لا يمكن للمرء في أي محادثة مع المصريين في الأشهر الأخيرة، تجنب النقاش عن الارتفاع السريع واليومي لأسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، والتي تتغير أحيانا أثناء وجود الشخص في المتجر ذاته. في الأسابيع الأخيرة، أدت أزمة العملات الأجنبية إلى تجاوز سعر الصرف في السوق السوداء ضعف السعر الرسمي البالغ 31 جنيها للدولار الأمريكي الواحد. تتعرض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لملايين المصريين للخطر، بما فيها الحق في الغذاء والمستوى المعيشي اللائق، وذلك بسبب التضخم الذي وصل إلى مستوى قياسي بلغ 40% في الأشهر الأخيرة. كل هذا مجرد جزء بسيط من الأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة والمطولة في مصر.
الأسوأ من ذلك، لا يبدو أن هناك مخرجا معقولا للأزمة. رغم أن الحرب بين إسرائيل و "حماس" في غزة حوّلت بعض الانتباه عن الأزمة الشديدة في مصر، إلا أن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي لجأت إلى ما تتقنه: أساليب يائسة لكسب الوقت، دون معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، والدخول في دوامة مفرغة ومستمرة من الفشل.
كان هذا هو الحال، مثلا، عندما عمدت الحكومة، بعدما ما شعرت بتصاعد الاستياء العام بشكل واضح، إلى تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى ديسمبر/كانون الأول 2023 قبل الموعد المفترض في مارس/آذار 2024، رغم عدم منح أي شخصية أو مجموعة الفرصة لخوض الانتخابات بنزاهة. في يناير/كانون الثاني، وافق مجلس الشعب بسرعة على القانون الذي اقترحته الحكومة والذي يمنح الجيش، الحاكم الفعلي للبلاد، مزيدا من السلطة لمحاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية على جرائم واسعة النطاق تتعلق بالاقتصاد، وأية جرائم أخرى يراها الرئيس أنها تقوّض "متطلبات الأمن القومي"، مما يزيد من تراكم القوانين التعسفية التي تستخدمها المحاكم لمعاقبة المعارضة، وابتزاز الثروات، والضغط على أصحاب المصالح التجارية الكبرى للتخلي للجيش عن جزء من حصتهم السوقية.
على أن السيسي بدا متوترا في الآونة الأخيرة. في 30 سبتمبر/أيلول، قال السيسي حرفيا للمصريين في إطار مقارنة أجراها مع "مجاعة الصين الكبرى" التي أودت بحياة ملايين في القرن الماضي، إنه من المقبول أن يواجهوا المجاعة أو يموتوا جوعا لتحقيق رؤيته للتقدم والازدهار. وراء شعوره بالتوتر سبب واحد وهو أن فرضية حكم السيسي نفسها تتداعى أمام عينيه.
عندما وصل السيسي إلى السلطة بعد الانقلاب العسكري الذي دبّره عام 2013، أشار ضمنا في تصريحات متعددة إلى أن المصريين عليهم التخلي عن حرياتهم المدنية والسياسية، بينما تركز حكومته على تحقيق الازدهار والتنمية. تحدث السيسي دائما كما لو أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تتعارض مع الحقوق السياسية والحريات المدنية، وأن الاحتجاجات السلمية وحرية التعبير عموما ماهي إلا مؤامرات لا تجلب سوى الفوضى.
بعد عشر سنوات من الانقلاب العسكري وتسع سنوات من رئاسته، من غير المستغرب أن رؤية السيسي المشوهة للعالم لم تتحقق قط. قمعت حكومته المعارضة السلمية بعنف وقضت على العديد من الحريات الأساسية، بطرق أسوأ بكثير من أي نظام استبدادي في تاريخ مصر الحديث؛ بينما، وفي المقابل، لم تكن وعود الازدهار والتنمية أكثر من مجرد سراب، ولم ينته الفقر تحت حكم السيسي، بل تفاقم.
من الواضح أن السيسي يُدرك عمق الأزمة الاقتصادية. لكن تصريحاته دارت في معظمها حول تبرئة نفسه من المسؤولية، وإلقاء اللوم على العوامل الخارجية، وتوبيخ المصريين على تطلعاتهم الديمقراطية وثورة 2011 التي أنهت 30 عاما من حكم الرئيس حسني مبارك الاستبدادي. انضم السيسي إلى قائمة طويلة من المستبدين الذين لا ينظرون إلى التنمية كحق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف، بل كمنفعة أو هدية من الحاكم للناس، وأخبر المصريين مرارا أن الحل هو الاستمرار في التضحية بحقوقهم والتحلي بالصبر، وإلا فإن الانتقادات والمعارضة "ستدمر البلاد".
يحدث هذا رغم أن حكومته تلقت مليارات الدولارات من الدعم السخي من كفلائه السعوديين والإماراتيين الأثرياء، وقروضا كبيرة ومساعدات فنية من "صندوق النقد الدولي" و "البنك الدولي" وغيرهما. بدلا من أن يؤدي هذا الدعم الهائل إلى إصلاحات ملموسة، أصبحت هذه القروض في الغالب عبئا على الأجيال القادمة، حيث إن مصر، وفقا لـ "بلومبرغ"، أكثر عرضة لخطر أزمات الديون من أي دولة أخرى في العالم إلى جانب أوكرانيا.
وبينما يعاني المزيد من المصريين لتأمين احتياجاتهم الأساسية، شرع السيسي في مشاريع باذخة لإشباع الغرور اعترف هو نفسه أحيانا أنها افتقرت إلى دراسات الجدوى، وأنه مع ذلك سعى إلى الدفع بها لـ "تعزيز معنويات" المصريين. تظهر دراسات عديدة كيف وسّع الجيش تحت حكم السيسي غزوه الهائل للأسواق الاستهلاكية، مستفيدا من تفاوت الفرص وغياب الإشراف المدني أو التدقيق، مما أدى إلى الفساد وإهدار الأصول العامة. كانت هذه واحدة من القضايا الرئيسية التي لم تُعالج بالقدر الكافي، بما يشمل اتفاقية قرض صندوق النقد الدولي المتعثرة حاليا والذي تبلغ قيمته 3 مليارات دولار.
ألغت حكومة السيسي كذلك، بدعم من صندوق النقد الدولي، دعم العديد من المواد الغذائية والوقود دون اتخاذ تدابير كافية لتوسيع نطاق نظام الضمان الاجتماعي في البلاد وتخفيف الضرر. حاليا، بالكاد تغطي برامج التحويلات النقدية للمساعدات الاجتماعية ثلث الـ 60 مليون شخص الفقراء أو المهددين بالفقر من بين السكان البالغ عددهم 100 مليون نسمة. كما فقدت المساعدات النقدية بشكل متزايد قوتها الشرائية بسبب التضخم.
الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر عميقة ومتعددة الأوجه، لكنها أيضا في كثير من النواحي نتيجة مأزق سياسي أدى فيه نظام حكم مدعوم من العسكر وغير خاضع للمساءلة إلى سحق احتمالات التداول السلمي للسلطة.
رفض السيسي عمدا تشكيل حزب سياسي أو رئاسة أحد الأحزاب الموالية له التي تهيمن على برلمانه الخانع. بدلا من ذلك، يعتمد على العنف العاري وعلى الأجهزة العسكرية والأمنية باعتبارها أدواته الرئيسية للسيطرة، وهو في ذلك ما انفك يسعى إلى تجنب ما يعتبره خطأ مبارك في حكم البلاد من خلال حزب سياسي أدى إلى مأسسة المحسوبية والأوليغارشية (حكم الأقلية). بدلا من ذلك، ركّز السيسي على تفكيك مؤسسات الدولة المستقلة وتقوية آليات التحصين ضد الانقلابات العسكرية، بينما اعتمد بشكل شبه كامل على الجيش لإدارة البلاد.
في المقابل، عزز الجيش دوره كلاعب سياسي واقتصادي بطرق مكشوفة وغير مسبوقة، بما يشمل إدخال تعديلات دستورية وقانونية تجعله الوصي الرئيسي على الحياة السياسية، وتسمح للجنرالات بمراكمة مزيد من الثروة في الشركات العسكرية البعيدة عن الرقابة. لكن هذه المعادلة تترك المؤسسة العسكرية في موقف صعب وغير مريح حيث تتلقى جراءها حصة مُعتبرة من الغضب الشعبي الناقم على السياسات الاقتصادية الفاشلة، وكل ذلك في ظل فراغ خطير للبدائل السياسية.
تشير الأدلة المتناقلة إلى أن مستوى الاستياء الشعبي من السيسي بعد تسع سنوات في السلطة يذكرنا بما احتاج مبارك إلى 30 عاما ليراكمه. وفي هروبها إلى الأمام، لا تزال حكومة السيسي تسعى للحصول على الدعم والتأييد الخارجيين كوسيلة للبقاء.
ساعدت الأحداث الإقليمية المتفجرة حكومة السيسي عدة مرات منذ 2013 حيث فضّل كفلاؤه في الحكومات الغربية في كثير من الأحيان الحلول قصيرة النظر للتحديات الأمنية المتزايدة والهجرة عبر البحر المتوسط على حساب حقوق الإنسان والديمقراطية. في الوقت نفسه، يبقى ذلك هو الحال خلفت الصفقات الجديدة والمستمرة التي نسمع عنها، والتي قد تُنفّذ قريبا، مع "الاتحاد الأوروبي" و/أو صندوق النقد الدولي و/أو البنك الدولي، حيث لا يزال السيسي يراهن على نفس التكتيكات القديمة، باستخدام حجم مصر ونفوذها الجيوسياسي، وإن كانت ضعيفة، لإقناع العواصم الغربية بضخّ مزيد من المساعدات المالية على خلفية الأزمات والحروب الإقليمية كما هو الحال في غزة والسودان وليبيا. لكن كل هذه المساعي لا يمكن أن تمثل أكثر من مجرد تكتيكات لشراء الوقت. ينطبق هذا أيضا على صفقة الاستثمار الغامضة البالغة قيمتها 35 مليار دولار مع الإمارات، والتي احتفلت بها الحكومة في أواخر فبراير/شباط باعتبارها "انتصار". لقد ثبت أن هذا الدعم ذا الدوافع السياسية لا يؤدي إلا إلى زيادة نفوذ الحلفاء الخليجيين على الطبقة الحاكمة في مصر مع مكاسب مستدامة قليلة أو معدومة لملايين المصريين.
يزعم البعض أن العد التنازلي للانفجار الاجتماعي و/أو السياسي بدأ بالفعل. لكن الأمر المؤكد هو أن السيسي سقى بنفسه بذور فشله. فمن خلال سحقه لسيادة القانون، واستقلالية مؤسسات الدولة، والصحافة الحرة، دمر السيسي الركائز اللازمة لبناء اقتصاد قوي يقوم على المساءلة، كما دمر البيئة المواتية القادرة على جذب استثمارات قوية بدلا من الحصول بشق الأنفس على قروض غير مستدامة. من غير المرجح أيضا أن يعكس السيسي مساره لأن حكومته لم تظهر سوى قليل من القدرة على النقد الذاتي أو مراجعة النفس بهدف الإصلاح. بل على العكس، تظل حكومة السيسي رهينة تفكيرها المعوّج قد يتعاظم سريعا ككرة الثلج، فلجأت في الأغلب الأعم إلى العنف للإبقاء على الباب مغلقا، وهو ما يؤدي بدوره إلى خلق مزيد من المظالم ويجعل آفاق الإصلاح أكثر صعوبة. من نواح عديدة، حبس السيسي نفسه في قفص الفشل.
وكلما استمر السيسي في حرمان بلاده من إمكاناتها، يزاد الخطر على الاستقرار في مصر على المدى الطويل، ويرتفع الثمن الذي سيتوجب دفعه للإصلاح في المستقبل.