناطق بوزارة الدفاع الإسرائيلية (COGAT)، وهي الوحدة المسؤولة عن تنسيق المساعدات الإنسانية في غزة: "أصبحت حماس ’داعش‘ [تنظيم الدولة الإسلامية]، وسكّان غزة، بدلا من أن يشعروا بالرعب، يحتفلون. سيتم التعامل مع الوحوش البشرية وفقا لذلك. فرضت إسرائيل حصارا كاملا على غزة. لن تكون هناك كهرباء ولا ماء، فقط الدمار. أردتم الجحيم، وستحصلون عليه".[160]

  • في 16 أكتوبر/تشرين الأوّل، قال كاتس، "أنا أعارض بشدة رفع الحصار والسماح بدخول البضائع إلى غزة لأسباب إنسانية. نحن ملتزمون تجاه عائلات القتلى والرهائن المختطفين – وليس تجاه قتلة حماس والأشخاص الذين ساعدوهم".[161]

  • في 17 أكتوبر/تشرين الأوّل، نشر وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير على إكس، "ما دامت حماس لا تطلق سراح الرهائن – فإن الشيء الوحيد الذي يجب أن يدخل غزة هو مئات الأطنان من المتفجرات من سلاح الجو – وليس ذرّة واحدة من المساعدات الإنسانية".[162]

  • في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، صرّح وزير المالية ووزير الإدارة المدنيّة بوزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش بأنه يجب منع دخول الوقود إلى غزة "تحت أي ظرف من الظروف".[163] وفي وقت لاحق، وصف قرار مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، الذي نشرته تقارير في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، بالسماح بدخول كميّات صغيرة من الوقود إلى القطاع، بأنه "خطأ فادح"، وقال إنه يجب "وقف هذه الفضيحة على الفور ومنع الوقود من الدخول إلى القطاع"، كما ذكرت "جيروساليم بوست".[164]

  • في شرحه للأساس المنطقي لقرار قطع إمدادات الوقود عن غزة، في مقابلة تلفزيونية مع "سي إن إن" في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، قال مارك ريغيف، المستشار الأول لرئيس الحكومة بنيامين نتياهو، إنّ إسرائيل تحرم غزة من الوقود لتعزيز موقفها عند التفاوض مع حماس بشأن إطلاق سراح الرهائن.[165] قال أيضا: "لو فعلنا ذلك [سمحنا بدخول الوقود]... فلن نتمكّن أبدا من الافراج عن الرهائن".[166]

هذا المنطق، الذي نُفذ على الفور، يرقى إلى العقاب الجماعي للسكان المدنيّين، وهو جريمة حرب. لا يجوز لطرف في نزاع مسلّح أن يفرض عقوبة جماعية على السكان المدنيين ــ في هذه الحالة حرمان إسرائيل للمدنيين في غزة من المياه وغيرها من الإمدادات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة ــ للضغط على الطرف المقابل لفعل شيء ما.

إضافة إلى ذلك، كانت السلطات الإسرائيلية على علم، أو كان ينبغي لها أن تكون على علم، بأنّ قطع المياه والكهرباء والوقود وغيرها من المواد الأساسية اللازمة لتوفير المياه من شأنه أن يخلّف عواقب وخيمة على جميع سكّان غزة. سيطرت السلطات الإسرائيلية، باعتبارها سلطة الاحتلال في غزة، على مدى عقود على وسائل إنتاج الماء في غزة، بما في ذلك من خلال السيطرة على الكهرباء والوقود. وثقت وكالات الأمم المتحدة، و"البنك الدولي"، ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها تأثير القيود التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية منذ فترة طويلة على المياه والكهرباء والوقود على سكان غزة،[167] واضطرّ المانحون الدوليّون إلى التفاوض لسنوات مع السلطات الإسرائيلية للحصول على موافقات على مشاريع بنية تحتية للمياه في غزة، وتوفير معلومات تفصيلية عن عدد الأشخاص الذين سيتم تلبية احتياجاتهم الأساسية.[168] بدعوتها إلى قطع وحجب هذه العناصر، تكون السلطات الإسرائيلية قد عمدت إلى حرمان السكان من وسائل إنتاج المياه، وهي شرط أساسي للحياة.

منذ الأيّام الأولى من الأعمال العدائية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وخاصة منذ أن أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل في يناير/كانون الثاني 2024 "باتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة جماعية فيما يتعلق بالسكان الفلسطينيين في قطاع غزة"، أدلى صُنّاع السياسات والسياسيون الإسرائيليون بعدد أقل من التصريحات التي تدعو إلى قطع المياه والكهرباء والوقود والمساعدات، أو أصرّوا على أنّهم في حالة حرب ضد حماس على وجه التحديد، وليس ضد سكّان غزة.[169] لكن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية لحرمان الفلسطينيين في غزة من المياه والكهرباء والوقود والمساعدات الإنسانية ظلّت مستمرّة حتى كتابة هذا التقرير.


 

II. قطع إمدادات المياه والوقود والكهرباء وتقييدها

في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قطعت السلطات الإسرائيلية الكهرباء التي تزوّد بها غزة، وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول، قطعت جميع المياه التي تدخل غزة عبر خطوط الأنابيب الثلاثة لشركة ميكوروت.[170]

قبل الأعمال العدائية، كانت خطوط الكهرباء الإسرائيلية تزوّد قطاع غزة بما يصل إلى 120 ميغاواط من الطاقة، وكانت محطّة الطاقة الوحيدة في غزة تنتج حوالي 70 ميغاواط، بعدما سمحت الحكومة الإسرائيلية باستيراد الوقود الكافي لتشغيلها.[171] وبالتالي تحتفظ الحكومة الإسرائيلية بسيطرة حاسمة على إمدادات قطاع غزة من الكهرباء، التي تظلّ ضروريّة لتشغيل معظم البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.[172] حتى سبتمبر/أيلول 2024، استمرّت السلطات الإسرائيلية في قطع الكهرباء عن غزة. في أغسطس/آب، تم إنشاء خط كهرباء مباشر لتشغيل محطة تحلية المياه في جنوب غزة، لكن المزود الإسرائيلي لم يبدأ في إرسال الكهرباء.[173]

في ظلّ عدم وجود كهرباء من خطوط الإمداد، يعتمد السكان المدنيون في غزة إلى حدّ كبير على الوقود للحصول على الكهرباء اللازمة للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة، ومولّدات الديزل الاحتياطية الأصغر حجما التي تعتمد عليها المستشفيات والأحياء وبعض مرافق المياه والصرف الصحي.[174] كما تحوّلت محطات الصرف الصحي مؤخرا إلى الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء.[175] يظلّ الوقود مطلوبا أيضا لإنتاج وتوصيل مياه الشرب، وريّ المحاصيل، وتوصيل الغذاء، وجهود الإنقاذ.[176]

تتحكّم إسرائيل في بيع ودخول الوقود إلى غزة.[177] بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وكتابة هذا التقرير، فرضت الحكومة الإسرائيلية قيودا كبيرة على دخول الوقود إلى غزة.[178] خلال الأسابيع الخمسة الأولى من الأعمال العدائية، منع المسؤولون الإسرائيليون دخول جميع أنواع الوقود إلى غزة.[179] نفدت احتياطيات الوقود من محطة توليد الكهرباء في 11 أكتوبر/تشرين الأول، مما ترك معظم البنية التحتية الرئيسية، بما في ذلك محطات معالجة مياه الصرف الصحي ومرافق تحلية المياه والمستشفيات دون كهرباء، مما أدى إلى إغراق غزة في الظلام.[180]

بعد 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بدأت السلطات الإسرائيلية في السماح بدخول كميّات محدودة من الوقود، لكنّها استمرّت في تقييد هذه الكميات أيضا. في الفترة ما بين 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 و31 أغسطس/آب 2024، تم استيراد ما معدله 80,586 لترا من الوقود يوميا إلى غزة - أي حوالي خُمس كميّة الـ 400 ألف لتر اللازمة "للعمليات الإنسانيّة الأساسية كل يوم"، وفقا للأمم المتحدة.[181]

وفقا لخبراء مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في دولة فلسطين الذين تحدثوا إلى هيومن رايتس ووتش، فإن تقييد وحجب إمدادات الوقود كان العامل الأكثر أهمية في حرمان سكان غزة من الحصول على ما يكفيهم من الماء.[182] في غياب الكهرباء، أصبحت معظم مرافق المياه والصرف الصحي خارج الخدمة، بمجرد نفاذ وقود تشغيل المولدات الاحتياطية المتصلة بالعديد منها.[183]

قال أحد المسؤولين عن الاستجابة في مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامة لـ هيومن رايتس ووتش: "قطع مصدر الطاقة يؤثر بشكل كبير على منظومة المياه والصرف الصحي بأكملها في غزة. والسيطرة الصارمة على دخول الوقود لها تأثير مماثل – إنه تلاعب كبير [بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة]".[184]

في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدرج منسّق أعمال الحكومة في المناطق التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية، الوحدة المسؤولة عن تنسيق المساعدات الإنسانية إلى غزة، الوقود في قائمة العناصر التي يُحظر على الأمم المتحدة توفيرها في إطار جهودها الإنسانية بسبب ما يسمى "الاستخدام المزدوج"، أي العناصر التي لها غرض مدني وعسكري، كما قال مسؤول إغاثة لـ هيومن رايتس ووتش، رغم أنّ الوقود مورد حيوي لاستدامة الحياة في غزة.[185]

صرّح الجيش الإسرائيلي لوسائل إعلام في أكتوبر/تشرين الأول 2023 أنّه يمنع الوقود لأن المسلحين "يستخدمونه لدفع الصواريخ التي يصنعونها ويطلقونها على إسرائيل، وكذلك للمركبات التي يقودها المقاتلون أثناء العمليات".[186] ردّا على مزاعم الجيش الإسرائيلي بأن حماس كانت تحوّل المساعدات، ذكرت "منظمة اللاجئين الدولية"، في تقرير نُشر في سبتمبر/أيلول، أنّ "هناك إجماعا واسعا" بين الجهات الإنسانية الفاعلة التي تقدّم مساعدات "على أنّ القتال المستمرّ بين حماس والجيش الإسرائيلي قد عرقل تدفق المساعدات، لكننا لم نجد أدلّة كبيرة لدعم المزاعم بأنّ حماس تحوّل المساعدات الإنسانية على نطاق واسع".[187]

في فبراير/شباط 2024، صرّح ديفيد ساترفيلد، المبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط للقضايا الإنسانية، بأنّ السلطات الإسرائيلية لم تقدم "أدلة محدّدة على تحويل أو سرقة" مساعدات الأمم المتحدة.[188] وفي وقت لاحق، في أبريل/نيسان، قالت مديرة "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" سامانثا باور في شهادتها أمام "لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ" إنّ الوكالة الأمريكية "لم تتلق تقارير عن تحويل حماس للمساعدات من شركائنا".[189] وأضافت: "إسرائيل لا تخجل من تقديم أدلة على أمور تُسبّب لها مشاكل، ولم يصلنا منها أي شيء في هذا الاتجاه".[190]

لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من التحقق بشكل مستقل من مزاعم تحويل المساعدات في غزة. ذكرت الأمم المتحدة أن "النهب" و"الهجمات على قوافل المساعدات" أعاقا وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنّها لم تقل إنّ حماس أو غيرها من الجماعات المسلّحة المشاركة في الأعمال العدائية هي التي تقوم بذلك، بل "عصابات مسلّحة في غزة" في بعض الحالات.[191] في فبراير/شباط 2024، ذكرت الأمم المتحدة أنّ "هذا المزيج من التهجير الجماعي، وارتفاع مستويات الضعف والحاجة، وتدهور الأمن أدّى إلى حوادث نهب قوافل المساعدات وأعمال عنف".[192]

تسبّبت القيود المفروضة على الوقود في الحدّ بشدة من قدرة منظمات الإغاثة على تنفيذ عملياتها، والتي تشمل توصيل المساعدات وأنشطة تتعلق بالمياه والصرف الصحي والنظافة العامّة. في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، صرّح ممثل أوتشا بأنه "بسبب نقص الوقود، اعتبارا من الغد لن تكون عمليات استقبال شاحنات [المساعدات] ممكنة".[193]

في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أصدر "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة" "القرار رقم 2712"، والذي أكّد الحاجة الملحّة لتوفير "المياه والكهرباء والوقود والغذاء والإمدادات الطبية" إلى غزة.[194]

منعت السلطات الإسرائيلية أيضا كميّات الوقود المحدودة التي تدخل غزة من الوصول إلى مناطق في الشمال. بحسب أوتشا: "رفضت السلطات الإسرائيلية نحو 95% (18 من أصل 19 بعثة) من البعثات التي كانت تنطوي على توزيع إمدادات الوقود والأدوية على خزانات المياه وآبار المياه والمنشآت الصحية في شمال وادي غزة".[195]

في أواخر يناير/كانون الثاني 2024، أخبر موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة هيومن رايتس ووتش أنه رغم الجهود المستمرة التي تبذلها مصلحة المياه لإرسال الوقود إلى الشمال، فقد رفضت السلطات الإسرائيلية طلباتهم بشكل متكرّر.[196] قال أيضا إنّه بين ديسمبر/كانون الأول 2023 وأواخر يناير/كانون الثاني 2024، "لم نتمكن من إرسال لتر واحد من الوقود" إلى الشمال، مما جعل البنية التحتية للمياه، بما في ذلك الآبار، غير صالحة للعمل.[197] وأضاف: "ليس لدي أي فكرة عن كيفية عيش [الناس في شمال غزة]. لدى البعض هناك آبار صغيرة تعمل على الألواح الشمسية، وربما يحصلون على زجاجة واحدة من الماء منها في يوم كامل".[198]

في الفترة من 1 إلى 15 فبراير/شباط 2024، سهّلت السلطات الإسرائيلية مهمتيْن فقط من أصل 21 مهمّة مخطط لها لتوصيل الوقود إلى شمال منطقة وادي غزة، وسط غزة، ولم تسهّل أيّ مهمّة من أصل 16 مهمّة مخطط لها لتوصيل الوقود أو لإجراء تقييمات لمحطات ضخ المياه والصرف الصحي في الشمال.[199] سمحت السلطات الإسرائيلية لأقل من 20% من المهمّات الإنسانية المخطط لها بتوصيل الوقود وإجراء تقييمات شمال وادي غزة في الفترة من 1 يناير/كانون الثاني إلى 15 فبراير/شباط 2024، وفقا لـ أوتشا.[200]

ظلّ دخول الوقود محدودا للغاية وغير كاف لتلبية احتياجات السكّان، ولم يصل إلا إلى بعض البُنى التحتية للمياه والصرف الصحي. في 20 أبريل/نيسان، أكّد حسام شبات، وهو صحفي يقدم تقاريره من شمال غزة، على إكس "توقف جميع آبار المياه في مدينة غزة بسبب نفاد الوقود".[201] في 4 يونيو/حزيران، قالت الأونروا على إكس: "مع نفاد الوقود تقريبا في غزة، أغلقت محطات تحلية المياه الحيوية. الناس ليس لديهم ما يكفي من المياه ... إنّه كفاح من أجل البقاء على قيد الحياة".[202]

حتى أغسطس/آب 2024، ظلّ رفض السلطات الإسرائيلية واردات الوقود يشكل عائقا رئيسيا أمام احتياجات المياه والصرف الصحي.[203] في 7 أغسطس/آب، أفاد أوتشا أنّ "نقص المولدات ومصادر الطاقة البديلة، إلى جانب نقص الوقود وقطع الغيار لتشغيل المولدات الحالية، لا يزال يعيق بشدة إنتاج المياه وضخ مياه الصرف الصحّي، مما يعرّض السكان لمخاطر صحية كبيرة في جميع أنحاء قطاع غزة".[204]

تشغيل محدود لأنابيب المياه

وفقا لمصلحة مياه بلديات الساحل ومجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة، كانت هناك ثلاثة أنابيب تديرها شركة ميكوروت، شركة المياه الوطنية الإسرائيلية، وكانت توفر حوالي 52,800 متر مكعب من المياه يوميا لغزة، وأغلب مياه الشرب في غزة أيضا.[205]

قطعت السلطات الإسرائيلية جميع المياه التي تدخل غزة عبر أنابيب ميكوروت الثلاثة بين 9 و31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثمّ أعادت فتح اثنين منها: اللذان يزوّدان وسط غزة وجنوبها.

كان الأنبوب الذي يزوّد شمال غزة قد تضرر في تلك المرحلة بسبب الأعمال العدائية. تُظهر صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 9 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 للمنطقة التي يُعتقد أن خط الأنابيب الواقع في أقصى الشمال يمرّ منها، استنادا إلى بيانات من البنك الدولي و"إيبسوس"، حفرة كبيرة، مما يشير إلى استخدام أسلحة متفجرة في هجوم إسرائيلي.[206] لم تظهر الحفرة في صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

بعد إعادة تشغيل الخطوط الجنوبية والوسطى في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرّض الخط الذي يزوّد جنوب غزة لأضرار جسيمة أيضا بسبب الأعمال العدائية، وانقطع الإمداد من 5 ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى 16 مايو/أيار 2024، وفقا لموظف في مصلحة مياه بلديّات الساحل ولما عبد الصمد، المستشارة الفنية في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة العامة في منظمة أوكسفام.[207] لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من التحقق من سبب الضرر الذي لحق بخط الأنابيب الجنوبي.

وفقا لـ أوتشا، من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 إلى أبريل/نيسان 2024، كان الأنبوب المؤدي إلى وسط غزة فقط صالحا للتشغيل، لكن بين نهاية أكتوبر/تشرين الأوّل وفبراير/شباط، كان يعمل بأقل من 50% من طاقته.[208]

في فبراير/شباط 2024، وفّرت الإمارات خطّ مياه جديد يمتد من مصر إلى غزة ويوفر 2,400 متر مكعب يوميا.[209] لكن مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة أفادت أنه في 7 يونيو/حزيران، "توقف الخط بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت بخط الإمداد الذي تم بناؤه حديثا في أعقاب الغزو البرّي العسكري الإسرائيلي لرفح"، والذي حذرت وزارة الخارجية الأمريكية، فضلا عن العديد من الجهات الفاعلة الأخرى، من أنه قد يؤدي إلى أزمة إنسانية خطيرة.[210]

في 28 مارس/آذار 2024، أعادت محكمة العدل الدولية تأكيد أمرها الصادر في يناير/كانون الثاني، وأمرت في حكم جديد السلطات الإسرائيلية بتوفير "الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل، بما في ذلك الغذاء والمياه والكهرباء والوقود والمأوى والملابس، ومتطلبات النظافة والصرف الصحي... دون عوائق".[211]

بعد أسبوع، في 4 أبريل/نيسان، أعلن مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق عن تدابير لزيادة إمدادات مياه الشرب إلى غزة، بما في ذلك تزويد الآبار ومحطات تحلية المياه في شمال غزة بالوقود، وتصليح وإعادة فتح خطيْ أنابيب المياه الآخريْن.[212]

في أبريل/نيسان، وبعد أن تمكّنت مصلحة مياه بلديات الساحل من إجراء التصليحات اللازمة، بدأ المسؤولون الإسرائيليون يسمحون بضخ المياه عبر خطيْ ميكوروت الممتدين إلى جنوب غزة وشمالها.[213] لكنّهم استمروا في تقييد كمية المياه التي تدخل عبر خطوط الأنابيب الثلاثة.[214] ونتيجة لذلك، حتى 25 سبتمبر/أيلول، كانت خطوط الأنابيب توفّر 38,500 متر مكعّب من المياه يوميا، أي 73% من مستوى ما قبل 7 أكتوبر/تشرين الأوّل.[215] لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من تحديد السبب وراء استمرار السلطات الإسرائيلية في تقييد تدفق المياه إلى غزة عبر خطوط الأنابيب الثلاثة.[216]

لكن أحد موظفي مصلحة مياه بلديات الساحل لاحظ أنّ التحسّن في مياه الشرب القادمة من خطوط ميكوروت كان له تأثير ضئيل على كميّة المياه التي يحصل عليها الناس في جميع أنحاء غزة بسبب التهجير الهائل، وصعوبات إيصال المياه إلى الأشخاص الذين ليسوا في مناطق متصلة بشبكة المياه والذين لا يبقون في مكان واحد.[217] حتى سبتمبر/أيلول 2024، تم وضع 86% من غزة، منذ أكتوبر/تشرين الأوّل، تحت أوامر إخلاء عسكرية إسرائيلية، مما يعني أنّ الفلسطينيين لا يستطيعون دائما الوصول إلى خطوط المياه في المناطق التي صدرت فيها أوامر بالمغادرة.[218]

كما أن المياه التي توفرها الأنابيب لم تكن كافية لتعويض استمرار قطع السلطات الإسرائيليّة للكهرباء، والقيود المفروضة على الوقود المستخدم في مرافق إنتاج المياه الأخرى، والمياه المفقودة بسبب الأضرار التي لحقت بالأنابيب. في 1 يوليو/تموز، تضرر خط الأنابيب إلى شمال غزة مرّة أخرى في الأعمال العدائية، وخرج عن الخدمة حتى 20 يوليو/تموز، لمّا تمكن عمال مصلحة مياه بلديات الساحل من تصليحه وإعادة فتحه.[219]

بين أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 وأغسطس/آب 2024، أبلغت مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامة ووكالات الأمم المتحدة عن تقديرات مختلفة لمتوسط ​​كميّات المياه التي يتمّ الحصول عليها، تتراوح بين لترين وتسعة لترات للشخص الواحد في اليوم، وهو أقل بكثير من كميّة الـ15 لترا اللازمة للبقاء على قيد الحياة وفقا للمعايير الدولية.[220] لا توفر هذه التقديرات معلومات حول مناطق أو سكّان محددين، ولا تُحدّد مقدار المياه الصالحة للشرب. في ديسمبر/كانون الأول 2023، أفادت "اليونيسيف" أنّ الأطفال المهجّرين حديثا في جنوب غزة "لا يحصلون إلا على 1.5 إلى 2 لتر من الماء يوميا".[221] وفقا لـ أوتشا ومصلحة مياه بلديات الساحل، لم يكن مُمكنا الحصول على مياه للشرب في شمال غزة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وأبريل/نيسان 2024.[222]

في أغسطس/آب، أجرت مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة مسحا للأسر لتقييم احتياجات المياه والصرف الصحي في جميع أنحاء غزة، ووجدت أن متوسط الحصول على الماء يُقدّر بـ​​16.44 لترا للفرد الواحد يوميا.[223] كما أفاد حوالي ثلثي الأسر التي تم تقييمها بتلقي أقل من ستة لترات من مياه للشرب والطهي، أي أقل من تسعة لترات للفرد الواحد يوميا الموصى بها وفقا للمعايير الدولية، و"يواجه حوالي 1.4 مليون شخص ظروفا غير آمنة عند الوصول إلى مرافق الصرف الصحي، رغم أنّ أوتشا أبلغ في أغسطس/آب عن أعلى مستويات إنتاج للمياه في غزة منذ بدء الأعمال العدائية".[224] لم يتمكن المسح من جمع بيانات من بعض المناطق التي "يصعب الوصول إليها".[225]

© 2024 Human Rights Watch

تعطّل مرافق تحلية المياه والآبار

بعد نفاد احتياطيات الوقود من محطة توليد الكهرباء في غزة في 11 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، اضطرّت مرافق تحلية المياه الرئيسية الثلاث في غزة إلى إيقاف عملياتها، وفقا لموظف في مصلحة مياه بلديات الساحل وتقرير صادر عن الأونروا.[226] لاحقا، في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن بدأ المسؤولون الإسرائيليون في السماح للأمم المتحدة ووكالات الإغاثة الأخرى بإدخال كميّات صغيرة من الوقود إلى القطاع، عادت منشأتا تحلية المياه في وسط وجنوب غزة للعمل بطاقة محدودة للغاية.[227] في 16 يناير/كانون الثاني 2024، أفاد أوتشا أنهما كانتا تنتجان ما مجموعه 2,400 متر مكعب من المياه يوميا، مقارنة بإجمالي 22 ألف متر مكعب كانت تنتجها المرافق الثلاثة قبل الأعمال العدائية.[228]

هناك ثلاث مرافق تحلية رئيسية في غزة تعمل على تحلية المياه المالحة، بالإضافة إلى عشرات المرافق الأصغر التي تعمل على تحلية المياه قليلة الملوحة (من المياه الجوفية). تعتبر هذه المرافق بالغة الأهمية لإنتاج المياه الصالحة الشرب لتكملة كميات المياه القادمة عبر أنابيب ميكوروت، والتي لا تكفي لتزويد كلّ سكان غزة.[229]

رغم وجود تقارير تحدّثت عن زيادة في دخول المساعدات والوقود في أبريل/نيسان، أفادت مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة في 17 أبريل/نيسان أنّ منشأتي تحلية المياه تمكنتا فقط من إنتاج ثلاثة آلاف متر مكعب من المياه يوميا.[230] وفقا لأحد العاملين مع مصلحة مياه بلديّات الساحل، كانت محطّة تحلية المياه التابعة لليونيسيف في دير البلح تعمل بنسبة 50% فقط من طاقتها بسبب نقص الوقود.[231] في 7 يوليو/تموز، أفاد أوتشا أن محطّتي تحلية المياه اللتين كانتا "تعملان بشكل متقطع بسبب نقص شحنات الوقود اللازمة"، قد تم إغلاقهما.[232]

هناك أيضا حوالي 300 بئر بلديّة في جميع أنحاء غزة تزود المجتمعات المحليّة بالمياه من خزان المياه الجوفية في غزة. بعض الآبار بها مرافق تحلية صغيرة مرتبطة بها لإنتاج مياه الشرب، لكن وفقا لـ أوتشا، فإن المياه التي تنتجها هذه الآبار "تتسم بتدنّي نوعيتها بالنظر إلى أنها مياه مالحة".[233]

في يناير/كانون الثاني، أخبر أحد موظفي مصلحة مياه بلديات الساحل هيومن رايتس ووتش أنّ الغالبيّة العظمى من آبار غزة البلدية البالغ عددها 300 بئر لم تعد تعمل بسبب نقص الوقود والكهرباء.[234] وأوضح أنّ الآبار كانت في السابق تنتج حوالي 260 ألف متر مكعب من المياه يوميا. قال: "اليوم، نحن نتحدث... عمّا يقدر بنحو 160 بئرا [في شمال غزة] لا تعمل بسبب عدم توفر الوقود والكهرباء، إضافة إلى تدمير العديد من الآبار - 60% [تضرّرت أو دمّرت] إما بشكل مباشر أو غير مباشر".[235] مع أن غالبية سكان شمال غزة هجّرتهم القوات الإسرائيلية قسرا بالفعل إلى مناطق أخرى من غزة بحلول يناير/كانون الثاني، إلا أنّ بضع مئات الآلاف من الأشخاص ما زالوا موجودين، ولا يستطيعون الحصول على ما يكفيهم من المياه.

قال رجل (27 عاما) لديه إعاقة متحدثا عن التحديّات التي يواجهها للحصول على الماء: "لجلب الماء [من البئر]، نحتاج إلى مولّد، ولنتمكّن من تشغيل المولّد، نحتاج إلى وقود".[236]

في 22 يناير/كانون الثاني، ذكر أوتشا أنّ الآبار تُنتج فقط حوالي عُشر ما كانت تنتجه قبل الأعمال العدائيّة.[237]

في أبريل/نيسان، أفادت مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة أنّ من أصل 300 بئر بلديّة، هناك فقط 40 تعمل، رغم أنّ هذا العدد ليس ثابتا ويعتمد على كميّة الوقود التي يُسمح بإدخالها إلى غزة، والتي تظل محدودة للغاية.[238]

في 30 مايو/أيّار، أخبر موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل هيومن رايتس ووتش أنّ عدد الآبار العاملة ظل صغيرا جدا بسبب نقص الوقود الذي يدخل غزة منذ أن أغلقت الحكومة الإسرائيلية معبري رفح وكرم أبو سالم يومي 5 و6 مايو/أيار. قال: "دخلت كميّة صغيرة [من الوقود] لتشغيل بعض الآبار [غير المدمرة وغير المتضررة] في شمال غزة".[239] لكنّه أضاف أن هذه الكميّة كانت ضئيلة مقارنة بما هو مطلوب.[240] قال: "نحن نتحدث عن نقص في الوقود يؤثر أيضا على نقص في المياه".[241]

في 7 يوليو/تمّوز، أفاد أوتشا أنّه "بسبب نقص الوقود، انخفض إنتاج المياه بشكل كبير، ممّا أدى إلى انخفاض توزيع المياه العامة بنسبة 38% منذ أوائل يوليو/تمّوز".[242]

صرّح طبيب يعمل في وزارة الصحّة في غزة أنه منذ بدء الأعمال العدائية، أصبحت هذه الآبار، التي تضخّ من المياه الجوفية غير الصالحة للاستهلاك البشري إلى حد كبير، "مصادر أساسية للمياه" للأشخاص الذين يحتمون في المستشفيات وبالقرب منها.[243] قال: "كلّ هذه المياه ملوثة".[244]

قال صحفي في جنوب غزة لـ هيومن رايتس ووتش إنّه وعائلته، وكذلك 80 مُهجّرا لجأوا معهم، كانوا يحصلون على الماء من "آبار مالحة".[245] قال: "المياه ملوّثة، والناس يمرضون، وكثير من الناس يعانون".[246]

ممّا زاد من المخاوف بشأن ملوحة مياه الآبار هو أنّ القوات الإسرائيلية ضخت في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني مياه البحر في أنفاق تحت غزة قالت إنّ حماس تستخدمها في العمليات العسكرية.[247] ذكر بيدرو أروجو أغودو، المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي، فضلا عن خبراء بيئيّين آخرين، أنّ إغراق الأنفاق بمياه البحر يمكن أن يكون له تأثير كارثي على مياه غزة، وذلك لتسرّب مياه البحر إلى طبقة المياه الجوفية، بل قد تصير غزة غير صالحة للسكن.[248] في تقرير صدر في يونيو/حزيران 2024، ذكر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أنّ "إمدادات المياه [في غزة] ملوثة أيضا بسبب الممارسات والأعمال العسكرية، بما في ذلك بناء وإغراق وتدمير نظام الأنفاق".[249]

مرافق ومحطّات صرف صحّي معطّلة

غزّة فيها ستّ محطّات لمعالجة مياه الصرف الصحّي، و65 محطّة لضخّ مياه الصرف الصحّي.

حتى 15 أكتوبر/تشرين الأول، اضطرّت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحّي ومعظم محطات ضخ مياه الصرف الصحي إلى الإغلاق بسبب نقص الوقود والكهرباء، مما أدّى إلى تسرّب مياه الصرف الصحي إلى البيئة، بما في ذلك البحر والتربة، وأثّر على المياه الجوفية.[250]

تُعدّ معالجة مياه الصرف الصحي أمرا بالغ الأهميّة لتجديد إمدادات المياه الجوفية بالمياه العذبة، ولضمان عدم تسرّب مياه الصرف الصحي ومياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى البيئة - مما قد يؤدي إلى انتشار الأمراض.

في 11 يناير/كانون الثاني، ذكر أوتشا أن "رفض إيصال إمدادات الوقود إلى منشآت المياه والصرف الصحي على نحو متكرر تسبّب في حرمان الناس من إمكانية الحصول على المياه النظيفة ورفع من مستوى الصرف الصحي، مما يزيد من خطر تفشي الأمراض السارية إلى حدّ كبير".[251]

في 9 فبراير/شباط، أفاد أوتشا أنّ الفيضانات حول محطّة ضخّ مياه الصّرف الصحي في حيّ الزيتون، التي تضرّرت بسبب الهجمات الإسرائيلية، تشكل "أزمة محتملة" لفيضان الصرف الصحي في المنطقة المحيطة بالمحطة.[252] وأضاف المكتب في بيان له أنّ "هذا يتفاقم بسبب نقص الوقود، مما يعيق تشغيل محطات الصرف الصحي".[253]

في 29 أبريل/نيسان، أفاد أوتشا أن مصلحة مياه بلديات الساحل أبلغتهم أن محطة معالجة مياه الصرف الصحي في رفح فاضت بمياه الصرف الصحي بسبب نقص الكهرباء والوقود لتشغيل المنشأة.[254]

في 4 يوليو/تموز، ذكرت "لجنة الطوارئ في بلدية خان يونس" في جنوب غزة أن القيود المفروضة على استيراد الوقود "أحدث شللا تاما بخدمات البلدية التي تواجه صعوبة بالغة في تقديم خدماتها"، بما في ذلك محطات ضخ مياه الصرف الصحي وآبار المياه."[255]


 

III. تدمير البنية التحتيّة للمياه والصّرف الصحّي

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، تسبّبت العمليّات العسكرية في غزة في تدمير أو تضرر قدر كبير من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، بما في ذلك أنابيب ميكوروت والإمارات، والآبار، ومحطات معالجة المياه، وأجزاء من شبكة خطوط المياه، ومرافق الصّرف الصحّي ومعالجتها.

في عدّة حالات، وجدت هيومن رايتس ووتش أنّ القوّات الإسرائيلية استهدفت البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة العامّة عمدا، دون وجود أيّ هدف عسكري مفترض. كما هو موضّح أدناه، في هذه الحالات، تشير جميع المعلومات المتاحة إلى أنّ التدمير لم يكن عرضيا وناتجا عن هجمات على أهداف عسكريّة، بل كان متعمدا، لأنّ القوات البرية الإسرائيلية هي التي كانت تسيطر على المناطق التي دمّرت فيها البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة العامّة. هدمت القوّات الإسرائيلية مرافق في مناطق تبعد بضع مئات من الأمتار عن محيط غزة/إسرائيل، كانت تحت السيطرة العسكرية لإسرائيل منذ المراحل الأولى من النزاع.

هُناك معلومات إضافية توحي بأنّ القوّات الإسرائيلية لم تكن تحت نيران العدوّ، ولم تكن تسعى إلى تحقيق ميزة في ساحة المعركة على حساب الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة عندما دمّرت البنية التحتيّة للمياه، منها فيديو نشرته القوات الإسرائيلية وهي تعمد إلى تركيب وإيصال متفجرات داخل خزان للمياه، وصور بالأقمار الصناعية تظهر جرّافات عسكريّة ومسارات خاصة بجرافات تذهب من الأراضي الإسرائيلية إلى محطات الصرف الصحي المختلفة، حيث تم تجريف ألواح شمسية كبيرة تزوّد المحطات بالطاقة بشكل منهجي.

في حالات أخرى، دمّرت الهجمات الإسرائيلية أو ألحقت أضرارا بالبنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي، لكن لم يكن ممكنا تحديد ما إذا كانت الهجمات قد استهدفت البنية التحتيّة نفسها أم الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة أو أهداف عسكرية أخرى. حتى في حالة الوجود العسكري، ما لم تُستخدم البنية التحتيّة حصرا لأغراض عسكرية - وهو ما لا يوجد دليل عليه - فإنّ البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي تحافظ على وضعها كأعيان لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ويُحظر على القوات مهاجمتها أو تدميرها أو إتلافها بموجب قوانين الحرب.[256]

هناك مجموعة ثالثة من الحالات التي نظرنا فيها، وتشمل تدمير بُنى تحتيّة للمياه أو إلحاق أضرار بها دون أن نتمكّن من تحديد الطرف المسؤول عن الهجوم.

بشكل عام، فإنّ التأثير المدمّر للأعمال العدائية على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي يزيد من احتمال إلحاق الضرر بالمدنيين، في الحالات التي تكون فيها القوات الإسرائيلية هي التي هاجمت البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ومن خطر أن تكون هذه الهجمات غير متناسبة مقارنة بأي ميزة عسكرية متوقعة.

المسؤولون العسكريون والسلطات الإسرائيلية كانوا على علم، أو كان ينبغي لهم أن يعلموا، بالآثار المدمّرة للهجمات الإسرائيلية على حصول المدنيين في غزة على المياه. لكن، ورغم تواتر تقارير متسقة منذ بداية التصعيد في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أثبتت أنّ المدنيين في غزة لا يستطيعون الحصول على كميات كافية من المياه للبقاء على قيد الحياة، استمرّت القوات الإسرائيلية في تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي عمدا، كما واصل المسؤولون الإسرائيليون فرض قيود على المياه والوقود والكهرباء والواردات اللازمة لتصليح أو صيانة البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة.

تدمير معظم البنية التحتيّة للمياه والصرف الصحي والنظافة العامة

بعد أربعة أيام فقط من بدء الأعمال العدائية، أبلغ أوتشا عن "قصف سبع من منشآت المياه والصرف الصحي المهمة... ولحقت أضرار فادحة بها".[257] كانت هذه المرافق تخدم أكثر من نصف سكان غزة. في نفس التحديث، قال المكتب أيضا: "باتت مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة تتراكم في الشوارع، ممّا يشكل خطرا على الصحة".[258]

منذ ذلك الوقت، استمرّت القوّات الإسرائيلية في مهاجمة مرافق المياه والصرف الصحي، رغم إدراكها أن نظام المياه والصرف الصحي كان ينهار، وأنّ الأمراض المنقولة بالمياه كانت تنتشر. حتى أواخر يناير/كانون الثاني 2024، كانت معظم البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة قد دُمّرت أو تضرّرت بسبب الأعمال العدائية، بما في ذلك 87% من مرافق المياه والصرف الصحي في محافظة غزة، و82% من المرافق في شمال غزة، و54% في دير البلح، و46% في خان يونس، وفقا للأمم المتحدة.[259] في الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أغسطس/آب 2024، أفادت بلديات شمال غزة ومدينة غزة بتدمير 97 بئر مياه، و13 مضخة صرف صحي رئيسية، و57 مولدا كهربائيا يُستخدم لتشغيل الآبار، و204 مركبة لجمع النفايات، و255 ألف متر من خطوط المياه والصرف الصحي.[260] وفقا للأمم المتحدة والبنك الدولي، قد تستغرق إعادة بناء هذه البنية التحتية عقودا، وستحتاج إلى مئات الملايين من الدولارات.[261]

رغم أنّه لا يُمكن التحقق من أسباب كل الأضرار والدمار الذي لحق بالبنية التحتية، إلا أنّ فيديوهات وصور حصلت عليها هيومن رايتس ووتش أو نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وتحققت منها هيومن رايتس ووتش، وكذلك تحليل صور للأقمار الصناعية التُقطت لمواقع شهدت العديد من الحوادث التي وثقتها هيومن رايتس ووتش، أثبتت وجود عناصر تشير إلى أنّ الهجمات الإسرائيلية فقط هي التي يمكن أن تسبب ذلك الضرر والدمار، وأنّ بعض الهجمات على الأقل كانت متعمّدة، مع العلم بأنّها تستهدف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي. تشمل هذه العناصر حفرا كبيرة تتسق مع استخدام ذخائر اسقطت من الجوّ، وتدمير مساحات من الألواح الشمسية بواسطة الجرّافات، وتدمير مباني بشكل كامل.

وفقا لموظفين في مصلحة مياه بلديات الساحل، أطلعت إحدى وكالات الإغاثة الدوليّة السلطات الإسرائيليّة، قبل بدء الأعمال العدائيّة، على الإحداثيات الدقيقة لجميع البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة، بما في ذلك مستودع ومقر مصلحة مياه بلديات الساحل.[262] أوضح أحد الموظفين أنّ الهدف من إرسال الإحداثيات هو "حماية المرافق من الاستهداف [من قبل القوات الإسرائيلية] أثناء النزاعات".[263] أكدت القوات الإسرائيلية لليونيسيف و"سلطة المياه الفلسطينية"، ومقرها رام الله، أن عدة مرافق، بما في ذلك مستودع مصلحة مياه بلديات الساحل، خارج مناطق الاشتباك بعد بدء الأعمال العدائية، لتأكيد علم القوات الإسرائيلية بالمرافق التي توفر خدمات أساسية للمدنيين في غزة وتجنب إلحاق الضرر بها.[264] رغم هذه التدابير، عمدت القوّات الإسرائيلية إلى مهاجمة المستودع المركزي لمصلحة مياه بلديات الساحل يومي 21 و22 يناير/كانون الثاني 2024، مما تسبّب في إتلاف وتدمير كميات هائلة من المواد الحيويّة المستخدمة في مجال المياه والصرف الصحي.

وجد تحليل أجرته أوكسفام أن جزءا كبيرا من البنية التحتية التي أنشأتها أو أعادت تأهيلها أوكسفام وشركاؤها في مجال المياه والصرف الصحي بين 2017 و2023 قد تضرّرت أو دُمّرت بسبب الهجمات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، مما جعل الكثير منها غير صالح للعمل.[265] تم إرسال مواقع هذه البنية التحتية أو إطلاع السلطات المختصة عليها "لتجنّب المخاطر المحتملة" التي قد تهدّد توفير المساعدات الإنسانية، باستخدام القنوات المناسبة لضمان علم الحكومة الإسرائيلية بها لتتجنّب إلحاق الضرر بالمرافق التي توفر خدمات أساسية للمدنيين في غزة.[266]

وجد تقرير منفصل لأوكسفام أنّه حتى 24 فبراير/شباط، ألحقت القوات الإسرائيلية أضرار أو دمّرت 12 مشروعا للمياه والصرف الصحي كانت قد أنشأتها أوكسفام وشركاؤها، رغم أنّه تمّ تحديدها للجيش الإسرائيلي في ديسمبر/كانون الأوّل.[267] في غياب أهداف عسكرية مشروعة، تصير هذه الهجمات عشوائية وغير قانونية، إن لم تكن متعمدة.

يُثير استخدام القوات الإسرائيلية لأسلحة متفجرة ذات تأثير واسع في مناطق مأهولة بالسكان في غزة مخاوف كبيرة من حصول هجمات عشوائية تنتهك قوانين الحرب. حتى منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، أشارت تقارير إلى أنّ حوالي نصف الذخائر التي ألقيت على غزة كانت "قنابل غبية" غير موجّهة.[268] استخدم الجيش الإسرائيلي بشكل متكرّر قنابل تزن ألفي رطل على مناطق مكتظة بالسكان في غزة، بما في ذلك في مناطق فيها أيضا آبار وشبكات مياه وبنية تحتية أخرى كثيفة للمياه والصرف الصحي.[269]

في سياق قطع وتقييد السلطات الإسرائيلية لإمدادات المياه والكهرباء والوقود إلى غزة، تسبّب تدمير القوات الإسرائيلية للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي في تفاقم مشاكل الوصول إلى المياه والصرف الصحي في جميع أنحاء القطاع.

هجمات متعمّدة على مرافق معالجة مياه الصرف الصحّي

هناك ستّ محطّات لمعالجة مياه الصرف الصحّي لكلّ السُكّان المدنيين في غزة، وهي ضروريّة للحفاظ على بيئة صحية والمساهمة في احتياطات المياه الجوفيّة في القطاع.

من بين هذه المحطات الست، يُظهر تحليل صور بالأقمار الصناعية أنّ الألواح الشمسية في أربع منها على الأقل دمّرتها جرّافات عسكرية إسرائيلية، مما جعل المرافق غير صالحة للعمل، لأنّ الكهرباء والوقود مازالا محظورين. يُظهر التدمير الشامل لحقول الألواح الشمسيّة، ووجود آثار جرافات في كل حالة، ومساراتها القادمة من الحدود الإسرائيلية، إلى أنّ السلطات الإسرائيلية تعمّدت إلحاق الضرر بمحطات معالجة مياه الصرف الصحي.

استخدام الجرّافات لتجريف حقول الألواح الشمسية الكبيرة بالكامل يؤكّد أيضا أنّ الجيش الإسرائيلي كان على الأرجح يُسيطر على هذه المناطق أثناء عمليات الهدم. يُشكّل تجريف الحقول والبساتين والمباني والمرافق جزءا من "عمليات التطهير" التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، وخاصة في المنطقة العازلة وعلى طول الممرّات، عندما تتوقف الأعمال العدائية الرئيسية في منطقة ما. تؤكّد الخرائط اليومية لأوامر الإخلاء التي أصدرتها القوات الإسرائيلية وعمليات التطهير والتقدم التي نفذتها، والتي ينشرها "معهد دراسة الحرب" استنادا إلى تصريحات الجيش الإسرائيلي وغيرها من المعلومات مفتوحة المصدر، هذه النتائج، وتُبرز أنّ القوات الإسرائيلية سيطرت بحسب الافتراض على المناطق التي تقع فيها المرافق، غالبا لأسابيع، قبل التواريخ التي أظهرت فيها صور الأقمار الصناعية تعرّض مرافق المياه والصرف الصحي للتدمير.[270]

إضافة إلى ذلك، تقع ثلاث من المحطات الأربع التي دُمرت ألواحها الشمسيّة - محطات معالجة مياه الصرف الصحي في شمال غزة وفي وسط غزة ("مخيم البريج للاجئين") وخان يونس - على بعد أقل من 500 متر من الحدود الشرقية لقطاع غزة. عبّر مسؤولون إسرائيليون عن نيتهم ​​إنشاء "منطقة عازلة" تغطي هذه المنطقة، زاعمين أنّها لازمة لتمكين سكان التجمعات الموجودة في جنوب إسرائيل من العودة إلى منازلهم دون خوف من هجوم آخر. قال وزير الزراعة الإسرائيلي آفي ديختر لصحفيين في 19 أكتوبر/تشرين الأول: "[على طول] قطاع غزة... سيكون لدينا هامش. ولن يتمكنوا من الدخول. ستكون منطقة تشهد إطلاق النار".[271] يُظهر تحليل أجراه "مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية" (يونوسات) أنّ 90% من المباني الواقعة على بعد أقل من كيلومتر واحد من الحدود لحقتها أضرار أو دُمّرت حتى 29 فبراير/شباط 2024.[272]

أمّا المحطّة الرابعة – محطّة معالجة مياه الصرف الصحّي في الشيخ عجلين – التي تعرّضت أجزاء منها للضرر والتدمير، فتقع داخل ما يسمى بممر نتساريم في شمال غزة. يمتدّ هذا الممر، الذي يشمل طريقا جديدا بناه الجيش الإسرائيلي ومساحات كبيرة تم تجريفها على جانبيه، من محيط إسرائيل/غزة في الشرق إلى البحر في الغرب، ويقسّم المنطقة إلى جزءين شمالي وجنوبي. في صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 25 أغسطس/آب 2024، يمكن رؤية الدمار المنهجي على جانبي الطريق الجديد، حيث تم تدمير الغالبية العظمى من المباني، بما في ذلك منازل فردية ومباني سكنية شاهقة وجامعات.

لم تجد هيومن رايتس ووتش بيانات تؤكّد نيّة عسكرية لتدمير وإلحاق الضرر بمحطات معالجة مياه الصرف الصحي الأربع من قبل السلطات الإسرائيلية. لم تردّ السلطات على طلباتنا للحصول على معلومات حول هذه الحوادث، بما في ذلك رسالة بتاريخ 10 يونيو/حزيران 2024.

مهاجمة الأعيان المدنية عمدا تُعتبر جريمة حرب، وتعمّد حرمان المدنيين من أعيان لا غنى عنها لبقائهم، بقصد تجويعهم، بما في ذلك المياه، يُعدّ أيضا جريمة حرب. أبرزت أبحاث هيومن رايتس ووتش أنّ القوات الإسرائيلية كانت على علم بطبيعة المحطات ومواقعها، لكنها رغم ذلك تعمّدت استهدافها.

محطّة معالجة مياه الصرف الصحي في وسط غزة

تظهر صور بالأقمار الصناعيّة راجعتها هيومن رايتس ووتش أنّ غارة جويّة إسرائيليّة في 10 أو 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (يؤكّدها وجود ثلاث حفر جديدة يبلغ قطرها حوالي 15 مترا على طريق يمتد بمحاذاة المحطة) دمّرت بعض الألواح الشمسية لمحطّة معالجة مياه الصرف الصحي في وسط غزة، الواقعة على بعد أقل من 500 متر من الحدود مع إسرائيل، شرقي مركز مخيم البريج للاجئين. تظهر صور إضافيّة بالأقمار الصناعية، إلى جانب صور أطلعنا عليه موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل، أنّ جميع الألواح الشمسية المتبقية التي تزود المحطة بالطاقة قد تم تجريفها بين 3 و5 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بواسطة جرّافات حسب الافتراض. تُظهِر صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 7 نوفمبر/تشرين الثاني آثار جرافات وحطام في جميع أنحاء حقل الألواح الشمسية. كما يمكن رؤية حقول وبساتين ومباني تم تجريفها حول المحطّة، وكذلك آثار جرافات قادمة من إسرائيل.

Annotated satellite image Annotated satellite image

15 أكتوبر/ تشرين الأول 2023: الصور © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليل © هيومن رايتس ووتش. 20 يناير/كانون الثاني 2024: الصور © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليل © هيومن رايتس ووتش.

تُظهر مقارنة لصور بالأقمار الصناعية بين 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و20 يناير/كانون الثاني 2024 التدمير التدريجي لمحطة معالجة مياه الصرف الصحي في وسط غزة. تضررت الألواح الشمسية لأول مرة في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2023 قبل تدميرها في نوفمبر/تشرين الثاني. وبحلول 20 يناير/كانون الثاني 2024، دُمر أحد المباني الرئيسية بالكامل ويبدو أن عدة مناطق من المحطة قد هُدمت بالجرافات. 

أمرت القوّات الإسرائيلية بإخلاء المنطقة التي تقع فيها المحطّة في 25 ديسمبر/كانون الأول. بحلول 20 يناير/كانون الثاني 2024، أظهرت صور بالأقمار الصناعية تدمير أحد المباني الرئيسية للمحطّة. كما أظهرت آثارا جديدة لتدمير جرافات لمحيط المحطّة حتى ذلك التاريخ، بما في ذلك أجزاء من حقل الألواح الشمسية التي تم تجريفه سابقا وقد تمّ تنظيفه من الحطام.

صورة وفّرها موظف في "مصلحة مياه بلديات الساحل" في غزة لـ "هيومن رايتس ووتش" في 16 يناير/كانون الثاني 2024 تظهر حقل الألواح الشمسية الذي يغذي محطة معالجة مياه الصرف الصحي في وسط القطاع مدمرا بالكامل. © 2024 خاص

بحسب خرائط تستند إلى معلومات نشرتها السلطات الإسرائيلية، تقدّمت القوّات الإسرائيلية، بعد أن أمرت بإخلاء المنطقة، في اتجاه الغرب إلى مشارف مخيم البريج للاجئين نفسه في 27 ديسمبر/كانون الأول.[273]

أفاد "بنك التنمية" الحكومي الألماني أنّ محطة معالجة مياه الصرف الصحي، التي افتتحت في 2021 وكان من المفترض أن تخدم مليون شخص، استغرقت 20 عاما من التخطيط والبناء بسبب "المشاورات المطوّلة مع السلطات الإسرائيلية"، فضلا عن التحديات التي فرضتها القيود على الاستيراد.[274] استثمرت ألمانيا 85 مليون يورو في المنشأة.

محطّة معالجة مياه الصرف الصحّي شمال غزة

ظهرت في محطّة معالجة مياه الصرف الصحي شمال غزة أيضا أنماطا مماثلة من الأضرار والدمار. تُظهر صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 20 ديسمبر/كانون الأوّل 2023 أنّ المحطة لا تزال سليمة. في 10 يناير/كانون الثاني 2024، ظهرت العديد من المباني داخل مجمع المحطة وقد لحقتها أضرار كبيرة. كما جُرفت مساحات كبيرة مجاورة للمحطة، ويمكن رؤية آثار جرافات جديدة يبدو أنها قادمة من خلف الحدود مع إسرائيل.

وفقا لتحليل صور الأقمار الصناعية، تمّ تجريف حوالي نصف الألواح الشمسية للمحطة في 18 أو 19 يناير/كانون الثاني، وتمّ تجريف النصف الثاني في 10 أو 11 فبراير/شباط 2024. طوال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان، استمرّت عمليات تجريف أجزاء من المحطة والمناطق المحيطة بها. من 22 إلى 24 أبريل/نيسان، ظهرت آثار جرّافات جديدة على حقول الألواح الشمسية، مع تنظيف بعض الأماكن من الحطام السابق.

كان الجيش الإسرائيلي قد أمر بإخلاء المنطقة، وكان يُجري عمليات تطهير هناك في أواخر ديسمبر/كانون الأوّل 2023، وتوغّل في المنطقة بأكملها بحلول أوائل يناير/كانون الثاني، ثمّ مارس سيطرة على المنطقة في وقت لاحق.[275]

هذه المنشأة التي موّلها البنك الدولي بقيمة 75 مليون دولار كان يُفترض أنّها ستحمي 52 ألف شخص في المنطقة بعد انهيار جدار حوض تجميع مياه الصرف الصحي في مارس/آذار 2007، ممّا أسفر عن مقتل خمسة أشخاص. أفاد البنك الدولي أن المنشأة توفّر خدمات لـ 400 ألف شخص عند اكتمال البناء في 2018، بعد سنوات من التأخير بسبب "سنوات الحصار، والقيود المفروضة على إدخال المواد والمعدات الحيوية، [و]الأضرار الناجمة عن الحرب والنزاع".[276]

تظهر صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 7 مايو/أيار 2024 مبان متضررة وألواح شمسية تم تجريفها في موقع محطة معالجة مياه الصرف الصحي في شمال غزة. الصورة ©2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليلات © هيومن رايتس ووتش.

محطّة معالجة مياه الصرف الصحّي في خان يونس

تُظهر صور بالأقمار الصناعية أيضا أنماطا مماثلة من الأضرار التي لحقت بمحطة معالجة مياه الصرف الصحي في خان يونس جنوب غزة. تعرّضت المحطة في البداية لبعض الأضرار في حقل الألواح الشمسية الخاص بها في 20 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. تُظهر صور بالأقمار الصناعية من ذلك اليوم أنّ جرافات إسرائيليّة عمدت بين الساعة 11:57 صباحا و2:19 ظهرا إلى تجريف جزء من حقل الألواح الشمسية، بالإضافة إلى بعض البساتين والمباني المحيطة بالمحطة. وفي وقت لاحق بين 26 و29 فبراير/شباط 2024، تم تجريف الألواح الشمسية للمحطة بالكامل. تظهر آثار جديدة لجرافات قادمة من خلف الحدود الإسرائيلية في نفس التواريخ.

كانت إسرائيل قد أمرت بإخلاء المنطقة في 2 ديسمبر/كانون الأول 2023، وتقدمت قواتها إلى داخل المنطقة المأهولة بالسكان مباشرة إلى الشمال، واستمرت في التوغل داخلها حتى 1 مارس/آذار 2024، عندما بدأت عملياتها العسكرية في منطقة المحطّة.[277]

مُوّلت هذه المحطّة من قبل اليابان والكويت بكلفة بلغت 58 مليون دولار، وانطلق بناؤها في 2015، بعد غرق أربعة أطفال في بواليع للصرف الصحي في المنطقة في 2011.[278] بدأ تشغيل المنشأة في 2023، بسعة أولية بلغت 26,600 متر مكعب من مياه الصرف الصحي المُعالَجة يوميا، و"أحدثت ثورة في البنية التحتية للمدينة"، وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.[279]

Annotated satellite image Annotated satellite image

31 يناير/كانون الثاني 2024: الصور © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليل © هيومن رايتس ووتش. 9 مارس/آذار 2024: الصور © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليل © هيومن رايتس ووتش.

تُظهر مقارنة لصور بالأقمار الصناعية تجريف الألواح الشمسية التي تزود محطة معالجة مياه الصرف الصحي في خان يونس بالطاقة. تضررت الألواح الشمسية أول مرة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023 قبل أن تُدمَّر منهجيا في فبراير/شباط 2024. الصور © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم البيانية والتحليل © هيومن رايتس ووتش.

محطّة معالجة مياه الصرف الصحي في الشيخ عجلين

تقع محطة معالجة مياه الصرف الصحي في الشيخ عجلين في شمال غزة، على بعد حوالي 500 متر شمال ما يسمى بممر نتساريم الذي أنشأته القوات الإسرائيلية في أوائل مارس/آذار، والذي يشقّ غزة من الحدود الإسرائيلية إلى البحر الأبيض المتوسط، ​​ويقسّم القطاع إلى نصفين جنوب مدينة غزة. كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد أكّدت في 2017 أنّ نقص الطاقة في المحطّة أدّى إلى تدفّق مياه الصرف الصحي غير المُعالَجة مباشرة إلى البحر، مما يؤثر على الصحة العامة.[280]

منذ مارس/آذار 2024، أظهرت صور بالأقمار الصناعية تدميرا واسعا وتجريفا تدريجيا للأرض لمئات الأمتار شمال وجنوب الطريق، شبيه بالدمار الواضح في المنطقة العازلة المجاورة لمحيط غزة. أظهرت صور بالأقمار الصناعية في 20 و21 مارس/آذار أنّ الجرّافات جرفت مناطق مشجّرة داخل محيط المحطة، مع تضرّر مبنى واحد. تم تجريف الألواح الشمسية للمنشأة في وقت لاحق بين 1 و3 مايو/أيار. كما يمكن رؤية آثار الجرافات وهي تسير ذهابا وإيابا عبر حقل الألواح الشمسية، تاركة آثارا واضحة وبعض الألواح السليمة بينها، في صور بالأقمار الصناعية.

يفترض أنّ القوات الإسرائيلية كانت تسيطر على موقع المحطة قبل وقت طويل من تدميرها، وكانت تجري عمليات تطهير هناك منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023.[281]

تُظهر صورة الأقمار الصناعية التي التُقطت في 3 مايو/أيار 2024 أن ألواح الطاقة الشمسية التي تغذي محطة معالجة مياه الصرف الصحي في الشيخ عجلين بالكهرباء قد جُرِفت بالكامل. تَظهر مسارات الجرافات في حقل الألواح الشمسية وفي المناطق المُشجَّرة داخل المحطة وفي محيطها. الصورة: ©2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم والتحليلات ©هيومن رايتس ووتش

إلحاق أضرار بخزّانات المياه وتدميرها

ما لا يقل عن 31 من خزانات المياه البالغ عددها 54 في غزة تضرر أو دُمِّر طوال فترة الأعمال العدائية. أجرت هيومن رايتس ووتش تقييما للأضرار باستخدام صور بالأقمار الصناعية من 23 و26 أغسطس/آب 2024، والإحداثيات التي قدمتها مصلحة مياه بلديات الساحل، فوجدت أنّ 11 خزّانا من أصل 54 قد دُمرت بالكامل أو بشكل كبير، بينما ظهرت على 20 منها علامات تضرر.

في يوليو/تمّوز 2023، انتشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يُظهر مهندسين عسكريين في الجيش الإسرائيلي وهم يجهّزون ويضعون عبوّات ناسفة لتدمير خزان في حي تل السلطان في رفح جنوب غزة، الخزان الرئيسي الذي يزوّد رفح بالمياه.[282] استنادا إلى تحليل هيومن رايتس ووتش للفيديو، دمّرت القوات الخزان عن طريق الهدم المنظّم. أظهر تحليل صور الأقمار الصناعية أنّ التدمير حدث في وقت ما بين 24 و27 يوليو/تموز. وفقا لـ"هآرتس"، وهي منصّة إعلامية إسرائيلية، وافق قائد القوات الإسرائيلية على الهدم، لكن دون موافقة كبار الضباط.[283] أضافت هآرتس أنّ تلّ السلطان "تقع قرب مناطق إنسانية حدّدها الجيش كمناطق آمنة".[284] أفادت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أنّ الجيش الإسرائيلي كان يُحقق في الحادث. راسلت هيومن رايتس ووتش الجيش الإسرائيلي في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سائلة عما إذا كان قد تمّ إجراء تحقيق، وإذا كان الأمر كذلك، فما كانت النتائج، لكنّ السلطات الإسرائيلية لم تردّ.

صور بالأقمار الصناعية من 22 يناير/كانون الثاني 2024 تُظهر الأضرار التي لحقت بخزان الشيخ الزايد الذي يقع في شمال غزة، 150 متر جنوب المستشفى الإندونيسي. تظهر على آثار أضرار كبيرة على سطح كلا المبنيين الرئيسيين للخزان. © 2024 "بلانيت لابس بي بي سي"

رغم أنّ هيومن رايتس ووتش لم تتمكّن من التحقق من سبب الضرر والدمار الذي لحق بخزانات المياه الأخرى التي تم تحديدها في صور الأقمار الصناعية، إلا أنّ فقدان الوصول إلى المياه نتيجة للضرر الذي لحق بها وتدميرها يوضح الحاجة الأكبر إلى أن تضمن السلطات والقوّات الإسرائيلية حماية مصادر المياه المتبقية في غزة، وأن يكون لدى السكان وسائل أخرى لإنتاج المياه والوصول إليها للتخفيف من الأضرار الناجمة عن فقدان نصف الخزانات في غزة. يُفترض أنّ استمرار السلطات الإسرائيلية في عرقلة دخول مواد تصليح المياه والوقود والكهرباء رغم الأدلّة الواضحة في ذلك الوقت على أن الفلسطينيين في غزة يفتقرون إلى المياه الكافية، يُؤكّد وجود قرار بحرمان المدنيين في غزة من المياه.[285]

الأضرار التي لحقت بمحطّات تحلية المياه والآبار

تُظهِر صور بالأقمار الصناعية التُقطت في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أضرارا لحقت بالمبنى الرئيسي لمحطة تحلية المياه في مدينة غزة، بينما تتمركز العديد من المركبات العسكرية الإسرائيلية حولها.

قال موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل عن عجز موظفي المصلحة عن الوصول إلى المواقع المدمّرة أو المتضررة دون المخاطرة باستهدافهم من قبل القوات الإسرائيلية أو التعرض للأذى عن غير قصد بسبب الهجمات: "لا يمكننا تقدير الأضرار".[286]

تُظهر صور الأقمار الصناعية من 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 الأضرار التي لحقت بالمبنى الرئيسي لمحطة تحلية المياه جنوب غرب مدينة غزة وتمركز لمركبات عسكرية إسرائيلية مركونة في وضعيات عسكرية بجوار المحطة مباشرة. الصورة ©2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم والتحليلات ©هيومن رايتس ووتش


 

IV. عرقلة التصليحات والمساعدات ومهاجمة عمّال المياه

عرقلت السّلطات الإسرائيلية محاولات تصليح البنية التحتية للمياه المتضررة من قبل عمّال المياه، ومنعت إدخال قطع البنية التحتية البديلة إلى قطاع غزة. كما هاجمت القوّات الإسرائيلية المستودع الرئيسي لمصلحة مياه بلديات الساحل في غزة وأضرمت فيه النار، رغم أنّه كان يحتوي مواد ضروريّة لتصليح البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ويحتمي به موظفو مصلحة المياه المهجّرين وعائلاتهم، فضلا عن كونه المقرّ المركزي لمصلحة المياه. هاجمت القوّات الإسرائيلية أيضا عمال المياه وهم يحاولون إجراء تصليحات أو القيام بأعمال أخرى متعلقة بالمياه. قال موظفون إنه في أعقاب عملية تُعرف بـ"فك النزاع"، التي تهدف إلى تمكين المرور الآمن للعاملين في المجال الإنساني أثناء النزاعات، كان يتم إرسال إحداثيات عمّال المياه إلى الجيش الإسرائيلي قبل إجراء التصليحات.[287]

هجوم على مستودع مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة

قال ثلاثة عاملين في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش إنّ القوّات الإسرائيلية نفذت في 21 يناير/كانون الثاني 2024 هجمات جوية، وقصفت ثم أضرمت النار في المستودع المركزي لمصلحة المياه في خان يونس، والذي كان يضمّ قطع غيار ومعدّات للبنية التحتية للمياه. قال ثلاثتهم، وكانوا يحتمون هناك مع عائلاتهم، إنّ الهجمات قتلت أربعة أشخاص مهجّرين في المستودع، منهم والدة واحد منهم.[288]

تحقّقت هيومن رايتس ووتش من صور وفيديوهات من مصلحة مياه بلديات الساحل، وحلّلت صورا بالأقمار الصناعية أظهرت الأضرار والدمار الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالمستودع، وبالمواد الخاصّة بالمياه والصرف الصحي الموجودة داخله.[289]

ذكر أحد الموظفين، الذي قُتلت والدته وأصيب ابنه في الهجوم، أنّ القوّات الإسرائيلية بدأت في مهاجمة المستودع في ليلة 21 يناير/كانون الثاني، حوالي الساعة 11 مساء.[290] خلُص تحقيق أجرته مصلحة مياه بلديات الساحل إلى أنّ الهجوم استخدم صاروخا موجّها.[291]

قال الجيش الإسرائيلي، ردّا على تقرير لـ"بي بي سي"، إنّ المستودع لم يكن مستهدفا، لكن "إرهابيين" ينشطون في مكان قريب قُصفوا، و"من المحتمل أن تكون أجزاء من المستودع قد تضرّرت نتيجة للضربة".[292]

لكن، وفقا لتحقيقات بي بي سي ورواية موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش، في صباح اليوم التالي، عندما حاول عدد قليل من موظفي المصلحة العودة إلى المستودع للبحث عن أيّ مواد يمكنهم إنقاذها، شاهدوا قوات برّية إسرائيلية تُضرِم النار في المعدّات الموجودة في المستودع.[293] راجعت هيومن رايتس ووتش وتحققت من فيديو من مصلحة مياه بلديات الساحل يُظهر بوضوح معّدات ومواد متعلقة بالمياه والصرف الصحي والنظافة محترقة.

بحسب موظفي مصلحة مياه بلديات الساحل، وتقرير التحقيق الذي أجرته المصلحة واطّلعت عليه هيومن رايتس ووتش، أسفر الهجوم عن مقتل أربعة مهجّرين وإصابة عشرة آخرين، وألحق أضرارا بأجزاء ومعدّات للبنية التحتية للمياه تزيد قيمتها عن ثمانية ملايين دولار أمريكي.[294] أضاف أحد الموظفين أنّ الهجوم أضرّ كثيرا بنظام توفير المياه بأكمله بسبب الحاجة الماسّة إلى المعدّات وقطع الغيار المتعلقة بالمياه والصرف الصحي والنظافة ، وخاصّة في ضوء منع السلطات الإسرائيلية دخول معدّات المياه والصرف الصحي الإضافية.[295] قال موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ بي بي سي إنّ المنشأة تضمّ أكثر من ألفي قطعة من قطع البنية التحتية للمياه، وكانت مستودعا لليونيسف ومصلحة مياه بلديات الساحل.[296]

راجعت هيومن رايتس ووتش صورا أطلعنا عليها موظفو مصلحة مياه بلديات الساحل للأضرار التي لحقت بالمستودع، إلى جانب صور بالأقمار الصناعية بتاريخ 29 يناير/كانون الثاني 2024 لمستودع مصلحة مياه بلديات الساحل الواقع غرب خان يونس، قرب مجمّع جامعة الأقصى، تظهر فيها أضرار وآثار حرق على سطح المستودع.

صورة بالأقمار الصناعية من 29 يناير/كانون الثاني 2024 تظهر فيها الأضرار التي لحقت بالمستودع الرئيسي لمصلحة مياه بلديات الساحل في خان يونس والمركبات العسكرية المتموضعة في الجوار. الصورة ©2024 "بلانيت لابس بي بي سي". الرسوم والتحليلات ©هيومن رايتس ووتش
تُظهر صور حللتها "هيومن رايتس ووتش" ومؤرخة في 22 يناير/كانون الثاني 2024 الأضرار التي لحقت بالمستودع المركزي لـ "مصلحة مياه بلديات الساحل" في خان يونس. © 2024 خاص

هجمات على عمّال تصليح المياه والصرف الصحّي

ذكرت مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة أنّ 25 من أصل 28 منشأة للمياه والصرف الصحي تعرضت لهجمات بين 7 أكتوبر/تشرين الأوّل و1 ديسمبر/كانون الأوّل 2023 تعذّر تصليحها.[297] وفقا للما عبد الصمد، المستشارة الفنيّة للمياه والصرف الصحي في أوكسفام، فإنّ إجراء تصليحات أساسية للبنية التحتية المتضرّرة للمياه والصرف الصحي في جميع أنحاء غزة، وخاصة في الشمال، يمثل تحديا كبيرا للغاية لأنّ فرق صيانة مرافق المياه تضطر إلى العمل "تحت نيران العدوّ" وهم "معرّضون لخطر كبير للإصابة أو القتل [بسبب العمل العسكري للقوات الإسرائيلية] أثناء قيامهم بأعمال التصليح"، على حدّ قولها.[298]

في بعض الحالات، قُتل أو جُرح عمّال المياه رغم التنسيق المسبق مع المسؤولين الإسرائيليين. قال موظفان في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش إنه رغم تنسيق برامج تصليح البنية التحتية للمياه مع السلطات الإسرائيلية، إلا أنّ بعض زملائهم تعرّضوا لهجوم من قبل القوات الإسرائيلية.[299] قال أحدهما:

نُرسل لهم [معلومات عن] المواد وحجم الأنبوب وطبيعة التدخل ومن سيذهب إلى هناك بالضبط والأرقام والأسماء على بطاقات الهوية الخاصة بهم حتى يتحققوا ممّا إذا كانوا مطلوبين أم لا، [إضافة إلى] المعلومات المتعلقة بالمركبات.[300]

لكن رغم إرسال هذه المعلومات، أكّد الموظف أنّ العمال تعرّضوا للهجوم عدّة مرّات أثناء محاولتهم إجراء تصليحات أو المشاركة في توزيع المياه. قال: "لم يكن لدى الإسرائيليين أي عذر لاستهداف أي شيء لدينا. إنه ليس نفقا. ... إنها بئر مياه".[301]

ذكر موظّف آخر في مصلحة مياه بلديات الساحل أنّ طائرة حربية إسرائيلية شنّت هجوما في 26 ديسمبر/كانون الأول 2023 وقتلت أحد زملائه، وهو مهندس مياه يعمل مع مصلحة مياه بلديات الساحل، وطفليه، في السيّارة وهم قادمين من خان يونس في اتجاه رفح لاستلام خزّانات مياه من مستودع اليونيسف على الحدود.[302] قال إنّ أشخاصا كانوا في سيارة قريبة من موظفي مصلحة مياه بلديات الساحل شهدوا الهجوم، وأبلغوا المصلحة أنهم شاهدوا الطائرة الحربية في السماء والذخيرة التي دمّرت السيارة، مما أسفر عن مقتل المدنيين الثلاثة.[303]

أوضح الموظّف أنّ جميع المركبات التابعة لمصلحة مياه بلديات الساحل، بما في ذلك المركبة التي أصيبت في الهجوم، تحمل عبارة "ماء" على سطحها، إلى جانب رمز تمّ ارساله إلى السلطات الإسرائيلية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو بارز بوضوح من فوق.[304] أضاف: "كان يقود سيارته أيضا في منطقة خضراء"، في إشارة إلى الطرق التي حدّدتها السلطات الإسرائيلية على أنها "آمنة".[305]

تسبّب وجود القوّات الإسرائيلية بالقرب من البنية التحتية للمياه وحولها في منع أطقم الإمدادات والصيانة من الوصول إلى مصادر المياه والبنية التحتية للمياه بسبب المخاطر المرتبطة بالاقتراب من القوات، وفقا لموظفين في مصلحة مياه بلديات الساحل، وموظفيْن في منظمات دوليّة عاملة في مجال المياه والصرف الصحي.[306] ذكرت "الإذاعة الوطنية العامة" (NPR)، وهي منظمة إعلاميّة غير ربحية مقرها الولايات المتحدة، أنّ صور الأقمار الصناعية أظهرت أنّ القوات الإسرائيليّة ركنت مركبات عسكرية قرب محطة تحلية المياه في مدينة غزة ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي واحتلتهما في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني.[307] تُظهر صور بالأقمار الصناعية من 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، راجعتها هيومن رايتس ووتش، العديد من المركبات العسكرية المتمركزة في وضعيات عسكريّة حول محطة تحلية المياه في مدينة غزة.

قال موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش: "نحن على اتصال بزملائنا في شمال غزة، لكن... بما أنّ المنطقة بأكملها [تخضع] لظروف حرب واستهداف، ليس من الآمن التجول وتقييم الأضرار هناك".[308]

في 21 يونيو/حزيران 2024، أفادت مصلحة مياه بلديات الساحل أنّ غارة جويّة إسرائيلية قتلت خمسة عمال مياه بلديين أثناء تواجدهم في مرآب مملوك للبلدية لجمع الوقود ونقله إلى آبار المياه في المنطقة.[309] قال موظف في مصلحة المياه لـ هيومن رايتس ووتش إنّ غارة جويّة ضربت المرآب حوالي الساعة 10:40 صباحا، وأن مدنيا خارج المبنى قُتل أيضا بشظايا من الهجوم.[310]

كما قال إنّ مصلحة مياه بلديات الساحل كانت تنسّق دخول الوقود وتحرّكاتها لنقل الوقود إلى الآبار مع الجيش الإسرائيلي عبر سلطة المياه الفلسطينية في رام الله: "كان العمال يؤدّون هذه المهمّة لأسابيع دون أي تحذير من جيش الدفاع الإسرائيلي لوقف هذا العمل".[311] قالت بلدية غزة في بيان لها إنّ العمال "كانوا يؤدّون واجبهم الوطني ويخدمون المواطنين رغم الإمكانيات المحدودة للغاية والمخاطر العالية".[312]


 

V. عرقلة إدخال ونقل المواد المتعلقة بالبنية التحتيّة للمياه

منعت السلطات الإسرائيلية إدخال مواد التصليح وقطع الغيار ومواد البنية التحتيّة الإضافية للمياه إلى غزة.[313] أخبر موظفون في وكالات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية دولية تُقدّم وتنسّق مساعدات إنسانية في غزة هيومن رايتس ووتش أنّ السلطات الإسرائيلية لم تسمح بدخول أي أنظمة لتنقية المياه أو أي قطع غيار قد تساعد في إنتاج المياه منذ بدء الحرب، إلا عندما تكون جزءا من تجهيزات لإنشاء مرفق رعاية صحية مؤقت.[314]

أخبر موظفون في مجموعة عمل المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة هيومن رايتس ووتش أيضا أنّ السلطات الإسرائيلية منعت دائما إدخال الكلور، وهو ضروري لتطهير المياه، إلى غزة لعدة أشهر بعد تصاعد الأعمال العدائية.[315] أعلنت مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة أنّها تمكّنت من إدخال الكلور لأول مرة منذ بدء الأعمال العدائية في 23 أبريل/نيسان.[316] في 2 سبتمبر/أيلول 2024، أفاد أوتشا أنّ اليونيسيف أدخلت الكلور المبيّض لتطهير المياه إلى مدينة غزة وجباليا لأول مرة منذ ثلاثة أشهر، كما أنشأت مصلحة مياه بلديات الساحل وحدات لمعالجة المياه بالكلور وحقنها في مختلف أنحاء غزة.[317]

قالت لما عبد الصمد، المستشارة الفنية في مجال المياه والصرف الصحي في أوكسفام، لـ هيومن رايتس ووتش إنّ السلطات الإسرائيلية كانت تفرض قيودا مشدّدة على المنظمات غير الحكومية الدولية والأمم المتحدة، وتمنعها من جلب إمدادات المياه وقطع التصليحح الضروريّة إلى غزة لتنفيذ أعمال صيانة أساسية لمواجهة نقص المياه الناجم عن البنية التحتية المتضررة والمدمّرة، دون تقديم أيّ مبرّرات.[318] وأضافت أنّ أوكسفام اشترت ست وحدات تحلية، لكنّ السلطات الإسرائيلية لم تسمح بإدخالها إلى غزة. قالت: "هناك ملايين الدولارات من إمدادات المياه والصرف الصحي التي اشترتها المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة، لكنّها ظلّت عالقة في الحدود".[319]

قال العديد من الأشخاص العاملين على توفير مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة العامّة إنّ السلطات الإسرائيلية، في بعض الحالات، تمنع دخول بعض المواد وكان السبب المُعلن أنّها "ذات استخدام مزدوج"، ويُمكن استغلالها لأغراض عسكرية، لكن لا توجد قائمة واضحة للمواد المحظورة.[320] قال عمال إغاثة إنّ السّلطات الإسرائيلية لم تُقدِّم أي قائمة بالمواد المحظورة، لكن موظفي التفتيش الإسرائيليين يرفضون حمولات شاحنات بأكملها بشكل عشوائي، دون تفسير أو إمكانية استئناف. قالت امرأة تعمل في وكالة إغاثة حكوميّة: "يرفضون إعطاء قائمة [بالمواد المحظورة من الدخول]، قائلين إنها تُحدّد بشكل فردي".[321]

ردّا على طلب تمّ توجيهه بموجب قانون حريّة المعلومات للحصول على قوائم ما يسمى بالمواد "ذات الاستخدام المزدوج"، قالت السلطات الإسرائيلية إنّها لا تزال تستخدم ذات القوائم التي نشرتها في 2008.[322] بموجب السياسة الإسرائيلية، لا يُحظر دخول المواد ذات الاستخدام المزدوج، بل يتطلب موافقات إضافية. لكن على أرض الواقع، أفادت منظمات دوليّة بوجود عقبات كبيرة تحول دون إدخالها إلى غزة.[323] كما ذكرت منظمة غيشا غير الحكومية الإسرائيلية، فإنّ قوائم الحكومة الإسرائيلية، التي تشمل "مواد تطهير المياه"، هي إضافات أحادية الجانب من قبل إسرائيل إلى "العناصر المدرجة في 'قائمة ضوابط' للعناصر ذات الاستخدام المزدوج المنصوص عليها في 'اتفاق واسينار' [بشأن ضوابط تصدير الأسلحة التقليدية والسلع والتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج أو أي معيار دولي آخر 'للاستخدام المزدوج']، وهو المعيار الدولي".[324]

ذكرت أوكسفام أنّ السّلطات الإسرائيلية منعتها من محاولة استيراد مواد مثل قرب المياه، ومجموعات اختبار المياه المكروبيولوجية، ومجموعات اختبار جودة المياه الكيميائية ،.[325] كل هذه المواد، فضلا عن العديد من العناصر الأخرى، غير مصنّفة على أنها "ذات استخدام مزدوج" – أي تُستخدم لأغراض مدنيّة وعسكريّة - بموجب اتفاق واسينار.[326]

ما يُثبت وجود تعسف في رفض المواد هو السماح بإدخال بعضها إلى إسرائيل في أوقات، وحظرها في أوقات أخرى.[327] في حالات أخرى، اعتبرت السلطات الإسرائيلية عنصرا واحدا على متن قافلة إنسانية "ذي استخدام مزدوج"، لكنّها أُجبرت الشاحنة على الخروج من صف الانتظار وإعادة تحميل بضائعها، وهي عملية قد تستغرق 20 يوما.[328]

كما تمّ رفض مواد أخرى ذات أهميّة بالغة، مثل الكلور، الضروري لتنقية المياه، وكذلك المولّدات والوقود، بشكل مستمر. قال أحد ممثلي الاستجابة في مجموعة عمل المياه والصرف الصحّي والنظافة العامّة: "قائمة المواد ذات الاستخدام المزدوج تقضي بالفعل على نصف أنشطتنا، والمواد من شأنها أن تحدث فرقا كبيرا - مثل الكلور، والإسمنت، والمولدات، والوقود - كلها مدرجة في تلك القائمة، وهو ما يعرقل استجابتنا".[329]

في 15 يناير/كانون الثاني 2024، قالت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل: "تظلّ بعض المواد التي نحتاجها بشدة لتصليح شبكة المياه وزيادة إمداداتها ممنوعة من دخول غزة. إنّ حياة الأطفال وأسرهم في الميزان هنا، وكل دقيقة مهمة".[330]

في اليوم نفسه، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: "لقد تم رفض مواد حيوية - مثل المعدات الطبية المنقذة للحياة، والأجزاء التي تعتبر ضرورية لتصليح المرافق والبنية التحتية للمياه - دون أي تفسير يُذكر، ممّا أدى إلى تعطيل تدفق الإمدادات الحيوية واستئناف الخدمات الأساسية."[331]

أضاف أحد موظفي مصلحة مياه بلديات الساحل في 16 يناير/كانون الثاني: "ليس لدينا سوى 11 صهريج مياه، ونحن بحاجة إلى المزيد ... لكنّ [السلطات الإسرائيلية] لا تسمح بدخول خزانات المياه."[332] في وقت لاحق، أعلنت مصلحة مياه بلديات الساحل في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، في 22 مارس/آذار، أنّ الإمارات زوّدتهم بأربع شاحنات لنقل المياه، وقد تمكّنوا من إدخال اثنتين منها إلى القطاع، وفقا لأحد الموظفين.[333]

وفقا لأوتشا، فإنّ بعثات الأمم المتحدة "لدعم المستشفيات والمنشآت الحيويّة التي تقدّم خدمات المياه والصرف الصحّي والنظافة الصحيّة" في 2024 "رُفضت الأغلبيّة الساحقة منها".[334]

في يوليو/تمّوز 2024، أكّد أوتشا الحاجة الملحّة للسماح بدخول الكلور إلى غزة، مع استمرار انتشار الأمراض المنقولة بالمياه.[335]

في أغسطس/آب، أرسلت مصلحة مياه بلديات الساحل نداء عاجلا للسماح بدخول المواد الأساسية اللازمة للمياه والصرف الصحي والنظافة إلى غزة لتجنب "أزمة كارثية ذات عواقب وتأثيرات لا رجعة فيها".[336] تضمّنت القائمة "مواد التصليح والكلور والمواد الكيميائية [و] قطع الغيار"، بالإضافة إلى المولدات، مشيرة إلى أن "المولدات الاحتياطية الحالية ... تُشغّل وتُستخدم بشكل مفرط [لأكثر من 10 أشهر] في ظل مخاطر عالية من حدوث أعطال متكرّرة وتدهور قاتل لا مفرّ منه".[337] قال موظف في مصلحة مياه بلديات الساحل لـ هيومن رايتس ووتش: "الوضع صعب للغاية، وتوقعاتنا شبه مؤكّدة من أنّ أنظمة الخدمات قد تنهار في أي لحظة، حقا في أي لحظة".[338]

هجمات على المساعدات الإنسانيّة

نظرا لانعدام القدرة على إنتاج إمدادات كافية من مياه الشرب في غزة، ظلّت المساعدات الإنسانيّة ضروريّة لتوفير الوقود والمياه المعبأة وغيرها من الإمدادات التي تساهم في توفير الماء للمدنيين.

نفّذت القوّات الإسرائيلية ما لا يقل عن ثماني ضربات على قوافل ومباني خاصة بعُمّال الإغاثة في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ممّا أسفر عن مقتل أو إصابة ما لا يقل عن 31 عامل إغاثة ومن معهم، رغم أن منظمات الإغاثة قدمت إحداثياتهم إلى السّلطات الإسرائيلية لضمان حمايتهم.[339]

قالت الأونروا إنّ نيران البحرية الإسرائيليّة أصابت شاحنة مساعدات تابعة لها في 5 فبراير/شباط 2024. وقع الهجوم بينما كانت قافلة من عشر شاحنات محاطة بمركبات تحمل علامات الأمم المتحدة متوقفة على الطريق غرب النصيرات، تنتظر عند نقطة انتظار متفق عليها مسبقا للحصول على إذن من الجيش الإسرائيلي للمضي قدما في اتجاه نقطة تفتيش إسرائيلية.[340]

في 1 أبريل/نيسان 2024، قُبيل الساعة 11 مساءً، نفذت القوات الإسرائيلية ضربة بطائرة مسيّرة أطلقت ثلاثة صواريخ استهدفت قافلة من ثلاث مركبات تابعة لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي"، اثنتان منها تحملان شعار المنظمة على سطحها، في وسط غزة، كانت جميعها تحمل مدنيّين، وكانت ترافق ثماني شاحنات مساعدات.[341] كانت القافلة قد غادرت للتوّ مستودعا للأغذية في دير البلح، وكانت تسير على طريق قالت المنظمة إنّها اتفقت عليه مع الجيش الإسرائيلي.

في 21 يوليو/تموز 2024، هاجمت القوات الإسرائيليّة قافلة تابعة للأمم المتحدة كانت متجهة إلى مدينة غزة أثناء اقترابها من نقطة تفتيش عسكريّة، وفقا للمفوّض العام للأونروا فيليب لازاريني.[342] قال لازاريني: "كانت الفرق تسافر في سيارات مدرّعة تحمل علامات الأمم المتحدة بوضوح، وترتدي سترات الأمم المتحدة"، وتحرّكات القافلة تمت بتنسيق مسبق مع السلطات الإسرائيلية.[343]

في 27 أغسطس/آب 2024، استهدفت القوّات الإسرائيلية بشكل مباشر مركبة تابعة لـ"برنامج الأغذية العالمي" عشر مرّات على الأقل بإطلاق نار بينما كانت تقترب من نقطة تفتيش عسكريّة إسرائيليّة، رغم أنّها كانت تحمل علامات واضحة، وحصلت على "موافقات متعدّدة من السلطات الإسرائيلية".[344] أعلن برنامج الأغذية العالمي أنّه سيُضطر إلى تعليق عملياته بعد الحادث.[345]

حتى 28 أغسطس/آب، قتل ما لا يقل عن 294 عامل إغاثة في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وفقا للأمم المتحدة.[346]

أطلقت القوات الإسرائيلية النار على فلسطينيّين كانوا ينتظرون مساعدات، منها إمدادات مياه، مما أدّى إلى مقتلهم. ذكرت "الجزيرة" أنّ قنّاصا إسرائيليا أطلق النار على فتاة في خان يونس وقتلها أثناء محاولتها جلب بعض الماء من مستشفى ناصر في 7 فبراير/شباط 2024.[347] في ذلك الوقت، كان مستشفى ناصر تحت حصار القوات الإسرائيلية، وكانت المنطقة المحيطة بالمستشفى محاطة بالدبابات.[348] أبلغ أوتشا عن مقتل ما لا يقلّ عن 13 شخصا في مدينة غزة في 7 فبراير/شباط أثناء محاولتهم الحصول على الماء من شاحنة تعرّضت للقصف.[349]

في صباح 29 فبراير/شباط، أفادت تقارير أنّ القوات الإسرائيلية أطلقت قذائف مدفعية وطلقات نارية على قافلة مساعدات تجمّع حولها فلسطينيون لتلقي مساعدات غذائية، على شارع الرشيد جنوب مدينة غزة.[350] أفادت وزارة الصحة في غزة بمقتل 112 فلسطينيا وإصابة 760 آخرين خلال الهجوم.[351] بعد ضغوط من المجتمع الدولي للتحقيق في الحادث،[352] نفى الجيش الإسرائيلي ضرب قافلة المساعدات، وزعم أن غالبية الفلسطينيين قُتلوا أو أصيبوا "نتيجة للتدافع".[353] لكن فريقا من الأمم المتحدة زار في اليوم التالي مصابين في حادث مستشفى الشفاء، وقالوا إنهم شاهدوا "أعدادا كبيرة من الإصابات الناتجة عن أعيرة نارية".[354]

كما أصيب فلسطينيّون بجروح نتيجة لهجمات على مواقع توزيع مساعدات أخرى في غزة. قالت آنا جيلاني، جرّاحة عظام للأطفال بعد أن أكملت مهمة طبية لمدة أسبوعين في مستشفى الأقصى في دير البلح بين 11 و25 مارس/آذار 2024، إنّ غالبية البالغين الـ30 الذين عالجتهم، والذين خضعوا لبتر رضحي، كانوا قد أصيبوا في نقاط لتقديم المساعدات.[355]


 

VI. الوفيّات والأمراض الناجمة عن عرقلة إسرائيل للمياه

وفقا لمنظّمة الصحّة العالمية، فإنّ نقص المياه الصالحة للشرب وتدمير البنية التحتية للصرف الصحي و تضررها تسبّبت في تفشي الأمراض المنقولة بالمياه، بما في ذلك التهاب الكبد الوبائي أ والإسهال، إضافة إلى حالات جفاف شديد في غزة.[356] حتى 30 يونيو/حزيران 2024، أفادت منظمة الصحة العالمية بوجود أكثر من 1.8 مليون حالة من الأمراض والعدوى بين سُكان غزة، الذين يزيد عددهم قليلا عن مليوني شخص، منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.[357] يرتبط الانتشار السريع لهذه العدوى والأمراض وشدتها بعدم قدرة السكان على الوصول إلى المياه والصرف الصحي اللازمين، وفقا لأطباء ومسؤولين في مجال الصحّة.[358]

بناء على تصريحات الأطباء والممرضين، وكذلك البيانات التي تمّ جمعها والتقديرات التي أعدها أطباء وعلماء أوبئة ومنظمات إغاثة إنسانية، فمن المرجّح أنّ آلاف الفلسطينيين في غزة ماتوا نتيجة لسوء التغذية والجفاف والمرض حتى أغسطس/آب 2024، رغم عدم متابعة هذه الوفيات أو الإبلاغ عنها باستمرار.[359]

صورة رضيع لديه سوء تغذية وجفاف شديدان في "مستشفى الهلال الإماراتي".  © 2024 أسماء طه

قالت أسماء طه، وهي ممرّضة أمريكيّة تطوّعت في غزة في مايو/أيار 2024، لـ هيومن رايتس ووتش: "كنا نرى أطفالا يموتون كل يوم" بسبب مزيج من سوء التغذية والجفاف والمرض.[360] كما قالت إنه إذا ما تم تسجيل هذه الوفيات، فإنّ سبب الوفاة لا يُحدّد على أنه سوء التغذية أو الجفاف، بسبب تضافر العوامل التي أدت إلى الوفيات.[361] لكنّها أوضحت أن سوء التغذية والجفاف هما جذر المشكلة: "من لا يتغذى جيدا، يصير جهاز مناعته ضعيفا".[362]

قالت عبيرة محمد، ممرّضة أخرى تطوّعت في غزة، إنّ من بين 56 مريضا خضعوا لعمليّات جراحيّة وتابعتهم هي وزملاؤها أثناء إقامتها لمدة أسبوعين في غزة، توفي 23 مريضا.[363] قالت إنّها لا تستطيع تحديد عدد الوفيات الناجمة بشكل مباشر عن سوء التغذية والجفاف، لكنّ "ذلك كان حتما عاملا من العوامل".[364]

في فبراير/شباط 2024، أفادت منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأغذية العالمي واليونيسيف بشكل مشترك أنّ "ما لا يقل عن 90% من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بمرض معد واحد أو أكثر"، بما في ذلك الأمراض المنقولة بالمياه، وأن 70% من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بالإسهال.[365]

وفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإنّ الطفل الذي يعاني من سوء التغذية يصير معرّضا أكثر للوفاة إذا أصيب بمرض، بما في ذلك "أمراض الأطفال الشائعة، كالإسهال".[366] حتى 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024، ذكر "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي"، الذي يصنّف انعدام الأمن الغذائي في بلدان مختلفة على أساس معايير علميّة، أنّ "حوالي 1.84 مليون شخص في جميع أنحاء قطاع غزة يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، المصنّف ضمن المرحلة 3 من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أو أعلى من ذلك"، والذي يُعرّف جزئيا بوجود أسر "تعاني من سوء التغذية الحاد المرتفع أو فوق المعتاد".[367]

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال المقرّر الخاص للأمم المتحدة بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي إنّ "التأثير على الصحّة العامة والنظافة سيفوق كل التصورات، وقد يؤدي إلى وفيات بين المدنيين تتجاوز حصيلة القتلى الهائلة أصلا نتيجة قصف غزة".[368]

في يناير/كانون الثاني 2024، أفادت اليونيسف أنّ الأطفال المهجرين وأسرهم في غزة غير قادرين على الإبقاء على مستويات عالية من النظافة تقيهم من الأمراض، وهو ما عزته إلى الافتقار المقلق إلى المياه الآمنة والصرف الصحي، ممّا يدفع الكثير منهم إلى التغوّط في العراء.[369] كانت اليونيسف قد ذكرت سابقا أنّ الأطفال ذوي الإعاقة يواجهون بشكل عام صعوبات إضافية في الوصول إلى المياه والصرف الصحي والنظافة مقارنة بالأطفال الآخرين.[370]

في 16 أغسطس/آب 2024، أكّدت وزارة الصحة الفلسطينية أوّل حالة إصابة بشلل الأطفال لدى طفل غير ملقّح عمره عشرة أشهر في غزة، وهو الآن مشلول.[371] في نفس التاريخ، أفادت منظمة الصحّة العالمية أن ثلاثة أطفال أظهروا أعراض الشلل الرخو الحاد، مما أثار مخاوف من انتشار الفيروس بين أطفال غزة.[372] عندما اكتُشف فيروس شلل الأطفال لأول مرّة في مياه الصرف الصحي في غزة في يوليو/تمّوز، قال تيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية:

تدمير النظام الصحي، وانعدام الأمن، وعرقلة الوصول، والتهجير المستمرّ للسكان، ونقص الإمدادات الطبيّة، وسوء نوعيّة المياه، وضعف خدمات الصرف الصحي [في غزة] كلها أسباب تزيد من خطر الإصابة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات، بما في ذلك شلل الأطفال.[373]

في أواخر أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2024، وافقت الحكومة الإسرائيلية وحماس على وقف الأعمال العدائية لمدة ثلاثة أيام في أجزاء من غزة لتسهيل حملة تطعيم 640 ألف طفل.

يُشكّل الضرر والدمار الذي أصاب مرافق الرعاية الصحية تحديا أمام علاج الأمراض الناجمة عن نقص الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي.[374] في يناير/كانون الثاني 2024، أعربت اليونيسف عن قلقها إزاء عجز المستشفيات القليلة التي ظلّت عاملة عن علاج الأمراض المتفشية بسبب العدد الكبير من المرضى المصابين.[375] منذ ذلك الحين، تدهور نظام الرعاية الصحية في غزة بشكل أكبر.[376]

الجفاف

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تحدثت هيومن رايتس ووتش إلى طبيب في مستشفى الأقصى في وسط غزة، قال إنّهم لاحظوا بالفعل زيادة حادّة في عدد المرضى الذين يعانون من الجفاف الشديد. منذ ذلك الوقت، ووفقا لاختصاصين في الرعاية الصحية قابلتهم هيومن رايتس ووتش، ارتفعت الحالات بشكل حادّ، وفي بعض الحالات ساهم الجفاف الشديد بشكل مباشر أو كبير في العديد من الوفيات، وخاصة بين الرُضّع.

في ديسمبر/كانون الأوّل 2023، ذكرت "رويترز" أنّ رئيس قسم الأطفال في مستشفى ناصر في خان يونس "كان يستقبل الكثير من الأطفال الذين يعانون من جفاف شديد، مما يتسبب في فشل كلوي في بعض الحالات".[377] قال الدكتور رامي حيدر العبادلة، نائب المدير العام للصحة العامة بوزارة الصحة في غزة، لـ هيومن رايتس ووتش في 25 يناير/كانون الثاني 2024، إنّ الوزارة لم تتمكّن من تسجيل عدد الحالات التي تأتي إلى المستشفيات بسبب الجفاف،[378] وأضاف: "نعطيهم محلول الإماهة الفموي ونتركهم يذهبون. قبل الحرب، كانت معظم الحالات تخضع لرعاية يوميّة لمدة 24 ساعة".[379]

قالت عاملة إغاثة تعمل مع عيادتين في غزّة إنّ العيادتين كثيرا ما تستقبلان مرضى يعانون من الجفاف.[380] رغم أنّ المرضى يُعالجون عادة من الجفاف بمحلول الإماهة الفموي ، إلا أنّ "المشكلة مع محلول الإماهة الفموي هو أنّه يحتاج إلى مياه نظيفة"، وهي غالبا غير متوفرة في المستشفيات، على حدّ قولها.[381] في حالات أخرى، عندما يحتاج الأطفال إلى مضادّات حيويّة، "وتحتاج [هذه المضادات الحيوية] إلى الخلط بالماء، فإنهم يستخدمون أكياس السوائل الوريدية ويخلطونها في زجاجة للأطفال، رغم أنّ السوائل الوريدية ليست مخصّصة عادة للاستهلاك عن طريق الفم"، على حدّ قولها.[382]

قالت عبيرة محمد، ممرّضة غرفة الطوارئ التي تطوعت في المستشفى الأوروبي في غزة في مايو/أيار 2023، إنّها وزملاءها رأوا "الكثير من حالات الجفاف الحاد".[383] كما قالت إنه في إطار الفحوصات العادية التي يجرونها على الأطفال المرضى، يعمد الأطباء والممرّضات إلى "سحب "الجلد" (اختبار مرونة الجلد) لمعرفة مدى وجود سوائل في أجسادهم، وكان "للكثير" من هؤلاء الأطفال جلد ذي مرونة منخفضة، مما يشير إلى إصابتهم بالجفاف.[384]

قال الدكتور نيك ماينارد، الذي تطوّع في مستشفى الأقصى في غزة في ديسمبر/كانون الأول 2023، ثمّ في أبريل/نيسان 2024، إنّه لاحظ فرقا كبيرا في مستوى سوء التغذية والجفاف الذي شاهده بين الرحلتين.[385] قال: "بدأنا نرى آثار سوء التغذية والجفاف" في ديسمبر/كانون الأوّل، لكن عندما عاد في أبريل/نيسان، قال: "أينما نظرت، كان هناك العشرات من المرضى الذين يعانون من مستويات حادة من سوء التغذية والجفاف".[386]

في يوليو/تمّوز 2023، ذكر التصنيف المرحلي المتكامل أنّ الفترة بين 1 مايو/أيار و15 يونيو/حزيران شهدت إصابة 643 ألف شخص بنقص الغذاء في مرحلة "الطوارئ" ، و343 ألف شخص في مرحلة النقص "الكارثي".[387] وفقا لـ"الدليل الفني للتصنيف المرحلي المتكامل"، في مرحلة الطوارئ، يموت ما لا يقل عن اثنين إلى أربعة من كل عشرة آلاف طفل دون سن الخامسة يوميا؛ أمّا عدد الوفيات اليومي في المرحلة الكارثية (المرحلة 5) فيكون أكبر.[388]

قالت الممرّضة عبيرة محمد أيضا إنّها رأت العديد من النساء يأتين إلى المستشفى "ويمتن بسبب فشل كلوي بدأ بالجفاف".[389] قالت أيضا إنّ الجمع بين الجفاف وعدم القدرة على الوصول إلى الحمامات يعني أن العديد من النساء أصبن بعدوى المسالك البوليّة التي لم يكن لديهم مضادات حيوية لمعالجتها، وبعدها يُصبن بعدوى الكلى. أضافت: "لم يكن لدينا غسيل كلوي، ولذلك كُنّ يمتن بسبب الفشل الكلوي".[390]

قال الدكتور عمر النجّار، الذي كان يعمل في غرفة الطوارئ في المستشفى الكويتي في غزة، إنّ حوالي 15-25% من المرضى الذين جاءوا إلى غرفة الطوارئ خلال نوباته الليلية كان لديهم مغص كلوي، وهو ألم في البطن غالبا ما يكون ناجما عن حصوات الكلى، والتي يمكن أن تتكون بسبب الجفاف الشديد.[391] قال إنّه عندما سأل الناس عن كميّة الماء التي يشربونها، "أخبرني [بعضهم] أنّهم لا يتذكرون آخر مرة شربوا فيها الماء".[392]

قال إنّه قبل اندلاع الأعمال العدائية، خلال السنوات الثلاث التي تدرّب فيها ليصبح طبيبا، لم ير قطّ حالة شديدة من الجفاف أو سوء التغذية.[393]

يتسبّب الجفاف وسوء التغذية في تقويض جهاز المناعة، مما يؤثر سلبا على قدرة الشخص على التعافي من الجروح الحادّة أو المزمنة والتصدّي للعدوى، بما في ذلك من العناصر المسبّبة للأمراض.[394] يُرجّح أن تكون هذه الظروف المنتشرة قد ساهمت في العديد من الوفيات. قالت الدكتورة جيلاني، جرّاحة عظام الأطفال التي تطوّعت في مستشفى الأقصى، لـ هيومن رايتس ووتش إنّها لاحظت ارتفاعا في معدّلات الإصابة بين الجرحى الأطفال والبالغين، بما في ذلك بسبب نقص الوصول إلى المياه النظيفة والتغذية السليمة.[395]

قالت الدكتورة فيروز سيدهوا، وهي جرّاحة صدمات وجرّاحة عامّة تطوّعت في المستشفى الأوروبي في مارس/آذار وأبريل/نيسان 2024: "كلّ جراحة أجريتها أصيبت بالعدوى"، وشرحت كيف أنّ سوء الصرف الصحي وغياب المياه النظيفة في المستشفيات، إضافة إلى سوء التغذية، وانعدام المياه النظيفة، والظروف المكتظة في الملاجئ حيث يعيش الناس، كلها أسباب أدّت إلى بطء كبير في التئام الجروح.[396]

أوضح الدكتور غسّان أبو ستة، وهو جرّاح تجميل تطوّع في غزة في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2023، لـ هيومن رايتس ووتش أنّه عندما يُصاب المريض ويعاني من الجفاف أو سوء التغذية، أو يصاب في نفس الوقت بمرض معدٍ منقول بالمياه، يصير من الصعب للغاية التئام جروحه الناجمة عن إصابة رضخة أو عمليّة جراحية أو أمراض مزمنة. قال: "الجروح هي مصدر رئيسي لفقدان السوائل - أكثر من الإسهال. وسوء التغذية يقلّل من البروتينات في الدم، وهي التي تحتفظ بالسوائل داخل الدورة الدموية."[397]

قال الدكتور ماينارد إنّ "مستوى العدوى كان مرتفعا للغاية بسبب مستويات سوء التغذية."[398] كما قال لـ هيومن رايتس ووتش إنّه كان لديه مرضى يموتون من جروحهم بسبب سوء التغذية والجفاف، منهم الفتاتان تالا ولمى، اللتان توفيتا متأثرتين بإصابات ناجمة عن انفجار أصاب أمعائهما، لأنّ جسديهما كانا يعانيان من سوء التغذية والجفاف إلى الحد الذي أدى إلى فشل العمليات الجراحيّة التي أجراها.[399] قال: "لقد ماتتا أمام عيني... كانتا تفرزان 4-5 لترات [من السوائل] يوميا، ولم يكن لدينا سوائل لتعويض ما تفقدانه، ولم يكن لدينا تغذية لإطعامهما، لقد بذلنا قصارى جهدنا".[400]

قالت الممرّضة عبيرة محمد إنّها لم تتمكّن من إنعاش بعض الأطفال المصابين بحروق لأنهم كانوا "يعانون من سوء تغذية وجفاف شديدين".[401] أوضحت أنّ الناس الذين يعانون من جفاف شديد، "كانوا يموتون بسرعة كبيرة" جرّاء الإصابة بحروق.[402] قالت: "كانت لدينا طفلة تعاني من جفاف شديد ... كان ذلك واضحا من شفتيها الجافتين للغاية وكان جلدها غائرا وداكنا".[403] أضافت: "جاءت بحروق من الدرجة الثالثة بسبب انفجار، لكنها في الأخير توفيت دون أن نتمكّن حتى من إنعاشها لأنها كانت في حالة سيئة للغاية، وكان الأمر مسألة وقت فقط".[404]

الرُضّع

في رسالة إلى إدارة بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2024، قال 99 عاملا طبيا أمريكيا تطوعوا في غزة إنهم "شاهدوا الأمهات الجدد اللاتي لديهن سوء التغذية يُطعمن أطفالهن حديثي الولادة الذين يعانون من نقص الوزن حليب أطفال صناعي مصنوع من مياه سامة".[405]

وصفت أسماء طه، وهي واحدة من هؤلاء العاملين الطبيين، في الرسالة كيف كانت ترى الأطفال يموتون "كل يوم".[406] "ولدوا بصحة جيدة. وكانت لدى أمهاتهم سوء التغذية لدرجة عدم قدرتهن على إرضاعهم، وكنا نفتقر للحليب الصناعي أو المياه النظيفة لإطعامهم، فكانوا يعانون من الجوع".[407]

في تقرير صدر في أبريل/نيسان 2024، ناقشت أطباء بلا حدود تحديات نقص المياه النظيفة التي تواجه النساء اللاتي يُرضعن أطفالهن الحليب الصناعي بسبب صعوبات الرضاعة الطبيعية، حيث "لا يتوفر الحليب الصناعي بسهولة، وكذلك مياه الشرب لخلطه في زجاجات الإرضاع أو لتنظيف هذه الزجاجات بشكل صحيح".[408]

أشار التقرير أيضا إلى أن الافتقار إلى المياه النظيفة في غزة، فضلا عن نقص الحليب الصناعي، يعني أن إرضاع الأطفال بالحليب الصناعي مسألة "خطيرة للغاية".[409] وصف أحد الذين قوبلوا هذه المشكلة قائلا إن شقيقته اضطرت إلى تغذية ابنتها (عام ونصف) بحليب صناعي مخلوط بمياه قذرة كانت قد أصابت بقية أفراد الأسرة بالمرض. قال إن الحليب الصناعي "لا يختلط" بالماء.[410]

النساء في مرحلتي الحمل وما بعد الولادة

تتأثر النساء الحوامل والنساء اللاتي ولدن مؤخرا، بمن فيهن المرضعات، بشكل خاص بعدم توافر المياه النظيفة وعدم إمكانية الحصول عليها. في بداية يناير/كانون الثاني 2024، قدّرت اليونيسف وجود حوالي 155 ألف امرأة حامل ومرضعة في غزة.[411] بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تحتاج النساء الحوامل والمرضعات إلى طعام وماء أكثر من الشخص العادي.[412] تُنصح النساء الحوامل والمرضعات بالحصول على 7.5 لتر إضافية من الماء يوميا للشرب والصرف الصحي مقارنة بغير الحوامل وغير المرضعات. [413]

قالت الممرضة عبيرة محمد إنها عالجت العديد من المريضات المصابات "بصدمات تسمّميّة أو إنتانيّة بسبب المرض وسوء التغذية والجفاف".[414] قالت إن أول خطوة لعلاج الصدمة التسمّميّة عادة هي "إعطاء [المريضة] كمية هائلة من السوائل لطرد السموم"، لكن هذا "لم يكن ممكنا بالموارد المتاحة لدينا".[415] وأضافت أنهم عندما كانوا يراقبون ضربات قلب الطفل في هذه الحالات، كانت غالبا بطيئة للغاية، وكانت ضغط الدم لدى الأمهات منخفضا، وقالت إنهما مؤشران على الجفاف.[416]

وصف رجل صعوبة حصوله على الماء لزوجته الحامل وأطفاله الأربعة الناجين أثناء وجود زوجته في المستشفى بسبب جروح أصيبت بها نتيجة لهجوم صاروخي دمر منزلهم وقتل أحد أطفالهما.[417] قال: "لم يكن هناك ماء - كنا نشتري الماء مثلا بعشرة دولارات أمريكية للكوب.[418] أحيانا لا يكون صالحا للشرب. كان يأتي أحيانا من الحمام وأحيانا من البحر".[419]

وصفت امرأة تجربتها للحصول على الماء أثناء الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل قائلة: "كنت أضطر إلى السير يوميا من ساعتين إلى ساعتين ونصف للحصول على الماء... أحيانا كنت أسير لساعة أو حتى ثلاث ساعات دون العثور على ماء".[420]

التأثيرات على الأشخاص ذوي الحالات الصحية المزمنة والإعاقات

تفاقمت آثار الجفاف وسوء التغذية لدى العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة أو الحالات الصحية المزمنة. مثلا، يتعرض الأطفال الذين لديهم شلل دماغي لخطر متزايد للإصابة بكافة أشكال العدوى. قالت الدكتورة جيلاني إن الأطفال الذين لديهم شلل دماغي مهددون بشكل خاص بالإصابة بالعدوى إذا لم يتوفر لهم الصرف الصحي المناسب والمياه النظيفة لتنظيف أنفسهم.[421]

يزداد الخطر على الأطفال اللذين لديهم شلل دماغي الذين لا يستطيعون الحصول على وسائل المساعدة على الحركة لتسهيل حركتهم إلى المناطق التي يتوفر فيها الماء للغسيل أو المراحيض، كما في حالة غزل (14 عاما)، وهي طفلة من مدينة غزة نزحت إلى رفح.[422]

حتّى سبتمبر/أيلول 2024، كانت غزل قد فرّت من رفح وتعيش مع عائلتها في خيمة في القرارة بخان يونس. ما زال الحصول على الماء يُمثل مشكلة لها وعائلتها. قالت والدتها: "نحن جميعا نشرب مياه مسممة وملوّثة وغير صالحة للشرب. لم تتوقف آلام معدتها [غزل]... ليس لدينا ما يكفي من المال لشراء المياه المعبأة، ولا نستطيع تحمل تكاليفها".[423]

يواجه الأطفال الذين لديهم شلل دماغي خطرا أكبر للإصابة بعدوى المسالك البولية، وهو ما يتفاقم بسبب عدم القدرة على الوصول إلى المياه النظيفة ومرافق الصرف الصحي. [424]

كما واجه الأشخاص الذين لديهم فشل كلوي ويحتاجون إلى غسيل الكلى بانتظام، والذي يتطلب كمية كبيرة من السوائل والوصول المتكرر إلى المرافق الصحية المزودة بأجهزة غسيل الكلى العاملة، تأثيرات مدمرة من أفعال السلطات الإسرائيلية الرامية إلى حرمان السكان من الماء وتدمير الجيش الإسرائيلي لمرافق الرعاية الصحية. وفقا لوزارة الصحة في غزة، كان هناك حوالي 1,100 مريض بالفشل الكلوي قبل بدء الأعمال العدائية.[425] تعرضت العديد من المستشفيات التي كانت تُجري غسيل الكلى سابقا للهجوم و/أو الاحتلال من قبل الجيش الإسرائيلي، أو ليس لديها ما يكفي من الوقود والمياه النظيفة لإجراء غسيل الكلى لخدمة العديد من المرضى الذين يحتاجون إلى غسيل الكلى بانتظام.[426]

قال محمد (20 عاما)، لديه فشل كلوي وأُجلي إلى مصر، إن صحته تدهورت بسرعة أثناء الأعمال العدائية لأنه لم يتمكن من الحصول على غسيل الكلى والتغذية الكافيين. قال إنه قبل الأعمال العدائية، كان يحتاج إلى ثلاث جلسات غسيل كلوي أسبوعيا، مدة كل جلسة أربع ساعات، لكن بعد بدء الأعمال العدائية، أصبحت مدة الجلسة ساعتين فقط في مستشفى ناصر. عندما احتل الجيش الإسرائيلي مستشفى ناصر، أجبره و17 مريضا آخر على الإخلاء سيرا على الأقدام، رغم أن العديد منهم، بمن فيهم محمد، كانوا إما غير قادرين على المشي أو كانوا يمشون مع وجود خطر شديد على صحتهم. عندما وصل إلى بر الأمان ووجد مستشفى آخر مُجهّز لغسيل الكلى، انخفض معدل ضربات قلبه ومستويات الأكسجين إلى مستويات متدنية بشكل خطير. أضاف أنه منذ بداية الأعمال العدائية، انخفض وزنه بمقدار 16 كيلوغرام، ليصل إلى 31 كيلوغرام فقط بحلول مارس 2024.[427]

في ديسمبر/كانون الأول 2023، قالت رئيسة (47 عاما)، وهي امرأة لديها إعاقة وسرطان الثدي ووالدتها لديها فشل كلوي: "تحتاج والدتي، التي تستخدم كرسيا متحركا، ومريضة بالسكري والفشل الكلوي، إلى الاستحمام يوميا. وبسبب مرض الكلى، تعاني من حكة شديدة في الجلد ولا يخفف عنها إلا الاستحمام. لكن لا يمكن الاستحمام إلا مرتين في الأسبوع".[428] حكة الجلد شائعة لدى المصابين بأمراض الكلى المزمنة أو في مرحلتها النهائية. [429]

كانت رئيسة تعيش حينذاك في خيمة مع عشرة أفراد من أسرتها النازحة، بمن فيهم والدها (85 عاما)، ووالدتها (75 عاما)، وأربعة أطفال، منهم فادي (12 عاما)، الذي يعاني من التليّف الكيسي. كما وصفت معاناة أفراد الأسرة من القيء والإسهال بسبب عدم الحصول على مياه الشرب النظيفة والطعام الصحي.[430]

في أغسطس/آب 2024، نزحت رئيسة وعائلتها للمرة الخامسة، وكانوا يعيشون في خيمة في دير البلح، حيث استمرت معاناتهم في الحصول على الماء:

الحصول على الماء صعب جدا بالنسبة إلي. يتعين علينا الذهاب إلى مكان بعيد لإحضار بعض الماء في زجاجة. لكنه لا يكفي لجميع احتياجاتنا - فهو لا يكفي للشرب والغسيل والاستحمام. المياه شحيحة في هذه المنطقة.[431]

وصفت رئيسة أيضا الصعوبات التي واجهتها هي ووالدتها وفادي في الحصول على العلاج الضروري جدا:

لم تجر والدتي غسيل الكلى منذ ثلاثة أشهر بسبب الاكتظاظ الشديد في المستشفيات. يوجد 80 ألف مريض بحاجة لغسيل الكلى في غزة، تلقى الكثير منهم الغسيل إما في مستشفى ناصر أو مستشفى شهداء الأقصى، لكن شهداء الأقصى خرجت عن الخدمة بسبب تهديدات الجيش الإسرائيلي وأوامر الإخلاء.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول وحتى الآن، لم أحصل على دوائي لسرطان الثدي أبدا، فادي يحتاج إلى علاج التليف الكيسي، صحته سيئة، وحالته الصحية والنفسية في تدهور مستمر، خاصة بسبب حرارة الصيف، والعيش في خيمة، وعدم الحصول على العلاج والطعام المناسب.[432]

حصلت والدة رئيسة وفادي على إحالة للعلاج في الخارج بسبب عدم توفر العلاج في غزة.[433] في 22 سبتمبر/أيلول، وبينما كانت تنتظر الإذن بالسفر لتلقي العلاج الطبي، توفيت والدة رئيسة نتيجة الفشل الكلوي. [434]

الأمراض المنقولة بالمياه

منذ بدء الأعمال العدائية، ارتفعت حالات الإصابة بالإسهال والأمراض المعدية، والتي تنتقل غالبا عن طريق الأغذية والمياه الملوثين، بما فيها التهاب الكبد الوبائي أ. لا يُعرف نطاق انتشار هذه الأمراض والعدوى، نظرا لتدمير أنظمة الرعاية الصحية والمراقبة الصحية في غزة.

وفقا لعدة أطباء وممرضين، تتفاقم المخاطر الصحية للأمراض المنقولة بالمياه بسبب الجفاف وسوء التغذية المنتشرين والذي يعاني منهما الكثيرون في جميع أنحاء غزة بسبب انعدام الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة الكافيين، وساهم في بعض الحالات في الوفيات الناجمة عن الأمراض المنقولة بالمياه.[435]

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال طبيب في مستشفى شهداء الأقصى لـ هيومن رايتس ووتش إن: "عدد حالات الالتهابات المعوية لا يُحصى".[436] في وقت سابق من ذلك الشهر، أفادت منظمة الصحة العالمية أنّ استهلاك المياه الملوثة زاد بشكل كبير من خطر الإصابة بالعدوى البكتيرية، مثل الإسهال، وأن أكثر من نصف الحالات المسجلة هي لأطفال دون سن الخامسة.[437]

في ديسمبر/كانون الأول 2023، قال صحفي في جنوب غزة لـ هيومن رايتس ووتش: "المياه ملوثة والناس يمرضون. ابنتي مريضة بسبب المياه الملوثة. كنت أحملها وأركض إلى المستشفى... كانت تعاني من الإسهال والحمى".[438]

أفادت اليونيسف في يناير/كانون الثاني 2024 بوجود 71 ألف حالة إسهال أسبوعيا لدى الأطفال دون سن الخامسة، مقارنة بمتوسط ألفي حالة أسبوعيا قبل الأعمال العدائية.[439] حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024، أفادت مرافق الصحة، الهيئات الصحية المكافئة لمجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة، أنها سجلت 669 ألف حالة من الإسهال المائي الحاد منذ بدء الأعمال العدائية.[440] وفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الإسهال على مستوى العالم هو "ثالث سبب رئيسي لوفاة الأطفال دون سن الخامسة".[441]

في رسالتهم إلى إدارة بايدن، قال 99 طبيبا وممرّضا أمريكيا تطوعوا في غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إن "كل طفل تقريبا دون سن الخامسة قابلناه، داخل المستشفى أو خارجه، كان يعاني من السعال والإسهال المائي".[442] وقالوا إنهم "وجدوا حالات من اليرقان (ما يدل على الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي أ في هكذا ظروف) في كل غرفة تقريبا في المستشفيات التي خدمنا فيها، وفي العديد من زملائنا العاملين في الرعاية الصحية في غزة".[443]

وصفت شيماء نزوحها إلى مدرسة لمدة 120 يوما، حيث لا توجد مياه نظيفة.[444] قالت: "كنا نشتري الماء إذا وجدناه، وإلا كنا نشرب ماء الخزان، لكنها ملوثة. لذلك كنا جميعا في المدرسة نعاني من الإسهال ومشاكل في المعدة".[445] أضافت أن العديد من الأشخاص المقيمين في المدرسة أصيبوا بالتهاب الكبد الوبائي أ، بمن فيهم ابنة أختها.[446]

كما انتشرت أمراض أخرى بسبب نقص المياه النظيفة والصرف الصحي المناسب، بما في ذلك في الملاجئ المكتظة بالمهجرين بسبب النزاع، منها التهابات الجهاز التنفسي الحادة، التي يتفاقم انتشارها بسبب نقص الوصول إلى النظافة والمأوى المناسبين في غزة.[447] حتى 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024، سجلت منظمة الصحة العالمية أكثر من مليون حالة من التهابات الجهاز التنفسي الحادة.[448]

في 19 يناير/كانون الثاني 2024، أفادت الأونروا أن وزارة الصحة في غزة أعلنت انتشار التهاب الكبد الوبائي أ في المخيمات التي تأوي المهجرين "بسبب الاكتظاظ ونقص المياه النظيفة والصرف الصحي المناسب". قال الدكتور العبادلة لـ هيومن رايتس ووتش في أواخر يناير/كانون الثاني 2024 إن هناك ما مجموعه 8 آلاف حالة مسجلة من التهاب الكبد الوبائي أ، لكن هذه الأرقام لا تشمل الأشخاص الذين يعيشون في شمال غزة.[449] قال: "لا نعرف شيئا عن الناس في الشمال".[450] في مارس/آذار 2023، أفادت منظمة الصحة العالمية بوجود 15,601 حالة يرقان مسجلة، وهي علامة على التهاب الكبد الوبائي أ، منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول، والتي "افتُرِض أنها التهاب الكبد الوبائي أ بعدما ثبتت إيجابية العينات".[451] بحلول 17 أكتوبر/تشرين الأول 2024، سجلت منظمة الصحة العالمية أكثر من 132 ألف حالة من اليرقان الحاد.[452]

ووفقا لطبيب في منظمة دولية، فإن العدد الحقيقي لحالات التهاب الكبد الوبائي أ أعلى بكثير من المُبلغ عنه. قال لـ هيومن رايتس ووتش إن التهاب الكبد الوبائي أ ينتشر عادة من خلال النشاط الجنسي أو من خلال تناول المحار الملوث، وأنه من غير المعتاد أن ينتشر نتيجة لسوء النظافة.[453] كتب في رسالة نصية: "يُظهر ذلك مدى سوء الصرف الصحي لدرجة أن أمرا بسيطا للغاية [عدم قدرة الناس على غسل أيديهم] هو ما يسبب هذا، لا يمكنك أن تجد مثل هذه التفشيات في الأماكن التي تتمتع بمياه شرب جيدة وصرف صحي جيد".[454]

قال الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، لـ هيومن رايتس ووتش إنه رأى العديد من الأطفال يموتون بسبب التهاب الكبد الوبائي أ. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه في "الظروف العادية"، يموت حوالي 1% من الأطفال الذين يصابون بالتهاب الكبد الوبائي أ بسببه، لكن بسبب "غياب القدرات اللازمة لتشخيص وعلاج ومراقبة هؤلاء الأطفال"، فإن حوالي 5-10% من حالات التهاب الكبد الوبائي أ التي وصلته ماتت.[455]

قالت الممرضة عبيرة محمد إنها رأت العديد من صغار السن يموتون بسبب التهاب الكبد الوبائي أ. وأضافت: "إنه مرض يمكن علاجه بسهولة... [ويتطلب] فقط سوائل وريدية وتغذية. رأينا أشخاصا يأتون إلى غرفة الطوارئ ويموتون بعد بضعة أيام بسبب البراز الملوِّث لمصدر مياههم".[456]

يُضعف الجفاف وسوء التغذية أجهزة المناعة لدى الناس، فيجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض، وهو ما ساهم في حدوث الوفيات. قال الدكتور أبو ستة لـ هيومن رايتس ووتش: "يموت الناس من أمراض لا ينبغي لهم أن يموتوا بسببها لأنهم يعانون من سوء التغذية والجفاف".[457]

قال طبيب صحة عامة في منظمة دولية إنه من المرجح للغاية أن تشير حالات تفشي الأمراض التي يرصدونها إلى "مخاطر عالية من تفشي أمراض كارثية مثل الكوليرا"، لكن هذه الأمراض تحتاج إلى اختبارات خاصة غير متوفرة في غزة.[458] وأضاف: "ما يمكننا قوله هو أن الأرقام لا تعكس ما يحدث على الأرض. توجد أزمة خفية هناك".[459]

قال الدكتور أبو صفية لـ هيومن رايتس ووتش: "لدينا العديد من الحالات التي يشتبه في أنها كوليرا، لكن للأسف ليس لدينا ما يكفي من الاختبارات لتأكيد هذا المرض".[460]

الأمراض الجلدية والالتهابات الناجمة عن نقص المياه اللازمة للنظافة

انعدام الوصول إلى الماء لأغراض الصرف الصحي، فضلا عن انهيار البنية التحتية للصرف الصحي والتلوث البيئي الناتج عنه، كانت أسبابا رئيسية في تفشي الأمراض.[461] وبينما يساهم نقص الصرف الصحي في العديد من الأمراض التي ناقشناها أعلاه، بما فيها مرض الإسهال والتهاب الكبد الوبائي أ، فإن عدم الوصول إلى الماء لأغراض النظافة، وتدمير البنية التحتية للصرف الصحي، وانتشار مياه الصرف الصحي في المناطق العامة أدوا إلى تفشي الأمراض الجلدية والالتهابات الجلدية الطفيلية، بما فيها الطفح الجلدي والجرب والقمل. وأدى تدمير المنازل والتهجير إلى عيش الناس في ظروف مكتظة وغير صحية، ما أدى إلى تفاقم انتشار هذه الأمراض وغيرها.[462]

في أكتوبر/تشرين الأول 2024، أفادت منظمة الصحة العالمية بتسجيل أكثر من 225 ألف حالة مرض جلدي منذ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في غزة.[463] انتشرت هذه الأمراض بسبب انهيار أنظمة المياه والصرف الصحي والظروف المكتظة التي اضطر الناس إلى العيش فيها. [464]

في يناير/كانون الثاني 2024، قال طبيب يعمل في وزارة الصحة في غزة لـ هيومن رايتس ووتش إن الأمراض الجلدية تنتشر في جميع أنحاء القطاع بسبب نقص المياه والصرف الصحي.[465] وأضاف: "قال الأشخاص الذين التقيت بهم في العيادة إن الماء لم يلمس أجسادهم لمدة أسبوعين، ولم يستحموا... أما الناس في الملاجئ والخيام والمدارس، فلا توجد حتى إمكانية للعثور على ماء للاستحمام".[466]

قال الدكتور النجار إنه عندما يأتي المصابون بالجرب إلى المستشفى، يوصونهم "بالقيام بعدة أمور تتطلب الماء"، بما فيها الاستحمام وغسل ملابسهم. قال إن المرضى يسألونه: "كيف نحصل على هذه المياه، وكيف نضمن أنها نظيفة؟" قال إنه لا إجابة لديه، حيث إن "كل المياه في غزة الآن تأتي من خزانات تقع في مناطق الصرف الصحي، لذلك فهي ليست نظيفة أصلا".[467]

في ديسمبر/كانون الأول 2023، قال رجل (53 عاما) هُجِّر إلى مدرسة في رفح لـ هيومن رايتس ووتش: "أنا هنا منذ أكثر من شهر وربما استحممت ثلاث مرات فقط!... ليس دوش حتى، تضع الماء على نفسك لبضع ثوانٍ ثم تخرج!".[468]

تدهور الوضع بشكل كبير منذ ديسمبر/كانون الأول، حيث نزح معظم الناس في مختلف أنحاء غزة عدة مرات، واضطر الكثيرون إلى النزوح إلى منطقة المواصي التي تفتقر للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي.

في يناير/كانون الثاني 2024، وفقا للما عبد الصمد، المستشارة الفنية للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية في منظمة أوكسفام، كان هناك في المتوسط أكثر من 500 شخص لكل مرحاض و3 آلاف شخص لكل دوش في جنوب ووسط غزة.[469]

في 8 فبراير/شباط 2024، أفادت أوتشا أن تقييما أجراه "المجلس النرويجي للاجئين" لتسعة ملاجئ للمهجرين في رفح وجد أن "الناس يفتقرون إلى مياه الشرب أو الحمامات أو مستلزمات النظافة الشخصية"، وأن كل ملجأ أبلغ عن حالات "التهاب الكبد الوبائي أ، والالتهابات المعوية، والإسهال، والجدري، والقمل، [و] الأنفلونزا".[470]

في أغسطس/آب 2024، قال الدكتور عبد الرحمن باسم، وهو طبيب يعمل في غزة، إنه سأل العديد من الأشخاص الذين يعيشون في المخيمات عن آخر مرة استحموا فيها، وكانوا في كثير من الأحيان بالكاد يتذكرون المرة الأخيرة.[471]

قال الدكتور النجار إنه منذ مايو/أيار الماضي بدأ يرى العديد من حالات الأمراض الجلدية، منها الجرب والقمل، بسبب نقص المياه النظيفة والصابون والشامبو.[472] قال إن فتاة (10 أعوام) جاءت إلى المستشفى وهي تعاني من القراد والقمل في رأسها وشعرها، وأنه قدم للأم شامبو مضاد للقمل - قال إنه لم يعد من الممكن العثور عليه في غزة - لعلاجها.[473] قال: "حرصت على إخبار الأم بتركه لمدة 10 دقائق ثم غسله ... لكنها تركته طوال الليل لأنها لم تجد الماء لتغسله. انتهى بها الأمر بحروق كيميائية في رأسها".[474]

قالت لما عبد الصمد: "ليس لديك مياه نظيفة، ولا مرافق الصرف الصحي، والبيئة التي تعيش فيها غير صحية بشكل كبير، ستصاب بأمراض مرتبطة بالمياه والصرف الصحي".[475]

يُعد الوصول إلى الماء ومرافق الصرف الصحي الآمنة أمرا ضروريا للنساء والفتيات لتحقيق النظافة الصحية أثناء الدورة الشهرية. قد يؤدي عدم تلبية هذه الاحتياجات إلى حالات عدوى خطيرة، منها التهاب الكبد ب والتهاب المهبل الفطري.[476]

بحسب "صندوق الأمم المتحدة للسكان" وهيئة الأمم المتحدة للمرأة، هناك 690 ألف امرأة ومراهقة في سن الحيض في غزة، "جميعهن يواجهن محدودية الحصول على منتجات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية، بالإضافة إلى النقص في مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية".[477] أفادت هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن الملاجئ المكتظة التي تفتقر إلى مرافق المياه والصرف الصحي الكافية "تُعرّض النساء والفتيات في سن الحيض لالتهابات الجهاز التناسلي والمسالك البولية نتيجة لعدم قدرتهن على غسل منتجات النظافة أو الحفاظ عليها نظيفة بشكل كاف". وأضافت أن "الرحلات اليومية بحثا عن الحمام والمرحاض تشكل مخاطر تتعلق بالحماية، حيث تبحث النساء عن الحد الأدنى من الماء والخصوصية والكرامة".[478]

وصفت أطباء بلا حدود بعض التحديات التي تواجهها النساء الحوامل والمرضعات في غزة للحفاظ على النظافة الشخصية دون الحصول على المياه أو الصرف الصحي الكافيين.[479] قالت المنظمة في تقرير لها في أبريل/نيسان 2024: " يشكل التعامل مع نزيف ما بعد الولادة، والذي يمكن أن يستمر لعدة أسابيع بعد الولادة، صعوبة إضافية للنساء اللاتي يعشن في مواقع النزوح، حيث تندر المياه ويشكل الحفاظ على النظافة الشخصية تحديا".[480]

كما أن الوصول إلى الصرف الصحي أمر صعب تحديدا بالنسبة لذوي الإعاقة من الأطفال والبالغين، بما في ذلك بسبب الافتقار إلى الوصول إلى مرافق الصرف الصحي والأجهزة المساعِدة. لا تستطيع غزل، التي لديها شلل دماغي وفقدت جميع أجهزتها المساعِدة في هجوم على منزلها، استخدام المرحاض أو الدش في المخيم إلا إذا كانت أمها أو أختها حاضرتين لمساعدتها.[481]

قال جمال الرزي، والد رجل عمره 27 عاما لديه شلل دماغي: "يمكنك أن تنسى الاستحمام. ليس لديك ماء كاف لغسل وجهك أو الشرب، ناهيك عن الماء لاستخدام المرحاض. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل الحاجة إلى الذهاب إلى المرحاض. هذا يتفاقم بالنسبة لذوي الإعاقة الذين هم أقل قدرة على الوصول إلى المرحاض".[482]

الماء والصرف الصحي في المؤسسات الصحية

عانت مرافق الرعاية الصحية القليلة المتبقية العاملة في غزة من صعوبة في الحصول على المياه النظيفة والحفاظ على تدابير الصرف الصحي الأساسية بسبب قطع السلطات الإسرائيلية للموارد الصحية الضرورية وفرض القيود عليها، بما فيها الماء والصابون وأقراص الكلور وأنظمة تنقية المياه. لا تعمل مرافق الرعاية الصحية بشكل فعال دون مياه نظيفة، ما يمثل تحديات كبيرة لإجراء العمليات الجراحية، وتوفير العلاج للأمراض والالتهابات، وعلاج الجروح لآلاف الجرحى في القطاع.[483]

قال طبيب صحة عامة في منظمة دولية لـ هيومن رايتس ووتش إن انعدام المياه النظيفة والصرف الصحي في مرافق الرعاية الصحية يزيد من خطر الوفاة بسبب العدوى التي تصيب الجروح وعدم القدرة على إجراء العمليات الجراحية في ظل صرف صحي مناسب.[484] وأضاف: "التضرر الكبير للمياه والصرف الصحي في المرافق الصحية يعني وجود وفيات كثيرة غير مباشرة ناجمة عن الصدمات بسبب عدوى الجروح، وهذه لا يجري قياسها".[485]

تحدث هو وغيره من المتخصصين في الرعاية الصحية عن وجود يرقات في جروح المرضى بسبب انعدام الصرف الصحي ونقص الوصول إلى الصرف الصحي.[486] قال طبيب الصحة العامة: "لن يحدث هذا أبدا مع الصرف الصحي والتعقيم المناسبين".[487]

قال الدكتور أبو ستة: "ليس لديهم مياه نظيفة في المستشفيات، قال جراح أطفال في المستشفى الأهلي إنهم لا يجرون العمليات إلا عند توفر الوقود أو الماء. وتأتي المياه كلما استطاعت منظمة الصحة العالمية الحصول على شاحنة".[488]

قال الدكتور سيدوا: "لم يكن هناك حتى مياه شرب نظيفة متاحة للمرضى في المستشفى".[489] قالت الممرضة عبيرة محمد إن "المياه المفلترة القادمة إلى المستشفى الأوروبي في رفح كلها ملوثة". وأضافت أنها والعاملين الآخرين في مجال الرعاية الصحية كانوا يستخدمون أقراصا ووسائل أخرى لتنظيف المياه، لكنهم جميعا يمرضون باستمرار بسبب المياه.[490]

قال طبيب الصحة العامة لـ هيومن رايتس ووتش أيضا: "مرافق الرعاية الصحية نفسها حاضنات للأمراض لأن المرضى يذهبون إليها، لذا، ما لم يكن لديك نظام جيد للصرف الصحي، فأنت تزيد من خطر تعرض الناس للإصابة بالأمراض".[491] أفادت منظمة الصحة العالمية أن "الأضرار التي لحقت بشبكات الماء والصرف الصحّي، وتناقص مستلزمات التنظيف، أدّت إلى استحالة الالتزام بالتدابير الأساسيّة للوقاية من العدوى ومكافحتها" في المرافق الصحيّة.[492]

قالت عاملة إنسانية لـ هيومن رايتس ووتش إن "كل شيء أصبح متسخا" بسبب نقص الماء ومواد التنظيف في العيادات الطبية.[493] قالت: "ليس لدينا ماء لغسل الملاءات، وليس لدينا ماء لتنظيف المستشفيات، وليس لدينا مواد تنظيف".[494] وأضافت: "هناك ثلاثة أطفال في سرير واحد متسخ جدا، و[الأطفال] لديهم بالفعل ضعف المناعة لأنهم مصابون بعدوى أو شيء آخر".[495]

قالت الدكتورة تانيا الحاج حسن، طبيبة العناية المركزة للأطفال والتي تطوعت في غزة:

لم يتمكنوا الاستمرار في الغسيل في المستشفى، كان الناس ينامون على أي شيء... يكون المرضى محظوظون لو كانوا على سرير، ليس لدى معظمهم ملاءات، ومن لم يكونوا على ملاءات كانوا على بطانيات، كانوا ينزفون من جروحهم على الأسرة.[496]

بحلول أغسطس/آب 2024، لم يحصل العديد من الأشخاص والمستشفيات على الصابون لعدة أشهر. [497]

صرح مارك بيرلماتر، وهو طبيب تطوع في غزة في مارس/آذار 2024: "لم يكن لدينا صابون في المستشفى الأوروبي، عندما كنا هناك، كان هو المستشفى الأفضل من حيث الموارد في القطاع بأكمله ... كانت المستشفيات الأخرى أسوأ حالا بكثير".[498]

حالات وفاة ومرض غير مبلغ عنها

بينما واصلت وزارة الصحة في غزة جمع المعلومات عن الذين قُتلوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية، فإن تدمير نظام الرعاية الصحية جعل من المستحيل تحديد العدد الكامل للأشخاص الذين ماتوا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، نتيجة للأعمال العدائية.[499] استنادا إلى بحث هيومن رايتس ووتش، من الواضح أن عدد الوفيات أعلى بكثير على الأرجح مما أفادت به وزارة الصحة في غزة، وأن الوفيات الناجمة عن المرض وسوء التغذية والجفاف والمضاعفات الأخرى الناجمة عن نقص المياه النظيفة والصرف الصحي لم يُبلغ عنها لأنها غير مدرجة في حصيلة القتلى الرسمية لوزارة الصحة.[500] في النزاعات الأخيرة، تراوحت الوفيات غير المباشرة من ثلاثة إلى 15 ضعف عدد الوفيات المباشرة.[501]

بالإضافة إلى ذلك، فإن آلاف الأشخاص الذين ما زالوا تحت الأنقاض، والذين يقدر عددهم حاليا بأكثر من 10 آلاف شخص، أو الذين لم تُنقل جثثهم إلى المستشفيات، ليسوا مدرجين في حصيلة القتلى الرسمية التي أعلنتها وزارة الصحة في غزة.[502]

وفقا لتقارير قسم الطوارئ التي تنشرها وزارة الصحة في غزة بانتظام على قناتها الرسمية على تليغرام، يشمل العدد الإجمالي للوفيات التي سجلتها الوزارة الذين "قتلتهم هجمات الاحتلال [الإسرائيلي] بشكل مباشر، ولا يشمل الوفيات الطبيعية أو الممنوعين من السفر"، أي الوفيات الناجمة عن قيود السلطات الإسرائيلية، وأحيانا المنع، على الفلسطينيين الذين يغادرون غزة. أوضح الدكتور مدحت عباس، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة في غزة، لـ هيومن رايتس ووتش أن الوفيات التي سجلتها الوزارة هي فقط لمن وصلت جثثهم إلى المستشفيات الحكومية، أو الخاصة، أو المجتمعية، أو الميدانية، نتيجة لهجمات إسرائيلية مباشرة.[503] وأضاف الدكتور مدحت أن الوفيات غير المباشرة، "مثل الذين ماتوا بسبب نقص الخدمات"، غير مسجلة، مشيرا إلى أننا "نتوقع أن يتجاوز العدد الحقيقي لضحايا العدوان على غزة بشكل كبير ما هو موجود في تقارير وزارة [الصحة]".[504]

قدّم السيد زاهر الوحيدي، مدير وحدة المعلومات الصحية في وزارة الصحة في غزة، لـ هيومن رايتس ووتش وثيقة من الوزارة توضح أنه:

نتيجة لهجوم جيش الاحتلال الإسرائيلي على مجمع الشفاء الطبي في 10 نوفمبر/تشرين الثاني، بما في ذلك تدمير مركز البيانات الرئيسي، وهو النظام المركزي لجميع المستشفيات ويُعتمد عليه في رصد جميع الوفيات التي تصل إلى أقسام الطوارئ، وكذلك الهجوم على مجمع الرنتيسي، بما في ذلك تدمير مركز البيانات البديل، انهارت الأنظمة الصحية بشكل كامل، وانقطع الاتصال بقاعدة البيانات والسجل المدني.[505]

أوضحت الوثيقة أن المستشفيات بدأت تعتمد على "التسجيل الورقي".[506] ومع حصار أو تدمير المزيد من المستشفيات من قبل الجيش الإسرائيلي، ازدادت صعوبة تتبع الوفيات لأن وزارة الصحة تعتمد على المستشفيات والمراكز الطبية الأخرى لتوفير البيانات حول الذين ماتوا.[507]

وحتى المرافق الطبية المتبقية في غزة لم تُسجّل العديد من الوفيات بسبب الضغط على الموارد. وصفت أسماء طه، ممرضة الأطفال التي تطوعت في غزة في مايو/أيار 2024، كيف أن العيادة التي كانت تعمل بها لم تُسجّل العديد من الوفيات بسبب الإجهاد الشديد الذي يعاني منه الأطباء في علاج المرضى.[508] وأضافت أنه في كثير من الحالات خلال أسبوعين من التطوع، لم تكن الأوراق اللازمة لتسجيل الوفيات متوفرة.[509]

قال الدكتور أبو ستة أيضا إنه يعتقد أن الغالبية العظمى من الوفيات خارج المستشفيات لم تُسجَّل. وقال إنه يعرف العديد من الأشخاص، بمن فيهم أسرة زوجته، الذين دفنوا أفراد أسرهم المتوفين دون إحضار جثثهم أولا للتسجيل بسبب مخاطر الهجمات الإسرائيلية إذا حاولوا الذهاب إلى المستشفى.[510]

ذكرت "الإذاعة الوطنية العامة"، نقلا عن مناقشات مع أطباء ومسؤولين في وزارة الصحة الفلسطينية، أن "إحصاء الوفيات الذي تنشره وزارة الصحة يستثني إلى حد كبير الذين ماتوا بسبب نقص العلاج الكافي والأمراض والآثار الأخرى الناجمة عن الحرب، مثل الجوع".[511] وهذا يتطابق مع المعلومات التي جمعتها هيومن رايتس ووتش من الأطباء والممرضين الذين قالوا إنهم لا يعتقدون أن المرضى الذين رأوهم يموتون بسبب الأمراض وسوء التغذية والجفاف مشمولون في إجمالي عدد القتلى نتيجة للأعمال العدائية.

بناء على مقابلات هيومن رايتس ووتش مع عدة عاملين في المجال الإنساني، وأطباء، وممرضين، وعلماء أوبئة، ومسؤولي وزارة الصحة، يرجح أن عدد حالات المرض والوفيات غير المباشرة الناجمة عن الأعمال العدائية المبلغ عنها يمثل عددا أقل بكثير من العدد الحقيقي. ناقش العديد من المتخصصين في الرعاية الصحية وعلماء الأوبئة عدم القدرة على تتبع حالات الأمراض المعروفة أو المشتبه بها بشكل كاف، بما فيها بسبب القيود المفروضة على جلب معدات الاختبار وانهيار نظام الرعاية الصحية والتهجير الواسع.[512]

في يناير/كانون الثاني 2024، قال طبيب صحة عامة في منظمة دولية لـ هيومن رايتس ووتش: "لم تعد هناك مختبرات. ولم تعد هناك مواد للمختبرات والاختبارات. وانهار النظام [الصحي] بأكمله".[513]

أجرى علماء الأوبئة في "جونز هوبكنز" و"مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة" أبحاثا توقعت الوفيات على مدى فترة ستة أشهر في ظل ثلاثة سيناريوهات محتملة. وخلصوا إلى ما يلي:

يؤدي انهيار تدابير توفير المياه والصرف الصحي، إلى جانب الاكتظاظ في الملاجئ غير الملائمة وسوء التغذية الحاد الناتج عن عدم كفاية تناول الغذاء، إلى ارتفاع مخاطر الوفيات الزائدة بسبب مجموعة متنوعة من الأمراض المعدية. [514]

وجد علماء الأوبئة أنه إذا استمرت الأعمال العدائية كما هي منذ فبراير/شباط 2024، فسيكون هناك أكثر من 58 ألف حالة وفاة "زائدة" ناجمة عن النزاع طوال ستة أشهر.[515] حتى 6 أغسطس/آب 2024، نهاية فترة التوقعات، ليس من الواضح ما إذا كانت هذه الوفيات الزائدة قد حدثت بالفعل. ومع ذلك، تشير تصريحات العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى وجود العديد من الوفيات الزائدة المنسوبة إلى سوء التغذية والجفاف والأمراض الناجمة عن عرقلة وصول الماء إلى سكان غزة والتي لم تُسجّل.

وفي دراسة منفصلة، استخدم اثنان من علماء الأوبئة وأستاذ في الصحة العامة "تقديرا متحفظا" لأربع وفيات غير مباشرة لكل وفاة مباشرة، استنادا إلى دراسة للوفيات غير المباشرة الناجمة عن النزاعات أجرتها "أمانة إعلان جنيف"، وقدّروا أن "186 ألف حالة وفاة أو حتى أكثر" قد تنجم عن الأعمال العدائية الحالية في غزة اعتبارا من 19 يونيو/حزيران 2024، بما في ذلك لأسباب مثل الأمراض الإنجابية والمُعدية وغير المُعدية.[516] وذكر علماء الأوبئة أن:

من المتوقع أن يكون إجمالي عدد القتلى كبيرا نظرا لشدة هذا النزاع، والبنية التحتية للرعاية الصحية المدمرة، والنقص الحاد في الغذاء والماء والمأوى، وعدم قدرة السكان على الفرار إلى أماكن آمنة، وفقدان التمويل للأونروا، وهي واحدة من المنظمات الإنسانية القليلة جدا التي ما تزال نشطة في قطاع غزة.[517]

في ملحق لرسالة في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى إدارة بايدن وقع عليها 99 من المتخصصين في الرعاية الصحية الأميركيين، قدّروا أنه اعتبارا من 30 سبتمبر/أيلول، "من المرجح أن يكون 62,413 شخصا قد ماتوا بسبب الجوع ومضاعفاته في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023".[518]

يستند الملحق إلى بيانات من التصنيف المرحلي المتكامل لمرحة للأمن الغذائي، الذي ينص في دليله الفني على أنه في مرحلة الكارثة من انعدام الأمن الغذائي، من المتوقع أن يموت الناس لأسباب تتعلق بالجوع بمعدل شخصين على الأقل يوميا لكل 10 آلاف شخص، بينما في مرحلة الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي، من المتوقع أن يموت الناس لأسباب تتعلق بالجوع بمعدل 1-2 يوميا لكل 10 آلاف شخص.[519]

ورغم أن "لجنة مراجعة المجاعة" التابعة للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي كتبت في يونيو/حزيران أن المجاعة لم تحدث بعد في غزة، على النقيض من توقعات التصنيف المرحلي المتكامل السابقة، فقد وجدت اللجنة أن تصنيفات التصنيف المرحلي المتكامل السابقة للأشخاص في مرحلتي الطوارئ والكارثة من انعدام الأمن الغذائي في غزة "معقولة".[520]

كما ذكر اختصاصيو الرعاية الصحية في الملحق الوارد في الرسالة المذكورة أعلاه أن الأمراض المعدية قد يؤديان إلى "عشرات الآلاف" من الوفيات الزائدة بالإضافة إلى الوفيات من سوء التغذية، ويرجع ذلك جزئيا إلى "الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للماء والصرف الصحي والنظافة في غزة والاكتظاظ الناجم عن التهجير القسري للغالبية العظمى من السكان".[521]

لا تشير التقديرات بالتحديد إلى عدد الوفيات التي قد تحدث نتيجة لتدمير وتضرر مرافق الماء والصرف الصحي والنظافة والحرمان من الماء. أوضح اختصاصيو الرعاية الصحية وعلماء الأوبئة وغيرهم من خبراء الصحة أنه من الصعب عزو الوفيات إلى أسباب تتعلق بالماء، حيث كثيرا ما تتقاطع عدة عوامل، منها تلك المرتبطة بنقص الماء والصرف الصحي، في نهاية المطاف لتسبب الوفاة. [522]


 

VII. تدمير البنية التحتيّة للصحّة والإسكان والزراعة، والتهجير القسري

من يعود إلى هنا، إذا عاد بعد ذلك، سيجد الأرض محروقة. لا منازل، لا زراعة، لا شيء. ليس لديهم مستقبل.

العميد يوغيف بار شيشت، نائب رئيس الإدارة المدنية، في مقطع فيديو نُشر على الإنترنت من غزة، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. [523]

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أدى تدمير وتضرر منشآت الرعاية الصحية والبنية الأساسية الحيوية الأخرى إلى تفاقم آثار حرمان الحكومة الإسرائيلية للمدنيين من الماء. كما أدت الأعمال العدائية إلى تدمير الكثير من مساكن غزة ومناطقها الزراعية اللازمة لإنتاج الغذاء.

بعض عمليات التدمير الواسعة، مثل تجريف الغالبية العظمى من المباني في منطقة عازلة وممرات محددة، قد ارتكبها الجيش الإسرائيلي بوضوح لأسباب شُرحت في القسم "III. تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي"، وهي غير قانونية بوضوح.[524] وفي كثير من الحالات، لا يمكن تحديد سبب تدمير أو تضرر البنية التحتية بشكل قاطع، أو تقييم شرعية الهجمات التي دمرت البنية التحتية.

يوضح هذا القسم حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للرعاية الصحية في غزة، فضلا عن الإسكان والزراعة، وتأثيره على حياة المدنيين، إلى الحد الذي يتقاطع فيه مع التأثيرات التي لحقت بالمدنيين نتيجة لحرمان السلطات الإسرائيلية سكان غزة من الماء. كما يصف الطرق التي أدى بها التهجير المتكرر لجزء كبير من سكان غزة إلى تفاقم آثار الحرمان من الماء.

في يونيو/حزيران 2024، أفاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن الأعمال العدائية خلّفت نحو 39 مليون طن من الحطام، ما يشكل "مخاطر على صحة الإنسان والبيئة، بدءا من الغبار والتلوث بالذخائر غير المنفجرة ووصولا إلى الأسبستوس والنفايات الصناعية والطبية وغيرها من المواد الخطرة".[525] قال البنك الدولي إن إزالة الأنقاض وحدها ستستغرق سنوات. [526] في فبراير/شباط، قدّر "مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التجارة والتنمية" أن تكلفة إعادة بناء البنية التحتية في غزة ستبلغ 20 مليار دولار إذا توقفت الحرب، وذلك استنادا إلى تحليل صور الأقمار الصناعية.[527]

قبل أن تبدأ عمليات إعادة إعمار كبيرة، سيكون للدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية الحيوية والإسكان والأراضي الزراعية عواقب وخيمة على قدرة الناس على الحصول على الماء والحفاظ على الصرف الصحي الأساسي.

الرعاية الصحية

أدى تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة إلى إصابة مئات الآلاف من الأشخاص بأمراض منقولة بالمياه، والجفاف، ومشاكل صحية أخرى مرتبطة بالماء والصرف الصحي دون وصول كاف إلى الرعاية الصحية.

بدأت الهجمات الإسرائيلية على نظام الرعاية الصحية في غزة في بداية الأعمال العدائية. حققت هيومن رايتس ووتش في الهجمات على المستشفى الإندونيسي، ومستشفى الشفاء، و"المركز الدولي للعناية بالعيون"، و"مستشفى الصداقة التركي الفلسطيني"، و"مستشفى القدس" أو بالقرب منها، بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ووجدت أن الجيش الإسرائيلي نفذ هجمات متكررة غير قانونية مفترضة على المنشآت والطواقم ووسائل النقل الطبية، دمرت نظام الرعاية الصحية في غزة، وينبغي التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب.[528] في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قالت مارغريت هاريس، المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية: "سيموت المزيد من الناس من المرض أكثر من القصف إذا لم نتمكن من إعادة بناء النظام الصحي".[529]

حتى ديسمبر/كانون الأول 2023، أدت هجمات السلطات الإسرائيلية على الرعاية الصحية إلى "الانهيار الكامل... لنظام الرعاية الصحية في غزة"، وفقا لـ أطباء بلا حدود.[530] شنّ الجيش الإسرائيلي مرارا هجمات غير قانونية مفترضة على المنشآت والطواقم ووسائل النقل الطبية، أثرت على وصول السكان إلى العلاج المنقذ للحياة، بما في ذلك الوقاية من الأمراض المرتبطة باستهلاك الماء غير الصالح للشرب وعلاجها.[531]

في إحاطته لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 22 فبراير/شباط 2024، صرّح كريستوفر لوكيير، الأمين العام لـ أطباء بلا حدود، بأنه "لم يبقَ في غزة نظام صحي يُذكَر. نسف الجيش الإسرائيلي مستشفًى تلو الآخر".[532]

وفقا لـ البنك الدولي، حتى 4 مارس/آذار، تعرضت 83.3٪ من المنشآت الصحية للضرر أو الدمار.[533]

حتى 20 أغسطس/آب 2024، تضرر 32 مستشفى في غزة من أصل 36، وبقيت 16 مستشفى تعمل جزئيا.[534] أفادت منظمة الصحة العالمية بأنه من بين المستشفيات الـ 16، "12 مستشفى لا يمكن الوصول إليها إلا جزئيا بسبب انعدام الأمن أو الحواجز المادية، مثل الأضرار التي لحقت بمداخل المرضى وسيارات الإسعاف، والطرق المحيطة".[535] وحتى المستشفيات التي "تعمل جزئيا" تفتقر إلى العديد من الإمدادات الأساسية، منها الصابون والمياه النظيفة.[536]

أفادت منظمة الصحة العالمية بمقتل 752 شخصا في هجمات على مرافق الرعاية الصحية بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و20 أغسطس/آب 2024، واحتُجز أو اعتُقل 128 عاملا صحيا.[537]

قال لوكيير:"القوات الإسرائيلية هاجمت مواكبنا واعتقلت من موظّفينا ودمّرت مركباتنا وقصفت المستشفيات وداهمتها".[538] وثّقت هيومن رايتس ووتش هجمات متكررة غير قانونية مفترضة على المستشفيات، فضلا عن تعذيب وسوء معاملة العاملين في مجال الرعاية الصحية.[539]

في تقريرها الصادر في سبتمبر/أيلول 2024، ذكرت "لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل"، أنها حققت في هجمات على أربعة مستشفيات، بما فيها "مرفقين طبيين رئيسيين ومستشفيات تقدم الرعاية الطبية المتخصصة مثل طب التوليد وطب الأطفال وطب الأورام"، و"تبيّن للجنة أن قوات الأمن الإسرائيلية قد استهدفت هذه المرافق بهجمات متماثلة، مما يشير إلى وجود خطط وإجراءات عملياتية لمهاجمة مرافق الرعاية الصحية".[540]

الإسكان

بحلول 30 ديسمبر/كانون الأول 2023، أفادت "وول ستريت جورنال" أن ما يصل إلى 80٪ من المباني في شمال غزة قد تضررت أو دُمرت، بالإضافة إلى نصف المباني في جميع أنحاء غزة، بناء على تحليل بيانات الأقمار الصناعية.[541] في 5 يناير/كانون الثاني 2024، قال مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ: "باتت غزة مكانا لا يصلح للسكن ببساطة".[542] وجد تحالف من جماعات الإغاثة بقيادة المجلس النرويجي للاجئين أن إعادة بناء المساكن في القطاع ستستغرق من سبع إلى عشر سنوات بناء على تقييمات الأضرار حتى ديسمبر/كانون الأول 2023.[543]

أفاد يونوسات في 27 سبتمبر/أيلول 2024 - بناء على صور من 3 و6 سبتمبر/أيلول - أن حوالي 130 ألف مبنى تضرر أو دُمر.[544] وهذا يعادل حوالي 52٪ من إجمالي المباني في غزة و178,132 وحدة سكنية متضررة. المحافظات الأكثر تضررا هي مدينة غزة وخان يونس، مع تدمير أو إتلاف حوالي 35 ألف مبنى في كل منهما. [545]

الزراعة

يفترض أيضا أن الجيش الإسرائيلي دمر المنتجات والأراضي الزراعية، حيث تجريف البساتين والحقول وبيوت الدفيئة. منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تشير صور الأقمار الصناعية التي راجعتها هيومن رايتس ووتش إلى أن البساتين والحقول وبيوت الدفيئة قد دُمرت بشكل منهجي. تُظهر صور الأقمار الصناعية عالية الدقة استخدام الجرافات لتدمير الحقول والبساتين، مخلفة الرمال والأتربة، ما يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي تسبب في التدمير. في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023، تواصلت هيومن رايتس ووتش مع الجيش الإسرائيلي للحصول على تعليق على تجريف الأراضي الزراعية المزعوم في شمال غزة، لكنها لم تتلق ردا.

وجد يونوسات أنه حتى 28 يوليو/تموز 2024، تضرر حوالي 65٪ من إجمالي الأراضي الزراعية في غزة. [546] لا يؤدي تدمير الأراضي الزراعية إلى تفاقم النقص الحالي في الغذاء فحسب، بل سيكون له عواقب وخيمة على إنتاج الغذاء في غزة على المدى الطويل.

التهجير القسري

وفقا للأمم المتحدة، بلغ عدد المهجرين في غزة 1.9 مليون شخص من أصل 2.1 مليون حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2024.[547] خلال حوالي 15 شهرا من الأعمال العدائية، أمر الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين مرارا بالانتقال إلى مناطق تخلو من البنية التحتية المدنية، مثل "المنطقة الآمنة" في المواصي في مناطق غير مأهولة سابقا بالقرب من شاطئ البحر، أو حيث ألحق القصف والقتال السابق أضرارا جسيمة بالمباني والبنية التحتية المدنية ودمرها، فافتقر المهجرون للوصول الكافي إلى الماء والغذاء والرعاية الطبية والمأوى.

في مايو/أيار 2024، أمرت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين في رفح بالإخلاء إلى المواصي، وهي بلدة بدوية فلسطينية على الساحل الجنوبي لقطاع غزة. يبلغ عرض المنطقة حوالي كيلومتر واحد وطولها 14 كيلومتر، وهي في أغلبها قاحلة ورملية، وتخلو من المياه الجارية.

حذرت الأمم المتحدة و"أنقذوا الطفولة" ومنظمات أخرى من أن المنطقة لا يمكن أن توفر سبل استمرار الحياة لمئات الآلاف من الأشخاص الذين أُمروا بالذهاب إلى هناك. [548] صرحت لويز ووتريدج، المتحدثة باسم الأونروا في غزة، بوجود "نقص حاد في البنية التحتية الكافية بما فيها المياه المتاحة [في المواصي] ولا يمكن دعم عشرات الآلاف من النازحين هناك".[549]

في ملحق لرسالتهم إلى إدارة بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2024، صرح 99 طبيبا وممرضا أمريكيا بما يلي:

تعمل إسرائيل على تجميع سكان مرضى ويعانون من سوء التغذية، أغلبهم من الأطفال، في مكان لا يزيد عن شاطئ يفتقر إلى المياه الجارية أو حتى المراحيض. وفي ظل هذه الظروف فإن الأوبئة مضمونة تقريبا وستكون مدمِّرة، وستقتل عشرات الآلاف، أغلبهم من الأطفال الصغار.[550]

في مايو/أيار 2024، ذكرت محكمة العدل الدولية أن "إسرائيل لم تقدّم معلومات كافية بشأن... مدى توفر الماء والصرف الصحي والغذاء والدواء والمأوى في منطقة المواصي [التي صدرت أوامر للمدنيين في رفح بالتوجه إليها]".[551] في 3 يونيو/حزيران، أفادت أوكسفام بوجود 121 مرحاضا فقط لأكثر من 500 ألف شخص في المواصي، أو مرحاض واحد لكل 4,130 شخصا.[552] في سبتمبر/أيلول 2024، قدّر المجلس النرويجي للاجئين الكثافة السكانية في المواصي بنحو 30 ألف شخص لكل كيلومتر مربع.[553]

في يوليو/تموز، أفاد أوتشا أن "3,800 شخص في مخيمي البريج والمغازي للاجئين في دير البلح وسط قطاع غزة كانوا يتقاسمون 388 خيمة دون خدمات صحية أو مواد أساسية منها الماء ومنتجات النظافة... وكان أكثر من ألف شخص، من بينهم سبعة مرضى بالسرطان، محشورين في مدرسة تابعة للأونروا متضررة دون رعاية طبية أو ماء أو طعام".[554]

وفي أوامر إخلاء جديدة أصدرتها السلطات الإسرائيلية في أغسطس/آب 2024، أمرت الفلسطينيين بمغادرة مناطق دير البلح. ووفقا لمجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة، أضرت الأوامر بـ 15 بئرا من أصل 18 بئرا للماء، "مما أدى إلى خفض إجمالي الطاقة الإنتاجية للماء في المنطقة بنسبة 80٪".[555]

بموجب المادة 49 من "اتفاقية جنيف الرابعة"، يجب أن يلتزم الإخلاء القانوني للسكان المشمولين بالحماية في الأراضي المحتلة بالمعايير الإنسانية، منها:

على دولة الاحتلال التي تقوم بعمليّات النقل أو الإخلاء هذه أن تتحقق إلى أقصي حدّ مُمكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميّين، ومن أنّ الانتقالات تجري في ظروف مرضيّة من وجهة السلامة والشروط الصحيّة والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة. [556]

تتحمّل إسرائيل مسؤوليّة تلبية الاحتياجات الإنسانيّة للنازحين. يتوسّع تعليق اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر على اتفاقيات جنيف في هذا الجزء من المادة 49:

إذا لم يكن ممكنا إعادة الأشخاص الذين تمّ إجلاؤهم إلى ديارهم في غضون فترة قصيرة نسبيا، يصير من واجب دولة الاحتلال توفير سكن مناسب لهم، واتخاذ التدابير اللازمة للتغذية والصرف الصحيّ.[557]

لم تبذل الحكومة الإسرائيلية أي جهود ذات مغزى للامتثال لهذه الالتزامات بتوفير الحماية الإنسانية للسكان الذين أجلتهم، لكنها اتخذت في الواقع خطوات لضمان عدم تمكن المدنيين المهجرين من الاستفادة من هذه الحماية من خلال استهدافها للبنية التحتية المدنية وفرض القيود على المساعدات، وصرحت علنا عن نيتها القيام بذلك. هجّر الجيش الإسرائيلي الناس قسرا إلى أماكن غير آمنة ومكتظة للغاية وغير رسمية بدون مرافق الصرف الصحي والبنية التحتية للماء المناسبة، ما ساهم أيضا في انتشار الأمراض.[558] في تقرير صدر في نوفمبر/تشرين الثاني، وجدت هيومن رايتس ووتش أن تهجير إسرائيل للسكان وعدم توفيرها للضمانات الإنسانية في مناطق الإخلاء، إلى جانب انتهاكات أخرى للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، يرقى إلى جرائم حرب متعددة وجرائم ضد الإنسانية المتمثلة بالتهجير القسري.[559]


 

القانون الدولي

القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الجنائي الدولي، والقانون الدولي العرفي، كلها تنطبق على الأعمال العدائية الجارية في غزة، وكذلك على إغلاق إسرائيل لغزة منذ 17 عاما.

القانون الإنساني الدولي وجرائم الحرب

يعترف الدولي القانون الإنساني بالاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة باعتباره نزاعا مسلحا مستمرا. تخضع الأعمال العدائية بين إسرائيل وحماس والجماعات المسلحة الفلسطينية الأخرى للقانون الدولي الإنساني للنزاعات المسلحة غير الدولية، والتي تتجذر في قانون المعاهدات الدولية، وأبرزها المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف لعام 1949، والقانون الدولي الإنساني العرفي. تتعلق هذه القواعد بأساليب ووسائل القتال والحماية الأساسية للمدنيين وتنطبق على كل من الدول والجماعات المسلحة غير التابعة للدول.

تُشكّل الانتهاكات الخطيرة لقوانين الحرب التي يرتكبها أفراد بنيّة إجرامية ـ عمدا أو بتهور ـ جرائم حرب.[560] تشمل جرائم الحرب، المدرجة في أحكام "الانتهاكات الجسيمة" في اتفاقيات جنيف وفي القانون العرفي، مجموعة واسعة من الجرائم، بما فيها الهجمات المتعمدة والعشوائية وغير المتناسبة التي تلحق الأذى بالمدنيين والأعيان المدنية، والتعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، واحتجاز الرهائن، واستخدام الدروع البشرية، وغيرها. كما يُمكن تحميل الأفراد المسؤولية الجنائية عن محاولة ارتكاب جريمة حرب، فضلا عن المساعدة في ارتكاب جريمة حرب، أو تسهيلها، أو المساعدة فيها، أو التحريض عليها. لا يتطلب تقييم النيّة الإجرامية اعتراف المعتدي، لكن يمكن استنتاجه أيضا من مجموع الظروف.

قد يتحمل المسؤولية الجنائية أيضا الأشخاص الذين يُخططون لارتكاب جريمة حرب أو يُحرّضون عليها. بالإضافة إلى ذلك، قد يُحاكم القادة والزعماء المدنيون بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إطار مسؤولية القيادة عندما يعلمون أو كان ينبغي لهم أن يعلموا بارتكاب جرائم حرب ولم يتخذوا التدابير الكافية لمنعها أو معاقبة المسؤولين عنها.

يقع على عاتق الدول التزام بالتحقيق في جرائم الحرب وملاحقة الأفراد المتورطين فيها داخل أراضيها بشكل مناسب.[561]

القانون الدولي لحقوق الإنسان

ينطبق القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" و"العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، على سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب القانون الدولي الإنساني الذي يحكم الاحتلال والنزاع المسلح.

وجدت "لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وهي الهيئة المكلفة بتفسير العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن هيئات حقوق الإنسان الأخرى، مرارا أن الدول، بما فيها إسرائيل، مُلزمة باحترام معاهدات حقوق الإنسان التي صادقت عليها في أفعالها خارج حدود دولتها، وأن أحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلا عن معاهدات حقوق الإنسان الأخرى، "تنطبق على جميع الأراضي والسكان في المناطق التي تخضع لسيطرتها الفعلية".[562] أيدت محكمة العدل الدولية هذا الرأي في رأيها الاستشاري بشأن جدار الفصل الإسرائيلي، حيث ذكرت أن إسرائيل "ملزمة بأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، في الأراضي التي تحتلها، بما فيها غزة.[563] تصر إسرائيل على أن التزاماتها في مجال حقوق الإنسان لا تمتد إلى الأراضي المحتلة.

تستمر إسرائيل في تحمل الالتزامات المترتبة عليها باحترام وحماية وتحقيق كافة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للفلسطينيين في غزة، بما فيها الحق في الغذاء، والماء، والسكن، والصحة.

القانون الجنائي الدولي واتفاقية الإبادة الجماعية

يمنح نظام روما الأساسي لعام 1998 للمحكمة الجنائية الدولية، والذي دخل حيز التنفيذ في 2002، المحكمة سلطة التحقيق في جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان، ومحاكمة مرتكبيها.

أصبحت فلسطين عضوا في المحكمة الجنائية الدولية في 2015 ومنحتها تفويضا يعود إلى 13 يونيو/حزيران 2014 لمعالجة الجرائم الخطيرة المرتكبة على أراضيها أو من قبل مواطنيها منذ ذلك التاريخ.[564]

تحدد معاهدة المحكمة الجنائية الدولية الجرائم التي يمكن أن ترقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية عندما "ترتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، مع العلم بالهجوم".[565] ويعرّف النظام الأساسي "الهجوم" بأنه "مسار عمل يتضمن ارتكاب أفعال متعددة ... تنفيذا أو تعزيزا لسياسة دولة أو منظمة".[566] تشير كلمة "واسع النطاق" إلى جسامة الأفعال أو عدد الضحايا،[567] في حين يشير مصطلح "منهجي" إلى "نمط أو خطة منهجية".[568] يمكن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية أثناء السلام أو في النزاع المسلح.

الإبادة هي من الجرائم ضد الإنسانية القائمة في حد ذاتها. لا يوجد تسلسل هرمي بين الجرائم ضد الإنسانية؛ فهي من نفس الخطورة وتؤدي إلى نفس العواقب بموجب نظام روما الأساسي.

تُعرّف الإبادة الجماعية كجريمة بموجب القانون الدولي سواء بموجب " اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية (اتفاقية منع الإبادة الجماعية)" لعام 1948 وبموجب نظام روما الأساسي.[569]

تُلزم اتفاقية منع الإبادة الجماعية الدول الأطراف بمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية وكذلك التآمر، والتحريض، ومحاولة ارتكاب، والاشتراك في الإبادة الجماعية.[570] إسرائيل طرفا في اتفاقية منع الإبادة الجماعية منذ 1951.[571] أصبحت فلسطين طرفا في اتفاقية منع الإبادة الجماعية في 2014.[572] تنص الاتفاقية على أنه يجب محاكمة الجرائم أمام محكمة مختصة في الدولة التي ارتُكب فيها الفعل، أو أمام محكمة دولية مختصة لديها الولاية القضائية اللازمة.

أحكام المحكمة الصادرة مؤخرا

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أكّد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أن مكتبه يجري تحقيقا منذ مارس/آذار 2021 في جرائم فظيعة مزعومة ارتُكبت في غزة والضفة الغربية منذ 2014، وأن مكتبه يتمتع بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة في الأعمال العدائية الحالية بين إسرائيل والجماعات المسلحة الفلسطينية والتي تغطي السلوك غير القانوني من جانب جميع الأطراف.[573]

في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت من إسرائيل، بالإضافة إلى محمد دياب إبراهيم المصري ("محمد ضيف")، القائد العام لـ "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحماس.[574] خلص قضاة المحكمة إلى وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت مسؤولان عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الأقل، بما يشمل تجويع المدنيين، وتوجيه الهجمات عمدا ضد السكان المدنيين، والقتل، والاضطهاد. كما قرروا أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن الضيف مسؤول عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إسرائيل وغزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الأقل، بما يشمل الإبادة والقتل وأخذ الرهائن.

أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في 20 مايو/أيار أنه طلب من قضاة المحكمة إصدار أوامر اعتقال ضد نتنياهو، وغالانت، والضيف، وقائد حماس في غزة آنذاك يحيى السنوار، ورئيس المكتب السياسي السابق لحماس إسماعيل هنية.[575] سحب مكتب خان الطلب ضد هنية بعد مقتله في 31 يوليو/تموز أثناء زيارته طهران لحضور تنصيب الرئيس الإيراني.[576] كما أكد القضاة سحب المدعي العام الطلب ضد السنوار بعد تأكيد وفاته.[577]

تسمح المادة 9 من اتفاقية الإبادة الجماعية بإحالة النزاعات بين الأطراف "المتعلقة بمسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية" والأعمال ذات الصلة إلى محكمة العدل الدولية.[578] في 26 يناير/كانون الثاني و28 مارس/آذار و24 مايو/أيار، أمرت محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير مؤقتة، أو أوامر مُلزمة، في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا والتي زعمت فيها أن إسرائيل تنتهك الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية، شملت مطالبة إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وبضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية.[579] أصدرت محكمة العدل الدولية هذه التدابير " بغية حماية الحقوق التي طالبت بها جنوب أفريقيا والتي وجدت المحكمة أنها معقولة"، بما في ذلك "حق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية".[580]

القانون الدولي الإنساني

بموجب القانون الدولي الإنساني، فإن الأطراف المتحاربة، وكذلك سلطات الاحتلال، ملزمة بتسهيل الوصول إلى المعونات والمساعدات الإنسانية.

كما يُحظر على الدول مهاجمة الأعيان الأساسية أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها. وعندما يحدث ذلك عمدا، قد ترقى الهجمات على الأعيان الأساسية إلى جرائم حرب.

يحظر القانون الدولي الإنساني أيضا استخدام التجويع كأسلوب حرب من خلال مهاجمة الأعيان الأساسية أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها، منها البنية التحتية للماء، ومنشآت وموارد ماء الشرب، مثل الآبار وأعمال الري.[581]

تسهيل الوصول إلى المعونات والمساعدات الإنسانية

يُلزم القانون الدولي الإنساني الدول بتسهيل تقديم المساعدة الإنسانية السريعة ودون عوائق إلى جميع المدنيين المحتاجين وعدم عرقلة المساعدات الإنسانية عمدا أو تقييد حرية حركة موظفي الإغاثة الإنسانية.[582]

في حالات الاحتلال، ينبغي للدول المحتلة توفير الرعاية للسكان المحتلين وضمان تلبية احتياجاتهم الإنسانية.[583] لا يقتصر هذا الالتزام على الغذاء، بل "يشمل الإمدادات الطبية وأي مادة ضرورية لدعم الحياة".[584]

يحظر القانون الدولي الإنساني أيضا العقاب الجماعي، وهو معاقبة أي شخص على جريمة غير تلك التي ارتكبها شخصيا.[585] يُشكل فرض العقاب الجماعي جريمة حرب. جرائم الحرب هي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني يرتكبها أفراد بقصد إجرامي.

قامت السلطات الإسرائيلية بمنع وتقييد إدخال المساعدات الإنسانية، بما فيها الوقود وإمدادات الماء الأساسية، إلى غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكذلك طوال إغلاق إسرائيل لغزة منذ 17 عاما.[586]

رغم تأكيد السلطات الإسرائيلية أنها تمنع دخول المواد "مزدوجة الاستخدام"، وهي مواد لها استخدام مدني وعسكري، إلى غزة حتى لا تستخدمها حماس أو غيرها من الجماعات المسلحة، فإن العديد من المواد التي منعت دخولها، مثل قِرَب الماء، ومجموعات أدوات صنابير الماء، ومجموعات اختبار الماء الميكروبيولوجية، ومجموعات اختبار جودة الماء الكيميائية، لا تُعتبر "مزدوجة الاستخدام" بموجب "اتفاق واسينار" أو أي معيار دولي آخر "للاستخدام المزدوج".[587] سمحت السلطات الإسرائيلية بدخول مواد معينة في بعض الأيام، ثم رفضت دخولها في أيام أخرى، وهو ما يدل على تعسف سياسة الحصار.

في إعلانهم عن قرارهم بإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أشار قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى دورهما "في عرقلة المساعدات الإنسانية، في انتهاك للقانون الدولي الإنساني، وعدم تسييرهما الغوث بكل ما أُوتيا من وسائل".[588]

تُشكل تصرفات السلطات الإسرائيلية انتهاكا لالتزاماتها بتسهيل وصول المساعدات الإنسانية بسرعة ودون عوائق إلى جميع المدنيين المحتاجين، وعدم عرقلة المساعدات الإنسانية عمدا.

الحصار الإسرائيلي المستمر لقطاع غزة، فضلا عن إغلاقه منذ أكثر من 17 عاما، يرقى أيضا إلى مستوى العقاب الجماعي للسكان المدنيين، وهي جريمة حرب.[589]

مهاجمة الأعيان الأساسية الضرورية للبقاء على قيد الحياة وتعطيلها

يحظر القانون الدولي الإنساني على الأطراف المتحاربة مهاجمة الأعيان الأساسية الضرورية لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها.[590] بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن "الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين هي من حيث المبدأ أعيان ومواد مدنية ولا يجوز مهاجمتها بصفتها هذه".[591]

هاجم الجيش الإسرائيلي البنية التحتية للماء والصرف الصحي في مختلف أنحاء غزة ودمرها، منها أربع محطات على الأقل لمعالجة مياه الصرف الصحي، وخزان ماء، ومنشأة تحلية المياه في مدينة غزة، كما هو موضح في القسم "III. تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي". كما أدى قطع السلطات الإسرائيلية لإمدادات الكهرباء إلى غزة وفرض القيود على دخول إمدادات الوقود إلى القطاع إلى تعطيل معظم البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.

كانت مرافق المياه والصرف الصحي التي هاجمها الجيش الإسرائيلي ودمرها وعطلها تخدم السكان المدنيين في غزة، وكانت ضرورية لبقاء السكان على قيد الحياة.

لم تجد هيومن رايتس ووتش أي دليل على أن مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة التي دمرها الجيش الإسرائيلي والسلطات الإسرائيلية وجعلوها خارج الخدمة كانت تستخدم فقط للمقاتلين، أو للدعم المباشر للعمل العسكري. لم تردّ الحكومة الإسرائيلية على رسائل هيومن رايتس ووتش التي تطلب مزيدا من المعلومات بشأن هجماتها على مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة.

كانت تأثيرات تدمير مرافق المياه والصرف الصحي على بقاء السكان المدنيين كبيرة بالفعل. واستنادا إلى التقديرات التي وصفها الأطباء وعلماء الأوبئة في الأقسام السابقة، يرجح أن يكون الآلاف من الناس قد ماتوا بالفعل بسبب سوء التغذية والأمراض.[592] حتى 30 يونيو/حزيران، كان هناك أكثر من 1.8 مليون حالة موثّقة من الأمراض المنقولة بالمياه والأمراض التي انتشرت جزئيا بسبب نقص الصرف الصحي.[593]

بصفتها قوة احتلال، كانت السلطات الإسرائيلية على علم واضح بالبنية التحتية المحدودة للماء والكهرباء في غزة، وتسيطر عليها إلى حد كبير، وقد قيدت كمية الوقود التي تدخل غزة منذ 2007.[594] وزاد مستوى سيطرتها ودرجة القيود التي فرضتها بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023. دمّر الجيش الإسرائيلي عمدا أربع محطات صرف صحي على الأقل، بما في ذلك تجريف الألواح الشمسية للبنية التحتية التي تزوّد المرافق بالكهرباء، حيث كان يسيطر بالفعل على المناطق التي توجد فيها البنية التحتية. كما عطلت السلطات الإسرائيلية عن علم غالبية البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والنظافة في غزة من خلال قطع إمدادات الكهرباء في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولاحقا عبر تقييد كمية الوقود التي يمكن أن تدخل غزة.

بناء على ذلك، انتهك الجيش الإسرائيلي والسلطات الإسرائيلية الحظر المفروض على مهاجمة الأعيان الضرورية للبقاء على قيد الحياة وتعطيلها. وكانت أفعالهم متعمدة، وبالتالي فإنها ترقى أيضا إلى مستوى جرائم الحرب.

التجويع كأسلوب حرب

استخدام التجويع كأسلوب حرب من خلال تدمير الأعيان الأساسية وتعطيلها يعد جريمة حرب. [595] أصدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر توجيهات مفادها أن "مهاجمة الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين... وعدم تسهيل مرور الغوث الإنساني المُعد للمدنيين المحتاجين، بما في ذلك تعمّد عرقلته... قد تشكّل انتهاكات لحظر التجويع".[596] يشمل التجويع الحرمان من الماء.[597]

وفقا لمنظمة "غلوبال رايتس كومبليانس"، وهي منظمة غير ربحية متخصصة في القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، وقانون حقوق الإنسان لمعالجة وتخفيف الاحتياجات الإنسانية الحادة، تشير "المجاعة" إلى عملية الحرمان التي تحدث عندما تعرقل أطراف النزاع قدرة المدنيين على الوصول إلى وسائل الحفاظ على الحياة"، والتي قد تشمل تدمير البنية التحتية للمياه وتحويل المساعدات الإنسانية. [598]

وفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، حتى في الحالات التي تُستخدم فيها الأعيان الأساسية في الدعم المباشر للعمل العسكري، يُحظر على الأطراف المتحاربة مهاجمة هذه الأعيان إذا كان من المتوقع تجويع المدنيين (بما في ذلك الحرمان من الماء) نتيجة للهجمات، ما لم تكن هذه الأعيان "تُستخدم زادا للمقاتلين وحدهم".[599]

ينبغي للأطراف المتحاربة أن يكون لديها "يقين شبه مؤكد بأن المجاعة ستنتج عن المسار العادي للأحداث" - وهو المعيار المنصوص عليه في المناقشات السابقة المتعلقة بالمجاعة الجماعية ــ استنادا إلى أفعالها.[600]

كان ينبغي للسلطات الإسرائيلية أن تعلم أن التجويع ــ في هذه الحالة حرمان السكان من الماء ــ سيحدث نتيجة لأفعالها. وباعتبارها قوة احتلال، تعلم السلطات الإسرائيلية بوضوح لسنوات بمحدودية مصادر المياه في غزة، فضلا عن البنية التحتية للصرف الصحي والمياه الموجودة في غزة والدور الحاسم الذي تلعبه في بقاء السكان الفلسطينيين في غزة على قيد الحياة. في 2008، قيّم الجيش الإسرائيلي الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية لكل مقيم في غزة، والعدد المطلوب من الشاحنات لنقل أنواع مختلفة من الأغذية والمنتجات لتلبية "سلة الكفاف الدنيا" للسكان.[601]

في الأعمال العدائية السابقة، وُصِفَت هجمات الجيش الإسرائيلي على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة بأنها غير قانونية. وجدت "بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة" في 2008 و2009 أن هجمات إسرائيل على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، بما فيها منشأة معالجة مياه الصرف الصحي في الشيخ عجلين (المذكورة أيضا في هذا التقرير)، كانت "نتيجة لسياسة مقصودة ومنهجية ... وقد نفذت هذه السياسة ليس لأن تلك الأهداف كانت تمثل تهديدا عسكريا أو بمحض الصدفة، بل لجعل مسار الحياة اليومية والعيش الكريم للسكان المدنيين أكثر صعوبة".[602] ووجدت بعثة تقصي الحقائق "أن سلسلة الأعمال التي تحرم الفلسطينيين في قطاع غزة من ... مياههم ... يمكن أن تحدو بمحكمة مختصة إلى الاستنتاج بأن جريمة الاضطهاد، وهي جريمة ضد الإنسانية، قد ارتُكبت".[603] أفادت لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في 2014 عن تدمير الجيش الإسرائيلي غير المبرر لخزانات المياه في خزاعة، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وأشارت إلى "سجل إسرائيل المؤسف في محاسبة مرتكبي الجرائم".[604]

خلال الأعمال العدائية في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت لدى السلطات الإسرائيلية جميع إحداثيات البنية التحتية العامة للمياه والصرف الصحي، وكانت على علم بأن أنابيب ميكوروت التي تمتد من إسرائيل إلى غزة توفر غالبية مياه الشرب المتاحة في غزة.[605] وبالتالي، كان ينبغي لها أن تعلم بوضوح بأن الإجراءات التي اتخذتها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول ستؤدي إلى المجاعة بسبب نقص المياه.

خلال الأعمال العدائية الحالية، أوضح المسؤولون الإسرائيليون نيتهم ​في حرمان السكان من الأشياء الأساسية للبقاء على قيد الحياة، عبر سلسلة من التصريحات الموضحة في القسم "I. تعمّد حرمان السكّان من الماء" أعلاه. تشير هذه التصريحات إلى "وجود النية لاستغلال توفير الاحتياجات الضرورية واستخدامها كسلاح"، بما فيها "المياه والغذاء والكهرباء والوقود وغيرها من الإمدادات الأساسية"، وفقا لما توصلت إليه اللجنة الدولية المستقلة المعنية بالتحقيق في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وفي إسرائيل.[606]

تُشكل البنية التحتية للمياه والصرف الصحي التي هاجمها الجيش الإسرائيلي وعطّلها أهمية بالغة في توفير المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي للسكان المدنيين في غزة. كانت السلطات الإسرائيلية تعلم أو كان ينبغي لها أن تعلم ــ بما في ذلك من خلال التصريحات المتكررة الصادرة عن الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية، فضلا عن التقارير الصادرة عن وكالات الأنباء والجماعات الحقوقية ــ منذ بدء الأعمال العدائية في أكتوبر/تشرين الأول أن أفعالها، منها تدمير مرافق المياه والصرف الصحي، ستترك آثارا شديدة وواسعة على بقاء سكان غزة، سواء الآن أو في المستقبل، كما وجد برنامج الأمم المتحدة للبيئة.[607]

علمت السلطات الإسرائيلية، أو كان ينبغي لها أن تعلم، منذ أشهر، بما في ذلك من خلال ثلاثة أوامر تدابير مؤقتة صادرة عن محكمة العدل الدولية، أن سكان غزة يفتقرون للوصول إلى المياه والصرف الصحي الكافيين.[608]

ورغم هذه المعرفة، واصل الجيش الإسرائيلي مهاجمة وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وتعطيلها من خلال قطع الكهرباء وفرض القيود على دخول الوقود إلى قطاع غزة.

وفي طلبه لإصدار أوامر الاعتقال في 20 مايو/أيار، قال خان إنه استنادا إلى الأدلة التي جمعها مكتبه، فإن "إسرائيل تعمدت حرمان السكان المدنيين في كل مناطق غزة بشكل منهجي من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم الإنساني" من خلال "فرض حصار كامل على غزة"، والذي شمل " قطع أنابيب المياه العابرة للحدود من إسرائيل إلى غزة – وهي المصدر الرئيسي للمياه النظيفة التي يحصل عليها الغزيون... وقطع إمدادات الكهرباء ومنعها".[609] وأضاف أن الحصار وقع "إلى جانب هجمات أخرى ضد المدنيين، بما في ذلك هجمات على أولئك الذين اصطفوا للحصول على الطعام، وإعاقة توصيل الوكالات الإنسانية للمساعدات، وشن هجمات على عمال الإغاثة وقتلهم، مما أجبر الكثير من الوكالات على إيقاف أعمالها في غزة أو تقييدها".[610]

وفي إعلانهم عن قرارهم بإصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت، خلص قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى أن هناك " أسبابا معقولة للاعتقاد بأن كلا الشخصين حَرَمَ السكان المدنيين في غزة، عن علم وقصد، من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والمواد الطبية، إضافة إلى الوقود والكهرباء، وذلك خلال الفترة الممتدة من 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إن لم يكن من قبل ذلك التاريخ، إلى غاية 20 أيار/مايو 2024".[611] وخلصوا إلى "وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن السيد نتنياهو والسيد غالانت يتحملان مسؤولية جنائية عن جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب".[612]

خلصت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الصادر في مايو/أيار أيضا إلى أن:

إسرائيل قد استخدمت التجويع كأسلوب حرب، وهو تدبير سيؤثر أثر على صحة جميع سكان غزة لعقود قادمة، مع عواقب سلبية بشكل خاص على الأطفال ... ومن خلال الحصار الذي فرضته، استخدمت إسرائيل حجب الضروريات الداعمة للحياة كسلاح، وتحديدا قطع إمدادات المياه والغذاء والكهرباء والوقود وغيرها من الإمدادات الأساسية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية.[613]

في ضوء ما سبق، فإن تصرفات إسرائيل المتمثلة في التدمير المتعمد للبنية التحتية للمياه الضرورية لبقاء السكان المدنيين في غزة وتعطيلها تشكل انتهاكا خطيرا لحظر استخدام التجويع كأسلوب حرب من خلال التدمير المتعمد لمرافق المياه وتعطيلها، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب.

القانون الدولي لحقوق الإنسان

في تعليقاتها العامة التي تفسر التزامات الدول الأطراف فيما يتعلق بالحقوق المكفولة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أكدت "اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" على ضرورة أن تمتثل الدول لالتزامات أساسيّة معينّة تمثل المستويات الدنيا لهذه الحقوق، ولا يُمكن تبرير عدم الامتثال لها حتى في أوقات النزاع، لأنها غير قابلة للانتقاص.[614]

السلطة الحاكمة للسكان، والتي تشمل السلطة القائمة بالاحتلال، لديها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان التزام إيجابي "فوري" بحماية حق السكان في كل من المياه وأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة البدنية والعقلية واتخاذ تدابير "متعمدة وملموسة ومستهدفة" لضمان التحقيق الكامل للحق بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. [615]

الحق في الماء

الحق في الماء، والذي يشمل الحق في مياه الشرب المأمونة والنظيفة وخدمات الصرف الصحي، هو حق من حقوق الإنسان، مستمد من الحق في الحياة والحق في مستوى معيشي لائق.[616] في التعليق العام رقم 15، ذكرت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن الحق في الماء "لا غنى عنه لعيش حياة كريمة" و"شرط أساسي لإعمال حقوق الإنسان الأخرى".[617]

يمنح الحق في الماء كل شخص، دون تمييز، "الحصول على كمية كافية من المياه آمنة ومقبولة ويمكن الوصول إليها فعليا وبأسعار معقولة للاستخدام الشخصي والمنزلي".[618] وكما فسرته لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يفرض الحق في الماء بعض الالتزامات الأساسية الفورية على الحكومات، ولا يمكن تبرير عدم الامتثال لها تحت أي ظرف من الظروف.[619] يشمل هذا العديد من الالتزامات التي تتعارض مع ممارسات السلطات الإسرائيلية الموثقة في هذا التقرير، بما فيها الالتزامات التالية:

· ضمان الوصول إلى الحد الأدنى الضروري من الماء، بما يكفي وبشكل آمن للاستخدامات الشخصية والمنزلية للوقاية من الأمراض؛

· ضمان حق الوصول إلى المياه ومرافق وخدمات المياه على أساس غير تمييزي، وخاصة للفئات المحرومة أو المهمشة؛

· ضمان الوصول الفعلي إلى مرافق أو خدمات المياه التي توفر المياه الكافية والآمنة والمنتظمة؛ والتي تحتوي على عدد كاف من منافذ المياه لتجنب أوقات الانتظار الطويلة؛ والتي تقع على مسافة معقولة من المنزل؛

· ضمان عدم تهديد الأمن الشخصي عند الحاجة إلى الوصول الفعلي إلى المياه؛

· ضمان التوزيع العادل لجميع مرافق وخدمات المياه المتاحة؛

· مراقبة مدى تحقيق أو عدم تحقيق الحق في الماء؛

· اعتماد برامج مياه مستهدفة منخفضة التكلفة نسبيا لحماية الفئات الضعيفة والمهمشة؛

· اتخاذ التدابير اللازمة للوقاية من الأمراض المرتبطة بالماء وعلاجها والسيطرة عليها، ولا سيما ضمان الوصول إلى خدمات الصرف الصحي الملائمة.[620]

انتهكت ممارسات السلطات الإسرائيلية الموثقة في هذا التقرير العديد من هذه الالتزامات. أفعال السلطات الإسرائيلية، منها تدمير البنية التحتية للماء، وحجب المساعدات الإنسانية، وقطع وتقييد إمدادات المياه والوقود والكهرباء، وعدم اتخاذ التدابير الكافية لإعادة خدمات المياه والصرف الصحي فورا، أدت إلى حرمان سكان غزة من المياه على نطاق واسع، وبالتالي انتهاك حقهم الإنساني في الماء.

الحق في الصحة

تكفل المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية. وفي تعليقها العام رقم 14، قدمت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تفسيرا موثوقا لالتزامات الدول فيما يتعلق بالحق في الصحة بموجب هذا العهد، مؤكدة أن الحكومات تتحمل التزامات معينة جوهرية وفورية فيما يتعلق بالحق في الصحة، ولا يمكن تبرير عدم الامتثال لها تحت أي ظرف من الظروف. يشمل ذلك العديد من الالتزامات التي تتعارض مع ممارسات السلطات الإسرائيلية الموثقة في هذا التقرير، منها الالتزامات بما يلي:

· تأمين حق الوصول إلى المرافق والسلع والخدمات الصحية على أساس غير تمييزي، خصوصا للفئات الضعيفة والمهمشة؛

· كفالة الوصول إلى الحد الأدنى الأساسي من الأغذية الذي يضمن الكفاية والسلامة من حيث التغذية، بغية تأمين التحرر من الجوع لكل الناس؛

· كفالة الوصول إلى المأوى الأساسي، والسكن، والإصحاح، وإمدادات كافية من المياه النظيفة الصالحة للشرب؛

· توفير العقاقير الأساسية، على نحو ما تم تحديده من وقت إلى آخر في إطار برنامج عمل منظمة الصحة العالمية المتعلق بالعقاقير الأساسية؛

· تأمين التوزيع العادل لجميع المرافق والسلع والخدمات الصحية.[621]

رغم اختلافها عن هذه الالتزامات الأساسية الدنيا المتعلقة بالحق في الصحة، أشارت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى "التزامات ذات أولوية مماثلة" في تعليقها العام رقم 14 بشأن الحق في الصحة.[622]

كما انتهكت أفعال السلطات الإسرائيلية، وخاصة منع المساعدات الإنسانية، والهجمات على العاملين في الإنسانيين، والهجمات على البنية التحتية الطبية، والتهجير القسري للسكان، وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي وتعطيلها، حقوق الفلسطينيين في غزة في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية.

القانون الجنائي الدولي واتفاقية الإبادة الجماعية

الجرائم ضد الإنسانية

حظر الجرائم ضد الإنسانية من بين المبادئ الأساسية في القانون الجنائي الدولي، وهي جزء من القانون الدولي العرفي، ودُوِّنت لأول مرة في ميثاق "محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية" عام 1945. كان الغرض ذلك حظر الجرائم التي "إما بسبب حجمها ووحشيتها، أو بسبب عددها الكبير، أو بسبب تطبيق نمط مماثل ... عرّضت المجتمع الدولي للخطر أو صدمت ضمير البشرية". منذ ذلك الحين، دُمج هذا المفهوم في عدد من المعاهدات الدولية والأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية، بما فيها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

يختلف تعريف الجرائم ضد الإنسانية قليلا من معاهدة إلى أخرى، لكن التعريف الموجود في نظام روما الأساسي، والذي يعكس إلى حد كبير القانون الدولي العرفي وبالتالي فهو ملزم لجميع الدول، يشمل مجموعة من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان المرتكبة في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عن علم بالهجوم. [623]

يُحدد نظام روما الأساسي الجرائم التي يمكن أن ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية عندما "تُرتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عن علم بالهجوم".[624] يمكن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية أثناء السلام أو في النزاع المسلح. لا توجد تراتبية بين الجرائم ضد الإنسانية – فهي على نفس الخطورة وتؤدي إلى العواقب ذاتها بموجب نظام روما الأساسي.

تُعَّد جريمة الإبادة من بين الجرائم ضد الإنسانية.

هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين

يجب أن يكون الهجوم الموجه ضد السكان المدنيين الذي يشكل جرائم ضد الإنسانية إما واسع النطاق أو منهجيا؛ لكن لا يلزم أن يكون كلاهما.[625]

يُعرّف نظام روما الأساسي "الهجوم" بأنه "نهج سلوكي يتضمن الارتكاب المتكرر [للأفعال المدرجة في قائمة الجرائم ضد الإنسانية] عملا بسياسة دولة أو منظمة".[626] بهذا التعريف، لا يشترط أن "الهجوم" عسكريا.[627]

يشير مصطلح "واسع النطاق" إلى حجم الأفعال أو عدد الضحايا.[628] في حين يشير مصطلح "منهجي" إلى الطبيعة المنظمة للأفعال العنيفة وعدم احتمالية حدوثها بشكل عشوائي، ما يعكس غالبا "نمطا أو خطة منهجية".[629]

الشرط الذي يقتضي ارتكاب الجريمة ضد سكان مدنيين يعني أن السكان المستهدفين يجب أن يكونوا من ذوي الطبيعة المدنية في الغالب، لكن وجود بعض المقاتلين لا يغير تصنيفهم كـ "سكان مدنيين" من الناحية القانونية.[630] من الضروري فقط أن يكون السكان المدنيون هم الهدف الرئيسي للهجوم من قِبل القوات الحكومية أو غير الحكومية.[631]

عملا بسياسة دولة أو تعزيزا لها

يجب أن يُرتكب الهجوم الواسع النطاق أو المنهجي ضد السكان المدنيين "عملا بسياسة دولة أو منظمة أو تعزيزا لها".[632]

تتأسس هكذا سياسة عندما يثبت أن الدولة أو المنظمة كانت تنوي ارتكاب هجوم ضد سكان مدنيين، أي ارتكاب جرائم متعددة ضد الإنسانية، مثل الإبادة.[633] مثلا، لا يلزم اعتماد الخطة رسميا كسياسة للدولة ولا تعريفها صراحة.[634] النمط المتكرر للعنف، ووجود الاستعدادات أو التعبئة الجماعية، واستخدام الموارد العامة أو الخاصة، ومشاركة القوى التنظيمية في ارتكاب الجرائم، والتصريحات أو التعليمات أو الوثائق والدافع الأساسي، كلها عوامل ذات صلة في استنتاج وجود سياسة.[635] بشكل عام، عندما يكون الهجوم منهجيا، سوف يفي أيضا بعنصر السياسة.[636]

الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة

الإبادة مدرجة كجريمة مستقلة ضد الإنسانية، وتُعرّف بأنها تشمل "تعمّد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكان".[637]

وفقا لأركان الجرائم التي حددتها المحكمة الجنائية الدولية، تتضمن الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة العناصر التالية: "أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر، بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروف ستؤدي حتما إلى هلاك جزء من مجموعة من السكان، أن يشكل السلوك عملية قتل جماعي لأفراد مجموعة من السكان المدنيين، أو يكون جزءا من تلك العملية، أن يرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، وأن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءا من ذلك الهجوم".[638]

خلصت "المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة" إلى أن عناصر الإبادة كجريمة ضد الإنسانية هي "أ) العمل أو الامتناع عن العمل الذي يؤدي إلى وفاة أشخاص على نطاق واسع (الفعل الإجرامي)، و ب) القصد لقتل أشخاص على نطاق واسع، أو إلحاق إصابات بدنية خطيرة أو خلق ظروف معيشية تؤدي إلى الوفاة مع العلم المعقول بأن مثل هذا العمل أو الامتناع عن العمل من المرجح أن يؤدي إلى وفاة عدد كبير من الأشخاص (النية الإجرامية)."[639]

القتل الجماعي

يتمثل أحد أركان الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة التي حددتها المحكمة الجنائية الدولية في أن "يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر وأن يشكل السلوك عملية قتل جماعي لأفراد مجموعة من السكان المدنيين أو يكون جزءا من تلك العملية".[640] وفيما يتعلق بهذا العنصر، خلصت "المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة" إلى أن جريمة الإبادة تتطلب التوصل إلى نتيجة مفادها أن "مجموعة سكانية بعينها كانت مستهدفة وأن أفرادها قُتلوا أو أخضِعوا لظروف معيشية تهدف إلى إهلاك جزء كبير من السكان".[641] نصت المحكمة على أن الطبيعة "الجماعية" للقتل يمكن تقييمها على أساس "وقت ومكان عمليات القتل، واختيار الضحايا وطريقة استهدافهم، وما إذا كانت عمليات القتل تستهدف المجموعة الجماعية وليس الضحايا بصفتهم الفردية".[642] وجدت المحكمة أيضا أن عمليات القتل يجب أن تكون موجهة ضد "جماعة وليس الضحايا بصفتهم الفردية"،[643] لكن "لا ينبغي أن يقصد مرتكب الجريمة تدمير الجماعة أو جزء من الجماعة التي ينتمي إليها الضحايا".[644]

توصلت كل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة و"المحكمة الجنائية الدولية لرواندا" إلى أن القتل الجماعي "لا يشير إلى ضرورة الوصول إلى الحد الأدنى العددي".[645]

القصد

بالنسبة للعنصر المعنوي للإبادة، يجب أن يكون القصد من الأفعال قتل أشخاص، بما يشمل عبر فرض "أحوال معيشية بهدف إهلاك جزء من مجموعة من السكان".[646] وتشير كلمتا "فرض" و"بهدف" إلى القصد المتعمد، في فرض ظروف معيشية، لارتكاب القتل الجماعي. ينص نظام روما الأساسي على أن الجرائم التي تدخل ضمن الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية، ومنها الإبادة، ينبغي أن تُرتكب "بقصد وعن علم".[647] يعرّف النظام الأساسي "العلم" على أنها "إدراك أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث".[648]

خلصت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا إلى عدم ضرورة وجود "قصد محدد" لإهلاك الجماعة، لكن يجب أن يكون هناك قصد لارتكاب القتل الجماعي.[649]

خلصت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن "مرتكب الجريمة يجب أن يقصد القتل، أو إلحاق أذى جسدي خطير، أو إلحاق إصابة خطيرة، مع علمه المعقول بأن مثل هذا العمل أو الامتناع عن العمل من المرجح أن يسبب الوفاة، أو أن يقصد المشاركة في القضاء على عدد من الأفراد، مع علمه بأن فعله جزء من مشروع قتل واسع النطاق يُستهدف فيه عدد كبير من الأفراد بشكل منهجي للقتل (القصد الجنائي)".[650]

أعمال السلطات الإسرائيلية التي ترقى إلى الإبادة

قامت السلطات والقوات الإسرائيلية بأفعال، منها قطع الماء والكهرباء ثم تقييدهما، وتقييد الوقود، وتدمير وإلحاق الضرر بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ومنع دخول المواد الحيوية المتعلقة بالماء، ما ترك سكان غزة دون إمكانية الحصول الكافي على الكمية اللازمة من المياه للبقاء على قيد الحياة لمدة عام تقريبا.

حتى 25 يونيو/حزيران، سجّلت وزارة الصحة في غزة وفاة 34 شخصا على الأقل في غزة بسبب الجوع والجفاف، لكن يتضح من تصريحات المتخصّصين في الرعاية الصحيّة في غزة، والتقديرات المتحفظة لخبراء الصحة العامة، وتوقعات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وغيرها من المصادر المذكورة في هذا التقرير، أنه من المرجح وجود آلاف الوفيات الناجمة جزئيا عن انعدام الوصول إلى مياه الشرب في جميع أنحاء غزة.[651]

تتألف غزة في المقام الأول من المدنيين. وجود مقاتلي الفصائل المسلحة الفلسطينية إلى جانب سكان غزة المدنيين، لا يحول دون أن تكون أعمال السلطات الإسرائيلية الرامية إلى حرمان سكان غزة بالكامل من المياه هجوما موجها ضد السكان المدنيين، وبالتالي جريمة محتملة ضد الإنسانية.[652] صرحت السلطات الإسرائيلية مرارا بأنها تستهدف جميع سكان غزة الفلسطينيين بقراراتها بقطع الماء، والوقود، وغيرها من الضروريات عن القطاع. رغم أن بعض السلطات أدلت أيضا بتصريحات تفيد بأنها تستهدف حماس تحديدا، وليس السكان ككل، قامت السلطات بأفعال حرمت جميع سكان غزة من الحصول على كميات كافية من الماء للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك قطع الكهرباء، وتقييد إدخال الوقود، وتدمير وإلحاق الضرر بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي ومواد التصليح، ومنع دخول المواد الحيوية المتعلقة بالماء إلى غزة.

الأفعال التي قامت بها السلطات والقوات الإسرائيلية لحرمان سكان غزة المدنيين من المياه واسعة النطاق وذات طبيعة منهجية. وجهت السلطات الإسرائيلية قطع المياه ثم تقييدها، فضلا عن قطع الكهرباء وحجب الوقود، ضد جميع سكان غزة، وهو ما يشكل هجوما واسع النطاق. واصلت السلطات الإسرائيلية منع الكهرباء والوقود من دخول غزة، إلى جانب الإمدادات اللازمة لتوفير مياه الشرب، بشكل مستمر لعدة أشهر، في حين دمر الجيش الإسرائيلي عمدا العديد من أهم البنى التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة على مدى عدة أشهر، ما يدل على الطبيعة المنهجية للهجوم. وتثبت هذه العوامل أيضا أن الهجمات الإسرائيلية الواسعة والمنهجية ضد سكان غزة المدنيين، في فرض مثل هذه الظروف المعيشية عمدا، كانت وفقا لسياسة الدولة.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلنت السلطات الإسرائيلية مرارا عن نيتها قطع الماء، والغذاء، والوقود، والكهرباء، والمساعدات الإنسانية، وغيرها من الضروريات الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة عن سكان غزة، ونفذت ذلك كسياسة.[653]

لا يمكن للناس البقاء أحياء لفترة طويلة دون الحصول على القدر الكافي من الماء. تمكّن سكان غزة من الحصول على بعض الماء، ما حافظ على حياتهم بعد شهور من الحرمان من الماء. إلا أن وصولهم المحدود لعدة أشهر إلى حوالي 2 إلى 9 لتر من الماء في المتوسط للفرد (في كثير من الحالات لا يكون صالحا للشرب)، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب للبقاء على قيد الحياة وفقا لمنظمة الصحة العالمية، قد أدى على الأرجح إلى وفاة الآلاف، وسيؤدي، وفقا للخبراء، إذا بقي كذلك، إلى المزيد من الوفيات الجماعية.

السيطرة الفعلية للسلطات الإسرائيلية على وصول سكان غزة إلى الماء والكهرباء وغيرها من الاحتياجات الضرورية، وعلى حدود غزة البرية والبحرية وما يمكن إدخاله إلى غزة، إلى جانب معرفتها التفصيلية بالاحتياجات الإنسانية لسكان غزة،[654] وأماكن إقامة الناس، والتحركات السكانية الجماعية والفردية أثناء النزاع بما فيها عمليات الإخلاء،[655] هي دليل على أنها كانت تقصد من سياستها المتمثلة في حرمان السكان من الماء والصرف الصحي الكافيين أن تتسبب بأضرار قاتلة لأعداد كبيرة من المدنيين، أو كانت تعلم بعواقب أفعالها وتجاهلتها بتهور.

حذر مسؤولون في الأمم المتحدة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 من أن تصرفات إسرائيل الرامية إلى حرمان سكان غزة المدنيين من الموارد اللازمة لاستمرار الحياة قد تؤدي إلى موت جماعي.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، صرح المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني أن منع الوقود أصبح "مسألة حياة أو موت".[656] قال: "الوقود هو السبيل الوحيد للناس للحصول على مياه شرب آمنة. وبخلاف ذلك، سيبدأ الناس بالموت بسبب الجفاف الشديد، ومن بينهم الأطفال الصغار وكبار السن والنساء. المياه هي الآن شريان الحياة الأخير المتبقي".[657] رغم أن السلطات الإسرائيلية بدأت لاحقا في السماح بدخول بعض الوقود، استمرت القيود المفروضة على الوقود طوال الأعمال العدائية، وظل نقص الوقود أحد أكبر العوامل في نقص المياه الكافية.

في فبراير/شباط، صرح مارتن غريفيث، رئيس أوتشا آنذاك، أن الفلسطينيين في رفح "يفتقرون إلى الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة"، و "يطاردهم الجوع والمرض والموت".[658]

في مارس/آذار، صرح مايكل فخري، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء، بأن "إسرائيل شنت حملة تجويع ضد الشعب الفلسطيني في غزة".[659] وفي سبتمبر/أيلول، صرح فخري في تقرير له قائلا:

استخدمت إسرائيل التجويع بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للشعب الفلسطيني من خلال "(ب) إلحاق ضرر جسدي أو نفسي خطير بالشعب الفلسطيني؛ (ج) إخضاع الشعب الفلسطيني عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميره المادي كليا أو جزئيا.[660]

في يناير/كانون الثاني 2024، وجدت محكمة العدل الدولية أن العديد من الفلسطينيين في غزة "يفتقرون إلى الوصول إلى... مياه الشرب"، ورأت أن "الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة مهدد بالتدهور أكثر"، وأمرت إسرائيل "باتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية المطلوبة فورا لمعالجة الظروف المعيشية السيئة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة".[661]

مع ذلك، واصلت السلطات والقوات الإسرائيلية تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، واستمرت بقطع الكهرباء، وتقييد إمدادات المياه، والحد من دخول الوقود وغيره من المواد اللازمة لإنتاج المياه إلى غزة.

في مارس/آذار، أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة جديدة "في ضوء الظروف المعيشية المتدهورة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة، وخاصة انتشار المجاعة والتجويع"، وأمرت إسرائيل بالتحديد "بضمان، دون تأخير ... توفير الماء، والكهرباء، والوقود [وغيرها] على نطاق واسع دون عوائق"، و"أن تضمن فورا" أن جيشها لا يمنع "تسليم المساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل".[662]

في مايو/أيار، أعادت محكمة العدل الدولية التأكيد على أوامرها السابقة وجددتها، ودعت مرة أخرى السلطات الإسرائيلية إلى توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية "المطلوبة بشكل عاجل"، واستشهدت ببيان مدير الأونروا في 18 مايو/أيار بأن "يفتقر الأشخاص الذين يفرون الآن إلى الوصول إلى إمدادات المياه الآمنة أو مرافق الصرف الصحي".[663] مع ذلك، حتى سبتمبر/أيلول، استمرت السلطات الإسرائيلية بقطع الكهرباء ومنع الوقود الضروري وغيره من الإمدادات المتعلقة بالمياه من دخول غزة. كما هجّرت السكان قسرا إلى مناطق تفتقر إلى أبسط البنى التحتية الأساسية للمياه والصرف الصحي، ما ترك العديد من الناس مع قدر أقل من الوصول إلى المياه النظيفة والصرف الصحي مقارنة بالمناطق التي هُجّروا منها، والتي تفتقر بالفعل إلى الوصول الكافي إلى المياه.[664]

في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، خلص قضاة المحكمة الجنائية الدولية إلى وجود "أسباب معقولة للاعتقاد بأن غياب الغذاء والماء والكهرباء والوقود ومواد طبية معينة أوجد أحوالا معيشية بقصد إهلاك جزء من السكان المدنيين في غزة، وهو ما أدى إلى وفاة مدنيين، بينهم أطفال، بسبب سوء التغذية والتجفاف".[665] قالت هيئة القضاة إنها لا تستطيع تحديد "توفر جميع أركان الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة" بناء على المواد التي قدمها المدعي العام والتي تغطي الفترة حتى 20 مايو/أيار 2024. [666]

الاستنتاج المتعلق بجريمة الإبادة

يُظهر الوضع الموثق في هذا التقرير أن السلطات الإسرائيلية، على أعلى مستوى، كانت مسؤولة عن تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، بما في ذلك التدمير المتعمد، ومنع تصليح البنية التحتية المتضررة للمياه والصرف الصحي، وقطع المياه والكهرباء والوقود أو تقييدها بشدة. ومن المرجح أن تكون هذه الأفعال قد تسببت بمقتل الآلاف، ويُرجح أن تواصل التسبب في مقتل المزيد في المستقبل، حتى بعد وقف الأعمال العدائية. تبقى السياسات قائمة ومستمرة، رغم التحذيرات العديدة إلى المسؤولين الإسرائيليين بشأن تأثيرها، منها من محكمة العدل الدولية.

بناء على ذلك، تجد هيومن رايتس ووتش أن السياسات الإسرائيلية كانت بمثابة خلق متعمد لظروف معيشية هدفها تدمير جزء من سكان غزة المدنيين. كان هذا جزءا من قتل جماعي لأفراد من السكان المدنيين، وباعتباره سياسة دولة، فإنه يرقى إلى مستوى هجوم واسع النطاق ومنهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين. بالتالي، فإن جميع أركان جريمة الإبادة التي تشكل جريمة ضد الإنسانية قد توافرت. والمسؤولون الإسرائيليون مسؤولون عن الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة بالإبادة، وهي جريمة مستمرة.

الإبادة الجماعية

تتضمن جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي النية المحددة بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، من خلال قتل أعضاء من الجماعة أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة؛ أو إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا؛ أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ أو نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى. [667]

تختلف جريمة الإبادة الجماعية عن الجرائم الأخرى بسبب هذا القصد الخاص المحدد، باعتباره ركنا أساسيا من أركان الجريمة.[668] قد تُرتكب جريمة الإبادة الجماعية ضد جزء، لكن جزءا كبيرا أو ذي شأن، من جماعة محددة،[669] وفي منطقة جغرافية محدودة، مثل إقليم أو بلدية.[670] وجدت محكمة العدل الدولية أن "الجماعة" تُعرَّف "بخصائص إيجابية معينة - قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية - وليس بافتقارها إليها".[671] رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأن الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية تُعرَّف "باستخدام معايير وصم الجماعة، لا سيما من قبل مرتكبي الجريمة، على أساس السمات القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية المتصوّرة".[672]

ظروف حياة يُقصد منها الإهلاك المادي

العناصر التالية ضرورية لإثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من خلال تعمّد فرض ظروف معيشية يُقصد منها الإهلاك المادي: يفرض مرتكب الجريمة أحوالا معيشية معينة على شخص أو أكثر؛ أن يكون الشخص أو الأشخاص منتمين إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة؛ أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، كليا أو جزئيا، بصفتها تلك؛ أن يُقصد بالأحوال المعيشية الإهلاك المادي لتلك الجماعة، كليا أو جزئيا؛ وأن يصدر هذا السلوك في سياق نمط سلوك مماثل واضح موجه ضد تلك الجماعة أو يكون من شأن السلوك أن يحدث في حد ذاته ذلك الإهلاك.[673] يشبه العنصر الواقعي لهذا الفعل من أفعال الإبادة الجماعية إلى حد كبير تعريف الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة.

ذكرت كل من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن الظروف المعيشية المصممة للإهلاك المادي لجماعة ما تشمل "ظروفا قد تؤدي إلى موت بطيء".[674] يُعدّ تعمّد فرض ظروف مثل "الافتقار إلى الغذاء، أو الماء، أو المأوى، أو الملابس، أو الصرف الصحي المناسبين" من الأمثلة على الأفعال التي يعاقب عليها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية إذا ارتُكبت بقصد الإبادة الجماعية. [675]

وجدت المحكمة الجنائية الدولية، عند إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير لمسؤوليته عن جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب في السودان، أسبابا معقولة للاعتقاد بأن قيام قوات الحكومة السودانية بتلويث مضخات المياه والآبار في المدن والقرى التي يسكنها أفراد القبائل التي تعرضت للهجوم من قبل تلك القوات كانت جزءا من سياسة للإبادة الجماعية. [676]

نية إهلاك جماعة بصفتها تلك

تتطلب جريمة الإبادة الجماعية وجود نية "محددة" أو "خاصة" لإهلاك جماعة ما كليا أو جزئيا.[677] رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأن "النية المحددة تتطلب أن يسعى مرتكب الجريمة، من خلال أحد الأفعال المحظورة المذكورة في المادة 4 من النظام الأساسي، إلى تحقيق الإهلاك الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها تلك".[678]

رغم أن نية ارتكاب الإبادة الجماعية قد يكون "صعبا، بل من المستحيل، تحديدها" دون اعتراف، نصت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، لدى نظرها في المسؤولية الفردية عن الإبادة الجماعية، على أنه يمكن استنتاج النية من الأفعال، بما في ذلك "الأدلة التي تثبت نمطا ثابتا من السلوك من جانب المتهم".[679]

لدى نظرها في مسؤولية الدولة عن الإبادة الجماعية، أقرت محكمة العدل الدولية أيضا أن نية الإبادة الجماعية يمكن استنتاجها من نمط سلوكي، مع وجود مستوى عال يتمثل في "أنها الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه بشكل معقول من الأفعال المعنية".[680] في تطبيق لهذا الاختبار في 2015، رأت محكمة العدل الدولية ضرورة تقييم عوامل مثل (1) النطاق والطبيعة المنهجية للهجمات؛ (2) العدد الكبير للضحايا والأضرار التي لا تبررها الضرورة العسكرية؛ (3) الاستهداف المحدد للجماعة المحمية؛ و(4) طبيعة ومدى ودرجة الإصابات التي لحقت بالجماعة المحمية.[681]

وجدت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن إثبات النية المحددة للأفراد "يمكن استنتاجه، في غياب الأدلة الصريحة المباشرة، من عدد من الحقائق والظروف، مثل السياق العام، وارتكاب أفعال إجرامية أخرى موجهة منهجيا ضد نفس الجماعة، وحجم الفظائع المرتكبة، والاستهداف المنهجي للضحايا بسبب انتمائهم لجماعة معينة، أو تكرار الأفعال المدمرة والتمييزية".[682]

كما يجب أن ينوي المرتكب إهلاك الجماعة "كليا أو جزئيا". قضت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأنه "رغم أن مرتكبي الإبادة الجماعية لا ينبغي لهم السعي إلى إهلاك كامل الجماعة المحمية بموجب الاتفاقية، يجب أن ينظروا إلى الجزء من الجماعة التي يرغبون في تدميره باعتباره كيانا مستقلا يجب القضاء عليه".[683] رأت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا بأن "مصطلح "جزئيا" يتطلب نية إهلاك عدد كبير من الأفراد الذين يشكلون جزءا من الجماعة".[684] قالت محكمة العدل الدولية إن الجزء المستهدف من الجماعة يجب أن يكون كبيرا بما يكفي لإحداث تأثير على الجماعة ككل.[685]

ذكرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن شرط وجود نية محددة لتدمير الجماعة ""بصفتها تلك" ... يجعل الإبادة الجماعية جريمة خطيرة جدا ... لأنه يوضح أن جريمة الإبادة الجماعية تتطلب نية إهلاك جماعة من الناس بسبب هويتهم الجماعية الخاصة على أساس الجنسية، أو العرق، أو الإثنية، أو الدين".[686]

رأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بأن مرتكب الجريمة يجب أن ينوي إهلاك الجماعة 'بصفتها تلك'، أي ككيان منفصل ومستقل، وليس مجرد بعض الأفراد بسبب انتمائهم لجماعة معينة".[687] كما وجدت المحكمة أنه "يجب أن تثبت الأدلة أن الجماعة هي المستهدفة، وليس مجرد أفراد محددين داخل تلك الجماعة".[688]

فسرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا عبارة "’بصفتها تلك‘ بأنها تعني أن الفعل يجب أن يُرتكب ضد فرد لأن هذا الفرد كان ينتمي لجماعة محددة ولأنه ينتمي تحديدا لهذه الجماعة، بحيث تكون الضحية هي الجماعة نفسها، وليس الفرد فقط".[689]

أفعال السلطات الإسرائيلية التي تُشكل إبادة جماعية

خلصت محكمة العدل الدولية إلى أنه "يبدو أن الفلسطينيين يشكلون جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية مستقلة"، وبالتالي فهم جماعة محمية بموجب المادة 2 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية.[690] ووجدت أن "الفلسطينيين في قطاع غزة يشكلون جزءا كبيرا من الجماعة المحمية [الفلسطينيين]".[691]

ومن خلال قطع الكهرباء، وقطع المياه وتقييدها لاحقا، وتقييد دخول الوقود؛ وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي ومواد التصليح، تدمير متعمد بشكل واضح أحيانا؛ واستهداف العاملين في مجال المياه وغيرهم من العاملين في مجال المساعدات الإنسانية؛ ومنع المساعدات اللازمة لإنتاج مياه شرب آمنة، فرضت السلطات الإسرائيلية عمدا على الفلسطينيين في غزة "ظروفا معيشية يُقصد منها الإهلاك المادي الكلي أو الجزئي". وهذا التعريف يكاد يتطابق مع تعريف الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الإبادة.

وجدت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية، على النحو المبين أعلاه، أسبابا معقولة للاعتقاد بأن نقص الغذاء والماء والكهرباء والوقود وإمدادات طبية معينة في غزة خلق ظروفا معيشية يُقصد منها إهلاك جزء من السكان المدنيين في غزة، ما أسفر عن وفاة مدنيين، منهم أطفال بسبب سوء التغذية والجفاف.

منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلقت السلطات الإسرائيلية في غزة ظروفا أدت ومن شأنها أن تؤدي إلى وفيات بطيئة.، في المتوسط، لم يحصل الفلسطينيون في غزة إمدادات كافية من المياه اللازمة للبقاء على قيد الحياة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك استنادا إلى الحد الأدنى حسب معايير الأمم المتحدة وهو 15 لتر يوميا للشخص الواحد في حالات الطوارئ.[692]

حتى 25 يونيو/حزيران، أعلنت وزارة الصحة في غزة أن 34 شخصا ماتوا بسبب الجوع والجفاف، لكن تصريحات الأطباء والممرضين أوضحت أن هناك على الأرجح العديد من الوفيات غير المسجلة والتي نجمت جزئيا عن نقص الوصول إلى المياه والصرف الصحي.[693] وصف الأطباء والممرضون رؤيتهم للمرضى يموتون من الجروح والأمراض جزئيا بسبب سوء التغذية والجفاف، وفي بعض الحالات رأوا الرضع يموتون لأن أمهاتهم لم يستطعن إرضاعهم وكان حليبهم الصناعي يُخلط بمياه قذرة.[694]

قدّر الأطباء أن عشرات آلاف الأشخاص قد ماتوا بالفعل نتيجة سوء التغذية ونقص الوصول الكافي إلى الماء.[695]

ويرجح أن يستمر "الموت البطيء" في غزة حتى بعد انتهاء الأعمال العدائية بسبب الأضرار والدمار الذي لحق بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والمنازل، والتهجير القسري للسكان، وتدمير نظام الرعاية الصحية.

بنهاية يناير/كانون الثاني 2024، قدّر البنك الدولي أن تكلفة إعادة بناء البنية التحتية في غزة ستتجاوز 18 مليار دولار، منها أكثر من 500 مليون دولار للبنية التحتية للمياه والصرف الصحي وحدها.[696] واصل الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين تدمير وإلحاق الضرر بالبنية التحتية للمياه والصرف الصحي، منها البنية التحتية الضرورية لاستدامة الحياة في غزة. ستستغرق إعادة الإعمار سنوات. في مايو/أيار، ذكر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي و"لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا" (الإسكوا) أنه "حتى مع سيناريو متفائل تتضاعف فيه مواد البناء المسموح إدخالها إلى غزة خمس مرات، سيستغرق الأمر حتى 2040 لإعادة بناء الوحدات السكنية المدمرة بالكامل".[697] وحتى لو بدأ تعافي البنية التحتية للمياه والصرف الصحي غدا، ستستمر "الوفيات البطيئة" الناجمة عن الظروف المعيشية التي أوجدتها أفعال السلطات الإسرائيلية في العام الماضي لبعض الوقت.[698]

وجد برنامج الأمم المتحدة للبيئة في دراسة أجراها حول التأثيرات البيئية المستقبلية للأعمال العدائية على بيئة غزة، أن إتلاف وتدمير مرافق تحلية المياه في غزة "سيؤثر على وصول الناس إلى المياه العذبة [على المدى الطويل]، حتى عند استعادة الطاقة اللازمة لتشغيل هذه المرافق".[699] وفي مرحلة إعادة بناء هذه المرافق، ستُسحب كميات غير مستدامة من المياه الجوفية، ما قد يتسبب في مزيد من الضرر لإمدادات المياه الجوفية الملوثة إلى حد كبير.[700] وصفت الدراسة الضرر الذي قد يخلفه فيضان مياه الصرف الصحي من محطات معالجة مياه الصرف الصحي المدمرة على بيئة غزة، بما فيها إمدادات المياه الجوفية:

تزيد التربة المسامية من خطر تلوث المياه الجوفية بمياه الصرف الصحي. ... يشكل تسرب مياه الصرف الصحي الملوثة بمسببات الأمراض والملوثات الكيميائية إلى المياه الجوفية خطرا صحيا على أي شخص يستخرج ويستخدم المياه غير المعالجة مباشرة من الآبار. إن زيادة تلوث المياه الجوفية بسبب تسرب مياه الصرف الصحي ستُضاعف المخاطر الصحية الناجمة عن رداءة جودة المياه، وهذا يتوقف على سرعة إعادة بناء إمدادات آمنة من المياه.[701]

دليل على نية الإبادة الجماعية

كما ذكرنا آنفا، تتطلب الإبادة الجماعية ارتكاب فعل أو أفعال إبادة جماعية بنية التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية، أو عرقية، أو دينية. هذا المعيار يصعب إثباته؛ حيث قالت محكمة العدل الدولية، فيما يتعلق بمسؤولية الدولة، يتطلب الإثبات إما دليلا على وجود خطة للدولة تعبر عن نية ارتكاب الإبادة الجماعية، أو أن مثل هذه النية يمكن استنتاجها من نمط سلوكي للدولة.[702] لكن محكمة العدل الدولية قالت إنه لاستنتاج نية الإبادة الجماعية من نمط سلوكي، يتعين أن يكون هذا الاستنتاج هو الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه بشكل معقول من الأفعال المعنية.[703]

أنكرت إسرائيل، في جلسات استماع أمام محكمة العدل الدولية، وجود نية إبادة جماعية محددة لتدمير الشعب الفلسطيني كليا أو جزئيا. وفي مذكراتها، زعمت إسرائيل أنها في أعقاب الهجمات التي قادتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، "تصرفت بنية الدفاع عن نفسها، وإنهاء التهديدات ضدها وإنقاذ الرهائن".[704] كما زعمت إسرائيل أن تدابير التخفيف من الضرر الذي يلحق بالمدنيين وتسهيل المساعدات الإنسانية تثبت غياب نية الإبادة الجماعية.[705]

كانت إجراءات السلطات الإسرائيلية لحرمان الفلسطينيين في غزة من المياه ذات طبيعة منهجية وواسعة النطاق في جميع أنحاء غزة، ومستمرة الآن منذ أشهر. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى كتابة هذا التقرير، ورغم البيانات الواضحة والمتسقة من الأمم المتحدة التي تُظهر أن الناس في غزة لا يحصلون على مياه كافية، واصلت السلطات الإسرائيلية إتلاف وتدمير البنية التحتية الحيوية للمياه والصرف الصحي؛ وقطع الكهرباء وتقييد دخول الوقود المطلوب لتشغيل معظم البنية التحتية للمياه والصرف الصحي؛ ومنع المواد اللازمة للمياه والصرف الصحي من دخول القطاع؛ ومهاجمة عمال المياه، وتدمير المواد اللازمة لتصليح البنية التحتية للمياه والصرف الصحي. ليس لدى الناس في غزة مكان آخر يذهبون إليه - تواصل إسرائيل فرض حصار وإغلاق غير قانوني للقطاع لأكثر من 17 عاما.

واصلت السلطات الإسرائيلية اتخاذ هذه الإجراءات رغم معرفتها الواضحة، على الأقل حتى 26 يناير/كانون الثاني 2024، عندما أمرت محكمة العدل الدولية لأول مرة باتخاذ تدابير مؤقتة، بأن جزءا كبيرا على الأقل من سكان غزة يعاني من نقص الوصول إلى المياه الكافية.

وفي أمرها الصادر في 26 يناير/كانون الثاني، ذكرت محكمة العدل الدولية أن العمليات العسكرية الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول أسفرت عن "مقتل وإصابة عشرات الآلاف وتدمير المنازل، والمدارس، والمرافق الطبية والبنية التحتية الحيوية الأخرى، فضلا عن التهجير على نطاق واسع".[706] أشارت المحكمة إلى أن "العديد من الفلسطينيين في قطاع غزة يفتقرون في الوقت الحاضر إلى الوصول إلى المواد الغذائية الأساسية، والمياه الصالحة للشرب، والكهرباء، والأدوية الأساسية والتدفئة".[707]

يُنذر أمر محكمة العدل الدولية هذا السلطات الإسرائيلية بأن أفعالها، بما فيها تلك الرامية إلى حرمان السكان من المياه، قد تشكل انتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.

لكن في الأشهر الثلاثة التي تلت أمر المحكمة في يناير/كانون الثاني، واصلت السلطات والقوات الإسرائيلية تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وقطع إمدادات الكهرباء، وتقييد إمدادات المياه، وتقييد دخول الوقود وغيره من المواد الضرورية لإنتاج المياه إلى غزة. تدهورت الأوضاع في غزة، ما دفع المحكمة إلى إصدار مجموعة جديدة من التدابير المؤقتة في مارس/آذار، داعية إسرائيل إلى اتخاذ تدابير فورية لضمان توفير الغذاء، والماء، والكهرباء، والوقود، وغيرها من الضروريات اللازمة للبقاء على قيد الحياة للمدنيين في غزة.[708]

في أمرها الصادر في مارس/آذار، وجهت محكمة العدل الدولية إسرائيل إلى اتخاذ تدابير مؤقتة إضافية "في ضوء الظروف المعيشية المتدهورة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة، وخاصة انتشار المجاعة والموت جوعا".[709] وأمرت المحكمة إسرائيل تحديدا بما يلي:

(أ) […] اتخاذ جميع التدابير الضرورية والفعالة ، دون تأخير، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، لضمان توفير جميع الأطراف المعنية للخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تشتدّ الحاجة إليها دون عوائق، بما فيها الغذاء، والماء، والكهرباء، والوقود، والمأوى، والملابس، ومستلزمات النظافة والصرف الصحي، فضلا عن الإمدادات الطبية والرعاية الطبية للفلسطينيين في جميع أنحاء غزة، بما فيها عن طريق زيادة قدرة وعدد نقاط العبور البرية وإبقائها مفتوحة طالما كان ذلك ضروريا؛ و(ب) […] ضمان عدم ارتكاب جيشها، بأثر فوري، أعمالا تشكل انتهاكا لأي من حقوق الفلسطينيين في غزة باعتبارهم جماعة محمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بما يشمل عبر منع تسليم المساعدة الإنسانية المطلوبة فورا، من خلال أي إجراء.[710]

وفي الشهرين التاليين لأمر مارس/آذار، واصلت السلطات الإسرائيلية قطع الكهرباء، ومنع إدخال الوقود الكافي وغيره من الإمدادات اللازمة لإنتاج المياه إلى غزة، وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي. ورغم بدء السلطات ضخ المزيد من المياه من إسرائيل إلى غزة عبر خطوط أنابيب ميكوروت في نهاية أبريل/نيسان، بعدما تمكن مهندسو مصلحة مياه بلديات الساحل في غزة من إجراء التصليحات، لم يكن هذا التحسن كافيا لتلبية الاحتياجات الهائلة للسكان، كما قابلته أوامر الإخلاء التي شردت السكان قسرا إلى مناطق لم تصل إليها شبكة المياه. في 5 مايو/أيار، أغلق الجيش الإسرائيلي معبري غزة الحدوديين الرئيسيين، وفي 6 مايو/أيار، بدأ بإصدار أوامر للفلسطينيين بإخلاء رفح، التي كانت حينها تؤوي أكثر من مليون شخص، إلى المواصي، وهي المنطقة التي حذرت الأمم المتحدة من أنها تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية للمياه والصرف الصحي.

في 24 مايو/أيار، أمرت محكمة العدل الدولية السلطات الإسرائيلية "بالحفاظ على معبر رفح مفتوحا لتوفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تشتدّ الحاجة إليها دون عوائق"، مشيرة إلى "الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة" والتدهور المتزايد للظروف في غزة منذ صدور أمر المحكمة في مارس/آذار. [711]

واصلت السلطات والقوات الإسرائيلية تدمير وإتلاف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، واستمرت في منع الكهرباء وإمدادات المياه الحيوية من دخول غزة وتقييد دخول الوقود. حتى سبتمبر/أيلول 2024، ما يزال معظم سكان غزة يفتقرون إلى الوصول إلى الكمية الكافية من المياه اللازمة للبقاء على قيد الحياة، وأفاد الأطباء والممرضين أن العديد من مرضاهم ماتوا بسبب أمراض والتهابات يمكن الوقاية منها، وجروح قابلة للشفاء، بسبب الجفاف وعدم توفر المياه.[712]

لم تستهدف الأفعال التي قامت بها السلطات الإسرائيلية أفرادا بعينهم، بل استهدفت السكان ككل. معرفة هذه السلطات بالبنية التحتية للمياه في غزة، فضلا عن علمها بالتأثيرات على السكان جرّاء قطع الكهرباء، وتقييد الوقود والمياه، وتدمير وإتلاف البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، والنمط المستمر الذي تتبعه في أفعالها لحرمان السكان من المياه، كل هذا يدل على نيتها في حرمان السكان من الوصول الكافي إلى المياه والصرف الصحي اللازمين للبقاء على قيد الحياة، وهو ما سيؤدي حتما إلى الموت.

بالإضافة إلى الأفعال التراكمية التي قامت بها السلطات الإسرائيلية، تدل تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين الذين يتمتعون بسلطة وضع السياسة بشأن غزة وقادة الجيش، والموضحة في القسم "I. تعمد حرمان السكان من المياه"، على نية بعضهم على الأقل "تدمير" جزء على الأقل من سكان غزة الفلسطينيين، حيث أعقبت التصريحات أفعال تعكس نواياهم المعلنة. منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، دعا المسؤولون الإسرائيليون إلى حرمان الفلسطينيين في غزة من الضروريات الأساسية للحياة، بما فيها الغذاء والكهرباء والمياه، واستمروا في تنفيذ سياسة حرمت السكان من هذه الإمدادات.[713]

بالإضافة إلى دعوات السلطات الإسرائيلية لقطع الماء والوقود والكهرباء والمساعدات الإنسانية عن سكان غزة، أدلى بعض كبار المسؤولين الإسرائيليين بتصريحات تدعو إلى تدمير غزة أو تدعو إلى تدمير جميع الفلسطينيين فيها. خلال خطاب متلفز في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال نتنياهو: "سنحول غزة إلى جزيرة من الأنقاض".[714] وقال غالانت عندما دعا إلى "حصار كامل" لغزة في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023: "نحن نقاتل حيوانات بشرية ... لن تعود غزة كما كانت من قبل. سنقضي على كل شيء [حتى] إذا لم يستغرق الأمر يوما واحدا، فسيستغرق الأمر ... أسابيع، أو حتى أشهر، سنصل إلى جميع الأماكن".[715] رغم أن هاغاري وغالانت قالا لاحقا إن حرب إسرائيل كانت ضد حماس، وليس "شعب غزة"، استمرت أفعالهما بحرمان الناس من الماء والكهرباء والوقود.[716]

كما أشار كبار القادة إلى وصية توراتية تقضي بإبادة أحفاد عماليق، وهي قبيلة تاريخية معادية لبني إسرائيل، عدة مرات في سياق غزة منذ بدء الأعمال العدائية.[717] في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد نتنياهو بالوصية التوراتية لأول مرة، قائلا في مؤتمر صحفي: " تذكروا ما فعله عماليق بكم".[718] وكرر البيان في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مضيفا أن هذه "حرب بين أبناء النور وأبناء الظلام".[719]

وحتى بعد صدور حكم محكمة العدل الدولية الذي أمرت فيه إسرائيل في يناير/كانون الثاني "باتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها"، استمر مسؤولون كبار في إسرائيل في الدعوة إلى قطع الماء والوقود والكهرباء والمساعدات. وفي عدة حالات، دعا مسؤولون كبار إلى حرمان جميع الفلسطينيين في غزة من الأساسيات الضرورية للحياة بهدف الضغط على الجماعات المسلحة للإفراج عن الرهائن وحماس للاستسلام.[720]

تشكل هذه التصريحات دعوات إلى العقاب الجماعي ـ وهي جريمة حرب ـ وقد تُشكل أيضا تحريضا على الإبادة الجماعية. لكنها تشير أيضا إلى نية حرمان سكان غزة بالكامل من أساسيات الحياة، بما فيها الماء. وكانت النتيجة المتوقعة لمواصلة إسرائيل سياسة طويلة الأمد تتمثل في حرمان المدنيين في غزة من الوصول إلى المياه والصرف الصحي الكافيين هي "فرض ظروف معيشية مصممة لإحداث الإهلاك المادي" للفلسطينيين في قطاع غزة. فرض المسؤولون الإسرائيليون عمدا، وما زالوا يفرضون، ظروفا معيشية على الفلسطينيين في غزة، هدفها إحداث وفيات جماعية، والتي تسببت، وما زالت تتسبب، في وفيات جماعية.

تُظهِر الأدلة الواردة في هذا التقرير أن الجيش الإسرائيلي دمر عمدا وبشكل منهجي على الأقل بعض البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في غزة أثناء سيطرته على المنطقة؛ وأن القيود التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على الماء والوقود وقطع الكهرباء استمرت لمدة عام، رغم علمها بالتأثير الذي خلفته هذه الأفعال على الصحة والحياة؛ وأنها تجاهلت أوامر متعددة صادرة عن محكمة العدل الدولية، بما فيها بشأن توفير الماء والوقود والكهرباء والمساعدات؛ وأنه بعد مرور عام، ما يزال معظم سكان غزة الفلسطينيين فيها، ما يدل على أن السلطات الإسرائيلية تعلم أن سياساتها ستضرهم بشكل مباشر. يمكن استنتاج نية الإبادة الجماعية من هذا النمط من السلوك، ومن التصريحات التي تشير إلى أن بعض المسؤولين كانوا يرغبون في تدمير الفلسطينيين في غزة، وبالتالي قد تُشكل هذه الأفعال جريمة إبادة جماعية.

التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية

التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية محظور بموجب المادة 3 (ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية.[721]

عرّفت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية على النحو التالي:

تحريض مرتكب (ي) الجريمة بشكل مباشر على ارتكاب الإبادة الجماعية، سواء عبر الخطابات أو الصراخ أو التهديدات المعلنة في الأماكن العامة أو في التجمعات العامة، أو عبر بيع مواد مكتوبة أو مطبوعة في الأماكن العامة أو في التجمعات العامة أو نشرها، أو عرضها للبيع، أو العرض العلني للافتات أو الملصقات، أو عبر أي وسيلة أخرى من وسائل الاتصال السمعية والبصرية.[722]

وجدت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن الشرط الذي يقضي بأن يكون التحريض "مباشرا" يعني أن التحريض يجب أن "يثير شخصا آخر للانخراط في عمل إجرامي" وأنه "أكثر من مجرد اقتراح باهت أو غير مباشر يشكل تحريضا مباشرا".[723] وعند تقييم شرط "المباشر"، فإن السياقين الثقافي واللغوي يشكلان عاملين مهمين يجب مراعاتهما، لأن "خطابا معينا قد يُعتبر "مباشرا" في بلد ما، ولا يُعتبر كذلك في بلد آخر، وذلك اعتمادا على الجمهور المستهدف".[724] مثلا، لاحظت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن "تصريحا يتضمن تنميطا لإثنية محددة يثير الاستياء ضد أفراد تلك الإثنية قد يخلف تأثيرا متزايدا في سياق بيئة إبادة جماعية" و"من المرجح أن يؤدي إلى العنف".[725] ويمكن اعتبار التحريض مباشرا، ومع ذلك ضمنيا.[726]

وتوصلت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا إلى أن تقييم ما إذا كان التحريض "علنيا" ينبغي أن يكون على أساس عاملين: "مكان التحريض وما إذا كان الحضور انتقائيا أو محدودا".[727] أشكال التحريض العلني بشكل لا لبس فيه هي فقط قد تشكل جريمة التحريض على الإبادة الجماعية.[728]

تتطلب جريمة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية "النية المباشرة لدفع أو إستثارة شخص آخر لارتكاب الإبادة الجماعية" و"النية المحددة لارتكاب الإبادة الجماعية، أي إهلاك جماعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية، كليا أو جزئيا، بصفتها تلك".[729] يعني التحريض على الإبادة الجماعية "الرغبة ... في خلق ... حالة ذهنية معينة ضرورية لارتكاب مثل هذه الجريمة في أذهان الشخص (الأشخاص)".[730]

عندما يؤدي الخطاب إلى ارتكاب أعمال إبادة جماعية، فإن هذا "قد يكون مؤشرا على أن الخطاب في هذا السياق المعين كان مفهوما على أنه تحريض على ارتكاب إبادة جماعية وأن هذا كان بالفعل نية من أصدر الخطاب".[731]

كرر أصحاب السلطة في إسرائيل دعواتهم المباشرة والعلنية لقطع الماء والوقود والكهرباء عن سكان غزة بالكامل، كما هو موضح في القسم "I. تعمد حرمان السكان من المياه" من هذا التقرير، فضلا عن تصريحات مهينة للإنسانية وتدعو إلى تدمير جميع سكان غزة. استمرت هذه الدعوات،[732] رغم أن محكمة العدل الدولية، التي وجدت أن السلطات الإسرائيلية ربما تنتهك الحظر على التحريض، أمرت إسرائيل في يناير/كانون الثاني "باتخاذ جميع التدابير ضمن سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بأعضاء المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة".[733]

كانت مثل هذه الدعوات، وخاصة في هذا السياق، تدعو المسؤولين الإسرائيليين إلى خلق ظروف معيشية مصممة لتدمير جزء من سكان غزة الفلسطينيين، وهو عمل من أعمال الإبادة الجماعية.

كانت هذه الدعوات مباشرة، وأثار بعضها أفعالا فورية. حيث أعقبت الأوامر التي أصدرها وزير الدفاع السابق يوآف غالانت بفرض "حصار كامل" على غزة في 9 أكتوبر/تشرين الأول ("لن تكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا ماء، ولا وقود، كل شيء مغلق") أفعال مباشرة.[734] وفي نفس اليوم، ولأسابيع بعد ذلك، قطعت السلطات الإسرائيلية الماء ومنعت السلطات والقوات الإسرائيلية الوقود والغذاء والمساعدات الإنسانية من دخول غزة. حتى نوفمبر/تشرين الأول 2024، تواصل السلطات الإسرائيلية تقييد دخول الماء والوقود والغذاء والمساعدات إلى غزة وداخلها، وتواصل قطع الكهرباء عن غزة، وهي مطلوبة لتشغيل البنية التحتية اللازمة لاستمرار الحياة في جميع أنحاء غزة.

كل التصريحات الإسرائيلية المذكورة أعلاه صدرت لعامة الناس عبر التلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من أشكال الإعلانات العامة.

ورغم أن تحديد "الحالة النفسية" لمرتكب الجريمة أمر صعب، فقد تحققت تصريحات السلطات الإسرائيلية الداعية إلى خلق ظروف معيشية قد تؤدي إلى تدمير جزء على الأقل من سكان غزة الفلسطينيين. هذا بدوره قد "يكون مؤشرا على أن الخطاب في هذا السياق المعين كان مفهوما على أنه تحريض على ارتكاب إبادة جماعية وأن هذا كان بالفعل نية من أصدر الخطاب".[735]

إن الجمع بين التصريحات العامة، منها تلك الصادرة عن أشخاص في السلطة في إسرائيل في ذلك الوقت، والأفعال التي قامت بها السلطات الإسرائيلية بعد ذلك في خلق الظروف المعيشية التي يُرجح أن تكون قد أدت إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، وحكم محكمة العدل الدولية بشأن التحريض، يشير بقوة إلى أن بعض التصريحات كانت بمثابة تحريض مباشر وعلني على الإبادة الجماعية. والسلطات الإسرائيلية ملزمة، كما حكمت محكمة العدل الدولية، باتخاذ جميع التدابير لمنع ومعاقبة هكذا تحريض.

الخلاصة

الأعمال التي قامت بها السلطات والقوات الإسرائيلية لحرمان سكان غزة من الوصول إلى المياه ترقى أعمال إبادة جماعية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ترقى أفعالهم بالتحديد إلى فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى التدمير المادي للسكان الفلسطينيين في غزة. كما يمكن استنتاج نية الإبادة الجماعية من الأفعال المستمرة للسلطات والقوات الإسرائيلية الرامية إلى حرمان الفلسطينيين في غزة من المياه، على الرغم من البيانات والتحذيرات الواضحة من الأمم المتحدة منذ أكتوبر/تشرين الأول والأوامر الصادرة عن محكمة العدل الدولية التي تدعو إلى توفير المياه منذ يناير/كانون الثاني، إلى جانب تصريحات السلطات الإسرائيلية، وبالتالي فإن هذه الأفعال قد تُشكل جريمة إبادة جماعية.

تؤدي الظروف التي خلقتها السلطات الإسرائيلية في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 - الحرمان الشديد وطويل الأمد من المياه - إلى الموت البطيء للفلسطينيين هناك، بمن فيهم الأطفال حديثي الولادة الذين لا تستطيع أمهاتهم إرضاعهم بسبب سوء التغذية والجفاف، والذين يشربون حليبا صناعيا مخلوطا بمياه قذرة بسبب انعدام الوصول إلى المياه النظيفة في غزة؛ والأشخاص ذوي الإعاقة، الذين غالبا ما يكون لديهم احتياجات متزايدة للمياه النظيفة وتحديات إضافية في الوصول إليها؛ والأشخاص الذين أصيبوا بأمراض منقولة عبر المياه وافتقروا إلى الوصول الكافي إلى التغذية والمياه النظيفة والرعاية الطبية بسبب أفعال الحكومة الإسرائيلية.

دون اتخاذ إجراءات فورية لضمان حصول الفلسطينيين على كميات كافية من المياه النظيفة، سيستمر موت أعداد كبيرة من الفلسطينيين في قطاع غزة بسبب الجفاف، والأمراض المنقولة عبر المياه، والأمراض والالتهابات الأخرى الناجمة عن أو التي تفاقمت بسبب الحرمان من الوصول إلى المياه النظيفة.


 

شكر وتنويه

أجرت البحث لهذا التقرير وكتبته نيكو جعفرنيا، الباحثة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش. قام ليو مارتين، محلل رئيسي في قسم الجغرافيا المكانية في مختبر التحقيقات الرقمية، بإجراء وكتابة الأبحاث مفتوحة المصدر والجغرافية المكانية للتقرير. قدّم كل من ميلينا أنصاري، باحثة مساعدة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وديفيد إسبوسيتو، باحث مساعد في قسم العدالة الدولية، مساعدة إضافية في البحث والتحرير للتقرير.

راجع هذا التقرير وحرره بيل فان إسفيلد، مدير إسرائيل وفلسطين بالإنابة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما راجع التقرير وحرره كل من لما فقيه، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبلقيس جراح، مديرة مشاركة في برنامج العدالة الدولية، وعمر شاكر، مدير مكتب إسرائيل وفلسطين. قدم مراجعات متخصصة كل من سام دوبيرلي، مدير قسم التكنولوجيا والحقوق والتحقيقات؛ وإرين كيلبرايد، باحثة في قسم حقوق المرأة؛ ومات ماكونيل، باحث في مبادرة الصحة العالمية في قسم العدالة الاقتصادية والحقوق؛ وبريان رووت، محلل كمي أول في مختبر التحقيقات الرقمية؛ وإمينا تشيريموفيتش، مديرة مشاركة في قسم حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة؛ وبلقيس والي، مديرة مشاركة في قسم الأزمات والنزاعات والأسلحة؛ وكلاوديو فرانكافيلا، المدير المشارك للمناصرة في الاتحاد الأوروبي؛ ولوسي ماكيرنان، نائبة مدير شؤون المناصرة في الأمم المتحدة في جنيف؛ ولويس شاربونو، مدير قسم الأمم المتحدة؛ وياسمين أحمد، مديرة مكتب بريطانيا؛ وفريدة ضيف، مديرة مكتب كندا. كما قدم كل من شربل سلوم، مسؤول أول، ومسؤول أول آخر في قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، المساعدة في التحرير والإنتاج.

قدم كلايف بالدوين، مستشار قانوني أول، مراجعات قانونية، وقدم توم بورتيوس، نائب مديرة البرامج، مراجعات برامجية. كما راجع التقرير جيمس روس، مدير الشؤون القانونية والسياسات، وساري باشي، مديرة البرنامج. قدم ترافيس كار، مسؤول النشر، المساعدة في الإنتاج. وأنتجت هنا فاطمة، المنتجة والمحررة في فريق الملتيميديا، الفيديو المصاحب للتقرير.

قدم كل من أسلي بالي، وتوم دانينباوم وويليام شاباس التوجيهات للتقرير. وقدم الدكتور فيروز سيدوا ومستجيب في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة مراجعة خارجية لبعض أقسام التقرير.

نحن ممتنون للفلسطينيين في غزة الذين أبدوا استعدادهم لمشاركة تجاربهم، بما في ذلك الروايات الشخصية المفجعة.