المُلخّص
أوّل ما خطر ببالي هو النكبة عام 1948. اعتقدت أنّ [السلطات الإسرائيليّة] تحاول تكرارها للاستيلاء على أرضنا ومنازلنا مرّة أخرى. وعندما سمعت بأمر الإخلاء نحو الجنوب، كانت ردّة فعلي الأولى: لن أرحل. لم يكن خيارا مطروحا أن أترك كلّ شيء عملت من أجله... لكن بعد ذلك بدأ القصف وهُدّمت منازلنا وكنت مضطرّا لحماية عائلتي، لذلك غادرت في نهاية المطاف.
―الدكتور حسن (49 عاما)، هرب مع أسرته من منزله قرب جباليا في شمال غزة إلى خان يونس في الجنوب، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023
هرب الدكتور حسن منزله في مخيّم جباليا للاجئين في شمال غزة يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفرّ نحو الجنوب، حيث لجأ هو وعائلته المكوّنة من 36 فردا آخر إلى خان يونس بعد أن أمر الجيش الإسرائيلي الناس بالتوجه إلى هناك من أجل سلامتهم. وصف القصف الإسرائيلي أثناء فراره على طول الشريان الرئيسي نحو الجنوب، شارع صلاح الدين، والغارات الجويّة الإسرائيليّة بعد وصوله إلى خان يونس، حيث وجد كل الملاجئ ممتلئة، فاضطرّت عائلته إلى الانفصال عن بعضها البعض لإيجاد مكان للنوم. بعد جولات نزوح متكرّرة، لا يزال د. حسن وعائلته نازحين في جنوب غزّة.
في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذت الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة في غزة هجمات كاسحة على جنوب إسرائيل، وارتكبت العديد من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة ضدّ المدنيين. ردّت إسرائيل بهجوم عسكري ضدّ الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة في غزة. هذا الهجوم الذي يشمل قصفا مكثفا وهجمات بريّة في جميع أنحاء غزة المحتلّة من قبل إسرائيل، لا يزال مستمرا اليوم. نفّذت إسرائيل هجمات مستمرّة على أهداف عسكريّة، لكنها شنّت أيضا عددا كبيرا من الغارات الجويّة غير القانونيّة، ودمّرت البنية التحتيّة والمساكن، وفرضت حصارا خانقا على غزة تسبب في كارثة إنسانية، ما يرقى إلى العقاب الجماعي للسكان المدنيين، واستخدام التجويع كسلاح حرب. منذ أيام الهجوم الأولى، نفذت إسرائيل هذه الأفعال بالتوازي مع نظام إخلاء تقاعس بشكل صارخ عن الحفاظ على سلامة الفلسطينيين في غزة، بل جعلتهم عرضة للخطر. لم يعد هناك أيّ مكان آمن في غزة. كما سيوضح هذا التقرير، تسبّبت أفعال إسرائيل هذه في نزوح جماعي قسري ومتعمّد لغالبيّة السكان المدنيين في غزة.
وفقا لـ"الأمم المتحدة"، بلغ عدد النازحين في غزة 1.9 مليون شخص من أصل 2.2 مليون حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024. يفحص هذا التقرير سلوك السلطات الإسرائيليّة الذي تسبب في هذا المستوى العالي جدّا من النزوح، ووجد أنّ هذه الأفعال ترقى إلى التهجير القسري. وبما أنّ الأدلّة تشير بقوّة إلى أنّ العديد من أعمال التهجير القسري نُفذت عمدا، فإنها ترقى إلى جرائم حرب. وجد التقرير أيضا أنّ أعمال التهجير القسري التي ارتكبتها الحكومة الإسرائيليّة واسعة ومنهجيّة. تُظهر تصريحات كبار المسؤولين المناطة بهم مسؤوليات قيادية أنّ التهجير القسري متعمد، ويُشكّل جزءًا من سياسة دولة إسرائيل، وبالتالي فهو يرقى إلى جريمة ضدّ الإنسانيّة. أن أعمال إسرائيل يُفترض أيضا أنها ترقى إلى تعريف التطهير العرقي.
إسرائيل هي سلطة الاحتلال في غزّة، وبالتالي ّ سلوكها محكوم بالقانون الدولي الإنساني. بموجب القانون الدولي الإنساني – أو قوانين الحرب – فإنّ النقل القسري للسكان، الذي يعني تهجير أيّ مدني داخل الأراضي المحتلة بشكل قسري، أمر محظور، وإذا ارتُكب بقصد إجرامي، فهو يرقى إلى جريمة حرب. الاستثناء الوحيد لهذا الحظر الأساسي هو عندما تعمد سلطة الاحتلال إلى إجلاء الناس لسلامتهم أو لسبب عسكري قاهر. لكي تُعتبر عمليات تهجير المدنيين قانونيّة، فإن الأعمال التي نفذتها إسرائيل ينبغي أن تُلبّي أيضا الشروط التالية: i) التأكد من وجود ضمان بحيث يتم نقل المدني الذي يُجبر على ترك منزله بشكل آمن، وعدم فصله عن أسرته، وحصوله على الطعام والمياه، والرعاية الصحيّة، والصرف الصحي، ومراكز الاستقبال أو المأوى، ii) ضمان أن يكون الإخلاء مؤقتا، وiii) تسهيل عودة الشخص النازح إلى منزله بأسرع وقت ممكن بعد انتهاء الأعمال العدائيّة في المنطقة التي هُجّر منها.
تزعم إسرائيل أن نزوح كلّ سكّان غزة تقريبا كان مبرّرا بأمن السكّان وأسباب عسكريّة قاهرة، واتخذت الخطوات اللازمة لحماية المدنيين. لأن الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة تقاتل من وسط السكان المدنيين، يزعم المسؤولون الإسرائيليون أنّ الجيش أخلى المدنيين ليتمكّن من استهداف المقاتلين وتدمير البنية الأساسيّة للجماعات، مثل الأنفاق، مع الحدّ من إيذاء المدنيين، بحيث تكون عمليات التهجير الجماعية قانونيّة. خلُص هذا التقرير، الذي استند إلى مقابلات مع 39 فلسطينيا نازحين في غزة، معظمهم لمرّات متعدّدة، وتحليل معقّد لنظام الإخلاء الإسرائيلي، والدمار الواسع الذي أثبتته صور الأقمار الصناعيّة، وتحليل فيديوهات وصور لهجمات على مناطق وطرقات حُددت بأنها آمنة، والوضع الإنساني للسكان، إلى أن مزاعم إسرائيل بشأن النزوح القانوني كاذبة بشكل كبير. بدلا من ذلك، جمعت "هيومن رايتس ووتش" أدلّة على أنّ المسؤولين الإسرائيليين يرتكبون جريمة حرب تتمثل في نقل السكان بشكل قسري، وهو انتهاك خطير "لاتفاقيات جنيف"، وجريمة بموجب "نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائيّة الدوليّة".
من الواضح أنّ إسرائيل لم تُخل المدنيين الفلسطينيين في غزة من أجل أمنهم لأنّهم لم يكونوا آمنين أثناء عمليات الإخلاء أو عند وصولهم إلى الأماكن التي حُدّدت على أنها آمنة. كما أنّ إسرائيل لم تثبت بشكل مقنع وجود ضرورة عسكريّة لإجبار معظم المدنيين الفلسطينيين على ترك منازلهم. حتى لو تمكنت من إثبات مثل هذه الضرورة، فإنّ تقاعسها عن ضمان أمن النازحين وحمايتهم أثناء فرارهم وفي الأماكن التي هُجّروا إليها يجعل التهجير غير قانوني. كما أنّ نظام الإخلاء لم يُحافظ على أمن الناس، بل غالبا ما استُخدم فقط لبث الرعب والخوف فيهم. أوامر الإخلاء كانت غير متسقة وغير دقيقة، وغالبا دون إخطار المدنيين بها ومنحهم الوقت الكافي للمغادرة أصلا. أوامر الإخلاء لم تراع احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، الذين لا يستطيع كثير منهم المغادرة دون مساعدة. كما هاجمن القوات العسكريّة الإسرائيليّة بشكل متكرر طرق الإخلاء والمناطق التي حددتها على أنها آمنة. بدلا من الوفاء بالتزاماتها بوضع الضمانات الأساسيّة للتأكد من حصول النازحين على الطعام والمياه والصرف الصحي والرعاية الصحيّة، اتخذت إسرائيل خطوات لقطع هذه الضمانات أو تقييد المساعدات الإنسانيّة بشدّة. علاوة على ذلك، إسرائيل ملزمة بتسهيل عودة النازحين إلى منازلهم في الأماكن التي توقفت فيها الأعمال العدائية، لكنها بدلا من ذلك جعلت أجزاء كبيرة من غزة غير صالحة للسكن. نفذ الجيش الإسرائيلي أعمال هدم، مما تسبب في تدمير متعمد للبنية التحتيّة المدنيّة، بما في ذلك المدارس والمؤسسات الدينيّة والثقافيّة، حتى بعد توقف الأعمال العدائية في منطقة ما وسيطرة قواتها عليها. يعمل الجيش الإسرائيلي أيضا على إنشاء ما يُفترض أنها مناطق عازلة، أي مناطق آمنة مفرغة من سكانها بين الحدود الإسرائيليّة وغزة، والتي من غير المرجح أن يُسمح للفلسطينيين بدخولها.
الضرورة العسكريّة والاستثناء الأمني
تقع على إسرائيل، باعتبارها سلطة الاحتلال في غزة، مسؤوليّة إثبات أنّ الأعمال العسكريّة القاهرة جعلت أوامرها المتكررة بإخلاء غزة، التي أدّت إلى نزوح كل السكان تقريبا، ضرورية، أو أنّ عمليات الإخلاء كانت لازمة لأمن السكّان أنفسهم. مصطلح "ضرورية" هذا يضع سقفا عاليا – أعلى من التقييم العادي للضرورة العسكريّة. لا يُمكن تبرير التهجير إلا إذا كان ملاذا أخيرا لتنفيذ عمليات عسكريّة في غياب بدائل أخرى مجدية. لا يكفي أن يكون المدنيون عرضة لخطر متوقع بشكل معقول جرّاء عمل (القصف الإسرائيلي) من شأنه أن يحرم الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة من ميزة عسكريّة، أو يحقق لإسرائيل، بصفتها سلطة الاحتلال، هذه الميزة. لكي تكون هناك ضرورة عسكريّة، لا بدّ للعمليّة أن تتسبب، في حال فشلها، في تهديد الهدف العسكري للنزاع بأكمله.
لا يُمكن لإسرائيل أن تعتمد ببساطة على تواجد عناصر الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة وموادهم ومنشآتهم في غزّة لتبرير تهجير المدنيين. على إسرائيل أن تثبت أن تهجير المدنيين كان، في كلّ مرّة، هو الخيار الوحيد المتاح.
إخلاء السكان المحميين من أجل أمنهم يُحيل إلى إبعاد المدنيين أو إعادة توطينهم مؤقتا في مكان آمن خارج منطقة الخطر أو الضرر الوشيك. يُمكن القيام بذلك لحماية السكان من العمليّات العسكريّة أو الأعمال العدائيّة المستمرّة أو غيرها من المخاطر التي تهدّد سلامتهم. رغم أنّه يُمكن القول إنّ إسرائيل عمدت في بعض الأحيان إلى نقل الفلسطينيين إلى أماكن أكثر أمانا من المناطق التي أمروا بمغادرتها، إلا أنّ هذا التقرير يُثبت أن مسارات الإخلاء وما يُسمى بالمناطق الآمنة تعرّضت للقصف بشكل مستمرّ ومتكرّر، مما يقوّض موقف الجيش الإسرائيلي القائل بأنّ الناس يُنقلون "من أجل سلامتهم".
لا يُمكن لإسرائيل الاعتماد على سلامة المدنيين وأمنهم لتبرير إجلائهم إذا لم تكن هناك مناطق آمنة يُمكنهم الانتقال إليها. في النهاية، كما سيوضح هذا التقرير، حتى لو تمكنت إسرائيل من إثبات أن أعمالها تندرج ضمن استثناء التهجير، فإنّ عدم التزامها بالحماية الصارمة المطلوبة لجعل الإخلاء قانونيا يثبت أن أوامرها للناس بالانتقال كانت ذريعة للتهجير القسري.
نظام الإخلاء
رغم أنّه لا توجد معايير تفصيلية لما يُمكن اعتباره نظام إخلاء متوافق مع القانون الدولي الإنساني، إلا أنّ المادة 49 من اتفاقية جنيف تنصّ، من بين شروط أخرى، على "أمن" المدنيين عند نقلهم. بعبارة أخرى، الهدف الأساسي هو حماية المدنيين من مخاطر النزاع. بدلا من حماية الفلسطينيين في غزة، وضع نظام الإخلاء الإسرائيلي الناس في خطر.
بدأ الجيش الإسرائيلي قصف غزة بالغارات الجويّة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. بعد أيام، في ليلة 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمر الجيش الإسرائيلي أكثر من مليون شخص في شمال غزة بالإخلاء في غضون 24 ساعة. هذا الأمر الأول العاجل بالإخلاء الجماعي تبعته أوامر وتعليمات أخرى للمدنيين الفلسطينيين في كل أنحاء شمال غزة بمغادرة منازلهم والاتجاه نحو الجنوب. وضعت إسرائيل نظام إخلاء أعطى تعليمات غير واضحة وغير دقيقة ومتناقضة، فأصبح من الصعب جدا على المدنيين معرفة أين ومتى ينتقلون. تضمّنت بعض الأوامر الأخرى معلومات منقوصة أو متناقضة عن المكان الذي سيذهبون إليه، وأيّ الوجهات كانت آمنة، ولم تُصحّح إلا بعد ساعات، إن صُحّحت أصلا. مثلا، يوم 1 يوليو/تموز، أصدر الجيش الإسرائيلي أمر إخلاء لأحياء في شرق خان يونس ورفح، بما في ذلك الفخاري حيث يقع المستشفى الأوروبي، أحد أكبر المستشفيات في جنوب غزّة. وفي صباح اليوم التالي، أصدر الجيش الإسرائيلي و"وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق" توضيحا بالإنغليزيّة على حساباتهم على منصّة "إكس" يُفيد بأنّ المستشفى غير مشمول بالإخلاء. كما نشرت صفحة وحدة تنسيق أعمال الحكومة على "فيسبوك" بالعربيّة تحديثا لأمر الإخلاء ليشمل التوضيح. لكن هذا التوضيح لم يُنشر على أيّ حسابات تواصل اجتماعي تابعة للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربيّة. لما صدرت هذه التوضيحات، كان الموظفون والمرضى قد شرعوا بالفعل في الهروب من المستشفى. صدرت العديد من الأوامر عبر الانترنت في أوقات كان فيها انقطاع شبه كامل لشبكة الاتصالات في غزة. كما صدرت عشرات الأوامر بعد انقضاء الفترة الزمنيّة المخصّصة للإخلاء الآمن، في حين صدرت أوامر أخرى بعد بدء الهجمات بالفعل.
في الحالات التي حدّدت فيها أوامر الإخلاء وجهة أو اتجاها معيّنا، مُنح الناس وقتا أوقلّ بكثير مما يسمح لهم بالتحرّك في منطقة هي أصلا منطقة نزاع. بشكل عام، لم يضمن نظام الإخلاء الإسرائيلي بشكل صارخ إمكانيّة انتقال المدنيين بأمان أو الوصول إلى مكان آمن، مع بقائهم آمنين بعد الوصول إلى مكان النزوح، وغالبا ما استُخدم هذا النظام لبث الخوف والارتباك والبؤس والقلق فقط. وجد تقرير أصدرته مؤخرا "لجنة التحقيق الدوليّة المستقلّة المعنية بالأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشرقيّة وإسرائيل" أنّ الجيش الإسرائيلي لم يقدّم مساعدة للذين لم يتمكّنوا من الإخلاء بسبب الإعاقة أو السنّ أو المرض أو أي وضع آخر.
الوضع الأمني على طرق الإخلاء وفي المناطق المخصصة للإخلاء
في الحالات التي حاول فيها المدنيّون الانتقال بعيدا عن مناطق الحرب المُعلنة، كانت الطرقات والوجهات المقصودة غير آمنة. أصابت نيران القوات الإسرائيليّة المدنيين على طرق الإخلاء، وخاصة شارع صلاح الدين، الشريان الرئيسي الممتدّ من الشمال إلى الجنوب. في النهاية، لم تبق أيّ وجهة آمنة داخل غزّة، حيث هاجم الجيش الإسرائيليّ بشكل متكرر مناطق كان قد خصصها للإخلاء، بما في ذلك هجمات قاتلة على مواقع كان عمال الإغاثة الإنسانية قد أطلعوا الجيش الإسرائيلي على إحداثياتها بدقة. مثلا، في 20 فبراير/شباط، أطلقت دبّابة إسرائيليّة قذيفة من العيار المتوسط إلى الكبير على مبنى سكنيّ متعدّد الطوابق يسكنه فقط موظفو "أطباء بلا حدود" وعائلاتهم في المواصي، التي حدّدتها إسرائيل كمنطقة إنسانيّة آمنة. قتل الهجوم شخصين وأصاب سبعة آخرين. قالت أطباء بلا حدود إنها قدّمت إحداثيات المبنى للسلطات الإسرائيليّة، ولم ترَ أي أعيان عسكريّة في المنطقة، ولم تتلقَ تحذيرا قبل الهجوم.
الوضع الإنساني في المناطق المخصّصة للإخلاء
بموجب قوانين الحرب، يتعيّن على إسرائيل اتخاذ التدابير اللازمة لضمان صحّة السكان النازحين وتغذيتهم وسلامتهم إذا كانت تريد الاستفادة من الإخلاء كاستثناء عن التهجير القسري المحظور. لكن بدلا من ذلك، هجّرت إسرائيل الناس إلى مناطق لم توفر لهم فيها السلع والخدمات الأساسيّة، ولا يستطيعون الوصول إليها بأنفسهم. مثلا، عندما حدّدت إسرائيل المواصي كمنطقة إنسانيّة آمنة، لم يكن في المنطقة التي تبلغ مساحتها 20 كيلومتر مربّع مياها جارية أو حمامات أو أي وكالات إنسانيّة دوليّة يُمكنها تنسيق المساعدات.
بدلا في الإيفاء بالتزاماتها، كان ردّ إسرائيل على الهجمات التي قادتها حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول هو اتخاذ تدابير لمنع وصول مساعدات إنسانيّة كافية إلى غزّة. فرضت في البداية حصارا كاملا عليها، وقطعت الخدمات العامة الأساسيّة، بما في ذلك المياه والكهرباء، عن سكان غزة المدنيين، ومنعت عمدا دخول الوقود والمساعدات الإنسانية الحيويّة لحقوق الإنسان. منذ ذلك الحين، ألحقت إسرائيل ضررا بالموارد الحيويّة لإعمال حقوق الإنسان ودمّرتها، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والبنية الأساسيّة للمياه والطاقة والمخابز والأراضي الزراعيّة، وسمحت فقط بقدر ضئيل من المساعدات الإنسانيّة، والتي ظلّت غير كافية على الإطلاق لتلبية الاحتياجات الأساسيّة للسكّان. نتيجة لذلك، تشهد غزّة أزمة إنسانيّة. توفي الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف، وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2024، كان حوالي 1.95 مليون شخص، من أصل 2.2 مليون في غزة، يعانون من مستويات "كارثية" أو "طارئة" أو "متأزمة" من انعدام الأمن الغذائي، وفقا للـ"التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي " (أداة لتحسين تحليل الأمن الغذائي واتخاذ القرار). يذكر التقرير أيضا أنّ "خطر المجاعة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وأبريل/نيسان 2025 قائم طالما كان النزاع مستمرا والوصول الإنساني مقيّدا".
منذ يناير/كانون الثاني 2024، أمرت "محكمة العدل الدوليّة" ثلاث مرّات باتخاذ تدابير مؤقتة في القضيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا وادعت فيها أنّ إسرائيل تنتهك "اتفاقيّة الإبادة الجماعيّة" لسنة 1948. في 26 يناير/كانون الثاني 2024، أمرت محكمة العدل الدوليّة إسرائيل "باتخاذ تدابير فوريّة وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تشتدّ الحاجة إليها... في قطاع غزة". رغم هذا الأمر الملزم، استمرّت إسرائيل في تقييد المساعدات أو منعها. أشارت محكمة العدل الدوليّة إلى أنّ "الظروف المعيشيّة الكارثية للفلسطينيين في قطاع غزة تدهورت بشكل أكبر"، واستشهدت بـ"الحرمان المطوّل والواسع من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسيّة"، أصدرت تدابير أخرى في مارس/آذار 2024 تأمر إسرائيل بضمان توفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تشتدّ الحاجة إليها، "بما في ذلك الغذاء والمياه والوقود والمأوى والملابس ومتطلبات النظافة والصرف الصحّي، إلى جانب المساعدات الطبيّة، بما في ذلك الامدادات الطبيّة والدعم". في 24 مايو/أيار، أصدرت محكمة العدل الدوليّة أمرا ثالثا يُلزم إسرائيل "بالحفاظ على معبر رفح مفتوحا لتوفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة التي تشتدّ الحاجة إليها دون عوائق". عند نشر هذا التقرير، ظلّ معبر رفح مغلقا منذ سيطرت عليه القوات الإسرائيليّة في 7 مايو/أيار 2024.
خلق ظروف تمنع العودة
ينصّ القانون الدولي الإنساني على أن يكون أيّ إخلاء للسكان مؤقتا، وعلى السماح للناس بالعودة إلى منازلهم.
دمّرت القوات الإسرائيليّة معظم البُنى التحتيّة للمياه والصرف الصحي والاتصالات والطاقة والنقل في غزة، ومدارسها ومستشفياتها، وجرفت البساتين والحقول والدفيئات الزراعيّة بشكل منهجي. تعرّض جزء كبير من البُنى التحتيّة إلى التدمير لدرجة أنّ معظم القطاع صار غير صالح للسكن، وهذا مخالف لالتزام إسرائيل بضمان عودة المدنيين عندما تتوقف الأعمال العدائيّة في المنطقة المتضرّرة. حدث ذلك في جزء كبير منه بعد أن صرّح مسؤولون إسرائيليون بأن الضرر، وليس الدقة، هو الغرض من القصف. قدّر "البنك الدولي" أنّه إلى غاية أغسطس/آب 2024، تضرّر أو دُمّر أكثر من 60 % من المباني السكنيّة وأكثر من 80% من المرافق التجاريّة في غزة. حتى أغسطس/آب 2024، تعرّض 93% من مدارس غزة وكلّ جامعاتها إلى التدمير أو لحقتها أضرار جسيمة. لاحظ "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" التأثيرات غير المسبوقة للحرب على البيئة، مما يُعرّض المجتمع لتلوث التربة والمياه والهواء المتزايد بسرعة، ومخاطر الضرر الذي لا رجعة فيه للنظم البيئيّة الطبيعيّة. حتى يوليو/تموز، سجلت "منظمة الصحة العالميّة" أكثر من ألف هجوم على مرافق صحيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولاحظت أنه لا توجد مستشفيات عاملة في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع حتى كتابة تقريرها. قدّر "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أنّ تكلفة إعادة بناء غزة ستتراوح بين 40 و50 مليار دولار أمريكي، وتتطلب جهدا لم يشهده العالم منذ الحرب العالميّة الثانية.
كما نفذت إسرائيل عمليات هدم متعمّدة وموجّهة، بما في ذلك لإنشاء "منطقة عازلة" وطريق جديد يقسّم غزة إلى ما يُسمّى "ممر نتساريم". وهذا سيغيّر بشكل دائم الأرض التي سيُبنى عليها، وينطوي على هدم المنازل والبُنية الأساسيّة المدنيّة أخرى، ويؤكد وجود نيّة لمنع المدنيين الفلسطينيين في غزة من العودة بعد انتهاء الأعمال العدائيّة. نيّة التهجير القسري لفلسطينيي غزة ليس بالضرورة أن تكون دائمة حتى تُشكّل جريمة حرب. لكن من الواضح للغاية أنّ الكثير من الفلسطينيين في غزة، إن لم تكن الأغلبيّة، سوف يُهجّرون بشكل دائم نظرا لمستوى الدمار الذي شهدته غزة.
تدعو هيومن رايتس ووتش إسرائيل إلى احترام حق المدنيين الفلسطينيين في العودة إلى المناطق التي هُجّروا منها في غزة. تجدر الإشارة إلى أنّ 80 % من سكّان غزة هم من اللاجئين وذريتهم، حيثُ سبق أن طردوا أو فرّوا سنة 1948 ممّا صار إسرائيل اليوم، في ما يُسمّيه الفلسطينيون النكبة. لكلّ شخص الحق في العودة إلى بلده، وهو حق مكفول في العديد من اتفاقيات حقوق الإنسان، وأكّدته قرارات "الجمعيّة العامة للأمم المتحدة" الخاصة باللاجئين الفلسطينيين الصادرة منذ 1948. على مدى عقود، أنكرت السلطات الإسرائيليّة هذا الحق باستمرار، ومنعت اللاجئين الفلسطينيين من العودة. هذه السابقة التاريخيّة تلوح في الأفق مجددا بالنسبة لفلسطينيي غزة: فالذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش تحدثوا في كثير من الأحيان على أنهم يعيشون نكبة ثانية. تستمرّ الانتهاكات المرتكبة ضدّ الفلسطينيين الذين أجبِروا على مغادرة ديارهم قبل أكثر من 75 عاما وذريتهم اليوم، حيث لا يزال ملايين الفلسطينيين، بما في ذلك الذين يعيشون في غزة ويواجهون الأعمال العدائية الحاليّة، محرومين من حقهم في العودة الدائمة.
التهجير القسري كجريمة ضدّ الإنسانيّة
يُمكن أن يرقى التهجير القسري إلى جريمة ضدّ الإنسانية عندما يُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق ومنهجي "موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين"، ما يعني ارتكاب مثل هذه الجرائم بشكل متكرر وفقا لسياسة دولة. يُعرّف التهجير القسري بصفته جريمة ضدّ الإنسانيّة وفقا لنظام روما الأساسي بالطرد أو النقل القسري، أي تشريد الأشخاص المعنيين بالطرد أو أي فعل قسري آخر من المناطق التي يعيشون فيها بشكل قانوني، دون مبررات يسمح بها القانون الدولي.
أعلن مسؤولون كبار في الحكومة الإسرائيليّة ومجلس الحرب بشكل متكرر عن نيتهم في تهجير السكان قسرا، وعن هدف سياساتهم طوال النزاع، من الأيام الأولى للحرب إلى أكثر من عام بعدها، حيث صرّح وزراء في الحكومة بأن أراضي غزة سوف تتقلّص، وأنّ قصف غزة وتسويتها بالأرض أمر محتمل، وأنّ الأراضي سوف تُسلّم للمستوطنين. قال آفي ديختر، وزير الزراعة والأمن الغذائي الإسرائيلي: " نحن الآن بصدد تنفيذ نكبة". تُشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وأفعالهم إلى أنهم بصدد تنفيذ خطة لتخصيص أجزاء كبيرة من غزة كمناطق "عازلة" أو ممرات لن يُسمح للفلسطينيين بالعيش فيها. رغم أنّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعلن في بعض الأحيان عن نيّة معاكسة، إلا أنّ تصرّفات السلطات والجيش الإسرائيليين طوال النزاع، كما هو موثق في هذا التقرير، إلى جانب إعلانات النوايا التي عبّر عنها أعضاء بارزون في الحكومة، بما في ذلك نتنياهو نفسه، تؤكد سياسة النقل القسري التي تعتمدها الدولة في حق الكثير، إن لم نقل أغلبيّة سكان غزة. بدلا من توفير احتياجات السكان النازحين، عمدت السلطات الإسرائيليّة إلى تقييد المساعدات الإنسانيّة واستخدمت التجويع كسلاح حرب. تسبب الجيش الإسرائيلي أيضا في دمار واسع في غزة، والكثير من هذا الدمار ناتج عن الأعمال العدائية أو التدمير المتعمد للأراضي والمباني بعد سيطرة الجيش الإسرائيلي على المنطقة.
بالنظر إلى العدد الكبير للمدنيين الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم والطريقة التي هُجّروا بها، ومحاولات جعل عودتهم مستحيلة، فإنّ تهجيرهم قسرا يصبح واسعا ومنهجيا ومتعمدا ويرقى إلى جريمة ضدّ الإنسانية.
التطهير العرقي
رغم أنّ "التطهير العرقي" ليس مصطلحا قانونيا رسميا أو جريمة معترفا بها بموجب القانون الدولي، إلا أنّه عُرّف في التقرير الختامي لـ"لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة بشأن يوغسلافيا السابقة" بأنه سياسة مقصودة من قبل مجموعة عرقيّة أو دينيّة لإخراج السكان المدنيين التابعين لمجموعة عرقيّة أو دينيّة أخرى من مناطق جغرافيّة معيّنة باستخدام وسائل عنيفة ومثيرة للرعب. كما يوضح هذا التقرير، فإنّ تهجير الفلسطينيين من غزة تمّ من خلال انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، بما يشمل جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة.
الأعمال التي نفذتها السلطات الإسرائيليّة في غزة هي أعمال لمجموعة عرقيّة أو دينيّة لإخراج الفلسطينيين، وهم مجموعة عرقية أو دينيّة أخرى، من مناطق في غزة، باستخدام وسائل عنيفة. هذا التهجير المنظم والقسري للفلسطينيين في غزة أدّى إلى إخراج جزء كبير من السكان الفلسطينيين من أرض، ومناطق محددة من غزة، عاشوا فيها لعقود وأجيال. يتجلى هذا بوضوح في المناطق التي تم جرفها وتوسيعها وتخليتها لإنشاء مناطق عازلة وممرات آمنة. يُفترض أن القوات الإسرائيلية تعتزم أن تضمن بقاء هذه المناطق فارغة ومطهرة من الفلسطينيين بشكل دائم، وأن تحتلها القوات الإسرائيلية وتسيطر عليها. تشير هذه الأعمال مجتمعة إلى أن السلطات الإسرائيلية تتبع، على الأقل في المناطق العازلة والممرات الآمنة في غزة، سياسة تطهير عرقي.
غياب المحاسبة على الانتهاكات الخطيرة المُرتكبة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة تسبب في تأجيج حلقات من الانتهاكات على مدى سنوات. واجه ضحايا الانتهاكات في إسرائيل وفلسطين جدارا من الإفلات من العقاب على مدى عقود. في النزاع الحالي، قطعت إسرائيل الغذاء والماء والكهرباء، التي تُشكل أهميّة قصوى لحياة 2,2 مليون شخص يعيشون تحت الحصار منذ 17 عاما. وتمّ محو عائلات بأكملها من سجل الأسرة، وتدمير أنظمة الصحة والتعليم، وتسوية مناطق بأكملها بالأرض، مع نعت ضحايا هذه الانتهاكات بـ"الحيوانات". كلّ السكان يتعرّضون إلى عقاب جماعي لأنّ إسرائيل تمنع عنهم مساعدات هم في أشدّ الحاجة إليها. قوانين الحرب واضحة: ارتكاب فظائع من طرف ما لا يُبرّر ارتكاب فظائع من الطرف الآخر، ولا يوجد أيّ طرف في أيّ نزاع فوق القانون الدولي الإنساني. وحياة الإسرائيليين والفلسطينيين لها نفس الكرامة، وتستحق نفس الحماية، والهجمات على أيّ منهما يجب أن تثير نفس القدر من الإدانة. ونظرا لخطورة الانتهاكات المرتكبة والموثقة في هذا التقرير، ومناخ الإفلات من العقاب السائد عن هذه الجرائم، حثّت هيومن رايتس ووتش لسنوات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدوليّة إلى إجراء تحقيق رسمي يتفق مع النظام الأساسي للمحكمة، وهي ترحب بقرار المدّعي العام الساعي إلى إصدار أوامر اعتقال بشأن الوضع في دولة فلسطين.
المنع من العودة قد يرقى أيضا إلى الجريمة ضدّ الإنسانية المعروفة بـ"أعمال غير إنسانيّة أخرى"، باستخدام المعيار الذي حدّدته "الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية" في قضيّة بنغلاديش/ميانمار، عندما تتسبب هذه الأعمال في معاناة كبيرة أو إصابة خطيرة في الصحة النفسية أو البدنية، وتُرتكب كجزء من هجوم واسع ومنهجي على السكان المدنيين، وفقا لسياسة دولة.
تدعو هيومن رايتس ووتش المدعي العام إلى التحقيق في ما ترتكبه السلطات الإسرائيلية من تهجير قسري ومنع ممارسة الحق في العودة كجريمة ضدّ الإنسانيّة.
تدعو هيومن رايتس ووتش كل الحكومات إلى دعم المحكمة الجنائية الدوليّة علنا، والحفاظ على استقلاليتها، وإدانة الجهود الرامية إلى ترهيبها أو التدخل في عملها، ومسؤوليها، والمتعاونين معها. وقبل كل شيء، تدعو هيومن رايتس ووتش إسرائيل إلى التوقف فورا وبشكل عاجل عن تهجير الفلسطينيين في غزة قسرا وبشكل جماعي.
التوصيات
إلى السلطات الإسرائيليّة
· الكف فورا عن تهجير المدنيين الفلسطينيين قسرا، ومعاقبتهم جماعيا في غزة.
· إلى أن تنتهي الأعمال العدائيّة، وعندما يكون الإخلاء لا مفرّ منه، تنفيذ نظام إخلاء يوفّر معلومات دقيقة وحينيّة للسكان المدنيين، مع تعليمات حول كيفية الوصول إلى مناطق الإخلاء بأمان، بما يضمن سلامتهم وحصولهم على مأوى مناسب، وتلبية متطلباتهم الإنسانيّة الأخرى.
· عند إصدار أوامر الإخلاء، ينبغي مراعاة الأشخاص ذوي الإعاقة، والمرضى أو المصابين، لأن الكثير من هؤلاء لا يستطيعون المغادرة دون مساعدة، مع ضمان توفر احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة والمرضى والجرحى في مناطق الإخلاء.
· التأكيد علنا على أنّ تهجير سكان غزة مؤقت وأنهم يستطيعون العودة إلى منازلهم وأماكنهم الأصليّة بمجرّد توقف الأعمال العدائيّة أو انتهاء سبب النزوح، أيهما يحصل أولا.
· الامتثال لجميع التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية كجزء من قضية جنوب أفريقيا التي ادعت فيها أنّ إسرائيل انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعيّة لسنة 1948.
· الكف عن الهجمات المتعمّدة والعشوائيّة أو غير القانونيّة الأخرى على الأعيان المدنيّة، بما في ذلك الأهداف الأساسية للبقاء على قيد الحياة، في المناطق الأصليّة للأشخاص النازحين بما يجعلها غير قابلة للسكن، بما في ذلك الهجمات على البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، والمساكن، والأراضي الزراعيّة.
· وقف عمليّات الهدم الجماعيّة في غزة، بما في ذلك داخل "المنطقة العازلة" وعلى طول محورَيْ نتساريم وفيلادلفي التي قد تنتهك قوانين الحرب التي تحظر الهجمات على الأعيان المدنيّة والتهجير القسري للمدنيين.
· الكف عن عرقلة المساعدات – وخاصة الغذاء، بما في ذلك المواد التي يحتاجها الأطفال الذين يتبعون نظاما غذائيا خاصا، والمياه، والأدوية، والأجهزة المساعِدة، والوقود – من دخول غزة من خلال فتح المعابر بالكامل، وفتح معابر إضافية بشكل عاجل، وعدم فرض قيود لا مبرّر لها تمنع دخول السلع الإنسانية إلى غزة.
· رفع الحصار عن غزة والسماح بحريّة حركة المدنيين والبضائع من غزة وإليها، مع الحفاظ على عمليات الفحص الفردية والتفتيش الجسدي لأغراض أمنية فقط وحسب الضرورة وباعتماد متطلبات شفافة؛ ونشر قوائم بالمواد المحظورة بما يتفق مع المعايير الدولية بشأن المواد "ذات الاستخدام المزدوج"، وتقديم تبريرات مكتوبة لأي رفض، مع إمكانية الاستئناف.
· إلغاء تصنيف "الاستخدام المزدوج" على المواد الطبية، والأجهزة المساعِدة، والتكنولوجيا المتاحة، مثل النظارات، والكراسي المتحركة، والمشايات، والعصيّ، وأجهزة السمع، وغيرها من الأجهزة المساعِدة التي يحتاجها الأشخاص ذوو الإعاقة، وأصحاب الحالات الصحية المزمنة، والتي يؤدي تقييدها دائما إلى تأثير سلبي وغير متناسب على المدنيين مقارنة بأيّ ميزة عسكريّة.
· إرجاع إمكانيّة الوصول إلى خدمات الكهرباء والماء والاتصالات.
· إعادة فتح الجانب الإسرائيلي من معبر رفح مع مصر لضمان عدم منع المدنيين الفلسطينيين في غزة الذين يرغبون في ممارسة حقهم في المغادرة بحثا عن رعاية طبية أو حماية دوليّة خارج غزة، مع ضمان حقهم في العودة.
· عند انتهاء الأعمال العدائيّة، السماح بدخول الوكالات الدوليّة والشركاء المحليين والمنظمات غير الحكوميّة لإجراء عمليات تقييم وتخطيط لإعادة الإعمار، بما في ذلك إزالة الذخائر غير المتفجرة، وتقديم الدعم لبدء إعادة الإعمار في أقرب وقت ممكن.
· الانخراط والعمل مع الوكالات الدوليّة والشركاء المحليين والمنظمات غير الحكوميّة لبناء الملاجئ وإسداء الخدمات لتسهيل عودة المدنيين المهجّرين إلى مواقع منازلهم قبل النزاع، لمن يرغب في العودة إليها.
· احترام حق جميع الفلسطينيين في غزة أو خارجها في العودة إلى ديارهم أو مناطقهم الأصلية في غزة أو أماكن أخرى في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة أو إسرائيل.
· التعاون مع المحكمة الجنائيّة الدوليّة، بما في ذلك الاستجابة لطلبات المساعدة والوصول.
· إنشاء آلية عادلة ويُمكن الوصول إليها ومستقلّة لجبر الضرر عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضدّ الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك التعويض، وإعادة الحقوق، والعدالة، وضمانات عدم التكرار، وضمان اعتبار حقوق الضحايا محوريّة في هذه العمليّة. ينبغي أن يشمل ذلك التعويض عن أيّ تهجير قسري أو تدمير غير قانوني للممتلكات.
· التعاون مع أي سجل دولي للأضرار لأغراض التعويضات، كما دعا إلى ذلك قرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة الصادر في 13 سبتمبر/أيلول 2024.
إلى مصر
· إبقاء الجانب المصري من معبر رفح مفتوحا للمدنيين الفلسطينيين الراغبين في ممارسة حقهم في مغادرة غزة، بما يتماشى مع الالتزام بعدم الإعادة القسرية المكفول في القانون العرفي الدولي، أي عدم طرد أو إعادة أي شخص إلى مكان قد يواجه فيه خطر الاضطهاد أو التعذيب أو أي ضرر جسيم آخر.
· ضمان تزويد الفلسطينيين الفارين من غزة بالخدمات الأساسيّة والدعم، بما في ذلك الحصول على الرعاية الصحيّة والتعليم والحماية، والمساعدة في تسهيل حركة الفلسطينيين الذين لهم مسارات قانونيّة إلى بلدان أخرى.
إلى جميع الحكومات
· الإدانة العلنيّة للتهجير القسري الذي تمارسه إسرائيل ضدّ المدنيين في غزة باعتباره جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانية، وكذلك الانتهاكات الأخرى للقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الجنائي الدولي من قبل السلطات الإسرائيليّة، وحثها على الكف فورا عن هذه الجرائم، والتعاون مع الهيئات القضائية وآليات التحقيق الدوليّة.
· زيادة الضغط العام والخاص على الحكومة الإسرائيليّة للكف عن انتهاك القانون الدولي الإنساني في إدارة الأعمال العدائيّة، والامتثال الكامل لمتطلباته والأوامر الملزمة والآراء الاستشاريّة لمحكمة العدل الدوليّة، وضمان دخول وتوزيع ما يكفي من المساعدات وتوفير الخدمات الأساسيّة في جميع أنحاء غزة. وفي هذا الصدد، يتوجّب النظر في مراجعة وتعليق الاتفاقيات الثنائيّة مع إسرائيل، مثل "اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل"، كما اقترحت حكومتا إسبانيا وإيرلندا، و"اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل".
· تعليق المساعدات العسكريّة ومبيعات الأسلحة إلى إسرائيل مادامت قواتها ترتكب انتهاكات للقانون الدولي الإنساني مع إفلات من العقاب.
· فرض تشريعات محليّة تقيّد نقل الأسلحة والمساعدات العسكريّة في حال انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.
· دعم المحكمة الجنائية الدوليّة بشكل علني، والحفاظ على استقلاليتها، وإدانة الجهود الرامية إلى ترهيبها أو التدخل في عملها، ومسؤوليها، والمتعاونين معها.
· حث حكومة إسرائيل على الموافقة على دخول مراقبين دوليين مستقلين، بما في ذلك من "الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة".
· فرض عقوبات محددة الهدف، بما يشمل حظر السفر وتجميد الأصول، على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين بشكل موثوق في الانتهاكات الخطيرة المستمرّة، بهدف وضع حدّ لها.
· معالجة إفلات السلطات الإسرائيلية والجماعات الفلسطينيّة المسلّحة من العقاب منذ أمد طويل عن الجرائم الخطيرة بموجب القانون الدولي، ودعم جبر ضرر جميع ضحايا الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
· دعم إنشاء سجلّ للأضرار الناجمة عن الأعمال الإسرائيليّة غير القانونية التي لحقت بالناس في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، بهدف احتساب التعويضات.
إلى الدول المانحة، والشركات، والأمم المتحدة والوكالات الإنسانية الأخرى، والمستثمرين
· عدم تقديم تمويلات أو خدمات عند وجود خطر حقيقي من أن تُساهم في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
· ضمان إجراء جميع عمليات التقييم وإعداد البرامج والتخطيط لإعادة الإعمار في غزة بالتعاون مع المجتمعات الفلسطينيّة هناك، بما يقتضيه إعمال حقوق السكان، وعدم استخدام الوضع الراهن كخط أساس نظرا لجسامة الأضرار الناتجة عن إغلاق إسرائيل لغزّة بشكل غير قانوني منذ 17 عاما.
إلى المدّعي العام للمحكمة الجنائيّة الدوليّة
· التحقيق في ما ترتكبه السلطات الإسرائيلية من تهجير قسري ومنع ممارسة الحق في العودة كجريمة ضدّ الإنسانيّة.
المنهجيّة
يستند هذا التقرير إلى مقابلات مع 39 مهجّرا فلسطينيا في غزة. 22 من الذين قابلناهم ذكور، و17 إناث. أجريت جميع المقابلات الـ39 بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويونيو/حزيران 2024.
أجريت المقابلات عبر الهاتف وفي أماكن خاصّة – إما بشكل فردي أو بحضور أفراد الأسرة المباشرين – مع توفر ضمانات السريّة. أخبرت الباحثة جميع الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات بالغرض منها وبطبيعتها الطوعيّة، والطرق التي ستستخدم بها هيومن رايتس ووتش المعلومات. تمّ إعلامهم جميعا بأنه يُمكنهم رفض الإجابة عن الأسئلة أو إنهاء المقابلة في أيّ وقت. كما أخبرتهم بأنّهم لن يحصلوا على أي أموال أو خدمات أو امتيازات شخصيّة أخرى لقاء المقابلات. أجريت المقابلات بالعربيّة مع الاستعانة بمترجم فوري أو بالإنغليزيّة إذا كان الشخص يُجيدها.
لحماية الخصوصيّة، استخدمنا أسماء مستعارة لجميع الأشخاص الذين قابلناهم، باستثناء اثنين ظهرا في فيديوهات لـ هيومن رايتس ووتش.
جمعت هيومن رايتس ووتش وحلّلت 184 أمر إخلاء نشرته الحكومة الإسرائيليّة بين 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و31 أغسطس/آب 2024 على حسابات رسميّة على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في شكل منشورات أسقطتها من الجوّ، أو تمّ إرسالها في رسائل نصيّة قصيرة إلى سكان غزة.[1] لا توجد بيانات رسميّة تؤكد عدد أوامر الإخلاء التي صدرت في الفترة التي يغطيها التقرير.
تشمل منصّات التواصل الاجتماعي الرسميّة التي تمت مراقبتها حسابَيْ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بالعربيّة العقيد أفيخاي أدرعي على إكس و"فيسبوك"، وحساب منسّق أعمال الحكومة في المناطق على فيسبوك، والهيئة العسكريّة المسؤولة عن تنسيق المساعدات الإنسانية في غزة. تُشكّل هذه الحسابات القنوات الرئيسيّة التي تمّ من خلالها نشر أوامر الإخلاء على مواقع التواصل الاجتماعي. بما أنّ حساب أدرعي على إكس نشر العدد الأكبر من أوامر الإخلاء، غالبا في وقت أبكر من نفس اليوم مقارنة بالحسابات الأخرى، فقد استخدمه الباحثون كقناة الاتصال الأساسيّة لتوثيق أوامر الإخلاء الصادرة عن إسرائيل، ومتى نُشِرت، ومدى التحذير الذي وجهته للناس، إن كان هناك تحذير أصلا، والأماكن التي طُلب من الناس الموجودين في مختلف المناطق الانتقال إليها.
بالإضافة إلى ذلك، بحثت هيومن رايتس ووتش عبر منصات التواصل الاجتماعي ومواقع وكالات الأنباء عن صور للمنشورات. لم نتمكّن من التحقق من جميع التواريخ المحددة، أو الوقت أو المواقع التي تم فيها إسقاط المناشير جوّا، لكنّنا عملنا على إيجاد مصدرين مختلفين على الأقل لنفس المنشور لمقارنة تواريخ نشره على الإنترنت والمكان الذي وردنا أنه ألقي فيه جوا. راجعت هيومن رايتس ووتش صورا للمناشير لتقييم صحتها من خلال التحقق من الخطوط والشعارات الموجودة فيها مطابقة لتلك التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، وحمّلتها على محرّكات البحث العكسي للصور للتحقق من أنها لم تُنشر على الانترنت قبل التاريخ الذي يُعتقد أنها صدرت فيه.
لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من جمع قائمة شاملة بجميع أوامر الإخلاء الإسرائيليّة بسبب العدد الكبير من المكالمات الهاتفيّة والرسائل النصيّة والرسائل الإذاعيّة والمناشير التي أسقطت جوا، وبسبب استحالة وصولنا إلى غزة.
حلّلت هيومن رايتس ووتش عشرات الصور عالية الدقة أو الدقيقة جدا التي التُقطت بالأقمار الصناعيّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لتوثيق مواقع وتوقيت وآثار العديد من الهجمات المضمّنة في هذا التقرير، والتحقق منها. مكّننا ذلك من رصد الأضرار التي لحقت بالمناطق السكنيّة والبنية التحتيّة المدنيّة في مختلف محافظات غزّة، ومتابعة تهجير المدنيين إلى مناطق مؤقتة وأكثر أمانا.
إضافة إلى ذلك، استخدمت هيومن رايتس ووتش قواعد بيانات جغرافيّة مكانية أنشأتها وكالات الأمم المتحدة وجماعات تُعنى الخرائط والمسح لتقييم حجم ومدى الخراب عبر الزمن.
حلّلت هيومن رايتس ووتش وتحققت من 19 صورة و19 فيديو نُشرت على الانترنت لهجمات في جميع أنحاء غزة. قارن الباحثون المواد البصرية بصور الأقمار الصناعيّة لتحديد المكان الذي سُجلت فيه بدقة، وقارنوا الظلال ومُحدّدات الوقت الأخرى لتحديد وقت التصوير. من خلال مراجعة كل زوايا الفيديوهات، توصّلت هيومن رايتس ووتش إلى مقتل تسعة أشخاص، منهم طفل واحد على الأقل وامرأة كبيرة في السن، بالإضافة إلى أشخاص آخرين أصيبوا أو لحقتهم أضرار بطرق مختلفة، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت المباني والمركبات والطرقات. في بعض الحالات، راجعت هيومن رايتس ووتش وتحققت من تقارير وتحقيقات إعلاميّة تضمّنت صورا وفيديوهات موجودة على الانترنت لتوثيق النتائج الواردة في هذا التقرير.
>
الخلفيّة
يُحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلّة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أيّ دولة أخرى، محتلّة أو غير محتلّة، أيّا كانت دواعيه.[2]
- اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 49.
الاحتلال الإسرائيلي
تحتلّ إسرائيل الضفة الغربيّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة، وغزّة – المعروفة بـ الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة – منذ 1967. خلافا لادعاءات الحكومة الإسرائيليّة، فإنّ انسحاب قواتها البريّة من غزة في 2005 لم يُنه الاحتلال.[3] في الحقيقة، باستثناء حدود غزة مع مصر،[4] حافظت إسرائيل باستمرار على سيطرة فعليّة على غزة، بما في ذلك مياهها الإقليميّة ومجالها الجوّي، وحركة الأشخاص والبضائع، والبنية التحتية التي تعتمد عليها غزة. حوّلت إسرائيل فعليّا غزّة إلى سجن مفتوح.[5]
إغلاق إسرائيل لغزة منذ 17 عاما تسبب في تدمير اقتصادها، وتفاقم التوترات الاجتماعيّة والسياسيّة، وعزل شعبها وتشتيته. حتى قبل اندلاع الأعمال العدائيّة الأخيرة، كانت آثار الإغلاق والقيود الأخرى مجتمعة سببا في ترسيخ نمط من الهيمنة والانتهاكات الإسرائيليّة التي ترقى إلى جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضدّ الإنسانيّة.[6]
حظر التهجير القسري بموجب القانون الدولي الإنساني واستثناء الإخلاء
تفرض المادة 49 من اتفاقيّة جنيف الرابعة، التي تُنظم تهجير الأشخاص المحميين في المناطق المحتلة أثناء الأعمال العدائيّة، قيودا على نقل الأشخاص قسرا من قبل سلطة الاحتلال أثناء النزاعات.[7] تحظر النقل القسري للمدنيين داخل منطقة ما، أو نفيهم من الأراضي المحتلّة. كلتا الفئتين من التهجير هذه تندرجان تحت حظر التهجير القسري.[8] تنصّ المادة 49 على:
يُحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلّة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أيّ دولة أخرى، محتلّة أو غير محتلّة، أيّا كانت دواعيه.[9]
يحصل التهجير القسري عندما يضطرّ الأفراد إلى الانتقال دون موافقتهم الحقيقية، عن طريق القوّة أو الإكراه، من المنطقة التي يتواجدون فيها بشكل قانوني.[10] والنقل القسري داخل إقليم ما لا يتطلّب بالضرورة استخدام القوّة الجسديّة؛ فهو يشمل التهديد أو الإكراه أو غيرهما من أشكال الإجبار التي لا تترك للضحايا أي خيار سوى المغادرة.[11]
في تقييمه للطريقة التي أجبِر بها الناس على الانتقال داخل غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، يستخدم هذا التقرير مصطلحي النقل القسري والتهجير القسري على نحو مترادف.
يُمكن لسلطة الاحتلال إجلاء المدنيين مؤقتا لأسباب أمنية أو عسكريّة قهريّة. لكن في هذه الحالة، تنصّ المادة 49 على أنّه يتعيّن على دولة الاحتلال:
· التحقق، إلى أقصى حدّ ممكن، من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين، ومن أن الانتقالات تجري في ظروف مرضيّة من وجهة السلامة والشروط الصحيّة والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة؛
· إعادة السكان المنقولين إلى مواطنهم بمجرّد توقف الأعمال العدائيّة؛
· عدم تهجير الأشخاص المحميين إلى خارج الأراضي المحتلّة، ما لم يتعذّر ذلك من الناحية الماديّة.[12]
مدى انطباق هذه الاستثناءات يخضع لدرجة من التأويل، خاصة وأنّ المادة 49 تنصّ على التزام سلطة الاحتلال بـ"أقصى حدّ ممكن عمليا" من تدابير الحماية المذكورة، لكن هناك بعض المبادئ التي أقرتها المحاكم والتعليقات على القانون الدولي الإنساني بوضوح.[13] ومنها وجوب أن يتمّ التهجير بطريقة تراعي إعادة السكّان بعد زوال التهديد، وتتماشى مع حماية حقوق المدنيين. إضافة إلى ذلك، إذا تمّ التهجير "في جوّ من الرعب"، ينفي هذا أيّ ادعاء بأنّ الإخلاء تمّ لأسباب عسكريّة قهريّة.[14]
تنصّ اتفاقيات جنيف بوضوح على أنّه يجب معاملة المدنيين الذين يتم إجلاؤهم بطريقة إنسانيّة، على أن تضمن سلطة الاحتلال سلامتهم وتزويدهم بالمأوى والغذاء والماء والرعاية الطبية بالشكل المناسب. يُضيف تعليق اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر ما يلي:
تهدف هذه الصياغة إلى تغطية احتمال إجراء إخلاء مؤقت بسرعة يكون ذي طابع موقت عندما يكون اتخاذ إجراء عاجل ضروريّا للغاية من أجل حماية السكان بشكل فعّال من خطر وشيك أو غير متوقع. وإذا كان من الضروري إطالة أمد الإخلاء نتيجة للعمليّات العسكريّة، ولم يكن من الممكن إعادة الأشخاص الذين تمّ إجلاؤهم إلى ديارهم خلال فترة قصيرة نسبيا، فإنّ من واجب سلطة الاحتلال أن توفر لهم السكن المناسب، وأن تتخذ التدابير اللازمة للتغذية والصرف الصحي.[15]
السبب العسكريّ القاهر
إسرائيل مُلزمة بموجب قوانين الحرب بالتصرّف بطريقة تُقلّل من الضرر اللاحق بالمدنيين. في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى غزة بـ "مدينة الشرّ"، التي قال إنّ إسرائيل ستحولها إلى "أنقاض"، وأعلن أنّ:
كلّ الأماكن التي تنشط فيها "حماس"، في مدينة الشرّ هذه، كل الأماكن التي تختبئ فيها وتعمل داخلها – سنحوّلها إلى مدن من أنقاض... أقول لسكّان غزة: اخرجوا من هناك الآن، لأننا سنتحرّك في كلّ مكان وبكلّ قوّة.[16]
في أوّل جلسة استماع في محكمة العدل الدولية بخصوص التدابير المؤقتة في 12 يناير/كانون الثاني 2024، صرّح المستشار القانوني لإسرائيل بأنّ "إسرائيل تخوض حرب دفاع ضدّ حماس، وليس ضدّ الشعب الفلسطيني".[17] ادّعى محام آخر يُمثل إسرائيل أنّ الضرر اللاحق بالمدنيين لا مفرّ منه في غزة، وأنّ حماس هي المسؤولة: "حرب المدن ستؤدّي دائما إلى وفيات وأضرار ودمار مأساوي، لكن في غزّة تتفاقم هذه النتائج غير المرغوب فيها لأنّها النتائج المرغوبة لحماس".[18]
بصرف النظر عن الأهداف المعلنة، فإنّ إسرائيل مُلزمة بقواعد القانون الدولي الإنساني في ما يتعلق بقواعد الأعمال العدائيّة. تُحدّد هذه القواعد التزامات كلّ طرف في النزاع وتأخذ في الاعتبار سلوك الخصم، بما في ذلك أثناء القتال في المراكز السكّانية. لا يُعتبر التهجير القسريّ نتيجة حتميّة للسلوك المشروع في الأعمال العدائيّة، بل هو انتهاك واضح لالتزامات إسرائيل ذاتها.
بموجب القانون الدولي الإنساني، في الظروف التي تعتزم فيها إسرائيل تهجير المدنيين، لا يجوز لها فعل ذلك إلا في الحالات التي تستطيع أن تثبت فيها أنّه ضروري لأمن المدنيين المعنيين أو "لضرورة عسكرية ". يُعرَّف هذا المفهوم بشكل ضيّق لمنع إساءة استخدامه، وضمان أن تكون أيّ من هذه الإجراءات مبرّرة بضرورات عسكريّة عاجلة ولا تتعارض مع مبادئ أخرى من القانون الدولي الإنساني تهدف إلى حماية المدنيين.
لوحظ أنّ "المحاكم وضعت سقفا عاليا لقبول الأسباب العسكريّة القهريّة كمبرّر، ولا تفعل ذلك إلا عندما تعتبر عمليات الإخلاء حيويّة لنجاح العمليات العسكريّة الأوسع نطاقا".[19] مثلا، قد يشمل ذلك الأوضاع التي ينبغي فيها إخلاء المناطق المدنيّة في لتجنّب الخسائر أثناء الأعمال القتاليّة المكثفة، أو لتطهير منطقة للقيام بعمليّة عسكريّة حاسمة، لكن وجود المدنيين قد يُعيق أهدافها العسكرية بشكل كبير. لكي يكون هناك سبب عسكريّ قهريّ، يجب أن يكون "أساسيا".[20]
راسلت هيومن رايتس ووتش الجيش الإسرائيلي لطلب معلومات عمّا إذا كان لدى إسرائيل سبب عسكري قهري أو سبب يتعلق بأمن السكان، لتهجير معظم سكّان غزة بشكل فوري، لكنها لم تتلق أيّ ردّ جوهري. في 10 أكتوبر/تشرين الأول، قال المتحدث العسكري الإسرائيلي الأميرال دانيال هاغاري في بيان عام: "بينما نوازن بين الدقة ونطاق الضرر، فإننا نركّز الآن على ما يسبّب أقصى قدر من الضرر"، وإنّ الهجمات الإسرائيليّة حتى الآن استخدمت بالفعل "آلاف الأطنان من الذخائر".[21]
في كلّ الأحوال، في كل حالة من حالات الهجوم والإخلاء، يتعيّن على القادة الإسرائيليين النظر في جميع بدائل التهجير، والحدّ من التأثير على المدنيين عندما يكون التهجير لا مفرّ منه.[22] يُذكر أنّ إسرائيل كانت تتمتع بسيطرة كاملة على توقيت القصف والتهجير المرتبط به. وبالنظر إلى أوامر الإخلاء الجماعي الأولى الصادرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مثلا، فإنّ وجود سبب عسكري قهريّ يتطلب من إسرائيل إثبات أنّ إخلاء أغلب سكان شمال غزة بشكل جماعي ليس فقط أمرا لا مفرّ منه، وإنما أيضا هو ضروري ويجب تنفيذه على الفور. كان لزاما على أصحاب القرار الإسرائيليين أن يتأكدوا من عدم وجود خيارات ممكنة لخطّة إخلاء مدروسة وأكثر تنظيما لتحقيق أهدافهم العسكريّة. من المهم أن نشير إلى أنّ الأمر لا يقتضي بالضرورة الإجلاء الجماعي لجميع سكان شمال غزة حتى ينطوي على عمل من أعمال التهجير القسري؛ فالنقل القسري، حتى لفرد واحد، قد يُشكّل جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني.
حتى لو كان هناك سبب عسكريّ قهريّ، فإنّ عمليات الإخلاء في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023 والعمليات اللاحقة ستظلّ بمثابة تهجير قسريّ بسبب الضرر الهائل الذي لحق بالسكان المدنيين في غزة، بما في ذلك غياب الجهود الهادفة لضمان تلبية احتياجات المهجرين من جانب إسرائيل. على العكس من ذلك، فإنّ سياسة إسرائيل المتمثلة في تجويع السكان[23] أثناء تهجيرهم تثبت عدم التزامها بحماية المدنيين، وهي دليل إضافي على أنّ أوامر الإخلاء ترقى إلى التهجير القسري.[24] ومما أدى إلى تفاقم تأثير الحصار الشامل لقطاع غزة على المهجّرين، خلال أكثر من عام من الأعمال العدائيّة، هي أوامر الجيش المتكررة للفلسطينيين بالانتقال إلى مناطق لم تكن البنية التحتية المدنية فيها مناسبة لعدد كبير من السكان، مثل "المنطقة الآمنة" في المواصي، وفي مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة سابقا قرب شاطئ البحر، أو حيث ألحقت جولات سابقة من القصف والقتال أضرارا وتدميرا واسعا للبنية التحتية المدنية، مما ترك المدنيين محتاجين كثيرا للماء والغذاء والرعاية الطبية والمأوى. بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع إسرائيل أن تزعم بشكل معقول أنها تمتثل للاستثناءات المسموح بها للضرورة العسكرية وسلامة المدنيين عندما تهجّر المدنيين قسرا بطريقة تتعارض مع إعادة السكان بعد زوال التهديد. كما سيوضح هذا التقرير، فإنّ الدمار الواسع في جميع أنحاء غزة يجعل العودة شبه مستحيلة، على الأقل في المستقبل المنظور.
أيّ تهجير واسع أو منهجي لا تبرّره أهداف عسكريّة قهريّة أو سلامة المدنيين يُعتبر تهجيرا قسريا، وإذا ثبت أنه واسع ومنهجي ويندرج ضمن سياسة دولة، فهو جريمة ضدّ الإنسانيّة.
تقييم لتهجير إسرائيل للسكان المدنيين
التحضير لأمر الإخلاء الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول
شنّت إسرائيل حملة عسكريّة ضخمة في غزة بعد ساعات من تنفيذ الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة، وبخاصة الجناح العسكري لحماس، هجمات على المدنيين الإسرائيليين في جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شملت ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة.[25] هاجمت إسرائيل مواقع في جميع أنحاء غزّة، من بيت لاهيا شمالا إلى رفح جنوبا. في 7 أكتوبر/تشرين الأول، صرّح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنّ البلاد "في حرب"،[26] وفي اليوم التالي أعلنت الحكومة رسميا "حالة الحرب".
في 9 أكتوبر/تشرين الأول، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك يوآف غالانت بحصار غزة بالكامل، قائلا: "لن يكون هناك لا كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق... نحن نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف وفقا لذلك".[27] تبع ذلك تصريح من وزير الطاقة آنذاك، يسرائيل كاتس، في نفس اليوم، مؤكدا الحصار الشديد على غزة وقطع السلع الأساسية اللازمة لعمل الخدمات العامة الأساسية لإعمال الحقوق: "أمرت بقطع إمدادات المياه على الفور من إسرائيل إلى غزة. تم قطع الكهرباء والوقود أمس. لن تبقى الأمور كما كانت".[28]
في 10 أكتوبر/تشرين الأول، قال غالانت عن خطط الحرب الإسرائيليّة:
هذه هي "داعش" غزة، وهذا ما نقاتل ضده. لن تعود غزة إلى ما كانت عليه. سنقضي على كل شيء، [حتى] إذا لم يستغرق الأمر يوما واحدا، فسيستغرق... أسابيع، أو حتى أشهر، وسنصل إلى جميع الأماكن.[29]
وصف الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش الرعب الذي شاهدوه حين تعرضت مبانيهم السكنية والمناطق المحيطة بها للهجوم. وتحدّثوا عن فرارهم وهم في حالة ذعر، وسط مشاهد الدمار والخراب، بعد أن عانوا هم أنفسهم أو شاهدوا أشخاصا يحملون إصابات، ورأوا أحباءهم يُقتلون. قال معظمهم إنهم شاهدوا الغارات الجوية والقصف وسمعوا أعمال عدائية خلفهم وأمامهم أثناء فرارهم. في ذلك الوقت، أعلن المتحدث العسكري الإسرائيلي الأميرال دانيال هاغاري عن نيتهم "استعادة الأمن لشعب إسرائيل"، قائلا إن "حماس تختبئ بين المدنيين في غزة، داخل منازل ومدارس ومستشفيات ومساجد غزة... ستستهدف إسرائيل إرهابيي حماس والجهاد الإسلامي أينما كانوا في غزة. سنفعل كل ما يتعيّن عليه فعله..."[30]
وصف أنس (48 عاما)، وهو رجل لديه إعاقة جسدية من حي الزيتون، جنوب الرمال وشمال وادي غزة، كيف تم قصف مبنى يقدّر أنه يبعد مترا واحدا عن منزله، وعلى بعد أمتار قليلة من سوق قريب، صباح يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول.[31] قال إنه لم يتلق تحذيرا قبل هذا الهجوم، الذي وقع قبل أمر الإخلاء العام في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023.[32] قال إنه اضطرّ إلى انتشال نفسه وعدد من أطفاله السبعة من تحت أنقاض منزله:
حصل ذلك حوالي الساعة 10:30 صباحا، وكانت زوجتي مستيقظة وتعدّ الإفطار، وكنا نقوم بأعمالنا اليوميّة، وفجأة سمعنا ضجيجا هائلا، وكان هناك الكثير من الغبار. لم أفهم ما الذي يحدث، ولم أستطع أن أرى الكثير بسبب الغبار... كان عليّ أن أخرج نفسي من تحت الأنقاض. ثم بدأت في سحب أطفالي من تحت الأنقاض.[33]
كان اثنان من أطفال أنس قد ذهبا إلى السوق في صباح ذلك اليوم لشراء الحلوى:
ذهبتُ أبحثُ عن طفلاي المفقودَيْن. بحثت في كل مكان، وسألت جيراني. كانت الفوضى تعمّ المكان، وكان الناس يخبرونني بأشياء مختلفة، وبعضهم قالوا لي إنهما تحت الأنقاض. استغرق الأمر مني من الساعة 10:30 صباحا حتى الساعة 1:00 من صباح اليوم التالي لتحديد مكانهما. علمت في النهاية أن بعض الناس أخذوا ابنتي إلى "مستشفى الشفاء". كانت لديها شظايا في عينيها، وساقها مصابة.[34]
بعد العثور على طفليه، لجأ أنس إلى منزل أحد أقاربه، على بعد أربعة شوارع من منزله. وبعد أربعة أيام، دمّر هجوم إسرائيلي آخر مبنى على بعد 200 متر من ذلك المكان، على حدّ قوله، ممّا أجبرهم على الفرار إلى مكان آخر.[35]
في الوقت الذي أصدرت فيه إسرائيل أول أمر إخلاء جماعي لها في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان المسؤولون الحكوميون قد صرّحوا أنهم ينوون فرض حصار كامل سيجعل المدنيين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الإنسانية. في 11 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن وزير الطاقة آنذاك كاتس أن إسرائيل "ستستمر في تشديد الحصار حتى القضاء على تهديد حماس لإسرائيل والعالم"، وقال:
لقد زوّدنا غزة لسنوات بالكهرباء والمياه والوقود. وبدلا من شُكرنا، أرسلوا آلاف الحيوانات البشرية لذبح وقتل واغتصاب وخطف الأطفال والنساء وكبار السن - ولهذا السبب قرّرنا وقف تدفق المياه والكهرباء والوقود، والآن انهارت محطة الطاقة المحلية الخاصة بهم، ولم يعد هناك كهرباء في غزة.[36]
أشارت باولا غافيريا بيتانكور، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالنازحين داخليا، إلى أن 423 ألف شخص أجبروا بالفعل على النزوح من منازلهم قبل 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023.[37]
أمر الإخلاء الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول ونظام الإخلاء الإسرائيلي
أمر الإخلاء الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول
في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمر الجيش الإسرائيلي جميع سكان شمال غزة، أي أكثر من مليون شخص، بالإخلاء إلى الجنوب.[38] صيغ هذا الأمر بعبارات عامة ومُلزمة، حيث أمر السكان بمغادرة منطقة شمال غزة بأكملها، وكان بمثابة أمر بالإخلاء وليس تحذيرا محدّدا من هجوم وشيك. أصدر الجيش الإسرائيلي هذا الأمر في شكل منشورات أسقِطت من الجو، ونُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، والتلفزيون، وفي رسائل نصية ومكالمات هاتفية.[39] قبل منتصف ليل 12 أكتوبر/تشرين الأول بقليل، أبلغ الجيش الإسرائيلي قادة فريق "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (أوتشا) و"إدارة الأمم المتحدة لشؤون السلامة والأمن في غزة" أن الإخلاء يجب أن يتم في غضون 24 ساعة.[40] لم تجد هيومن رايتس ووتش هذه الفترة الزمنية مذكورة في أوامر الإخلاء الأخرى الصادرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. قال المتحدث العسكري الإسرائيلي المقدم بيتر ليرنر لـ "سي إن إن" إن أي موعد نهائي "قد ينقضي".[41] بررت إسرائيل أمر الإخلاء الجماعي بأنه من أجل سلامة السكان المدنيين، وذكرت أن السبب العسكري لتهجير السكان ارتكز إلى وجود مقاتلي حماس والبنية التحتية العسكرية لحماس، بما في ذلك شبكة الأنفاق الواسعة، والتي حدّدها الجيش الإسرائيلي على أنها تهديد.[42] زعم أمر الإخلاء الإسرائيلي أن مقاتلي حماس كانوا يستخدمون المناطق المدنية لأغراض عسكرية، وهو ما استلزم تهجير المدنيين لتقليل الخسائر أثناء العمليّات العسكريّة.
لكن في نفس اليوم، صرّح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ:
هناك أمة كاملة تتحمل المسؤولية. ليس صحيحا القول أن المدنيين غير واعين وغير ضالعين في الأمر. هذا غير صحيح على الإطلاق كان بإمكانهم الانتفاضة ومحاربة ذلك النظام الشرّير...[43]
أصدر الأمين العام للأمم المتحدة البيان التالي الذي دعا فيه السلطات الإسرائيليّة إلى إلغاء الأمر:
الأمر الذي أصدره جيش الدفاع الإسرائيلي ليلة الخميس للفلسطينيين في غزة بإخلاء منازلهم في غضون 24 ساعة أمرا خطيرا ومقلقا للغاية. أي طلب إخلاء جماعي في مدة وجيزة للغاية يُمكن أن تكون له عواقب إنسانيّة مدمرة. يؤثر أمر الإجلاء على ما يقرب من 1.1 مليون شخص. وهو يستهدف إقليما يتعرض للقصف الجوي ومحاصرا بالفعل، بدون وقود أو كهرباء أو مياه أو غذاء…. وبصفتي أمينا اعام للأمم المتحدة، أناشد السلطات الإسرائيلية أن تعيد النظر في هذا القرار.[44]
أدان المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالنازحين داخليا أمر الإخلاء باعتباره جريمة محتملة ضدّ الإنسانيّة وانتهاكا للقانون الإنساني الدولي:
التهجير القسري للسكان يُشكّل جريمة ضدّ الإنسانيّة، والعقاب الجماعي محظور بموجب القانون الدولي الإنساني...
من غير المعقول أن يتمكن أكثر من نصف سكان غزة من المرور عبر منطقة حرب نشطة دون عواقب إنسانية مدمرة، خاصة مع حرمانهم من السلع والخدمات الأساسية.[45]
نظام الإخلاء الإسرائيلي
الأمر الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول يندرج ضمن ما أسمته هيومن رايتس ووتش "نظام الإخلاء"، الذي يجمع بين أوامر إخلاء وتوجيهات إلى الفلسطينيين في غزة بالانتقال من منازلهم وأماكن اللجوء الأخرى إلى مناطق الإخلاء، والتحذيرات من تعرّض مناطق أو مبان محدّدة للهجوم.[46]
بموجب الدولي القانون الإنساني، يتم التعامل مع التحذيرات المسبقة بشكل مختلف عن أوامر الإخلاء. يتعلّق التحذير بالتزام يفرضه القانون الدولي الإنساني يتمثل في إعطاء تحذير مسبق وفعال بشأن الهجمات الوشيكة التي قد تؤثر على السكان المدنيين، إلا إذا كان الوضع لا يسمح بذلك.[47] الغرض الأساسي من التحذيرات المُسبقة هو منح للمدنيين وقتا كافيا لمغادرة المنطقة أو الاختباء للحدّ من الخسائر في صفوف المدنيين والأضرار التي تلحق بالأعيان المدنية. تُصدَر التحذيرات المسبقة عادة قبل وقت قصير من تنفيذ الهجوم، على افتراض أن الوضع التكتيكي يسمح بمثل هذا التحذير دون المساس بالعملية العسكرية.
يُعتبر أمر الإخلاء القانوني استثناء من الحظر العام المفروض على تهجير الناس تعسفا من منازلهم، وعادة ما تُصدره سلطة عسكرية أو حكومية لإبعاد المدنيين عن مناطق معيّنة، حيث يوجد خطر كبير ناتج عن النزاع. يمكن إصدار هذه الأوامر تحسبا لعمليات عسكرية قد تستمر لفترة أطول أو استجابة لتهديدات مستمرّة أو متوقعة، مثل القصف المستمر أو أشكال أخرى من الأعمال العدائية. تهدف أوامر الإخلاء القانونية إلى حماية السكان المدنيين من خلال نقلهم إلى أماكن أكثر أمانا. هناك التزام قانوني يقع على أطراف النزاع المسلح بإبعاد المدنيين والأعيان المدنية الخاضعة "لسيطرتهم" عن محيط الأهداف العسكرية، بالقدر الذي يكون فيه ذلك ممكنا.[48]
على هذا النحو، تكون التحذيرات المُسبقة مرتبطة بهجمات وشيكة وتهدف إلى الحدّ من الضرر الناجم عن عملية محدّدة. من ناحية أخرى، تكون أوامر الإخلاء أوسع نطاقا، وتنطوي على إعادة توطين بسبب تهديدات مستمرة أو كبيرة. عادة ما تكون التحذيرات المسبقة فورية وقصيرة الأجل، ومرتبطة بإجراءات عسكرية محدّدة. في المقابل، قد تنطوي أوامر الإخلاء على تهجير أطول أمدا ولا ترتبط بالضرورة بعمل محدّد واحد. رغم هذا الارتباط، إلا أنّ كليهما يتوافق مع معايير قانونية مختلفة، ويضع قانون الإخلاء معيارا أعلى بكثير مقارنة بالالتزام بتقديم تحذير فعّال. كما يأخذ أمر الإخلاء شكل التعليمات.
إسرائيل نفسها زعمت أنّ ممارساتها تشكل جزءا من جهد إنساني متماسك لحماية أرواح المدنيين، وشرحت ذلك في مرافعتها الشفوية في جلسات التدابير المؤقتة لمحكمة العدل الدولية في 12 يناير/كانون الثاني 2024:
جيش الدفاع الإسرائيلي لديه "وحدة تخفيف الضرر اللاحق بالمدنيين" للقيام بهذه المهمّة، وهي تعمل بدوام كامل لإصدار إشعارات مسبقة في المناطق التي يعتزم جيش الدفاع الإسرائيلي تكثيف أنشطته فيها، وتنسيق طرق انتقال المدنيين وتأمين هذه الطرق. وقد وضعت هذه الوحدة خريطة مفصّلة بحيث يمكن إخلاء أماكن معينة مؤقتًا، بدلا من إخلاء مناطق بأكملها... كما يفرض جيش الدفاع الإسرائيلي فترات توقف في عملياته للسماح للمدنيين بالتنقل. يفعل ذلك رغم من أنّ حماس لا توافق على القيام بنفس الشيء، بل إنها هاجمت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي وهي بصدد تأمين ممرات إنسانية... يستخدم جيش الدفاع الإسرائيلي مجموعة من التدابير الإضافية وفقا للالتزام باتخاذ تدابير احترازية بموجب القانون الدولي الإنساني. مثلا، يقدّم تحذيرات مسبقة فعّالة كلما سمحت الظروف بذلك. حتى الآن، ألقى الجيش الإسرائيلي ملايين المنشورات على المناطق التي من المتوقع أن تتعرض لهجمات، مع تعليمات بالإخلاء وكيفية القيام بذلك، وبث رسائل لا حصر لها عبر الراديو ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي تحذر المدنيين بضرورة الابتعاد عن عمليات حماس، وأجرى أكثر من 70 ألف مكالمة هاتفية فردية، بما في ذلك إلى سكان المناطق المستهدفة، محذرا إياهم من هجمات وشيكة.[49]
رغم أن هيومن رايتس ووتش لاحظت أنّ أوامر الإخلاء والتحذيرات تندرج ضمن نظام الإخلاء الإسرائيلي، إلاّ أنّ التحقيق في الهجمات الفرديّة التي وقعت في غزة وشرعيتها، وفعالية التحذيرات التي وُجهت إلى الناس في المواقع التي تعرضت للهجوم، يتجاوز نطاق هذا التقرير. يركّز هذا التقرير على تقييم أوامر الإخلاء التي أصدرتها إسرائيل.[50]
كما أشرنا سابقا، لا يمكن تبرير تهجير الفلسطينيين باعتباره إخلاء قانونيا إلا إذا كانت هناك أسباب عسكرية قهريّة، أو إذا كان أمن المدنيين يتطلب ذلك. يتعين على إسرائيل أيضا أن تضمن توفر تدابير الحماية للتهجير، وأن يتم التهجير بطريقة تتفق مع إعادة السكان بعد زوال التهديد، ومع حماية حقوق الإنسان للمدنيين.
يقدّم القسم التالي تحليلا لـ هيومن رايتس ووتش يُظهِر أن نظام الإخلاء أصدر تعليمات من خلال وسائل غير موثوقة وغير واضحة وغير دقيقة ومتناقضة، مما صعّب للغاية على المدنيين معرفة المكان الذي عليهم الانتقال إليه ومتى يفعلون ذلك. وفي الحالات التي أشارت فيها أوامر الإخلاء إلى وجهة أو اتجاه للحركة، لم تمنح أكثر من مليون شخص سوى وقت قصير للغاية للتنقل عبر منطقة صراع نشطة بالفعل؛ وكانت الطرق والوجهات غير آمنة في كثير من الأحيان. لم يكن هناك مكان آمن في غزة، بل إنّ هذه الوجهات والطرق تعرّضت لهجمات أثناء الأعمال العدائية.
لم تعتمد إسرائيل أي شكل من أشكال الحماية. بدلا من ذلك، عمدت من خلال التدمير الواسع للموارد الإنسانية، مثل المستشفيات والمخابز والأراضي الزراعية، وسياستها المعلنة بقطع حصول الناس في غزة على الموارد الأساسية لإعمال حقوقهم، مثل المياه والكهرباء، إلى تقليص القدرة المحدودة بالفعل للمدنيين الفلسطينيين في غزة على تلبية احتياجاتهم، ممّا أدى إلى أزمة إنسانية صار الأطفال فيها يموتون من الجوع.[51]
التدمير الواسع الذي نفذته إسرائيل للبنية التحتية المدنيّة، بما في ذلك المناطق السكنيّة والأراضي الزراعيّة والمباني الثقافيّة، الذي جعل أجزاء كبيرة من غزّة غير صالحة للسكن، يتعارض بشكل مباشر مع التزاماتها بتنفيذ عملياتها بطريقة تتفق مع عودة المدنيين.
نظام الإخلاء الإسرائيلي الوخيم
رغم أنّ إسرائيل زعمت أنّ "أوامر الإخلاء" التي أصدرتها كانت محاولة لحماية المدنيين الفلسطينيين، إلا أنّ أبحاثنا كشفت أنّ "التدابير الإنسانيّة" التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي لم توفر حماية للسكان المدنيين الفلسطينيين... وإنما تسببت في زيادة النقل القسري والتهجير الجماعي للفلسطينيين.[52]
—"فورنسك أركيتكتشر"، "العنف الإنساني"
يتناول هذا القسم كيف أن نظام الإخلاء الإسرائيلي لم ينقل المدنيين الفلسطينيين في ظروف تتوفر فيها "السلامة" كما يقتضي القانون الدولي الإنساني.[53]
استخدمت السلطات الإسرائيلية منصّات مختلفة لنشر أوامر الإخلاء. يمكن تصنيف هذه الأوامر إلى فئتين: الأولى، الأوامر التي نُشِرت لتُستلم دون جهد، مثل المنشورات التي تُسقَط جوا، أو المكالمات الهاتفية، أو الرسائل النصية القصيرة، أو مكبّرات الصوت للطائرات المسيّرة؛ والثانية، الأوامر التي كان على الناس البحث عنها بنشاط من خلال التحقق من المواقع الإلكترونية أو منصات التواصل الاجتماعي أو البث التلفزيوني والإذاعي.
تضمّن أمر الإخلاء الشامل، الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، توجيها أساسيا واحدا لسكان شمال غزة: اذهبوا جنوبا. نشرت السلطات الإسرائيلية هذا الأمر على حساباتها الرسمية على وسائل لتواصل الاجتماعي وفي البرامج التلفزيونية الرسمية، وفي المنشورات التي اُسقِطت جوا، وعبر المكالمات الهاتفية والرسائل النصية القصيرة.[54] تضمنت المنشورات التي أسقِطت جوا خريطة بدائية لغزة تشير إلى الأماكن التي يجب أن ينتقل إليها المدنيون.[55]
ثم أصبحت أوامر الإخلاء اللاحقة أكثر تحديدا، حيث دعت إلى إخلاء أحياء معيّنة، غالبا إلى جانب خرائط بها أسهم تشير إلى الاتجاه الذي يجب على المدنيين الفرار عبره. لكن بالنظر إلى حجم ومقياس الخرائط التي نُشِرت، لم يكن من الممكن دائما للقارئ أن يعرف ما إذا كان في منطقة يشملها الإخلاء.
في 1 ديسمبر/كانون الأول، نشر الجيش الإسرائيلي خريطة على موقعه الإلكتروني، يمكن الوصول إليها باستخدام رمز الاستجابة السريعة (QR code) من هاتف خلوي، قسّمت غزة إلى شبكة من 620 بلوكا مرقّما، ويُمكن للمستخدم أن يعرف في أيّ من هذه البلوكات هو موجود، باستخدام خدمات تحديد الموقع على هاتفه، على افتراض أن لديه هاتفا به شحن بطارية كاف واتصال بالإنترنت.[56] ثم واصل الجيش الإسرائيلي بثّ مناشيره ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي مع تحديد البلوكات المقرر إخلاؤها.[57]
إعادة رسم خريطة البلوكات التي نشرها في الأصل الجيش الإسرائيلي في 1 ديسمبر/كانون الأول 2023
في الفترة الممتدة من أمر الإخلاء الأول في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 31 أغسطس/آب 2024، جمعت هيومن رايتس ووتش وحلّلت 184 أمر إخلاء نشرتها الحكومة الإسرائيلية على حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي،[58] أو أسقطتها جوا في شكل مناشير، أو أرسلتها عبر الرسائل النصية القصيرة إلى سكان غزة.
في 13 مارس 2024، أصدر "فورنسيك أركيتكتشر" و"مركز الميزان لحقوق الإنسان" و"مؤسسة الحق" تقريرا مشتركا يحلّل نظام الإخلاء الإسرائيلي من 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 16 فبراير/شباط 2024 ووجدوا أنّه "خلق حالة من الارتباك والذعر من خلال تقديم تعليمات وصِيَغ وأسماء وبروتوكولات اتصال غير واضحة، وغير صحيحة، وغير متسقة، ومطاطة، وغير محددة، ومتضاربة، ولا يُمكن الوصول إليها".[59]
تدعم أبحاث هيومن رايتس ووتش، المقدمة أدناه، هذه النتائج. تُظهر نتائجنا أن المعلومات الخاطئة كانت طاغية على هذه الأوامر، وكانت الأوامر غالبا غير دقيقة أو غير متسقة عبر المنصّات، وزرعت الارتباك حول توقيت ومكان وطريقة الإخلاء. تسبّب هذا في حالة من الخوف والفوضى، غالبا ما جعلت الفلسطينيين عُرضة للخطر.
الاعتماد على الاتصال بالشبكة
في 1 ديسمبر/كانون الأول، وهو اليوم الذي نُشرت فيه الخريطة على الإنترنت، لاحظ أوتشا أن "من غير الواضح كيف يمكن لسكان غزة الوصول إلى الخريطة وسط انقطاع الكهرباء وانقطاع الاتصالات بشكل متكرر".[60]
بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مباشرة تقريبا، بدأت خدمات الهاتف والإنترنت في غزة تشهد انقطاعات كبيرة.[61] تنجم الانقطاعات المستمرة في شبكات الاتصالات عن الأضرار التي لحقت بالبنية الأساسية للاتصالات، وانقطاع الكهرباء، والحصار المفروض على دخول الوقود، وعمليات قطع متعمدة مفترضة من خلال التدابير الفنية التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية.[62]
تدهورت خدمات الاتصالات في غزة بشكل كبير منذ بدء الأعمال العدائية في 7 أكتوبر/تشرين الأول.[63] حدثت انقطاعات واسعة للهاتف والإنترنت في غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسط قصف إسرائيلي منسّق، مما أدّى إلى قطع اتصال 2.2 مليون نسمة بالكامل تقريبا بالعالم الخارجي.[64]
منذ بداية النزاع، عانت غزة من انقطاعات متعددة للاتصالات، عادة ما تكون نتيجة لهجمات تؤثر على البنية التحتية للاتصالات.[65] استمرّ أطول انقطاع لمدة أسبوع في يناير/كانون الثاني 2024 عندما توقفت جميع خدمات الاتصالات في جميع أنحاء غزة. في 22 يناير/كانون الثاني 2024، نشرت شركة "بالتل"، إحدى أكبر شركات الاتصالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة وواحدة من مقدمي الخدمة القليلين المتبقين في غزة، على منصة إكس أن خدمات الاتصالات في غزة معطلة للمرة العاشرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.[66] استمرت فترات انقطاع خدمات الاتصالات هذه بين يوم واحد وأسبوع. خلال هذه الانقطاعات، واصل الجيش الإسرائيلي إصدار أوامر الإخلاء عبر الإنترنت.
أوجه القصور في أوامر الإخلاء عبر الانترنت
وجدت هيومن رايتس ووتش أنّ المعلومات الواردة في أوامر الإخلاء المنشورة على الانترنت كانت في بعض الأحيان غير دقيقة، وفي حالات أخرى تمّ تغييرها طيلة اليوم، ما استوجب الاتصال المستمرّ والتحقق من المعلومات وإعادة التحقق منها.
وجدت هيومن رايتس ووتش تناقضات متعددة بين قنوات التواصل الاجتماعي الرئيسية الثلاثة التي استخدمتها السلطات الإسرائيلية لنشر معلومات الإخلاء.[67] مثلا، صدر أمر إخلاء في 21 أكتوبر/تشرين الأول يطلب من سكان خربة خزاعة الانتقال إلى المواصي على حساب فيسبوك الخاص بمنسق أعمال الحكومة في المناطق فقط، وليس على منصتي التواصل الاجتماعي الأخريين.[68] كان هذا الأمر الوحيد المنشور على الإنترنت الموجّه إلى سكّان جنوب غزة في وقت استهدفت فيه تعليمات الإخلاء حصريّا سكّان الشمال.
حدّدت هيومن رايتس ووتش 58 مناسبة نُشر فيها أمر إخلاء على إحدى قنوات التواصل الاجتماعي ولم يُنشر على إحدى القناتين الأخريين أو كلتيهما.[69] تضمّنت عشرة من هذه المنشورات معلومات بالغة الأهمية، مثل الإعلان عن حي أو مبنى جديد تقرر إخلاؤه.[70] من الأمثلة على ذلك إعلان صفحة مكتب تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق على فيسبوك في 21 أكتوبر/تشرين الأول، الذي حذر من أنّ التواجد داخل "منطقة الحرب" التي تم تحديدها حديثا على بعد ألف متر من السياج الحدودي "يعرّض حياة صاحبه للخطر".[71] استغرق الأمر أربعة أيام أخرى ليُنشر هذا الإعلان على حساب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بالعربيّة على منصّة إكس،[72] ولم يُنشر على حسابه على فيسبوك.
أخطاء وغموض بشأن الأماكن التي يتعيّن على الناس إخلاؤها
إضافة إلى المشاكل التي رافقت نشر أوامر الإخلاء المذكورة أعلاه، وجدت هيومن رايتس ووتش 16 حالة تضمّنت فيها رسائل الإخلاء تعليمات منقوصة أو متناقضة بخصوص المواقع التي كان يتعيّن على الناس إخلاؤها أو التوجه إليها، أو كانت العلامات أو الكلمات الموجودة في الخرائط المرفقة بها غير متوافقة مع النصّ.[73]
في 12 حالة، هناك أكثر من خطأ واحد في نفس أمر الإخلاء.[74]
في 3 ديسمبر/كانون الأول، نشر الجيش الإسرائيلي أمر إخلاء على إكس في الساعة 6:36 صباحا، تضمّن معلومات تفصيلية وخريطة تظهر الأماكن التي يتعيّن على السكان الموجودين في بلوكات معيّنة في خان يونس التوجه إليها.[75] بعد تسع ساعات تقريبا، في الساعة 2:58 ظهرا، صحّح الجيش الإسرائيلي المنشور بخريطة جديدة تُظهر منطقة أخرى يتعيّن على المدنيين التوجه إليها.[76] لكن، ظلت أخطاء أخرى في نفس أمر الإخلاء الصادر في 3 ديسمبر/كانون الأول دون تصحيح. أمر النصّ المصاحب للمنشور بإخلاء السكان الموجودين في البلوكات 36 و38-54 و219-221، لكن العنوان على الخريطة تضمّن قائمة بلوكات بأرقام مختلفة: 36 و47-54 و219-221، مما يعني حذف تسعة بلوكات. بالإضافة إلى ذلك، تم التركيز على البلوكات 55 و99 و104 على الخريطة رغم أنها غير مدرجة في عنوان المنشور أو النصّ المصاحب له.[77]
وفقا لأرقام السكّان المدرجة سهوًا في الكود المصدر (source code) لصفحة الجيش الإسرائيلي المخصّصة للإخلاء، كما ذكرت هيومن رايتس ووتش سابقا، فإنّ البلوكات الخاصة بخان يونس المدرجة في عنوان الخريطة فيها عدد سكان إجمالي يقدّر بـ86,177 شخصا.[78] استنادا إلى هذه البيانات، هناك حوالي 23,452 شخصا في البلوكات التسعة المحذوفة في وقت جمع البيانات. كما تم التركيز من خلال التظليل على ثلاثة بلوكات إضافية على خريطة الإخلاء لم يتم تضمينها في التسمية التوضيحية أو العنوان، وتمثل 8,137 شخصا آخرين. لا تعرف هيومن رايتس ووتش مدى حداثة أو دقة بيانات السكان هذه. لكن، وفقا لهذه الأرقام، هذا يعني أن أكثر من 31 ألف شخص لم يتلقوا أمر إخلاء شامل. وفقا للأمم المتحدة، فإن المنطقة المخصصة للإخلاء تغطي 20 % من خان يونس وكان بها ما يقرب من 117 ألف نسمة.[79]
في 20 حالة، لم تغطّ المناطق المظللة على الخرائط بشكل دقيق البلوكات التي يجب إخلاؤها، وتم تظليل بعض البلوكات الأخرى جزئيا فقط، مما جعل من غير الواضح من عليه الإخلاء.[80]
في 1 يوليو/تموز، أصدر الجيش الإسرائيلي أمرا بإخلاء أحياء في شرق خان يونس ورفح، بما في ذلك الفخاري، حيث يقع المستشفى الأوروبي،[81] أحد أكبر المستشفيات في جنوب غزة. في صباح اليوم التالي، أصدر الجيش الإسرائيلي[82] ومنسّق أعمال الحكومة في المناطق[83] توضيحا بالإنجليزية على حساباتهم على إكس يُفيد بأن المستشفى غير خاضع للإخلاء. كما حدّثت صفحة منسق أعمال الحكومة في المناطق بالعربية على فيسبوك منشور أمر الإخلاء ليشمل التوضيح الجديد.[84] لكن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بالعربية لم ينشر أيّ توضيحات على أي من حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. أصدر الجيش الإسرائيلي هذه التوضيحات بعد ساعات من نشر المنظمات الإنسانيّة لمناشدات لإلغاء أمر إخلاء المستشفى، وانتشرت تقارير إخبارية عبر الإنترنت عن إخلاء المستشفى من المرضى والموظفين والمعدات الأساسيّة، مثلا، على متن شاحنات كبيرة.[85] وبحلول الوقت الذي صدرت فيه التوضيحات، كان الموظفون والمرضى قد بدأوا بالفعل في الفرار من المستشفى.[86]
أشار تقرير في "هآرتس" الإسرائيلية إلى أن الخريطة المرفقة بأمر الإخلاء الصادر في 3 ديسمبر/كانون الأول قد تم تدويرها على نحو غير معتاد، حيث تم وضع الشمال على اليسار، مما يجعل الخريطة "مضللة".[87] كما وجدت هيومن رايتس ووتش أنّ خرائط البلوكات اللاحقة التي أصدرها الجيش الإسرائيلي تم تدويرها بنفس الطريقة ولم تتضمن أي منها سهما إلى الشمال، وهو أمر شائع في الخرائط من أجل توضيح اتجاهها للمستخدم. في غياب السهم الذي يشير إلى الشمال، يفترض مستخدم الخريطة عادة أنّ الجزء العلوي من الخريطة هو الشمال. لكن بما أنّ تدوير الخرائط كان مشوشا، فإنّ هذا الافتراض يصير غير صالح، مما يؤدّى إلى مزيد من الارتباك حول الاتجاه الذي يجب أن يفرّ إليه المدنيون من أجل سلامتهم. مثلا، يحتوي أمر الإخلاء الصادر في 27 يونيو/حزيران على سهم يشير إلى منطقة الإخلاء على الخريطة ويأمر الناس بالتحرك جنوبا. لكن في غياب السهم الذي يشير إلى الشمال، قد يفهم المستخدم التعليمات بالتحرك غربا - حيث يشير السهم إلى يسار الخريطة - والذي يُقرأ عادة على أنه الغرب على الخريطة التقليدية.[88]
بعد يوم واحد من إصدار الجيش الإسرائيلي للخريطة الإلكترونيّة للبلوكات، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2023، أصدر أيضا "خريطة تعتمد على الأحياء" على موقعه على الانترنت، لكنّه أزالها في وقت لاحق من نفس اليوم.[89]
في وقت آخر من يوم 2 ديسمبر/كانون الأول أيضا، نشر المتحدث العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، أمر إخلاء على إكس لسكان جنوب غزة وشمالها.[90] جاء الأمر مصحوبا بخمس خرائط؛ ركّزت كل منها على بلوكات مختلفة تم توجيه سكانها إلى الإخلاء، مع وضع أسهم تُحدّد لهم المكان الذي يتعيّن عليهم الذهاب إليه. واحدة من المناطق التي تمّ تظليلها وأُمر الناسُ بإخلائها هي حي الفخاري (صدرت هذه التعليمات بالرسم على الخريطة ولم تُذكر بدقة في النصّ المصاحب).[91] لكن، بعد أقل من 24 ساعة، في 3 و4 ديسمبر/كانون الأول، أدرج نفس حساب إكس ملجأ معروفا للنازحين في الفخاري كواحدة من المناطق التي يجب على الناس الانتقال إليها من أجل سلامتهم.[92] وعلى نحو مماثل، أصدر الجيش الإسرائيلي في 7 يوليو/تموز تعليمات لسكان غزة بالإخلاء إلى "ملاجئ معروفة" في غرب مدينة غزة.[93] وبعد أقل من 24 ساعة، في 8 يوليو/تموز، أمر الجيش الإسرائيلي هذه المرّة الأحياء الواقعة في غرب مدينة غزة بالإخلاء إلى ملاجئ في دير البلح في الجنوب.[94]
أشار تحليل نشرته سي إن إن إلى عيوب أخرى في أمر الإخلاء المذكور أعلاه، الذي نشره أفيخاي أدرعي في 2 ديسمبر/كانون الأول، وتناقضات في التوجيهات العسكرية الإسرائيلية.[95] يُظهر تحليل سي إن إن أنّ بعض البلوكات، مثل البلوكين 720 و717، تُقدَّم في نفس الوقت على أنها آمنة وغير آمنة على الخريطتين المضمنتين في نفس المنشور الذي يدعو سكان شمال غزة إلى إخلاء المكان.
أخطاء وغموض بشأن توقيت الإخلاء
راجعت هيومن رايتس ووتش الفترات الزمنيّة الممنوحة لفلسطينيي غزّة للإخلاء، ووجدت تناقضات جعلت أوامر الإخلاء غير متوقعة ومُربكة.
في المجموع، وجدت هيومن رايتس ووتش في 47 من أوامر الإخلاء التي حللتها فترات زمنية يتعين على المدنيين الإخلاء في خلالها، عادة بين الساعة 10 صباحا و2 ظهرا أو 10 صباحا و4 ظهرا.[96] وشملت هذه 46 أمرا على إكس وفيسبوك، وواحدا في منشور تم إسقاطه جوا. في بداية النزاع، غالبا ما كانت الأوامر تُحدّد فترات زمنية للإخلاء، لكن في المراحل اللاحقة، غالبا ما تم إغفال تحديد هذه الفترات.[97] باستثناء فترة الـ24 ساعة التي تم تقديمها للأمم المتحدة في 12 أكتوبر/تشرين الأول،[98] فإن أطول فترة زمنية وجدتها هيومن رايتس ووتش كانت ليلة 5 نوفمبر/تشرين الثاني، التي بلغت 10 ساعات و25 دقيقة،[99] وكانت أقصر فترة زمنية ساعتين و53 دقيقة، صدرت بعد أن بدأت فترة الإخلاء بالفعل في 13 نوفمبر/تشرين الثاني.[100] من بين أوامر الإخلاء الـ47 التي تم تحليلها، تم نشر 26 أمرا على الإنترنت بعد أن بدأت فترة الإخلاء فعلا.[101]
كما تضمنت أوامر الإخلاء فترات زمنية غير متسقة ومتغيرة، مما يُصعّب على الناس معرفة الوقت الذي يكون فيه الانتقال آمنا، والتخطيط للأيام التالية. مثلا، صدرت أوامر إخلاء في 13[102] و14[103] و15[104] أكتوبر/تشرين الأول تأمر سكّان مدينة غزّة بالانتقال جنوبا عبر شارع صلاح الدين، وهو شريان رئيسي من الشمال إلى الجنوب، وأمرتهم بالخروج من هذا الشارع على الساعة 8 مساء و4 ظهرا و1 ظهرا، على التوالي.
وقت غير كاف للاستجابة لأوامر الإخلاء
يدعو جيش الدفاع الإسرائيلي كافة سكّان مدينة غزّة إخلاء منازلهم والتوجه جنوبا... والتواجد جنوب وادي غزة.
—أمر إخلاء إسرائيلي، 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023
لا يُخصّص القانون الدولي الإنساني مدّة زمنيّة معيّنة يجب أن يمنحها أمر الإخلاء للمدنيين لمغادرة منطقة ما، لكن من المعقول أن نفترض أنّه كان ينبغي توجيه أوامر مغادرة إلى فلسطينيي غزّة في الوقت المناسب، بحيث يُمكن لهم تنفيذها في غضون المُهلة الزمنيّة المُحدّدة، ممّا يُتيح المدنيين الوقت الكافي للإخلاء بشكل آمن.
في 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، أصدرت القوات الإسرائيلية أمر إخلاء عام لجميع السّكان الموجودين شمال وادي غزة. لكن قبل إصدار أمر الإخلاء هذا، كان عدد القتلى في غزة قد بلغ حتى ذلك اليوم 1,900 شخص، منهم 583 طفلا على الأقلّ، بسبب حملة الغارات الجويّة الإسرائيليّة المكثّفة، وفقا لوزارة الصحّة في غزة.[105] أصدرت القوّات الإسرائيلية أيضا أوامر إخلاء إضافية في مناطق مختلفة من شمال غزة في نفس ذلك اليوم، بمُهل أقصر أو فوريّة. لكن في حالات متعددة، قال شهود من مناطق مختلفة في شمال غزة لـ هيومن رايتس ووتش إنّ الهجمات الإسرائيلية بدأت في مناطقهم إمّا قبل تلقيهم أوامر الإخلاء هذه، أو في غضون ساعات من تلقيها، وأنّ القصف جعل الإخلاء أمرا مستحيلا، بغض النظر عمّا إذا كانت هذه الأوامر تأمرهم بالتحرّك فورًا أم لا. المدنيّون الذين يبقون في المناطق المحاصرة أو المتنازع عليها يستمرون في التمتع بالحماية بموجب قوانين الحرب، حتى لو لم يمتثلوا لأوامر الإخلاء.[106] لن يقيّم هذا القسم شرعيّة الهجمات في غزة، بل تأثير أوامر الإخلاء الإسرائيلية في خضمّ القصف المكثف.
قال غسّان (34 عاما)، من مخيم جباليا للاجئين في شمال غزة - وهو أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في غزة، حيث يبلغ عدد سكانه المسجلين أكثر من 119,540 نسمة حتى 2023، وفقا للأونروا[107] - إنّ الجيش الإسرائيلي ألقى منشورات على المخيّم ظهر يوم 15 أكتوبر/تشرين الأوّل، فقرأها ووجدها تأمر الناس بالإخلاء إلى الجنوب. قال إنّه لم يغادر على الفور لأنه لم يكن يعرف أين يتجه، لكن في غضون ساعات قليلة، في الساعة 2:30 ظهرا، بدأ الجيش الإسرائيلي في قصف المنطقة بالذخائر المتفجّرة.[108] وصف اليأس والذعر في تلك اللحظة:
في الساعة 2:30 ظهرا من نفس اليوم [15 أكتوبر/تشرين الأوّل]، بدأ الجيش الإسرائيلي في قصف منطقتنا - حيّنا [في جباليا]، بعد ساعتين تقريبا من [إسقاط] المنشورات الورقيّة. عندما بدأ القصف، بدأتُ أركض نحو المبنى الذي أسكن فيه، ولكن بعد ذلك رأيتُ الناس يركضون إلى خارج المبنى. كنتُ أحاول العثور على عائلتي، وظللت أسأل الناس عنهم. قال الناس إنّهم ربما ذهبوا إلى مدرسة صغيرة قريبة. لكنّني لم أتمكّن من العثور عليهم هناك. كنت أسأل الجميع ولم يستطع أحد مساعدتي. لم تكن هناك طريقة للاتصال بعائلتي لأنّ الهواتف لم تكن تعمل.[109]
كما شرحنا سابقا في هذا التقرير، في أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، تعطّلت خدمات الهاتف والإنترنت في غزة بشكل كبير. في نفس الليلة، التجأ غسّان إلى سيّارة مع ابن عمه بجوار عيادة تابعة للأونروا ومكتب بريد في جباليا، قال إنه تعرّض لغارة جوية إسرائيلية بعد وقت قصير من لجوئه هناك:
في تلك الليلة، كنت قريبا جدّا من الموت... رأيت ضوءا ساطعا جدا وفقدت الوعي تماما لمدة 40 ثانية تقريبا. عندما استيقظتُ، شعرت أنّ شيئا ما ليس على ما يرام، كان جسدي ثقيلا. كان ابن عمي في مكان السائق. حاولت فتح باب السيارة، كان جسدي متوتّرا للغاية، وكان من الصّعب فتح الباب. نزلت من السيّارة وكان الناس يركضون نحوي. هاجم الإسرائيليّون مكتب البريد وكانت السيارة متوقفة بجانبه. نظرتُ إلى ابن عمي، كان قد فقد وعيه ومغطّى بالدماء. كانت هناك سيارتا إسعاف، واقترب الناس منّا للاطمئنان علينا. عندما وصلتُ إلى سيارة الإسعاف، فتحت كاميرا هاتفي فوجدتُ نفسي مغطّى بالشظايا والدماء. لم نعرف مكان الإصابات. نقلني الناس إلى المستشفى الإندونيسي؛ كنت مصابا بشظايا في ظهري ووجهي.[110]
إقدام القوات الإسرائيلية على شنّ هجمات مكثفة على مخيم جباليا للاجئين، باستخدام ذخائر متفجرة ذات آثار واسعة حسب الافتراض، في غضون ساعات قليلة من إسقاط إشعارات الإخلاء على المخيّم، قد يشير إلى أنّ الجيش الإسرائيلي لم يمنح المدنيين الوقت الكافي لإخلاء المنطقة. في 16 أكتوبر/تشرين الأول، غادر غسّان مع عائلته إلى رفح، وفي وقت المقابلة كان يعيش في خيمة بجوار البحر، دون الحصول على ما يكفيهم من الغذاء أو الماء أو مرافق الصرف الصحي أو الرعاية الطبية.
استيقظ عمر (35 عاما)، أب لخمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين وستة أعوام، في الساعة 5 صباحا يوم 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، عندما تعرّض منزله في شارع اليرموك شمال غزة إلى هجوم، قال إنها غارات جويّة إسرائيلية.[111] قال إنه لم يتلق أمر إخلاء قبل الغارات الجوية.[112] تأكدت هيومن رايتس ووتش من أنّ أمر الإخلاء العام الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول نُشر لأول مرة في ذلك اليوم في الساعة 7:15 صباحا، على حساب المتحدث العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على فيسبوك.[113] في المجموع، كان 39 فردا من عائلة عمر داخل المبنى في ذلك الوقت، قُتل منهم أربعة، منهم ابنه (ست سنوات)، وأصيب 12 آخرون. قال عمر:
سقطت القنبلة الأولى بين مبنانا والمبنى المجاور وانفجرت، بينما اخترقت الثانية مبنانا، فانهار المنزل. عندما سقطت القنبلة [الأولى]، قفزت من شقتي وحاولت المغادرة. عندما سقطت القنبلة الثانية، كنت على الدرج بين الطوابق. كنتُ أستطبع الرؤية من خلال الجدران، فرأيت جثة إحدى بنات أخي، التي بدت وكأنها رُمِيتْ من شقتها بفعل الانفجار إلى شقة الجيران. كانت زوجة أخي وأطفاله وخالتها تحت الأنقاض. لم تكن لدينا أيّ وسيلة لنقلهم إلى المستشفى.[114]
سارع عمر إلى نقل المصابين الذين تمكّن من الوصول إليهم إلى مستشفى الشفاء في مدينة غزة. كانت زوجته التي كانت في أشهر متقدمة من الحمل قد أصيبت بحروق شديدة، وبالعديد من الكسور. في وقت المقابلة، كان عمر وعائلته يحتمون في خيمة في مخيّم للنازحين في خان يونس. نظرا للعمليّة العسكرية التي نُفذت في خان يونس في ديسمبر/كانون الأول 2023، يُرجّح أنّ عمر وعائلته اضطروا بعد ذلك إلى الفرار مرة أخرى.
قالت سحر (42 عاما)، وهي أمّ لطفل (11 عاما) وتعيش في بيت لاهيا، في شمال غزة بالقرب من إسرائيل، إنّها وعائلتها غادروا منزلهم في 14 أكتوبر/تشرين الأول "بسبب القصف المفرط لمنازل المدنيين، ما تسبّب في مقتل عائلات بأكملها".[115] أضافت: "كانت الغارات الجوية قريبة من منزلي، لذلك لم يكن أمامنا خيار سوى المغادرة".[116] قالت إنّها تلقت مكالمات هاتفية مسجّلة من الجيش الإسرائيلي تأمرهم بالمغادرة، وقرأت منشورات ورقية أسقطتها الطائرات، لكنّ الهجمات كانت قد بدأت بالفعل:
نعم، ما فهمته من المناشير والمكالمات المسجّلة هو أنها أوامر إخلاء، ونعم أردنا اتبّاعها، لكنّنا لم نتمكّن من ذلك لأنّ الإسرائيليين بدأوا في قصف المنطقة بكثافة، حتى قبل الإعلانات. قُتل الناس بأعداد هائلة وبأساليب وحشيّة.[117]
استطردت سحر وهي تتذكّر رحلتها إلى الملجأ في بلدتها وسط القصف:
ذهبنا مشيا على الأقدام من منزلي إلى الملجأ في بلدتنا (حوالي كيلومترين). كانت هناك غارات جوية أثناء سيرنا، لكنّنا تبعنا الناس ونجونا. في الملجأ، علم ابني (11 عاما) أن العديد من أصدقائه وزملائه في الفصل قُتلوا، فكان مرعوبا، وظلّ يفكر أنه سيُقتل أيضا. حاولت حجب كل الأخبار عنه، لكنّنا كنا في مكان لا خصوصية فيه؛ كان الجميع يتحدثون عن القتلى والوضع المروّع أمام الأطفال.[118]
من الواضح من الروايات أعلاه، إلى جانب العديد من المقابلات الأخرى التي أجرتها هيومن رايتس ووتش مع فلسطينيين في غزة، أنّ الأيّام الأولى من الحرب في الفترة السابقة واللاحقة لأمر الإخلاء العام الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول، كانت تتّسم بالرعب والموت والذعر، لأنّ الناس لم يكن أمامهم وقتا كافيا لإخلاء منازلهم وسط الغارات الجوية والقصف المستمرين.
وثقت هيومن رايتس ووتش في تقريرَيْن أن الجيش الإسرائيلي لم يوفّر أيضا إجراءات إخلاء خاصّة بالأطفال والبالغين ذوي الإعاقة، الذين كانوا بحاجة إلى دعم للإخلاء.[119] في يونيو/حزيران، وجدت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أيضا أنّ القوات الإسرائيلية لم تقدّم المساعدة للذين لم يتمكنوا من الإخلاء بسبب السنّ أو المرض أو الإعاقة أو أي وضع آخر.[120]
وصفت غزل (14 عاما)، ولديها شلل دماغي وفقدت أجهزتها المساعِدة في هجوم على منزلها في 11 أكتوبر/تشرين الأول، وقد حاولت اتباع أوامر الإخلاء الصادرة في 13 أكتوبر/تشرين الأول للفرار جنوبا، الصعوبات التي واجهتها والتي دفعتها في النهاية إلى التوسّل إلى أسرتها لتتركها وراءها:
لم يكن لدينا أيّ فكرة عن المكان الذي كنا نتجه إليه. كانت تلك أصعب فترة مررت بها على الإطلاق. أشعر وكأنها ذكريات سوداء لا أريد الاحتفاظ بها لأنّني لا أريد الاستمرار في التفكير فيها. كنتُ عبئا عليهم [عائلتي]، حملا إضافيا إلى جانب مقتنياتهم. لم أتمكّن من العثور على أي وسيلة نقل. حتى الأشخاص الذين ليس لديهم إعاقة كانوا يكافحون في المشي، لذا يُمكنك أن تتخيّل كيف كان الأمر بالنسبة لشخص لديه إعاقة.
حاولنا التمسّك بأيّ عربة أو مركبة على الطريق، لكنّ الجميع كانوا يطلبون المساعدة. في النهاية، قرّر والدي أن يحملني على كتفيه. رفضتُ وقرّرتُ أن أدفع نفسي للمشي على قدميّ لأطول فترة ممكنة. شعرتُ في تلك اللحظة أن الموت كان قريبا.
لكنّني في منتصف الطريق استسلمت وجلست على الأرض، وبكيتُ. قلتُ لهم استمرّوا بدوني.[121]
لا مكان آمن في غزّة
لقد أنشأنا منطقة آمنة.[122]
—رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023
ما من مكان آمن غزّة. لا بالمستشفيات، ولا بالملاجئ، ولا بمخيّمات اللاجئين. ولا أحد بأمان. لا الأطفال، ولا العاملين الصحيّين ولا العاملين في المجال الإنساني.[123]
—مارتن غريفيث، منسق الإغاثة الطارئة للأمم المتحدة، 5 ديسمبر/كانون الأول 2023.
لم تكتف السلطات الإسرائيليّة بإصدار أوامر إخلاء غير واضحة وغير متسقة ومتناقضة ومن المستحيل تنفيذها في الحيّز الزمني المخصّص لها، وإنّما تقاعست باستمرار عن تحديد وجهات أو طرق سفر آمنة. لهذه الأسباب، فإنّ عمليّات الإخلاء الإسرائيلية لا تُلبّي المعايير المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني، والتي من شأنها أن تجعل تهجير الفلسطينيين في غزة ضمن استثناء الإخلاء القانوني لأسباب أمنية مدنية.[124]
أشارت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المكلفة من الأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وإسرائيل، في تقريرها الصادر في 10 يونيو/حزيران 2024، إلى أنه "على الرغم من أن قوات الأمن الإسرائيلية لم تستخدم صراحة مصطلح "المناطق الآمنة" فيما يتصل بمناطق الإخلاء... فإنها نصحت المدنيين بالانتقال إلى هناك "حفاظا على سلامتهم"، وبذلك ذكرت فعليّا أنّ تلك المناطق تُشكّل مناطق آمنة".[125]
قال الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش إنّهم وأشخاص من حولهم تعرضوا للهجوم في مناطق غير خاضعة لأوامر الإخلاء، وعلى طرق الإخلاء، مثل شارع صلاح الدين، الطريق السريع الرئيسي الممتدّ من شمال غزة إلى جنوبها. كما قال الناجون من هذه الرحلات إنهم تعرّضوا للهجوم في مناطق أُمِرَ الناس بالفرار إليها. حتى وإن كانت بعض هذه الهجمات أو كلّها قانونية بموجب القانون الدولي الإنساني، فإنها تثبت أنّ إسرائيل لم تُنفذ عمليات إخلاء آمنة. بشكل عام، أدّت توجيهات الإخلاء هذه إلى المزيد من الخوف والتهجير القسري غير الآمن على نحو صارخ، بدلا من تحقيق إخلاء مؤقت يتماشى مع المبادئ الإنسانية.
في 13 أكتوبر/تشرين الأوّل، تلقت أمينة أمر الإخلاء العام لمغادرة المحافظات الشمالية نحو جنوب غزة. قالت إنها اختارت يومها الذهاب إلى خان يونس لأنّها كانت تعتقد أنها بعيدة عن الشمال وستكون آمنة:
أخذنا أخي الأكبر أنا وعائلتي من منزلنا إلى خان يونس. كان هناك آلاف الأشخاص على الطريق. سلكنا شارع صلاح الدين. إنّه الطريق الذي يربط منطقتنا [الرمال] بما يسمّونه مناطق آمنة، لكنّه لم يكن آمنا، والطرق أيضا لم تكن آمنة. عندما مررت بالشاحنة التي كانت تنقل الناس إلى خان يونس، رأيت أنها تعرضت لهجوم. تم إخماد الحريق، وكان هناك كومة من خمس سيارات أخرى متضررة [كانت مشتعلة]. تسبب هذا في زحمة خانقة، حيث تم تكديس جثث الأشخاص الذين قُتلوا في القصف على جانب واحد من الطريق، وكانوا يُحمّلونها في السيارات: لن أنسى ذلك المشهد طوال حياتي.[126]
استخدام شارع صلاح الدّين
يُعتبر شارع صلاح الدّين الطريق السريع الرئيسي الذي يمتد من شمال غزّة إلى جنوبها، ويمتد على مسافة 45 كيلومتر، على طول المنطقة من معبر إيرز مع إسرائيل في الشمال إلى معبر رفح في الجنوب مع مصر. صنّف الجيش الإسرائيلي هذا الطريق الرئيسي باستمرار كـ"ممرّ آمن" للأشخاص الفارّين من الشمال إلى الجنوب لمّا يُصدر لهم أوامر الإخلاء.[127]
أظهرت تحقيقات أعدّتها وسائل إعلام،[128] وتقارير سابقة لـ هيومن رايتس ووتش، ومقابلات أجرتها هيومن رايتس ووتش مع فلسطينيين في غزّة، إلى جانب تحليل فيديوهات وصور فوتوغرافيّة وصور بالأقمار الصناعيّة والتحقق منها، أنّ هذا الطريق نادرا ما كان آمنا، بما في ذلك الطرق الجانبيّة وطرق الوُصول التي كان على الناس استخدامها للوصول إلى شارع صلاح الدّين. وصفه مقال في "المونيتور" بـ "ممرّ الموت".[129]
في 9 سبتمبر/أيلول 2024، أصدر "مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية" تقييما شاملا للأضرار التي لحقت بشبكة الطرق في غزة استنادا إلى صورة التُقطت في 18 أغسطس/آب. كشف التقييم أن 68% من شبكة الطرق في غزة قد تضررت، بما في ذلك شارع صلاح الدين، وشارع الرشيد الساحلي، الممرّ الآمن الرئيسي الآخر، الذي يوازي تقريبا شارع صلاح الدين نحو الغرب. حتى 18 أغسطس/آب، يفترض أن 37 كيلومتر، أي أكثر من 80% من شارع صلاح الدّين، قد تضرّرت.[130]
في كل الحالات التي تمّ التحقيق فيها تقريبا، خصّصت أوامر الإخلاء عبر شارع صلاح الدين مُهلة زمنيّة بأقل من ساعتين للإخلاء، وكانت غامضة وغير متسقة ومتناقضة مع الواقع على الأرض. مثلا، لم تحدّد منشورات الإخلاء التي ألقيت من الجوّ في 13 أكتوبر/تشرين الأول أي مهلة زمنيّة يُمكن للسكان خلالها استخدام شارع صلاح الدين كطريق آمن ومخصّص للإخلاء. في نفس اليوم، عند الساعة 6:03 مساء، نشر الجيش الإسرائيلي على حسابه على إكس أنّه يُمكن للسكّان استخدام شارع صلاح الدّين حتى الساعة 8 مساء، مما يعني أنّ لديهم أقل من ساعتين للوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت - إذا كانت لديهم إمكانية الوصول إليها على الإطلاق، بالنظر إلى انقطاع التيّار الكهربائي والشبكة كما شرحنا في القسم السابق من هذا التقرير – ثمّ وضع خططهم للهروب وتنفيذها.[131]
على مدى الشهر التالي، صدرت أوامر للفلسطينيين منحتهم فترات زمنية مختلفة لاستخدام الطريق، منها مهلة من الساعة 10 صباحا إلى 4 مساء في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023،[132] ومن 10 صباحا إلى 1 ظهرا في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2023،[133] ومن 8 صباحا إلى 12 ظهرا في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023،[134] ومن 10 صباحا إلى 2 ظهرا في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2023،[135] ثم مرة أخرى من الساعة 10 صباحا إلى 4 مساء في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023،[136] ومن 9 صباحا إلى 4 مساء في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.[137] لم تكن هذه الأطر الزمنيّة واقعية، بالنظر إلى الظروف على الأرض، حيث قال العديد من الأشخاص الذين قابلناهم إنّ رحلتهم على طول شارع صلاح الدّين استغرقت وقتا أطول بكثير من المعتاد بسبب الازدحام المروري الناجم عن الحركة الجماعية المفاجئة للناس، واضطرّ السكّان إلى المشي بسبب عدم إمكانية الوصول إلى وسائل النقل الأخرى، ونقاط التفتيش التي تم إنشاؤها حديثا.
قال رامي (34 عاما)، الذي يعيش في جباليا مع زوجته وأطفاله الثلاثة، إنّه وعائلته غادروا منزلهم في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد تلقي مكالمات هاتفية آلية من الجانب الإسرائيلي تأمرهم بمغادرة المنطقة التي يقع فيها منزلهم، والتوجّه جنوبا على الفور.[138] قال: "المفارقة العجيبة هي أنّهم كانوا يقصفون المنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد أسبوع كامل أمرنا [الجيش الإسرائيلي] بالمغادرة".[139] وصف الرحلة عبر شارع صلاح الدين:
لم نتعرّض لهجوم مباشر، لكنّ العديد من القنابل سقطت في أماكن خلفنا وقريبة جدّا منّا؛ إحداها كانت على بُعد أقلّ من مئة متر. كُنّا نسمع الضربات الجويّة طوال الوقت. عادة ما نستغرق ساعة واحدة لعبور شارع صلاح الدين، لكنّنا استغرقنا ثلاث ساعات بسبب حركة المرور.
كان الناس يسيرون في منتصف الطريق، وكان هناك الكثير من السيارات والمنازل المحترقة على جانبي الطريق. في الطريق، أخذتُ عائلة أخرى [عالقة] معنا في السيارة، وتمنيت لو كان بوسعي فعل المزيد.[140]
قال الأشخاص الذين قابلناهم إنّ الوضع على الأرض كان فوضويا، وكان الأشخاص ذوو الإعاقة والأطفال وكبار السن يتنقلون ضمن مجموعات كبيرة من النازحين.
استمرار الخوف من الوقوع ضحيّة للغارات الجويّة الإسرائيلية يؤكد المخاطر الجسيمة المرتبطة بالإخلاء. قال يوسف (30 عاما) إنّ عائلته لجأت إلى مدرسة في مخيّم الشاطئ للاجئين بعد أن ضربت غارة جوية إسرائيلية أمام منزله في 9 أكتوبر/تشرين الأول.[141] فرّ من المنطقة مع زوجته التي كانت في مرحلة متقدمة من الحمل وطفليه في 9 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي جوار المدرسة بشكل متزايد:
في الليلة التي قرّرنا فيها المغادرة، أصابتنا صواريخ مختلفة... [بالقرب من] المدرسة. غادر الجميع المدرسة في ذلك اليوم. تعرّضت العديد من الأماكن القريبة للقصف، وتضررت المدرسة.
استغرق الأمر منّا خمس ساعات سيرا على الأقدام [للوصول إلى الجنوب]. كان علينا أن نرفع الرايات البيضاء من المدرسة إلى مستشفى الشفاء، ثم إلى شارع الرمال، ثم إلى شارع صلاح الدين. مشينا مع الكثير من المصابين. كان القصف يحاصرنا، ورأيتُ أشخاصا مصابين على طول الطريق.[142]
مع تقدّم الحرب، وتقدم الغزو البرّي الإسرائيلي في غزة، وصلت المركبات العسكرية المدرّعة الإسرائيلية إلى هذا الطريق الحيوي بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وأنشأت نقاط تفتيش تحدّد خطّ المواجهة، وتُشكّل خطا فاصلا بين الشمال والجنوب.[143] يُظهر فيديو نشره الجيش الإسرائيلي في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 مئات الأشخاص يسيرون على شارع صلاح الدين، وهم يلوّحون بالأعلام البيضاء. يظهر العديد منهم وهم يسيرون رافعين أذرعهم في الهواء، ويمرّون بجانب مدرّعة إسرائيلية.[144] حدّدت "بي بي سي فيريفاي" (BBC Verify) موقع هذا الفيديو، ووجدت المركبة المدرعّة في نفس الوضع في صور التُقطت بالأقمار الصناعية في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.[145]
تحدّث العديد من الأشخاص الذين قابلناهم عن المعاملة المهينة عند نقاط التفتيش على طول شارع صلاح الدّين أثناء إجلائهم وفقا لتعليمات السلطات الإسرائيلية. وصفت ليلى (40 عاما)، من حيّ الزيتون في مدينة غزة وتستخدم كرسياً متحركا، المعاملة المهينة التي تعرضت لها على أيدي جنود الاحتلال الإسرائيلي عند نقطة تفتيش عند دوّار الكويت، حيث كانت هي وعائلتها يحاولون الوصول إلى شارع صلاح الدّين:
تعرّضنا للتفتيش والإهانة عند الدوّار، وكان الإسرائيليون يتحدّثون ويشتمونا بكلمات فظيعة. استخدم الجنود الإسرائيليون الكلمات والشتائم لإيذائنا، بما في ذلك الصراخ علينا بعبارة "امشوا يا حمير!" كانوا يستخدمون هذه الكلمة طوال الوقت، وعلى كل من يمرّ عبر الحاجز. طلب مني الجنود الإسرائيليون إظهار بطاقة هويتي عند مروري، ورغم أنهم رأوني على كرسيّ متحرّك، إلا أنهم أوقفوني. عانيت بشدة حتى وصلت إلى آخر نقطة تفتيش.[146]
استلمت ليلى أمر إخلاء عبر منشور ألقته السلطات الإسرائيليّة جوّا في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. أمر هذا المنشور سكان حي الزيتون بالمغادرة بين الساعة 7 صباحا و2 ظهرا.[147] أوضحت ليلى أنّها لم تستطع الفرار على الفور. قالت ليلى إن مبناها استُهدف في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بغارة جوية إسرائيلية ألحقت أضرارا كبيرة بالطابق الثالث منه.[148] أوضحت أنّ كلّ الذين كانوا في الطابقين الثالث والثاني لجأوا إلى الطابق الأول، وانتظروا حتى اليوم التالي للفرار. قالت: "في ذلك اليوم، أصيب ما بين ثمانية وتسعة أشخاص - معظمهم من الأطفال – بشظايا، وأصيب العديد من الأشخاص بصدمات نفسية".[149]
قالت إنّها اختبأت في غرفة، لكنّ الانفجارات لوّثت الجوّ، فاستنشقت شيئا "قويّا تسبّب لها في التهاب في الصدر".[150]
بدأت ليلى رحلتها عندما توقّف القصف في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. قالت إنها رأت جنديّا إسرائيليّا يُطلق النار على المجموعة التي كانت فيها أثناء محاولتهم الوصول إلى الطريق:
هربنا عند الساعة 6 صباحا، وما إن غادرنا المنزل، بدأ قنّاص إسرائيلي في إطلاق النار علينا من بين المنازل بسرعة، كان ذلك مرعبا. رأيتُ القنّاص بعينيّ وهو يُطلق النار علينا.[151]
في الأخير، وصلت ليلى إلى رفح، حيث كانت تعيش مع 15 فردا آخرين من أقاربها عندما قابلناها.
قال سليم (29 عاما)، الذي كان يعيش في النصيرات قبل اندلاع الأعمال القتاليّة، وهي منطقة جنوب وادي غزة، إنّه كان يعتني بإخوته الـ14 أثناء الأعمال العدائية. كما قال إنّه تلقى مكالمات آلية من السلطات الإسرائيلية تأمره بمغادرة المنطقة، لكن هذه المكالمات جاءت بعد أن ضربت غارة جويّة إسرائيليّة منزل جاره، مما تسبب في أضرار بمنزله وإصابة أحد إخوته:
غادرنا مشيا لأنّه لم تكن لدينا سيارة. لم تكن الطرق آمنة، وكان هناك قصف إسرائيلي في مكان غير بعيد، لكنّنا لحسن الحظ نجونا منه. هناك قنبلة لم تنفجر سقطت على بعد 30 متر منّي ومن إخوتي. قطعنا كلّ المسافة من النصيرات إلى الخيام في دير البلح مشيا على الأقدام.[152]
يعيش سليم الآن في خيمة في دير البلح، وهو يكافح من أجل إعالة اخوته الـ14 وكلّهم أصغر منه.
مع تكثيف العمليات البرّية الإسرائيلية، وردت أنباء عن تواجد دبابات ومركبات مدرّعة في الشمال. اضطرّت العائلات الهاربة من المناطق المتضررة بشدة إلى المرور عبر الدبّابات الإسرائيليّة.[153] بالإضافة إلى هذه المحنة، اضطرّ الأشخاص الذين هُجّروا إلى السير لمسافات أطول وأكثر صعوبة بسبب الطرق المتضررة.
في 11 ديسمبر/كانون الأول 2023، طلب الجيش الإسرائيلي من السكّان الفلسطيّنيين الذين بقوا شمال وادي غزة التوجّه جنوبا عبر "ممرّ" على طول شارع صلاح الدين بين الساعة 9 صباحا و4:00 مساء. لكن أفادت تقارير أنّ هذا الجزء من الطريق الممتدّ من شمال مدينة خان يونس إلى شرقها شهد معارك ضارية في ذلك الوقت، ممّا جعل الحركة محفوفة بالمخاطر وصعبة.[154]
أغلِق شارع صلاح الدّين أمام المدنيين في 4 يناير/كانون الثاني 2024، وتمّ تخصيص شارع الرشيد الساحلي كممرّ آمن بدلا عنه.
في ظلّ هذه الظروف، كان يُمكن للقوّات الإسرائيلية أن تتخذ خطوات، إذا توفّر الوقت، لإخبار الفلسطينيين بعدم استخدام ذلك الطريق للإخلاء، وتوفير طريق بديل آمن، و/أو تأخير خطط مهاجمة المناطق التي كان من المقرّر إخلاء المدنيين منها.
التغطية الإعلاميّة لقتل الفلسطينيين أثناء انتقالهم
تحدّثت تقارير إعلاميّة عن هجمات إسرائيليّة استهدفت قوافل الإخلاء، وأدلّة على ما يفترض أنّها عمليّات قتل خارج نطاق القضاء لنساء ورجال وأطفال كانوا يحاولون الإخلاء.
في 13 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، أفادت "إم أس إن بي سي نيوز" (MSNBC News) أنّ 70 شخصا، معظمهم من النساء والأطفال، قُتلوا أثناء إجلائهم في ثلاث قوافل، نقلا عن وزارة الصحّة في غزّة ومقابلات.[155]
أظهر فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تحقّقت منه "رويترز" وأكّدته هيومن رايتس ووتش، جثث ما لا يقل عن سبعة أشخاص، بينهم طفل واحد على الأقل، ملقاة على شارع الرشيد الساحلي جنوب مدينة غزة، واحد من الطريقين الرئيسيين المخصّصين للإخلاء كما أوضحنا في القسم السابق، والذي تعرّض لهجوم من قبل القوات الإسرائيلية.[156]
حصل موقع "ميدل إيست آي" على لقطات وتحقق منها، تُظهر مقتل هالة خريس (57 عاما) برصاص مسلّح إسرائيلي في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وهي تُمسك بيد حفيدها (خمسة أعوام)، الذي كان يلوّح براية بيضاء في يده الأخرى.[157] قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إنّ المجموعة التي فيها هالة تلقت أمرا بإخلاء المنازل في شمال غزة، وكانت تسلك طريق إخلاء "طهّره" الجيش الإسرائيلي.[158]
نشرت "آي تي في نيوز" (ITV News) لقطات صوّرها أحد المصورين التابعين لها في 22 يناير/كانون الثاني 2024 خارج "جامعة الأقصى" في المواصي. تُظهر اللقطات خمسة رجال يرفعون أيديهم في الهواء، وأحدهم يحمل راية بيضاء.[159] قابل المصور أحد الرجال، رمزي أبو سهلول، الذي قال إنّهم يحاولون الوصول إلى والدته وشقيقه. قال إنّ الجيش الإسرائيلي لم يسمح لأخيه بالإخلاء. وبعدها غادر المصور، تعرّضت المجموعة لإطلاق نار؛ وقُتل أبو سهلول بالرصاص. حققت قناة "إن بي سي نيوز" (NBC News) في الحادثة وأكّدتها.[160] تضمّن تقريرها تصريحا لأحمد حجازي، مصوّر فيديو فلسطيني، قال فيه إن الرصاصات جاءت من إحدى الدبّابات الإسرائيلية القريبة.[161] وثق فورنسيك أركيتكتشر حركة الدبابات بالقرب من الجامعة وقت الحادث. أكّد العميد دان غولدفوس لـ "إيه بي سي نيوز" (ABC News) أنّ قواته أطلقت الرصاصات وأنّ الحادثة قيد التحقيق.[162]
لم تُنشر نتائج التحقيق حتى وقت كتابة هذا التقرير. أكّدت هيومن رايتس ووتش أنّ مبنى الجامعة يقع ضمن المنطقة الإنسانية في المواصي، التي رسم الجيش الإسرائيلي حدودها في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023. بعد يوم من الحادث، في 23 يناير/كانون الثاني 2024، صدر أمر إخلاء يطلب من سكّان أحياء خان يونس الانتقال إلى هذه المنطقة.[163]
في 29 يناير/كانون الثاني 2024، وردت أنباء عن مقتل شقيقين كانا يحملان رايات بيضاء برصاص قنّاص عسكري إسرائيلي أثناء محاولتهما الفرار من خان يونس في جنوب غزة. حقّقت "وكالة سند للتحقق" التابعة لـ " الجزيرة" في الحادثة، وتحققت من لقطات قدّمتها عائلة الشقيقين يظهران فيها قتيلين في الشارع.[164]
مناطق الإخلاء
في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال رئيس الوزراء نتنياهو إنّ إسرائيل لا تسعى إلى تهجير أحد، لكنّه أضاف أن "إسرائيل تحاول... دفع سكّان غزة في الجزء الشمالي من القطاع، حيث تدور المعارك، إلى التحرّك لمسافة تتراوح بين ميل واحد وأربعة أميال جنوبا في المنطقة الآمنة التي أنشأناها".[165] وأضاف: "نريد أن نرى مستشفيات ميدانية. نحن نشّجع ونساعد الإغاثة الإنسانية على الذهاب إلى هناك".[166]
في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أصدر رؤساء 18 من وكالات الأمم المتحدة والوكالات الإنسانيّة الرئيسيّة بيانا حدّدوا فيه الشروط الدُنيا لإقامة منطقة آمنة:
· اتفاق الأطراف على الامتناع عن خوض الأعمال القتاليّة في هذه المنطقة أو في محيطها واحترام طابعها المدني.
· تقديم الضرورات الأساسيّة للبقاء على قيد الحياة، بما فيها الغذاء والمياه والمأوى، والنظافة الصحيّة، والمساعدة الصحيّة، والأمان.
· السماح للمهجّرين بالتنقل بحريّة والعودة طوعا إلى أماكن إقامتهم في أقرب وقت ممكن.[167]
وأضاف البيان: "يُشكّل التقصير في الوفاء بهذه الشروط الأساسيّة مخالفة للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان".[168]
لا يُمكن لإسرائيل أن تعتمد على أمن وسلامة المدنيين كمبرّر لإجلاء الناس إذا لم تكن هناك مناطق آمنة يستطيع المدنيّون الانتقال إليها. قال الأشخاص الذين قابلناهم بشكل متسق لـ هيومن رايتس ووتش إنّ "مناطق الإخلاء" التي حدّدتها السلطات الإسرائيلية تعرّضت لهجمات الجيش الإسرائيلي،[169] ذكروا أيضا مدى عجزهم عن تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية.
في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، قال جيمس إلدر، المتحدث باسم "اليونيسف"، لصحفيين في جنيف عبر إحاطة مصوّرة من القاهرة، إنّ المناطق الآمنة في غزة "ليست ممكنة". وأضاف: "أعتقد أن السّلطات على علم بذلك".[170] قال أيضا: "تصير منطقة آمنة عندما تستطيع ضمان ظروف الغذاء والماء والدواء والمأوى. لقد تأكّدت بنفسي أن هذه الظروف غائبة تماما".[171]
جميع الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش أجبِروا على الفرار عدّة مرات، مع انتشار أوامر الإخلاء في جميع أنحاء غزة. وفقا للأمم المتحدة، حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024، بلغت المساحة الإجمالية التي تغطيها أوامر الإخلاء في غزة، باستثناء تلك المشمولة بالأوامر الي ألغيت، حوالي 84%من غزة.[172] أجبر الجيش الإسرائيلي المدنيين على الانتقال إلى مناطق أصغر فأصغر، "من أجل سلامتهم". كثيرا ما تغيّرت المناطق وأصبحت مناطق قتال، فأجبِر الناس على الفرار منها مرة أخرى.
لجأ أغلب الفلسطينيّين في غزة إلى رفح حتى 6 مايو/أيار، عندما أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء جديدة[173] للأحياء الشرقية في رفح، وطلب من الناس اللجوء إلى "المنطقة الإنسانية الموسّعة"[174] في المواصي التي تضم أحياء في محافظات خان يونس ودير البلح ورفح.
في أواخر مايو/أيار 2024، قالت الأمم المتحدة إنّ حوالي مليون فلسطيني هُجّروا من رفح منذ بدأت إسرائيل هجومها.[175] قال جميع الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش إنّهم شعروا أن لا مكان آمن داخل غزة.
منذ أيام الحرب الأولى، أعلنت وكالات الأمم المتحدة وخبراؤها والوكالات الإنسانية بوضوح كبير أنّه لا يوجد مكان آمن في غزة. في 5 يناير/كانون الثاني 2024، قال مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة:
باتت غزّة مكانا للموت واليأس... تنام الأسر في العراء في ظلّ انخفاض درجات الحرارة. وتُقصف المناطق التي قيل للمدنيين أن ينتقلوا إليها من أجل سلامتهم. وتتعرّض المنشآت الطبيّة لهجوم لا هوادة فيه. وترزح المستشفيات القليلة التي تُزاول عملها جزئيا تحت وطأة الإصابات، وتشهد نقصا حادا في جميع اللوازم، وتغصّ بالناس اليائسين الذين يبحثون عن الأمان... بالنسبة للأطفال على وجه الخصوص، فقد شكّلت الأسابيع الاثنتي عشر الماضية صدمة لهم: فلا طعام، ولا مياه، ولا مدارس. لا شيء سوى أصوات الحرب المرعبة، يوما بعد يوم. لقد باتت غزة مكانا لا يصلح للسكن.[176]
في 26 أبريل/نيسان، توصّل تحقيق أجرته "إن بي سي نيوز" في سبع غارات جويّة قاتلة إلى مقتل فلسطينيين في مناطق جنوب غزّة "حدّدها الجيش الإسرائيلي بشكل صريح على أنّها مناطق آمنة".[177]
في 24 مايو/أيار 2024، أصدرت محكمة العدل الدوليّة، للمرّة الثالثة، تدابير مؤقتة في إطار القضيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل بموجب اتفاقية الإبادة الجماعيّة لسنة 1974. وكجزء من الأمر الذي أصدرته، لاحظت المحكمة على وجه التحديد:
استنادا إلى المعلومات المعروضة عليها، تُعرب المحكمة عن عدم قناعتها بأنّ جهود الإخلاء والإجراءات المرتبطة بها التي تؤكّد إسرائيل أنها تتخذها لتعزيز أمن المدنيين في قطاع غزة، وخصوصا أولئك الذين نزحوا مؤخرا من محافظة رفح، كافية للتخفيف من وطأة الخطر الهائل الذي يتعرّض له السكان الفلسطينيون نتيجة الهجوم العسكري في رفح.[178]
في 22 أغسطس/آب، ذكّر مهنّد هادي، منسق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أنّه "خلال شهر أغسطس/آب وحده، أصدرت القوات الإسرائيلية 12 أمرا بالإخلاء ــ بمتوسّط يبلغ أمرا كل يومين ــ ممّا أجبر 250 ألف شخص على الأقلّ على الانتقال مرة أخرى"، وخلص إلى ما يلي:
إذا كانت أوامر الإخلاء تُعنى بحماية المدنيين، فإنّ الواقع يشير إلى أنّها تؤدي إلى عكس ذلك تماما. فهي تُجبر الأسر على الفرار مرة أخرى، وغالبا تحت القصف مع ما يستطيعون حمله معهم من مقتنيات قليلة، إلى مساحة ما فتئت تتضاءل وتشهد الاكتظاظ والتلوث والخدمات المحدّدة وانعدام الأمان فيها – كما هو حال بقيّة أنحاء غزة. ويُحرم الناس من سبل الوصول إلى الخدمات الأساسية لبقائهم على قيد الحياة، بما فيها المنشآت الطبيّة ومراكز الإيواء وآبار المياه والإمدادات الإنسانيّة. [179]
في 26 أغسطس/آب، اضطرّت الأمم المتحدة إلى وقف عمليات الإغاثة في غزة بعد أن أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء جديدة لدير البلح وسط غزة، حيث يقع مركز عمليّات الأمم المتحدة.[180] جاء أمر الإخلاء في وقت كانت الأمم المتحدة تستعدّ فيه لبدء حملة تطعيم لما يقدّر بنحو 640 ألف طفل في غزة، حيث قالت "منظمة الصحة العالمية" إنّ طفلا عمره 10 أشهر أصيب بالشلل بسبب فيروس شلل الأطفال من النوع 2،[181] وهي أوّل حالة من نوعها في المنطقة منذ 25 عاما.[182]
خان يونس
في بداية الحرب، أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء تأمر الناس بالتوجه جنوبا. وفي بعض الحالات، طلبت الأوامر من الناس البحث عن الأمان في خان يونس.[183] رغم أنّ خان يونس، ثاني أكبر مدينة في غزّة، حُدّدت في البداية كمنطقة إخلاء، إلا أنّها شهدت مستويات مرتفعة من الهجمات الإسرائيلية والخسائر في الأرواح منذ الأيام الأولى للنزاع، كما هو واضح من تحديثات أوتشا،[184] و"إيروارز" (Airwars)، وهي منظمة غير حكومية تحقّق في الأضرار المدنية في مناطق النزاع.[185]
وصف الدكتور حسن (49 عاما)، وهو رجل متزوج وله سبعة أطفال، وكان يعيش في عزبة عبد ربه قرب جباليا في شمال غزة قبل الحرب، كيف فرّ من منزله مع عائلته مرتدين ملابس النوم فقط بعد تلقي مكالمات آلية من الإسرائيليين تأمرهم بالمغادرة فورا إلى جنوب غزة.[186] فرّوا إلى خان يونس، تحديدا إلى منزل أحد أقاربهم، حيث كان يعيش 36 شخصا في مساحة مئة متر مربع:
قبل يومين من وقف إطلاق النار [في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023]، نُفذت هجمات على البلدية في القرارة، التي تبعد أقل من كيلومتر واحد عن مكان تواجدنا [المنطقة التي هُجّرنا إليها]. أعلم أن الهجمات كانت قريبة جدا - لدينا باب حديدي ثقيل، وقد تضرر من الهجمات.
حصلت الكثير من الهجمات في منطقة [التهجير]، ولا أعتقد أنّ المكان آمن هنا. سُكّان العديد من المناطق المجاورة لمنطقتنا طُلب منهم الإخلاء - القرارة والزنة وعبسان والخزاعة. المنطقة التي أعيش فيها الآن صدر فيها أمر إخلاء قبل وصولي، لكن لم يُطلب منا الإخلاء مرة أخرى. آمل أن تظل المنطقة آمنة لأنني لا أعرف إلى أين سنذهب.[187]
وصف هشام (34 عاما)، وهو مصوّر صحفي وأب لطفلين وكان يعيش في شارع الرمال الشمالي في مدينة غزة عندما اندلعت الحرب، كيف اضطرّ إلى الفرار من مبناه عندما تلقى إشعارا بالمغادرة من خلال أحد جيرانه:
لا تصل المكالمات [الآلية للجيش الإسرائيلي] إلى كل أسرة. بل تذهب إلى الجيران وعادة ما يُطلب من الشخص إخبار الآخرين. كانت فوضى عارمة. معظم الناس كانوا مرعوبين ويصرخون. كان الأمر سيئا. وردت مكالمة [التحذير بالمغادرة] إلى جيراننا. هذه مكالمات آلية - تقول إنّ عليك الإخلاء لأن المنطقة تعتبر منطقة حرب. عادة ما تحصل على بضعة أيام، لكن بعد يومين من تلقينا التحذير [من الجيران]، بدأ استهداف المنطقة.[188]
لجأ هشام أولا مع عائلته إلى منزل أحد الأصدقاء بجوار مستشفى الشفاء. لكنّه اضطر إلى الفرار من هذه المنطقة لأنّ منزل أحد جيرانه أصيب في غارة جوية إسرائيلية.[189] قال إنّ أحد الجيران تلقى مكالمة آلية من الجيش الإسرائيلي تأمرهم بالمغادرة، لكنّ الهجوم وقع بعد خمس دقائق فقط.[190] نجا هشام وعائلته من الهجوم. قال: "تسبب ضغط القنبلة في إلحاق أضرار [بمنزل صديقه] وإصابة أشخاص بشظايا... كانت الساعة 2 فجرا. وعند شروق الشمس، قرّرنا [عائلتي] الانفصال، والبحث عن مكان آمن".[191]
قرّر هشام الانتقال جنوبا إلى خان يونس، حيث بقي حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، اضطرّ إلى الفرار مرّة أخرى مع تقدم العمليّة العسكريّة الإسرائيلية نحو جنوب غزة:
قال الإسرائيليون إن خان يونس مكان آمن. كانت منطقة زراعية - لم يكن هناك سبب لمهاجمتها. لكنّهم بدأوا في قصف هذه المنطقة والمزارع. اتخذت قرارا بالمغادرة والذهاب إلى رفح ... الحالة النفسيّة للأطفال - ما شهدوه في المنطقة الأخيرة... كانوا في حالة صدمة، مرعوبين. صاروا يقفزون عند سماع أدنى صوت. كان من الصعب جدا بالنسبة لي نقل عائلتي من آخر مكان إلى هنا، فالإسرائيليون أغلقوا معظم المناطق لأنها كانت تعتبر مناطق قتال.[192]
بدأ الجيش الإسرائيلي عمليّات بريّة حول خان يونس في جنوب غزة في ديسمبر/كانون الأوّل 2023. قطعت الدبابات الإسرائيليّة الطريق بين خان يونس ودير البلح في وسط غزة، مما أدّى فعليا إلى تقسيم غزة إلى ثلاثة أجزاء.[193] شملت الحملة في خان يونس قصف أهداف يُشتبه في أنّها لحماس، وهجوما بريّا، ممّا تسبّب في خسائر كبيرة في الأرواح وأضرار في البنية التحتية. المدينة، التي امتلأت بالنازحين الباحثين عن ملاذ، وجدت نفسها تواجه أعنف قتال شهدته منذ بداية النزاع في أكتوبر/تشرين الأول.
خلال هذه الفترة، أعرب مراقبون دوليون ومنظمات إنسانية عن قلقهم إزاء تصاعد العنف وتأثيره على السكان المدنيّين، مسلّطين الضوء على الوضع الإنساني المزري في خان يونس، وغزة على نطاق أوسع.
في 1 ديسمبر/كانون الأول 2023، أصدر الجيش الإسرائيلي أمر إخلاء للأحياء الشرقية في خان يونس، لكنّه أعلن في الوقت نفسه المنطقة بأكملها "منطقة قتال".[194] هذه البيانات المُربكة جعلت الأشخاص الذين يعيشون خارج الأحياء الشرقية غير متأكدين من كيفية الاستجابة، فإعلان مكان ما منطقة قتال دون تعليمات مصاحبة حول مكان وكيفية الإخلاء لا يُعتبر أمر إخلاء.
شرح رشاد (31 عاما)، الذي يعيش في خان يونس، كيف أصبح منزله مأوى لعشرات النازحين: "أعيش مع أمي وأبي وأخي وزوجتي وطفلين، لكن الآن لدينا 80 نازحا يعيشون معنا".[195] قال إن هناك 25 طفلا دون سن السابعة يعيشون في منزله.[196]
تحدّثت هيومن رايتس ووتش إلى رشاد في 1 ديسمبر/كانون الأول، مباشرة بعد تلقيه أمر إخلاء إسرائيلي يحذره من أنّ خان يونس تُعتبر منطقة قتال:
يقول منشور الإخلاء الإسرائيلي إنّ منطقة خان يونس بأكملها تعتبر منطقة قتال. ثم يقول إنّ هذا "إنذار رسمي". لا أريد الذهاب إلى أيّ مكان. أينما نذهب سوف يتغيّر الأمر مرة أخرى. لقد قيل لنا [من قبل الجيش الإسرائيلي] أن نذهب إلى خان يونس، والآن يقولون إن هذا مكان غير آمن، وعلينا الانتقال إلى رفح. لا يوجد مكان نذهب إليه في الملاجئ في رفح. واليوم تمّ قصف منازل مدنية في رفح، وسقط 30 قتيلا هناك، هذه المنطقة ليست آمنة لأحد.[197]
قال رشاد لـ هيومن رايتس ووتش إنّه مسؤول عن أسرته والنازحين الآخرين الذين يعتمدون عليه. لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من التواصل مع رشاد مرّة أخرى لمعرفة ما إذا كان هو وأسرته النازحة تمكنوا من مغادرة خان يونس.
مع حصار الهجوم العسكري الإسرائيلي لمدينة خان يونس، التي تقول إسرائيل إنّ العديد من قادة حماس كانوا يسكنونها، صار الناس يبحثون عن ملجأ في الجنوب، وتكدّسوا في رفح. شملت الهجمات العسكرية الإسرائيليّة في خان يونس غارات على المستشفيات ومرافق تابعة للأمم المتحدة لجأ إليها آلاف النازحين من الشمال.[198]
سارة: دراسة حالة
كانت سارة (37 عاما)، وهي اختصاصية في علم النفس وأمّ لثلاثة أطفال، تعيش في خان يونس مع عائلتها عندما اندلعت الحرب. فتحت شقتها لأقارب نازحين من مدينة غزة، لذلك كان يعيش فيها 20 شخصا في 7 ديسمبر/كانون الأوّل 2023، عندما أصيب المبنى السكني بأضرار في غارة جويّة إسرائيلية دمّرت منزل أقاربها، على بعد أقل من عشرة أمتار.[199] كان كلا المبنيين في منطقة تُعرف بـ"البلوك 108"، وهي غير مشمولة بالإخلاء على الخريطة العسكرية الإسرائيلية على الإنترنت، لذلك كان يُفترض أنها ليست خطرة.[200] قالت سارة إنّها ذهبت إلى العمل بشكل طبيعي في ذلك اليوم، لكنّها عادت إلى المنزل لتجد نفسها أمام مشهد مأساوي:
كان ذلك على الساعة 4 ظهرا، وكنت عائدة من العمل. فرأيت الحريق والدمار، وكان الناس تحت الأنقاض [في منزل أقاربي] ...
ما رأيتُه كان مذبحة. وصلتُ فوجدتُ الفوضى تعمّ المكان - كان الجميع يصرخُون. كنت خائفة لأن أطفالي كانوا في منزلي [على بعد أقل من 10 أمتار]، ومنزل أقاربي لحقته أضرار كبيرة، حتى أنّني لم أستطع الدخول إليه بشكل عادي. أصيب الكثير من الناس. وكانت الإصابات كبيرة وهائلة: أصيبت ابنة عم زوجي بحروق في وجهها وتشوّهت، وأصيب أطفال أو قُتلوا في ذلك اليوم. لكنّ عائلتي الموجودة في شقتي كانت بخير والحمد لله. رأينا جثثا [في مبنى أقاربي]، وأشخاصا تحت الأنقاض، وكانت الحالة النفسيّة للأطفال سيئة للغاية. ما حصل غيّرنا جميعا.[201]
قالت سارة إنّه لم يكن لديها مكان تذهب إليه فورا بعد تضرّر منزلها، لذلك غادرت في اليوم التالي، ووجدت مأوى في مدرسة تابعة للأونروا في خان يونس مع حوالي 8 أو 9 آلاف من النازحين الآخرين.[202] تحدثت هيومن رايتس ووتش إلى سارة مرة أخرى في 19 فبراير/شباط 2024. قالت: "الحمد لله أننا ما زلنا على قيد الحياة"، وأوضحت أنّها اضطُرّت إلى الفرار مع عائلتها مرة أخرى، لكن هذه المرّة إلى رفح بعد الهجوم الإسرائيلي على خان يونس.[203] "ها نحن جالسين في خيام في هذا البرد القارس. أطفالي مرضى وحالتنا سيئة. كل مقوّمات الحياة مفقودة، ولم يبق لنا أيّ شيء".[204]
حلّلت هيومن رايتس ووتش ستّ صور منشورة على الإنترنت وفيديو التقطته وكالة "فرانس برس"، لتحديد الموقع الجغرافي للهجوم الذي دمّر مبنى أقارب سارة وألحق أضرارا جسيمة بالمبنى المجاور في نفس الانفجار - بما في ذلك المبنى الذي كانت تعيش فيه سارة وعائلتها - من خلال مقارنة المعالم في الصور والفيديوهات بصور الأقمار الصناعية الملتقطة قبل الهجوم وبعده. من خلال تحليل أوامر الإخلاء عبر الإنترنت وصور المنشورات التي أسقطت جوا والمنشورة على الإنترنت، تأكّدت هيومن رايتس ووتش من أنّ البلوك 108 لم يكن مشمولا بالإخلاء حتى 23 يناير/كانون الثاني 2024، أي بعد ستة أسابيع ونصف.[205]
لا تُظهر صورة الأقمار الصناعية الملتقطة في 7 ديسمبر/كانون الأوّل 2023 عند الساعة 12:09 ظهرا بالتوقيت المحلي أيّ مؤشرات على حدوث أضرار بالمبنى؛ بينما تؤكد صورة التقطت في 8 ديسمبر/كانون الأوّل 2023 عند الساعة 10:16 صباحا بالتوقيت المحلي حصول دمار كامل لمبنى أقارب سارة، وأضرارا كبيرة لحقت بمبناها والعديد من المباني القريبة. يُشير عنوان الفيديو الذي نشرته فرانس برس إلى أنّه سُجّل في 7 ديسمبر/كانون الأول 2023، ويظهر فيه مدنيّون يسحبون امرأتين مصابتين وجثة واحدة من المبنى المدمّر الذي كان يقطنه أقارب سارة. كما تُظهر صور الأقمار الصناعية حصول ضربتين إضافيتين في نفس الفترة الزمنيّة على بعد عشرات الأمتار فقط من الهجوم الذي دمّر منزل أقارب سارة وألحق أضرارا كبيرة بمنزلها.
لم يكن هجوم 7 ديسمبر/كانون الأول حدثا معزولا ألحق أضرارا بالبلوك 108؛ فقد تعرّضت هذه المنطقة إلى هجمات متعددة قبل ذلك التاريخ. حدّدت هيومن رايتس ووتش ما لا يقلّ عن ستّ ضربات إضافية، قبل هجوم 7 ديسمبر/كانون الأول، يُرجّح أنّ بعضها شمل ذخائر كبيرة ألقيت من الجوّ كما يتضح من صور الأقمار الصناعية.
رغم الهجمات المتكرّرة، لم يكن البلوك 108 معنيّا بالإخلاء حتى 23 يناير/كانون الثاني 2024.[206] يُذكر أنّ العديد من المدارس، بما في ذلك "مدرسة الشيخ جابر" التابعة للأونروا، تقع في البلوك 108. منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول، تمّ نصب العديد من الخيام للنازحين داخل مباني المدارس في هذا البلوك. إضافة إلى ذلك، تمّ إنشاء مستشفى ميداني في "ملعب ناصر" في منتصف ديسمبر/كانون الأوّل 2023، لكنّه فُكّك حوالي 19 يناير /كانون الثاني 2024، بعد شهر واحد فقط من تشغيله.
في الفترة اللاحقة لأمر الإخلاء الصادر في 23 يناير/كانون الثاني 2024، أظهر تحليل لصور بالأقمار الصناعيّة أجرته هيومن رايتس ووتش ارتفاعا في الهجمات على المنطقة - يُفترض أنها من غارات جويّة إسرائيلية. أول تأثير مرئي للتوغلات البرية والهدم الذي حصل داخل البلوك 108 ظهرا في صور الأقمار الصناعية في 3 فبراير/شباط 2024. بعد أسبوع، احتلّ الجيش الإسرائيلي مدرسة الشيخ جابر وملعب ناصر.
أكثر من 70%من المباني السكنيّة داخل هذا البلوك لحقتها أضرار جسيمة أو هُدّمت بحلول منتصف فبراير/شباط. ارتفعت عمليّات الهدم حتى نهاية فبراير/شباط 2024، بما في ذلك منزل سارة الذي يبدو أنه تحوّل إلى أنقاض كما يظهر في صور بالأقمار الصناعية وفي فيديو وثلاث صور أرسلت مباشرة إلى هيومن رايتس ووتش.
المواصي
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، صنّفت إسرائيل منطقة في المواصي - وهي بلدة بدوية فلسطينيّة على الساحل الجنوبي لغزة - "منطقة إنسانية".[207] وفقا للأمم المتحدة، يبلغ عرض المنطقة حوالي كيلومتر واحد وطولها 14 كيلومتر، وهي في أغلبها قاحلة ورمليّة.[208] لا توجد مياه جارية في المواصي.
منذ تصنيف المواصي كـ "منطقة إنسانية"، وضع الجيش الإسرائيلي حدودا مختلفة للمنطقة في 14 مناسبة مختلفة على الأقل على مختلف قنوات التواصل الخاصّة به.[209] في 28 أبريل/نيسان 2024، تم توسيع المنطقة شرقا إلى شارع صلاح الدين وشمالا لتشمل معظم دير البلح.[210] بداية من 22 يوليو/تموز 2024، زعم الجيش الإسرائيلي أنّ الجزء الشرقي من المواصي كان يُستخدم في إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل، فقلّص حجم المنطقة الإنسانية، وحث الناس في المنطقة التي ألغيت على الانتقال إلى المنطقة المتبقيّة.[211] بين 22 يوليو/تموز و25 أغسطس/آب، أعاد الجيش الإسرائيلي تحديد "المنطقة الإنسانية" وقلّص حدودها ست مرّات على الأقل. كما أعاد تصنيف ما لا يقل عن 43 بلوكا داخلها كمناطق قتال.[212]
أصابت الغارات الجويّة وعمليات القصف الإسرائيليّة المنطقة الإنسانيّة في المواصي، كما ضربت مناطق أخرى مشمولة بالإخلاء.
في 4 يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت "أنقذوا الطفولة"، وهي منظمة دوليّة، بيانا صحفيا جاء فيه:
أفادت تقارير[213] أن 14 شخصا قُتلوا، أغلبهم من الأطفال دون العاشرة، في غارات جويّة إسرائيليّة قرب المواصي هذا الصباح، وهي منطقة صنفتها السلطات الإسرائيلية على أنها "منطقة إنسانية"،[214] أمرت القوات الإسرائيلية المدنيين بالإخلاء والتوجه إليها من أجل سلامتهم.[215]
كما أكّد البيان أن لا مكان آمن في غزة:
أصدرت القوات الإسرائيليّة ما يسمى "أوامر إخلاء" متعددة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، وجّهت المدنيين إلى ثلاث مناطق في الجنوب - خان يونس ورفح والمواصي. وجميع هذه المناطق الثلاث تعرّضت لغارات جوية إسرائيلية لاحقا، ممّا أسفر عن مقتل وإصابة مدنيين، منهم أطفال.[216]
خلُص جيسون لي، مدير أنقذوا الطفولة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، إلى ما يلي:
لا أستطيع التأكيد على هذا بالقدر الكافي: لا يوجد مكان آمن في غزة. لكن بموجب القانون الدولي الإنساني، يجب أن تكون هناك أماكن آمنة. المخيّمات والملاجئ والمدارس والمستشفيات والمنازل وما يسمى "المناطق الآمنة" يجب ألا تكون ساحات معارك. لكنّ غزة صارت خرابا.
أوامر الانتقال هذه تُعطي مجرّد انطباع واهم بالسلامة. فإذا بقي الناس، سيُقتلون، وإذا انتقلوا، سيُقتلون أيضا. ليس أمام الناس سوى "اختيار" حكم الإعدام هذا أو ذاك.[217]
غطّت وسائل إعلام مختلفة الغارة الجوية في 4 يناير/كانون الثاني، التي أصابت نازحين فلسطينيين لجأوا إلى منزل وخيام في المواصي. قتل الهجوم 16 شخصا، وفقا لوزارة الصحة في غزة،[218] رغم أنّ مصادر أخرى أفادت أن عدد الضحايا كان 14 و17.[219] تحقّقت هيومن رايتس ووتش من ثلاثة فيديوهات وأربع صور جُمعت من منافذ إخبارية، ونُشرت في 4 يناير/كانون الثاني 2024، تُصوّر الفترة اللاحقة للغارة، وتضمنّت مقابلات مع شهود. تُظهر صورة التقطتها الأقمار الصناعية في صباح 5 يناير/كانون الثاني حفرة قطرها عشرة أمتار، تتوافق مع ذخيرة أسقطت من الجو. وهناك صورة التقطت في 3 يناير/كانون الثاني لا تظهر فيها أيّ علامات على وجود أضرار. كما تُظهر الفيديوهات والصور التي حدّدت هيومن رايتس ووتش مواقعها هذه الحفرة الكبيرة، إلى جانب دمار شديد لحق بالمباني والهياكل القريبة. موقع الهجوم موجود ضمن الحدود التي وضعها الجيش الإسرائيلي للمنطقة الإنسانيّة في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023. لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من التحقق بشكل مستقلّ من عدد ضحايا الهجوم.
وثّقت هيومن رايتس ووتش أيضا هجوما نفذته القوات الإسرائيليّة على مبنى سكنيّ تابع لـ "أطباء بلا حدود" في المواصي.[220] في 20 فبراير/شباط 2024، أطلقت دبّابة إسرائيليّة ذخيرة من العيار المتوسط إلى الكبير على مبنى سكني متعدّد الطوابق مُخصّص لموظفي أطباء بلا حدود وعائلاتهم في المواصي.[221] أسفر الهجوم عن مقتل شخصين وإصابة سبعة آخرين، وفقا لتحقيق أجرته "نيويورك تايمز".[222] في بيان نُشر على موقعها، قالت أطباء بلا حدود إنّها قدّمت إحداثيات المبنى إلى السلطات الإسرائيلية وأكّدت أنّها لم تر أي أعيان عسكريّة في المنطقة قبل الهجوم، ولم تتلق تحذيرا من الجيش الإسرائيلي من أيّ هجوم وشيك.[223] راجعت هيومن رايتس ووتش صورا وفيديوهات صوّرتها "سكاي نيوز" وأطباء بلا حدود، وتأكّدت من وجود علم كبير لأطباء بلا حدود على السطح الخارجي للمبنى وقت الهجوم. كما تحقّق الباحثون من صورة نشرتها أطباء بلا حدود على إكس في 22 فبراير/شباط، تُظهر الأضرار التي لحقت بالجزء الخارجي للمبنى. كما تُظهِر صور أرضية وصور بالأقمار الصناعية أنّ مبنى أطباء بلا حدود كان معزولا، وأنّ أقرب المباني له كانت على بعد حوالي 50 مترا. أكّدت السلطات الإسرائيلية لـ سكاي نيوز أنّها تلقت الإحداثيات، وأوضحت أنّ الجيش أطلق النار على المبنى لأنّه "حُدّد كمبنى فيه نشاط إرهابي".[224] قال الجيش الإسرائيلي إنّه سيقوم بتحقيقه الخاص في الهجوم.[225] حتى كتابة هذا التقرير، لم يكن قد تم الإعلان عن أي نتائج.
تحققت هيومن رايتس ووتش وحلّلت هجمات إضافية على مناطق لجأ إليها النازحون الفلسطينيّون في المنطقة الإنسانيّة في المواصي كما حُدّدت في 18 أكتوبر/تشرين الأول. في 10 مارس/آذار 2024، هاجم الجيش الإسرائيلي عائلات نازحة لجأت إلى المواصي.[226] أصابت هذه الهجمات مزرعة يملكها زياد عبد الغفور، وتستخدمها العائلات كمأوى، فقتلت 15 مدنياً، منهم شخصان من ذوي الإعاقة وأربعة أطفال، وفقا لمقابلة مصوّرة مع عبد الغفور، نشرها على يوتيوب "المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان".[227] حلّلت هيومن رايتس ووتش أيضا أربعة فيديوهات وحدّدت موقعها، كانت قد نشرتها منافذ إخبارية أخرى، بعد أن جمعتها من منصات التواصل الاجتماعي، وهي صُوّرت أعقاب الهجوم. أظهرت هذه الصور الجزء الداخلي والخارجي من الخيام التي كانت تؤوي الناس، ولحقتها أضرار كبيرة.[228] تُظهر الفيديوهات الجزء الأمامي من خيمة كبيرة متضرّرة بشدّة كانت تؤوي عدة أشخاص، وخيمتين أخريين بهما علامات تلف بسبب الشظايا على قماشهما. كانت أمتعة الناس متناثرة، وبقع الدم تُلطّخ الوسائد والحصائر داخل إحدى الخيام. أكّد تحليل لصور الأقمار الصناعية أنّ الهجوم حصل بين الساعة 10:40 صباحا يوم 9 مارس/آذار بالتوقيت المحلي والساعة 10:39 صباحا من اليوم التالي. إضافة إلى ذلك، في المنطقة المجاورة لهذه الخيام الكبيرة، يُمكن رؤية العديد من الحفر الناجمة عن الانفجارات في أماكن كانت توجد فيها خيام أصغر حجما. حدّدت هيومن رايتس ووتش موقع ثلاثة فيديوهات نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبل وسائل إعلام في 10 مارس/آذار يظهر فيها أشخاص يحزمون أمتعتهم وسط خيام مدمّرة وبقايا أغراض محترقة في أعقاب الهجوم. لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من التحقق بشكل مستقل من عدد الضحايا نتيجة للهجمات. عندما وقع الهجوم على المزرعة، لم تكن حينها ضمن المنطقة المحددة كمنطقة إنسانية في المواصي، وفقاً للحدود التي وُضعت في 6 ديسمبر/كانون الأول ـ وهو أقرب تاريخ للهجوم. لكن من الواضح أنّها كانت تقع ضمن المنطقة الإنسانية في 18 أكتوبر/تشرين الأول. لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من العثور على أي بيان من السلطات الإسرائيلية عبر أي وسيلة كانت تأمر الناس بإخلاء المناطق الواقعة ضمن المنطقة الإنسانية في 18 أكتوبر/تشرين الأول، والتي تغيّرت في 6 ديسمبر/كانون الأول.
في 20 أبريل/نيسان 2024، هاجم الجيش الإسرائيلي خياما تؤوي نازحين داخل حدود المنطقة الإنسانيّة في المواصي. حلّلت هيومن رايتس ووتش فيديو وحدّدت موقعه، كانت قد نشرته قناة الجزيرة فلسطين على إكس، ويُظهر عمودا كبيرا من الدخان، وأربع صور إضافية لآثار الهجوم نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في 20 أبريل/نيسان. من خلال مراجعة صور الأقمار الصناعية المتوفّرة وتحليل الظلال المرئيّة في الفيديو، توصّلت هيومن رايتس ووتش إلى أنّ الهجوم نُفذ في 20 أبريل/نيسان، بين الساعة 5 و6 مساء داخل حدود المنطقة الإنسانية التي أنشأها الجيش الإسرائيلي في 6 ديسمبر/كانون الأول، وهي الحدود السارية في ذلك الوقت، وفقا لبيانات عامة عن الحدود من قبل السلطات الإسرائيلية.[229] تُظهر صورة بالأقمار الصناعية التُقطت في 21 أبريل/نيسان أضرارا جسيمة لحقت بالخيام والدفيئات الزراعية القريبة، وغيرها من المباني في الموقع. لا توجد أضرار مرئيّة في صورة بالأقمار الصناعية التُقطت صباح 20 أبريل/نيسان.
تحدّث الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش أيضا عن هجمات أخرى نفذها الجيش الإسرائيلي في المواصي.
بعد فراره من خان يونس مع عائلته، لجأ هشام إلى المواصي في خيمة صغيرة قرب الشاطئ. قال إنّ غارة جويّة إسرائيليّة أصابت مبنى قرب مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، على بعد حوالي 300 متر من خيمته في 8 يناير/كانون الثاني 2024.[230]
بعد أربع جولات من التهجير بين خان يونس وريف رفح، لجأت أسماء (32 عاما)، وهي أمّ لأربعة أطفال كانت تعيش في الأصل في بيت لاهيا شمال غزة، في النهاية إلى المواصي. وهناك، صارت تعيش في خيمة مساحتها 20×20 متر مع 20 فردا من عائلتها. تحدّثت عن الغارات الجوية اليومية: "بالأمس، كانت الغارات على بعد 200 متر منّا ... ونحن نسمع القوات الجوية الإسرائيلية في السماء فوقنا طيلة الوقت".[231] ثمّ أنهت أسماء المقابلة قائلة: "نحن نعيش في كارثة، ونحن يائسون، جائعون ومحاصرون".[232]
رفح
طلبت أوامر الإخلاء الإسرائيلية في معظمها من الفلسطينيّين التوجّه إلى جنوب وادي غزة بحثا عن المأوى والأمان، وفي بعض الأحيان ذكرت رفح على وجه التحديد، وهي مدينة على الحافة الجنوبية لقطاع غزة، أو الملاجئ المعروفة في أحياء رفح.[233] قال معظم الأشخاص الذين قابلناهم لـ هيومن رايتس ووتش إنّهم سعوا في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى محافظة رفح بعد عمليّات تهجير متعدّدة، بما في ذلك داخل رفح نفسها. تحدّثوا عن الوضع المرعب الذي كانوا يعيشونه في الفترة التي أجريت فيها المقابلات: مئات الآلاف من الناس كانوا يعيشون في ظروف مكتظة ومزدحمة وغير صحيّة، في المباني السكنيّة أو المرافق العامة أو مدارس الأونروا، أو في تجمّعات خيام رديئة على طول الساحل وفي الأراضي الزراعية.
حتى بداية مايو/أيّار، كان معظم الفلسطينيين في غزّة يحتمون في رفح، لمّا أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء جديدة لأحياء رفح الشرقيّة، وأمر الناس بالبحث عن ملجأ في المنطقة الإنسانيّة الموسّعة في المواصي. حتى 29 مايو/أيار، أفادت الأمم المتحدة أن حوالي مليون فلسطيني هُجّروا من رفح منذ شنّت إسرائيل هجومها على المنطقة في 6 مايو/أيار.[234]
في 6 مايو/أيار، أمر الجيش الإسرائيلي جميع سُكّان الأحياء الشرقية لرفح بالإخلاء "على الفور" والبحث عن مأوى في منطقة المواصي - وهي منطقة قالت منظمات إنسانيّة إنّها غير مجهزّة لاستيعاب المزيد من النازحين.[235] في نفس اليوم، بدأ الجيش الإسرائيلي غاراته الجوية على شرق رفح.[236]
كلّ الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش قالوا إنّهم لم يشعروا بالأمان في رفح.
بعد فراره من جباليا في الشمال، قال زياد إنّه اضطُرّ إلى الانتقال مع عائلته عدّة مرّات داخل محافظة رفح بسبب الغارات الجويّة الإسرائيليّة في المنطقة:
يقول الإسرائيليون إنّ رفح آمنة. المبنى الذي أقيم فيه يقع في شارع البرازيل، وقد تعرّض المنزل الذي أمامه والمنزل الذي خلفه إلى هجمات. أصيب أفراد عائلتي بشظايا، ولديّ أقارب قتلوا في رفح – من المضحك القول إنّ رفح آمنة.[237]
في بداية الحرب، كانت فرح (38 عاما)، متزوّجة وأمّ لثلاثة أطفال، تعيش في حي الشابورة في رفح. قالت إنّها لم تبحث عن ملجأ في مكان آخر، موضّحة أنّ السلطات الإسرائيلية كانت تطلب من الناس عموما التوجّه إلى رفح من أجل سلامتهم.[238] في وقت المقابلة، كانت فرح تستضيف 70 فردا من عائلتها وعائلة زوجها الموسّعة في منزلها المكوّن من غرفتي نوم، وقد هُجّروا من مناطق أخرى في غزة. أوضحت أنّه لم يكن هناك مساحة كافية لإيواء هذا العدد الكبير من الأشخاص في مكان صغير كهذا، ما جعلهم يتناوبون على النوم. قالت أيضا إنّ القصف الإسرائيلي كان على مسافة "تتراوح بين 200 إلى 250 مترا من منزلها".[239] في 12 فبراير/شباط 2024، قال الجيش الإسرائيلي إنّه ضرب عددا من "الأهداف الإرهابية" في حي الشابورة برفح، وأنّ الضربات انتهت.[240] تحدّثت وسائل إعلام مختلفة عن مقتل العشرات.
في عملية نُفذت قبل فجر 12 فبراير/شباط، أنقذ الجيش الإسرائيلي رهينتين إسرائيليتين من مبنى في رفح، في عمليّة عسكريّة قالت تقارير إنّها أسفرت عن مقتل نحو مئة فلسطيني.[241] تحدّث هشام إلى هيومن رايتس ووتش عن تأثير عملية إنقاذ الرهائن هذه عليه:
استخدموا قوّات برّية ومسيّرات وغارات جويّة وقوّات خاصّة. كان الوضع صعبا حقا، وكانت كل الهجمات فوق رؤوسنا: كانت طائرات "إف 16" وطائرات "الأباتشي" تقصف المكان، وكانت القنابل تنهمر من كل مكان يُحيط بنا، ونحن في خيامنا. كانت تلك أصعب ثلاث ساعات مررنا بها منذ بدء الحرب. كانت قويّة ومرعبة... لذا قرّرت في تلك الليلة الانتقال بعائلتي من المنطقة. وفي اليوم التالي، حزمتُ كل أغراضي وخيمتي وعدتُ إلى الشمال: إلى بلدة الزوايدة، بالقرب من موطني الأصلي في مدينة غزة.[242]
في أواخر مايو/أيار، ضربت الغارات الجوية الإسرائيلية مناطق غرب رفح، دون أن يأمر الجيش المدنيين بالإخلاء. كانت القوات البريّة والدبّابات الإسرائيليّة تنشط في شرق رفح، وفي الأجزاء الوسطى من المدينة، وعلى طول الحدود بين غزة ومصر.[243]
وفقا لتقرير لـ العفو الدوليّة:
في 26 مايو/أيّار، تسبّبت غارتان إسرائيليتان على مخيّم السلام الكويتي، وهو مخيّم مؤقت للنازحين في تل السلطان غرب رفح، في مقتل 36 شخصا على الأقل - بينهم ستة أطفال - وإصابة أكثر من مئة آخرين. أدّت الهجمات أيضا إلى اندلاع حريق. ما لا يقلّ عن أربعة من القتلى كانوا من المقاتلين لأنّ الغارة استهدفت اثنين من قادة حماس يقيمان وسط النازحين المدنييّن.
في حادث ثان في 28 مايو/أيّار، أطلق الجيش الإسرائيلي ما لا يقلّ عن ثلاث قذائف مدفعيّة على مكان في منطقة المواصي في رفح. تسببت الهجمات في مقتل 23 مدنيّا، منهم 12 طفلا وسبع نساء وأربعة رجال، وإصابة العديد من الأشخاص الآخرين... يفترض أنّ الهجوم كان يستهدف مقاتلا من حماس وآخر من الجهاد الإسلامي.[244]
خلُص تقرير العفو الدوليّة إلى أنّ القوّات الإسرائيليّة لم تتخذ كل الاحتياطات الممكنة لتجنّب قتل المدنيين في هجمات مايو/أيّار على مخيّم السلام الكويتي والمواصي، وأنّه ينبغي التحقيق في الهجومين باعتبارهما جرائم حرب.[245]
عند كتابة التقرير، مازال معبر رفح الحدودي مع مصر مغلقا، منذ أن سيطرت عليه القوات الإسرائيليّة في عمليّات عسكريّة نفذتها في 6 مايو/أيار، ممّا تسبّب فعليا في قطع الطريق الرئيسي لعمليّات الإغاثة وإجلاء الأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية طبيّة فوريّة وعاجلة.[246]
مزاعم حول منع حماس للنّاس من الفرار
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال المتحدّث باسم وزارة الداخلية في حماس إياد البُزم في مؤتمر صحفي: "نقول لأهلنا في شمال غزة وفي مدينة غزة...، اثبتوا في بيوتكم واثبتوا في أماكنكم".[247] في اليوم نفسه، أفادت تقارير أنّ "دائرة شؤون اللاجئين" في حماس طلبت من سكّان شمال غزة "الثبات في بيوتهم والوقوف في وجه هذه الحرب النفسية المثيرة للاشمئزاز التي يشنها الاحتلال".[248]
أصدر الجيش الإسرائيلي تسجيلا صوتيا لرجل فلسطينيّ يزعم أن حماس تمنع الناس من مغادرة شمال غزة، مع استمرار استهدفت الغارات الإسرائيلية للمنطقة.[249] لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من التحقّق من صحّة التسجيل الصّوتي، ولا الظروف التي أدلى فيها الرجل بهذا التصريح.
إضافة إلى ذلك، أشارت تقارير إعلاميّة إسرائيلية إلى أنّ حماس أقامت حواجز على الطرق الرئيسيّة في غزة، ممّا أعاق وصول المدنيّين إلى مناطق أكثر أمانا في جنوب غزة.[250] زعمت هذه التقارير أيضا أنّ منع الناس من الفرار كان جزءا من جهود أوسع من جانب حماس لاستخدام المدنيّين كـ "دروع بشريّة".[251] أشار مسؤول عسكري إسرائيلي أيضا إلى أنّ حماس وضعت عقبات لمنع عمليّات الإخلاء، وحاولت نسب حادث انفجار على طريق الإخلاء إلى إسرائيل، وهو ما نفته إسرائيل.[252]
في تقرير وجّهته إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 10 يونيو/حزيران 2024، قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وإسرائيل، إنّها "وثقت عدّة تقارير تشير إلى أن عمليّات الإخلاء تعرقلت أيضا بسبب تهديدات حماس، وإقامة حواجز على الطرق لمنع عمليّات الإخلاء، والهجمات ضدّ الذين أرادوا المغادرة ... وبالتّالي، خلصت اللّجنة إلى أنّ حماس بذلت محاولات لتثبيط وإعاقة إخلاء المدنيين".[253]
سألت هيومن رايتس ووتش كلّ الأشخاص الـ39 الذين قابلتهم في مقابلات خاصة وسرّية عمّا إذا كانت حماس أو غيرها من الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة قد منعتهم من الفرار، لكن لا أحد منهم أكّد ذلك. من المحتمل، في ظل هذه الظروف، أنّ بعض الأشخاص الذين قابلناهم ربّما لم يكونوا مرتاحين لمناقشة العمليّات العسكريّة لحماس مع هيومن رايتس ووتش.
لكنّ الهجمات الإسرائيليّة المكثفة والمستمرّة في غزّة قد تعني أنّ وضع حواجز على الطرقات من قبل الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة أو أعضاء حماس، لأيّ فترة من الزمن، ستؤدّي على الأرجح إلى استهدافهم. في هذه الحالة، من غير المرجّح أن تنجح الجهود الرامية إلى منع الفلسطينيين من اتّباع أوامر الإخلاء في منعهم من الفرار، إلّا لفترات وجيزة.
على جميع أطراف النزاع اتخاذ كلّ الاحتياطات الممكنة لحماية السكّان المدنيين الخاضعين لسيطرتها من آثار الهجمات، بما في ذلك السماح للمدنيّين بالمغادرة. يتعيّن عليها أيضا، قدر الإمكان، إبعاد المدنيّين الخاضعين لسيطرتها عن محيط الأعيان العسكريّة.[254] الاستغلال المتعمّد لوجود المدنيّين أو تحرّكاتهم لجعل مناطق أو قوّات عسكريّة معيّنة محصّنة من العمليّات العسكريّة قد يرقى إلى مستوى استخدام الدروع البشرية.[255] لذلك، فإنّ أيّ جهود تبذلها حماس أو الجماعات الفلسطينيّة المسلّحة لمنع المدنيّين من الفرار قد ترقى إلى جريمة استخدام الدروع البشرية، وهي جريمة حرب، إذا نُفذّت لإجبار المدنيّين على البقاء قرب الأعيان العسكريّة من أجل ردع الهجمات عليها.
حتى لو منعت حماس بعض الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى مناطق الإخلاء، أو منعتهم من مغادرة منازلهم أو مناطقهم، فإنّ هذا لا يعفي إسرائيل من التزامها بعدم الانخراط في التهجير القسري.
تقاعس إسرائيل عن توفير احتياجات النازحين
"لن يتمّ تشغيل أي مفتاح كهربائي أو فتح صنبور مياه أو دخول أي شاحنة وقود حتى يعود الرهائن الإسرائيليون إلى منازلهم".[256]
—يسرائيل كاتس، وزير الطاقة آنذاك، ووزير الدفاع حاليا، 12 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023.
بموجب المادة 49 من اتفاقيّة جنيف، يجب أن يتمّ الإخلاء القانوني للسكّان المحميّين في إطار الالتزام بالمعايير الإنسانيّة:
علي دولة الاحتلال التي تقوم بعمليّات النقل أو الإخلاء هذه أن تتحقق إلي أقصي حدّ مُمكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميّين، ومن أنّ الانتقالات تجري في ظروف مرضيّة من وجهة السلامة والشروط الصحيّة والأمن والتغذية، ومن عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة.[257]
تتحمّل إسرائيل مسؤوليّة تلبية الاحتياجات الإنسانيّة للنازحين. هناك تعليق للجنة الدوليّة للصليب الأحمر توسّع في هذا الجزء من المادة 49:
هذه توصية قويّة للغاية إلى دولة الاحتلال... إذا لم يكن ممكنا إعادة الأشخاص الذين تمّ إجلاؤهم إلى ديارهم في غضون فترة قصيرة نسبيا، يصير من واجب دولة الاحتلال توفير سكن مناسب لهم، واتخاذ التدابير اللازمة للتغذية والصرف الصحيّ.[258]
لم تبذل إسرائيل أيّ جهود ذات مغزى للالتزام بهذه الحماية، بل إنّها اتخذت تدابير وعبّرت بشكل علنيّ عن نيّتها جعل السّلع والخدمات الأساسية لحقوق الإنسان غير متاحة للفلسطينيين في غزة ولا يُمكنهم الوصول إليها، من خلال مهاجمتها للبنية الأساسيّة المدنيّة، وفرض قيود على المساعدات.[259]
ردّا على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، قطعت السلطات الإسرائيلية الخدمات العامّة الأساسيّة لحقوق الإنسان، بما في ذلك المياه والكهرباء، عن سكّان غزة - بما في ذلك النازحين الفلسطينيين - ومنعت دخول كلّ شيء باستثناء القليل من الوقود والمساعدات الإنسانية الأساسيّة.[260] أعمال العقاب الجماعي هذه ترقى إلى جرائم حرب، وما زالت مستمرّة حتى وقت كتابة هذا التقرير.
في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، طلبت إسرائيل من جميع سكان شمال غزة، بما في ذلك مدينة غزة، أي حوالي 1.1 مليون شخص، الإخلاء إلى جنوب وادي غزة. في نفس اليوم، صرّح يسرائيل كاتس، وزير الطاقة آنذاك، على وسائل التواصل الاجتماعي، أنّ إسرائيل لن توفر "ذرّة واحدة من الماء والكهرباء للذين بقوا هناك".[261] في الواقع، لم تكن هناك ذرّة واحدة حتى للذين غادروا.
قبل الأعمال العدائية الحالية، كان 1.2 مليون شخص من سكّان غزة، البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحادّ، وأكثر من 80% منهم يعتمدون على المساعدات الإنسانية.[262] تُمارس إسرائيل سيطرة شاملة على غزّة، بما في ذلك حركة الأشخاص والبضائع والمياه الإقليميّة والمجال الجوّي والبنية الأساسيّة التي تعتمد عليها غزة، فضلا عن سجلّ السكان.[263] وهذا يجعل سكّان غزة معتمدين بشكل شبه كامل على إسرائيل للحصول على الوقود والكهرباء والأدوية والغذاء والإنترنت والسلع والخدمات الأخرى الضروريّة لتحقيق حقوقهم الإنسانية.
في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حذر "برنامج الأغذية العالمي" من "احتمال مباشر" للمجاعة، مشدّدا على أنّ إمدادات الغذاء والماء معدومة عمليّا.[264] في 3 ديسمبر/كانون الأول 2023، أفاد البرنامج بوجود "خطر كبير للمجاعة"، مشيرا إلى أنّ نظام الغذاء في غزة كان على وشك الانهيار.[265] وفي 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن البرنامج أن 48% من الأسر في شمال غزة و38% من النازحين في جنوب غزة يعانون من "مستويات شديدة من الجوع".[266] في 9 يوليو/تموز 2024، صرّح خبراء في الأمم المتحدة، منهم المقرّر الخاص المعني بالحق في الغذاء، أنّ "وفاة المزيد من الأطفال الفلسطينيين مؤخرا بسبب الجوع وسوء التغذية، لا يترك مجالا للشكّ في أنّ المجاعة قد تفشّت في جميع أنحاء قطاع غزة".[267]
التأثير على قطاع الزراعة وانعدام الأمن الغذائي
كان للعمليات العسكريّة الإسرائيليّة، سواء التي استهدفت أعيان عسكرية أو غيرها، تأثير مدمّر على القطاع الزراعي والأمن الغذائي في غزة. في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال خبراء في الأمم المتحدة إنّ تدمير نصف البنية التحتية المدنيّة في غزة "يُهدّد باستحالة استمرار الحياة للشعب الفلسطيني في غزة".[268] يُذكر أنّ قصف الجيش الإسرائيلي لآخر مطحنة قمح عاملة في غزة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تسبّب في انعدام الدّقيق المنتج محليّا في غزة في المستقبل المنظور.[269] في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أفاد "قطاع الأمن الغذائي الفلسطيني"، بقيادة برنامج الأغذية العالمي و"منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة " (الفاو)، أنّ أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في الشمال قد تضرّرت.[270] بالإضافة إلى ذلك، قال "مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع" إنّ تدمير شبكات الطرق صعّب على المنظمات الإنسانية إيصال الغذاء والمساعدات للمحتاجين إليها.[271]
في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال سكوت بول، مستشار أوّل في الشؤون الإنسانيّة لدى "أوكسفام أمريكا"، لـ "أسوشييتد برس": "تمّ تدمير المخابز ومطاحن الحبوب، والزراعة، ومرافق المياه والصرف الصحّي".[272]
القصف المستمرّ، ومعه نقص الوقود والمياه، وتهجير أكثر من 1.6 مليون شخص إلى جنوب غزة، كلّها أسباب جعلت الزّراعة شبه مستحيلة.[273] في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أفاد أوتشا أنّ الماشية في الشمال تواجه المجاعة بسبب نقص الأعلاف والمياه، وأنّ المحاصيل أصبحت مهجورة وتضرّرت بشكل متزايد بسبب نقص الوقود لضخّ مياه الريّ.[274] في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" إنّ غزة تعاني من خسارة يومية في الإنتاج الزراعي لا تقل عن 1.6 مليون دولار.[275]
حذّر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC):
يُعاني حوالي 1.84 مليون شخص في جميع أنحاء غزة من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، المصنّف في المرحلة 3 (الأزمة) أو أعلى، بما في ذلك ما يقرب من 133 ألف شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الكارثي (المرحلة 5 من التصنيف) و664 ألف شخص في المرحلة 4 (الطوارئ). في الفترة الممتدّة من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى أبريل/نيسان 2025، يُقدّر عدد الأشخاص الذين يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، بحوالي 1.95 مليون شخص في جميع أنحاء غزة، بما في ذلك ما يقرب من 345 ألف شخص قد يواجهون انعدام الأمن الغذائي الكارثي (المرحلة 5 من التصنيف). ...يظل خطر المجاعة بين نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وأبريل/نيسان 2025 قائما طالما استمرّ النزاع، وظلّ وصول المساعدات الإنسانيّة مقيّدا.[276]
في 26 يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدوليّة أمرا إلى إسرائيل، مستشهدة بتحذيرات بشأن "الظروف الكارثية" في غزة، بـ" اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تمس الحاجة إليها".[277]
لكن رغم أنّ هذا الأمر الملزم، واصلت إسرائيل تقييد أو المساعدات أو منعها. وفي مارس/آذار 2024 أصدرت محكمة العدل الدولية أمرا آخر، مشيرة إلى أنّ " الظروف المعيشية الكارثية للفلسطينيين في قطاع غزة شهدت مزيدا من التدهور، لا سيما في ضوء الحرمان المطول وواسع النطاق من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية".[278]
وفقا لـ أوتشا والأونروا، انخفض متوسّط عدد الشاحنات التي تدخل غزة يوميّا محمّلة بالطعام والمساعدات والأدوية بأكثر من الثلث في الأسابيع التي أعقبت أمر محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني.
في 10 أبريل/نيسان، أصبحت سامانثا باور، رئيسة "الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة"، أوّل مسؤول أميركي يؤكّد علنا أنّ التقارير المتعلّقة بالمجاعة، في بعض أجزاء غزة على الأقل، "موثوقة".[279]
في 11 أبريل/نيسان 2024، تحدّثت "واشنطن بوست" مع 25 منظمة إغاثة ووكالات تابعة للأمم المتحدة ودول مانحة حول أنواع المساعدات التي حاولوا إدخالها إلى غزة،[280] فوجدت أنّ "السلطات الإسرائيليّة، خلال الأشهر الستة منذ بدء الحرب، رفضت أو قيّدت الوصول إلى عدد من المواد، تتراوح من الإمدادات الطبيّة المنقذة للحياة، إلى الألعاب وكرواسون الشوكولاتة".[281]
تبرّر إسرائيل القيود وفقا لتفسيرها للمواد "ذات الاستخدام المزدوج"، وهي مواد مدنيّة بطبيعتها في الغالب، لكن يُمكن استخدامها عسكريا أيضا، مثل مواد البناء ومعدّات الاتصالات والمواد الكيميائيّة.[282] تزعم إسرائيل أنّ هذه القيود ضروريّة لخنق الجهاز العسكري لحماس.[283]
طالبت الوكالات الإنسانيّة الجيش الإسرائيلي بنشر قائمة بالمواد ذات الاستخدام المزدوج والمحظورة، وبتقديم إشعارات مكتوبة لرفضها دخول شحنات المساعدات، والسماح بالاعتراض على رفض إدخالها من قبل الجنود على الأرض، لكن مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، الجهاز العسكري المسؤول عن منع ورفض المساعدات بشكل تعسّفي، رفض ذلك حتى الآن.[284]
في 5 مايو/أيار، أغلقت السلطات الإسرائيلية معبر كرم أبو سالم بعد هجوم صاروخي شنّته حماس،[285] وفي 7 مايو/أيار، استولت القوات الإسرائيلية على معبر رفح كجزء من توغلها في المنطقة، وبالتالي منعت دخول المساعدات عبر المعبرين الرئيسيّين اللذان كانا يُستخدمان قبل سيطرة إسرائيل عليهما.
في 24 مايو/أيار، أكدّت محكمة العدل الدولية على "الوضع الإنساني الكارثي في غزة" وعلى الحاجة إلى "توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية المطلوبة على نطاق واسع ودون عوائق من جميع الأطراف المعنيّة".[286] وأمرت إسرائيل "بترك معبر رفح مفتوحا لتوفير الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانيّة المطلوبة على نطاق واسع ودون عوائق".[287]
قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت هناك 500 شاحنة محمّلة بالمساعدات الإنسانية تدخل غزّة يوميا.[288] وفي الشهر الأول من الحرب، لم يدخل غزة سوى تسع شاحنات يوميا، وفي الأيام العشرة الأولى من أكتوبر/تشرين الأول 2024، لم يدخل غزة سوى 30 شاحنة.[289]
التأثير على الكهرباء والماء والصرف الصحّي
قطعت السلطات والقوّات الإسرائيليّة إمدادات الماء والكهرباء من إسرائيل إلى غزة، والتي كانت ضرورية لتشغيل مضخّات المياه ومحطّات تحلية المياه والبنية التحتية للصرف الصحي داخل غزة، ومنعت وقيّدت الوقود اللازم لتشغيل المولّدات في غياب الكهرباء.[290] كما منعت وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانيّة من إيصال مواد حيويّة تتعلّق بالمياه وغيرها من المساعدات الإنسانيّة إلى غزة؛ ودمّرت البنية التحتية للمياه، بما في ذلك في هجمات مباشرة، وهاجمت عمّال إصلاح المياه.[291]
في 4 ديسمبر/كانون الأول 2023، قالت لين هاستينغز، منسّقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إنّ الكميّات المحدودة من الوقود المسموح بدخولها "غير كافية على الإطلاق".[292] في 6 ديسمبر/كانون الأوّل 2023، وافقت حكومة الحرب الإسرائيلية على زيادة "ضئيلة" في إمدادات الوقود إلى جنوب غزة.[293]
في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قطعت السلطات الإسرائيلية الكهرباء التي تقدمها إلى غزة، وهي المصدر الرئيسي للكهرباء هناك.[294] كما قطعت السلطات الإسرائيلية الوقود اللازم لتشغيل محطّة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة. في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذت احتياطيات الوقود من محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة.[295] في ظلّ غياب الكهرباء، لعدم توفر الوقود لتشغيل مولدات الديزل، أصبحت مرافق المياه والصرف الصحّي في غزة غير صالحة للتشغيل. رغم أنّ السلطات الإسرائيلية بدأت في وقت لاحق تسمح بدخول بعض الوقود، إلا أنّها لم تسمح إلا بجزء ضئيل ممّا هو مطلوب لتشغيل البنية التحتية الحيوية في غزة. حتى يوليو/تموز 2024، لا يزال الوقود اللازم لتلبية احتياجات غزة من الطاقة غير كاف على الإطلاق.[296]
في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أفاد مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع عن "انخفاض كبير بنسبة 92% في استهلاك المياه مقارنة بمستويات ما قبل النزاع"، ووجد أنّ "الغالبية العظمى من محطّات الصرف الصحّي أصبحت معطلة"، وحذّر من "أزمة مياه وصرف صحي ذات أبعاد كارثية".[297]
وفقا لـ أوتشا، حتى 16 فبراير/شباط، كان إنتاج المياه في غزة في حدود 5.7% فقط ممّا كان عليه قبل الأعمال العدائية الحالية.[298] في أغسطس/آب 2024، وجد "تقييم المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية" (WASH) في غزة أن 1.4 مليون شخص يواجهون نقصا في مياه الشرب، ويواجهون ظروفا غير آمنة عند الوصول إلى مرافق الصرف الصحي.[299]
يفرض القانون الدولي الإنساني على إسرائيل، بصفتها سلطة الاحتلال، توفير الاحتياجات الأساسيّة للسكّان المدنيّين. وهذا التزام إيجابي يفرض على إسرائيل أيضا حماية حقّ الفلسطينيين في الحصول على الماء، واتخاذ خطوات "متعمدة وملموسة وموجّهة" لضمان إعمال هذه الحقوق بشكل كامل. حرمان السكّان من الحصول على الماء يرقى إلى العقاب الجماعي للسكّان المدنيين، وهو جريمة حرب. يُعدّ الحق في المياه، الذي يشمل الحق في مياه الشرب الآمنة والنظيفة والصرف الصحي، حقا من حقوق الإنسان، وهو مستمدّ من الحق في الحياة والحق في مستوى معيشي لائق.[300]
إسرائيل طرف في "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وهي ملزمة بأحكامه في جميع الأوقات، بما في ذلك أثناء النزاعات المسلّحة وحالات الطوارئ العامة.[301] وبالتالي، تظلّ إسرائيل ملزمة باحترام وحماية وإعمال جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما في ذلك الحقّ في الغذاء والماء والسّكن والصحة.[302]
في تعليقاتها العامة التي تفسّر التزامات الدول الأطراف فيما يتعلق بهذه الحقوق، أكّدت "اللّجنة المعنيّة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" بشكل متكرّر على ضرورة أن تمتثل الدول لالتزامات أساسيّة معينّة تمثل المستويات الدنيا لهذه الحقوق، ولا يُمكن تبرير عدم الامتثال لها حتى في أوقات النزاع، لأنها غير قابلة للانتقاص. وهذا يشمل، من بين أمور أخرى، العديد من الالتزامات الأساسيّة المتعلقة بالحق في الصحّة، الذي لم تلتزم به إسرائيل وفقا للأدلة الواردة أدناه:
· ضمان التوزيع والوصول بعدل ودون تمييز فيما يتعلق بالمرافق والسلع والخدمات الصحيّة، لا سيما للفئات الضعيفة أو المهمّشة؛[303]
· ضمان إيصال المعونة الغذائيّة للسكّان... كونها تضمن التحرّر من الجوع واحترام الحدّ الأدنى من المضمون الأساسي في الحق في الغذاء؛[304]
· ضمان الوصول إلى مياه الشرب المأمونة ومرافق الصرف الصحي المناسبة، والسكن والغذاء؛[305]
· توفير الأدوية الأساسيّة، كما تُحدّد من حين لآخر وفقا لـ"برنامج عمل منظمة الصحّة العالميّة بشأن الأدوية الأساسيّة".[306]
ما قاله المهجّرون الفلسطينيون عن وضعهم الإنساني
أكّد جميع الأشخاص الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش لغرض هذا التقرير على وضعهم الإنساني المزري. قالوا جميعا إنّهم يعانون من الجوع والعطش، وليس لديهم مأوى مناسب أو هم بلا مأوى أصلا، وكلّهم يكافحون من أجل الوصول إلى السلع الأساسيّة والخدمات العامة. كما أنّ المرضى لا يستطيعون الحصول على الأدوية أو الخدمات الطبية التي يحتاجونها.
بحث عمر، الذي روينا في قسم سابق كيف نجا في ظروف مروّعة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، عن ملجأ في مخيّم في خان يونس، رغم أنّه اضطّرّ على الأرجح إلى الانتقال إلى مكان آخر بعد المقابلة. تحدّث عن الوضع قائلا:
المكان الذي نحن فيه الآن هو المكان الذي قال الإسرائيليون إنّه آمن – خان يونس. نعيش في خيمة، وليس لدينا أيّ شيء: لا طعام ولا ماء، ونحن نعيش تحت خيمة بلاستيكيّة.
يؤوي هذا المخيّم 77 ألف شخص، لكن في الواقع طاقة استيعابه لا تتجاوز خمسة آلاف. يتراوح عدد الأطفال فيه بين 17 و19 ألف طفل، 90% منهم مرضى. لقد هطلت الأمطار، ولا توجد أدوية... ونحن لا نعرف كيف نعالج المرضى. إذا استيقظت [في الليل] للذهاب إلى الحمّام، فعليك الانتظار لساعات ليحين دورك.[307]
قال يوسف، وكانت زوجته في آخر حملها وقت المقابلة، إنّ الأطباء أخبروها قبل اندلاع الأعمال القتاليّة أنّها ستحتاج إلى عمليّة قيصريّة حتى تتمكّن من الولادة بأمان. كما قال: "لا أعرف ما إذا سيأتيها المخاض في المكان المناسب... فنحن لا نتلقى أي مساعدة، ولا أعرف ماذا سأفعل عندما يحين الوقت. حتى مجرّد التفكير في هذا الأمر عبء ثقيل عليّ.[308]
استطرد يوسف في شرح ظروف تهجيره إلى المكان الذي كان يعيش فيه وقت المقابلة، وهو خيمة في رفح:
عليّ السير ثلاث كيلومترات للحصول على غالون واحد من الماء، وليس هناك طعام. وإذا تمكّنا من الحصول على طعام، فهو طعام معلّب... تعاني والدتي من ارتفاع في ضغط الدم والسكّري، لكن علاجها غير متاح. أنا أبحث باستمرار عن أشياء لازمة للبقاء على قيد الحياة.[309]
لم تتمكّن هيومن رايتس ووتش من متابعة الاتصال بيوسف لمعرفة ما حدث له ولأسرته.
أوضح الأشخاص الذين قابلناهم باستمرار صعوبة إيجاد مكان يؤويهم أثناء رحلتهم، وتحدّثوا عن أماكن مزدحمة بشكل كبير، وهي في الغالب مدارس الأونروا أو مدارس عامة ومستشفيات أصبحت ملاجئ غير رسمية للنازحين.[310]
تحدّث سامي (32 عاما)، وهو أعزب ومسؤول ماليّا عن عائلة كبيرة وممتدّة، عن فراره من منزله في الشجاعيّة في منتصف أكتوبر/تشرين الأول، وعثوره على مأوى مع عائلته بجوار مستشفى القدس:
أثناء إقامتنا في مستشفى القدس، كان الأمر مروّعا. كانت المباني الثلاثة مكتظة بالكامل، وكان عدد الناس كبير هناك - ربما 16 ألف شخص. لم يكن المستشفى قادرا على استيعاب أو مساعدة الكثير من الناس. كان الناس يمرضون أو يصابون بأمراض. لم يكن أحد يساعدنا في ذلك الوقت ... كان من الصّعب جدا العثور على الماء أو حتى شرائه. لم تكن المياه التي وجدناها صالحة للشرب، لكن لم يكن أمامنا أيّ خيار.[311]
ألحقت الغارات الجويّة الإسرائيليّة في 18 أكتوبر/تشرين الأول أضرارا بمستشفى القدس.[312] وصف سامي ما حدث بـ"ليلة الموت"، وقال إنّه أصيب بحروق من الدرجة الأولى أثناء الهجمات، وفي النهاية فرّ إلى مدرسة تابعة للأونروا في شارع الزيتونة في جنوب مدينة غزة، كانت تُستخدم كملجأ:
عندما وصلنا إلى المدرسة، وجدنا الوضع مروّعا. لم تكن مكانا مناسبا للبشر، كان هناك 20 ألف شخص يعيشون هناك... لم يكن هناك أيّ مسؤول. لم نحصل على أفرشة أو أغطية، ولم نتمكّن من البقاء داخل المدرسة. مكثنا خارجها، لليلة واحدة فقط.[313]
كلّ الذين قابلناهم تحدّثوا عن معاناة البحث على الغذاء والماء للبقاء على قيد الحياة – وهو عمل يوميّ يستوجب السّير كيلومترات لإيجاد أشخاص لديهم طعام أو مياه صالحة للشراب للبيع.
فرّت يسرى (36 عاما)، التي تعيش مع والدها وزوجته وشقيقها الذي لديه إعاقة حركيّة، من منزلها قرب السياج مع إسرائيل في 11 أكتوبر/تشرين الأوّل، ولجأت إلى خان يونس، بعد تعليمات من الجيش الإسرائيلي وصلتها على هاتفها وعبر رسائل نصية.[314] تحدّثت عن صعوبة العثور على مكان يؤوي والدها الذي لديه عدة أمراض، ويحتاج إلى مساعدة في المشي، وكذلك شقيقها الذي يستخدم كرسيا متحرّكا. في الأخير وجدت حاوية معدنية لاستئجارها:
نحصل على الماء، لكنّه غير صالح للشراب. الماء مالح، لكن علينا شربه عندما لا نتمكن من الحصول على مياه الشرب.. والاستحمام يظلّ حلما. لا يمكننا تسخين الماء للاستحمام لأنّنا نحتاج إلى الخشب لإشعال النار. أحيانا، نحرق الملابس القديمة لإشعال النار للطهي. نصنع خبزا رديئا لأنّنا لا نملك كل المكوّنات، ولا نستطيع تحمّل تكلفتها... ليس لدينا ما يكفي من أي شيء.[315]
كانت نادين (29 عاما) تعيش مع زوجها وأربعة أطفال في مخيّم النصيرات في غزة قبل الحرب. شرحت كيف هُجّرت هي وعائلتها ثلاث مرات، وكانوا يحتمون في دير البلح وقت المقابلة. تحدّثت عن ارتفاع الأسعار بشكل كبير منذ بداية الأعمال العدائية، مع ندرة السلع بشكل متزايد:
موضوع الغذاء والماء مروّع، ويجعلني أشعر وكأنني أعيش حروبا متعدّدة. حرب من أعدائي وحرب مع شعبي. ارتفعت أسعار المواد الغذائية كثيرا: في الماضي، كان سعر حزمة البقدونس حوالي شيكل واحد [حوالي 0.27 دولار] والآن أصبح من 5 إلى 10 شيكل، ونفس الشيء بالنسبة لكيس الدقيق، سعره يتراوح من مئة إلى 150 شيكل. مرّ أسبوع لم أحصل فيه على دقيق...
من الصّعب جدّا الحصول على ماء للشراب، يكاد ذلك يكون مستحيلا. أصيب أطفالي بالإسهال والإنفلونزا وسيلان الأنف، وكلّ هذا بسبب الماء [السيّئ] ... والأدوية غير موجودة. لم يعد لدينا حقوق. لم يعد الناس الذين يعيشون في غزة بشرا. نحن نعيش أقل من الحيوانات في بلدك - على الأقلّ هم لديهم ماء وطعام ... هذا الصباح، أعطيت بناتي بعض الخبز وقليلا من الجبن. ليس لديّ طعام لأعطيه لهن، لذلك أعدتهم إلى النوم.. أشعر بالخجل من نفسي.[316]
أوضح سعيد (53 عاما)، مدير منظمة تُعنى ببرامج موجّهة للأطفال الذين لديهم السكري في غزة، مدى صعوبة الحصول على الأنسولين في غزة، وعبّر عن قلقه بشأن مخزون يكفي فقط لأسبوع واحد لابنه الذي لديه سكري من النوع الأول. فرّ سعيد، الذي هُجّر أصلا من مخيم الشاطئ في شمال غزة، إلى رفح تحديدا، للحصول على الأنسولين وزيادة فرص الحصول على السلع الأساسيّة الأخرى، بما في ذلك منتجات النظافة الشهرية، والخدمات الخاصّة بأطفاله الخمسة، مقارنة بمناطق أخرى مثل دير البلح، حيث لجأ سابقا:
أسعار الطعام والماء هذه الأيام تضاعفت 30 أو 40 مرّة مقارنة بفترة ما قبل الحرب. نحن نشتري كل ما نحتاجه من الماء. يوجد الآن أكثر من مليون شخص في رفح.. حركة المرور رهيبة، والتنقل مرهق... انتقلت إلى هنا للحصول على الأنسولين. لدي علبتين فقط من الدواء... لكن ليس هناك حل... لا أعرف ماذا سيحدث. سأواجه مشكلة كبيرة قريبا. أطفالنا لا يموتون فقط من القنابل – بل من قلّة الطعام والماء والحاجة إلى الدواء أيضا.
ابني واحد من ثلاثة توائم، هو وفتاتين. لا أستطيع الحصول على منتجات النظافة النسائيّة لبناتي على الإطلاق. في رفح حيث أنا الآن، لا يمكننا الحصول على أيّ شيء؛ سئمت من البحث. ربما يوجد في أماكن أخرى في غزة، لكن هنا في رفح لا يوجد شيء. حاولتُ الحصول على حفاضات [حفاضات أطفال] لبناتي أثناء فترات الحيض، لكنها غير متوفرة.[317]
فرّ طارق (53 عاما)، وهو أب لـ11 طفلا، أيضا من منزله في مخيّم الشاطئ أيّام الحرب الأولى، ولجأ مع ابنه الذي كان يتلقى علاجا من سرطان الدم في "مستشفى الرنتيسي التخصصي" في غزة. قال إنّ المستشفى تضرّر في النهاية في غارة جويّة إسرائيليّة، فهرب مع عائلته إلى رفح:
لا أعتقد أن هناك ظروفا أسوأ من التي نعيشها الآن. بقدر ما سأحاول أن أشرح بالكلمات، فإنّ العيش فيها مختلف تماما. أنا مريض منذ اليوم الذي وصلتُ فيه إلى رفح - أي قبل 30 أو 40 يوما، كما أعاني من السكري الذي لا أتابعه ولا أتناول حتى الأدوية الخاصة به، وزوجتي لديها السكري أيضا... ابني (سبعة أعوام) لديه سرطان الدم، ومناعته ضعيفة، ولا أحد هنا يستطيع مساعدته، وأنا لا أملك حتى وسيلة للاتصال بطبيبه. لدي أيضا أطفال لديهم حالات أخرى مثل مشاكل في البصر، وأحدهم مصاب بجروح في كلتا ساقيه.
أرسلت ابني للتوّ وأعطيته خمسة شيكل (حوالي 1.30 دولار) لأننا بلا ماء. هذا المبلغ سيكفينا لخمسة لترات، ونحن 15 شخصا. بحلول الليلة سوف ينفد الماء مرة أخرى، وإذا لم نتمكن من العثور على مياه صالحة للشرب، فسوف نشرب مياه البحر. سبق أن اضطررت لشرب مياه البحر عدّة مرّات. لا يُمكنك تصوّر حجم معاناتنا.
في ما يتعلق بالفوط الصحية لبناتي: لا يمكننا العثور عليها في الأسواق، وحتى لو تمكنا من العثور على بعضها، فلن نتمكن من شرائها لأنها صارت باهظة الثمن؛ قد تصل تكلفة العبوة الواحدة ما بين 25 إلى 30 شيكل (حوالي 6 إلى 8 دولارات)، لهذا فهن يستخدمن الحفاضات.[318]
الخلاصة
استمرّت السلطات الإسرائيليّة في تهجير الناس بشكل قسري وجماعي إلى مناطق تُنتهك فيها حقوقهم. لم يُنشئ الجيش الإسرائيلي أيّ بنية أساسية لتوفير السلع والخدمات الأساسية لحقوقهم الإنسانية، بل عمد إلى منع الجهات الإنسانية الفاعلة من القيام بأنشطة كافية، وتعمّد اتخاذ تدابير لجعل الموارد القليلة الأساسية لحقوق النازحين غير متاحة ولا يُمكن الوصول إليها، من خلال التدمير الواسع لقدرة الإنتاج الغذائي المحلّي، والمياه، والكهرباء، والوقود في جميع أنحاء غزة. بينما يفرض الالتزام المنصوص عليه في المادة 49 من اتفاقية جنيف على سلطة الاحتلال توفير ضمانات "إلى أقصى حدّ ممكن" للسكان الذين يتمّ إجلاؤهم، فإن تعليق اللّجنة الدوليّة للصليب الأحمر يشير إلى أنه في حال "لم يكن ممكنا إعادة الأشخاص الذين تم إجلاؤهم إلى ديارهم في غضون فترة قصيرة نسبيا، فسيكون من واجب سلطة الاحتلال توفير سكن مناسب لهم، واتخاذ الترتيبات الغذائية والصحية المناسبة".[319] مرّ الآن أكثر من عام منذ بدء النزاع، وهناك أكثر من 1.8 مليون فلسطيني في غزة يُعانون من مستويات "حرجة للغاية" من الجوع.[320] الطريق الوحيد لدخول غزة المحاصرة والمحتلة، والتي تحيط بها إسرائيل من الشمال والشرق ومصر من الجنوب، يمرّ عبر الحدود التي تسيطر عليها إسرائيل. في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قال وزير الزراعة والأمن الغذائي الإسرائيلي آفي ديختر "إننا مستمرّون في تنفيذ نكبة غزة". في سعيه إلى تحقيق هذا الهدف، قصف الجيش الإسرائيلي البنية التحتية المدنية والمساكن، واتخذ تدابير أدّت إلى أزمة إنسانيّة كارثيّة، حيث لا يستطيع النازحون الوصول إلى الغذاء أو الماء أو الصرف الصحي أو الرعاية الصحية، وحيث يموت الأطفال من الجوع والأمراض التي يمكن تفاديها. قبل الحرب، كانت هناك حوالي 500 شاحنة تدخل غزة يوميا، تحمل سلعا تجاريّة ومساعدات إنسانيّة، لكن هذا العدد انخفض بشكل كبير منذ ذلك الحين. في أغسطس/آب 2024، دخلت غزّة 1,559 شاحنة فقط عبر معبري كرم أبو سالم ورفح، حتى عندما أُعلن عن حالة تأهب للمجاعة في أجزاء من غزة هذا الصيف.[321]
بين 1 و15 سبتمبر/أيلول 2024، لم تُنفذ سوى 37 مهمّة إنسانية من أصل 94 مهمة تم التخطيط لها بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية في شمال غزة (أي 39%). كما مُنعت 25 مهمّة أخرى (أي 27%).[322]
هذه السياسات والممارسات تشكل دليلا على التهجير القسري، وهو جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانيّة، ودليلا على انتهاك إسرائيل لحقوق النازحين، بما في ذلك الحق في الغذاء والصحة والمياه والصرف الصحي. تقاعست إسرائيل، في أفضل الأحوال، عن الوفاء بالالتزامات الصارمة المنصوص عليها في المادة 49 من اتفاقية جنيف لإجلاء الناس إلى مناطق تُلبّى فيها احتياجاتهم الإنسانية، وفي أسوأ الأحوال دفعت بهم إلى أماكن بقصد تجويعهم، ووضعتهم في طريق الأذى يشكل متعمّد.
>
إدامة التهجير القسري: تدمير واسع للمناطق السكنية الأصلية
بعد خمسة أشهر من الحرب الكارثية والتدمير، توحي تصرفات الحكومة الإسرائيلية في غزة بأن أهدافها تتجاوز تدمير حماس. كما كتب اللواء غيورا آيلاند في ديسمبر/كانون الأول الماضي في يديعوت أحرونوت، يبدو أن هناك محاولة "لتحويل غزة إلى مكان يستحيل العيش فيه بشكل مؤقت أو دائم". بالفعل، فقد تم تدمير كل شيء تقريبا يسمح لمجتمع حيوي بالحياة، مثل السجل المدني، وسجل الممتلكات، والبنية التحتية الثقافية والصحية، ومعظم المدارس التي بنتها الأونروا.[323]
— جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية/ نائب رئيسة المفوضية الأوروبية، 5 مارس/آذار 2024
يحظر القانون الدولي الإنساني التهجير القسري للمدنيين إلا بشكل مؤقت، عندما يكون ذلك مطلوبا لأسباب أمنية أو عسكرية قاهرة.[324] ينبغي السماح للأشخاص بالعودة بمجرد انتهاء الأعمال العدائية. في غضون ذلك، ينبغي ألا يتخذ الجيش الإسرائيلي إجراءات تجعل العودة مستحيلة. يشمل ذلك الإجراءات التي جعلت غزة غير صالحة للحياة لسنوات قادمة من خلال التدمير واسع النطاق وتسوية أجزاء كبيرة من غزة بالأرض، لا سيما في الأوقات التي تكون فيها القوات الإسرائيلية مسيطرة على منطقة ما، ويكون القتال الفعلي قد توقف. يُظهر تحليل صور الأقمار الصناعية أن الدمار الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي غالبا ما يبدو أنه يتبع نمطا يشمل القصف الجوي للمناطق، يليه تدخل القوات البرية، وفي بعض الحالات، بمجرد تحقيق مستوى نسبي من السيطرة، يتم تجريف وتسوية الأراضي بشكل متعمد واستخدام عمليات الهدم المدروسة. يفترض أن بعض هذا التدمير يتجاوز بوضوح ما هو ضروري عسكريا ويبرهن على وجود نية لتدمير أجزاء من غزة بشكل منهجي، مما يعيق حق العودة.
في 1 أغسطس/آب 2024، قالت الأمم المتحدة إن "النزاع الأخير في قطاع غزة أنتج حجما من الركام يفوق حجم الركام الناتج عن جميع النزاعات على مدار الـ16 عاما الماضية بمقدار 14 ضعفا".[325] قدرت "دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام" كمية الحطام في غزة بـ 37 مليون طن في منتصف أبريل/نيسان، أو 300 كيلوغرام لكل متر مربع، مشيرة إلى أن كمية الأنقاض في غزة أكبر مما كانت عليه في أوكرانيا، وأنه يرجح بأن تكون الأنقاض ملوثة بشدة بالذخائر غير المنفجرة.[326] في 2 مايو/أيار 2024، قدّر "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أن إعادة إعمار غزة يستلزم ما بين 40 و50 مليار دولار أمريكي ويتطلب جهدا على نطاق لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.[327]
تدمير البنية التحتية المدنية
في 8 فبراير/شباط 2024، قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إن مكتبه سجل "عمليات تدمير وهدم واسعة النطاق من قبل قوات الجيش الإسرائيلي للبنية التحتية المدنية وغيرها، بما في ذلك المباني السكنية والمدارس والجامعات في المناطق التي لا يوجد فيها قتال أو التي لم يعد فيها قتال".[328] شملت ملاحظات تورك الفترة منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنه أشار إلى تقارير عن تدمير مبانٍ سكنية ومجمعات سكنية في خان يونس وقت صدور بيانه. ذكّر السلطات الإسرائيلية "بأن التهجير القسري للمدنيين قد يشكل جريمة حرب"،[329] وقال إن "تدمير المنازل وغيرها من البنى التحتية المدنية الأساسية... يبدو أنه يهدف أو يؤدي إلى جعل عودة المدنيين إلى هذه المناطق مستحيلة".[330]
وفقا للبنك الدولي، فإنه بحلول 21 يناير/كانون الثاني 2024، ومقارنة بالأرقام قبل النزاع، فإن 83.6% من جميع البنى التحتية الصحية في غزة؛ و83.4% من مرافق التعليم؛ و75.8% من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ و61.6% من المساكن؛ و62% من خطوط الكهرباء قد تضررت أو دُمرت.[331] في 5 يناير/كانون الثاني، صرح مارتن غريفيتش، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، بأن "غزة ببساطة أصبحت غير صالحة للسكن".[332] سجّلت منظمة الصحة العالمية أكثر من ألف هجوم على مرافق الرعاية الصحية في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ 7 يوليو/تموز 2024، وأعلنت المنظمة عن عدم وجود مستشفيات عاملة في مدينة رفح الواقعة في أقصى جنوب القطاع، وذلك في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الأخير هناك.[333]
برنامج الأمم المتحدة لتطبيقات الأقمار الصناعية (يونوسات) في 27 سبتمبر/أيلول استنادا إلى صور التقطت في 3 و6 سبتمبر/أيلول أن ما يقرب من 130 ألف مبنى قد تضرر أو دمر.[334] يشكل هذا العدد حوالي 52% من إجمالي المباني في غزة و178,132 وحدة سكنية متضررة حسب التقديرات. وأكثر المحافظات تضررا هي غزة وخان يونس حيث بلغ عدد المباني المتضررة أو المدمرة حوالي 35 ألف مبنى.