"راجعين". غزا هذا الوعد من مواطنين لبنانيين وسائل التواصل الاجتماعي في 17 أبريل/نيسان، ذكرى مرور ستة أشهر على انطلاق المظاهرات المناهضة للحكومة.
قبل شهرين فقط، كانت شوارع لبنان تعج بالاحتجاجات. اليوم، باتت هادئة ومهجورة بشكل مخيف.
أوقف الوباء الناتج عن فيروس كورونا الاحتجاجات التي استمرت شهورا في مختلف أنحاء البلاد، فالتزم الناس منازلهم لحماية صحتهم، ومنعت الحكومة التجمعات العامة وفرضت حظرا لمنع انتشار الفيروس.
العوامل التي دفعت أكثر من مليون لبناني إلى الشوارع – الفساد المتفشي، والانعدام الشديد للمساواة، ونظام الضرائب الرجعي، والتدهور السريع في مستويات المعيشة، وشبكة الأمان الاجتماعي شبه المعدومة – ما زالت مستشرية كما في أي وقت مضى.
لم تؤد أزمة كورونا سوى إلى كشف هذه المشاكل ومفاقمتها. وأدت استجابة الحكومة غير المنسقة وغير الكافية للوباء العالمي إلى تآكل ثقة الجمهور في قدرتها على مساعدة الناس لتجاوز هذا الوباء وإخراج لبنان من أسوأ أزماته الاقتصادية منذ عقود.
قبل أشهر من تفشي فيروس كورونا، توقع "البنك الدولي" أن ترتفع نسبة سكان لبنان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 30% إلى 50% في 2020.
استجابةً لتوقف النمو الاقتصادي ونقص الدولار في البلاد، قيّدت البنوك المبالغ التي يمكن للناس سحبها من حساباتهم بالدولار. وأغلقت الشركات أبوابها أو تراجع عملها بشكل كبير.
كان الوضع الاقتصادي يائسا لدرجة أنه في ديسمبر/كانون الأول، انتحر رجل بعد أن طلبت ابنته منه ألف ليرة لبنانية (كانت قيمتها أقل من نصف دولار أمريكي حينها) لشراء الطعام، وهو مبلغ لم يكن يملكه. وفي فبراير/شباط، أضرم آخر النار في نفسه أمام مدرسة ابنته احتجاجا على رفض الإدارة منحه إفادة مدرسية بسبب عدم تسديد الرسوم.
أدت أزمة كورونا وتدابير الإغلاق الناتجة عنها إلى تفاقم الفقر والصعوبات الاقتصادية التي واجهها معظم اللبنانيين قبل انتشار الفيروس. استمرت قيمة الليرة اللبنانية بالهبوط، إذ خسرت حوالي نصف قيمتها بحلول أبريل/نيسان، وزاد التضخم، الذي توقعت وزارة المالية وصوله إلى 27% عام 2020.
اعترف وزير الشؤون الاجتماعية رمزي مشرفية في 14 أبريل/نيسان بأن 70 إلى 75% من المواطنين اللبنانيين يحتاجون الآن إلى مساعدة مالية.
صرخ رجل من طرابلس، "نحن نموت من الجوع"، خلال احتجاج في وقت سابق من هذا الشهر. قال آخر، "نريد العيش الكرامة". كما أضرم سائق أجرة النار في سيارته عندما غرّمته قوى الأمن لخرقه قواعد الإغلاق. ألقى بائع متجول خضرواته في الشارع، محبطا، بعد أن أوقفت الشرطة عمله. وحاول عامل بناء عاطل عن العمل بيع كليته بعدما عجز عن تأمين الإيجار.
بعد أكثر من شهر على الإغلاق، وصل قدر ضئيل من المساعدات إلى العائلات المحتاجة في ظل تعثر الحكومة خلال الأزمة.
أعلنت الحكومة عن خطط لتقديم مساعدات غذائية ولم تنفذها؛ وأرجأت مرارا وتكرارا الإعانة المالية الموعودة؛ وخضعت للمناوشات والمناورات السياسية على حساب المواطنين اللبنانيين، حيث تقاتل السياسيون حول كيفية توزيع تلك المساعدات الضئيلة.
انتشرت المبادرات المحلية لملء الفجوات، فقدمت بعض المجموعات الغذاء، والدواء، وبدل الإيجار، والملابس إلى الأسر المحتاجة. لكن مثل هذه المبادرات لا تملك الموارد الكافية للتعويض عن التزامات الحكومة – كما أن هذا التعويض ليس واجبا عليها.
على سبيل المثال، يرسل "بنك الغذاء اللبناني"، الممول بالكامل من التبرعات، صناديق تحتوي على المواد الغذائية الأساسية ومستلزمات النظافة التي يمكن أن تكفي أسرة من أربعة أفراد حتى شهر واحد من خلال 85 منظمة غير حكومية.
أدى سوء إدارة الحكومة لخطط الإغاثة لمعالجة آثار الوباء إلى زيادة إدراك الجمهور بأنها غير مجهزة لإخراج البلاد من الركود الرهيب، الذي يتوقعه "صندوق النقد الدولي" أن يكون ثالث أسوأ ركود في العالم في 2020.
ولم تؤد أفعالها حتى الآن سوى إلى تعزيز هذا التصور. فأخرت الحكومة تعيينات المناصب العليا في البنك المركزي اللبناني والقطاع المالي. وهذه التعيينات أساسية لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، إلا أن الخلافات الطائفية وحصص الأحزاب السياسية تعيق العملية.
ولجأت الحكومة إلى الخطاب الشعبوي لطمأنة الجمهور بأن ودائعهم المصرفية لن تضيع، بعد تداول مسودة لخطة الإنقاذ الاقتصادي الحكومية على وسائل التواصل الاجتماعي.
أكد رئيس الوزراء حسن دياب للمواطنين في 16 أبريل/نيسان أن ما لا يقل عن 98% من الودائع المصرفية لن تطالها أي من الإجراءات المالية التي تخطط الحكومة لاتخاذها. بينما يؤكد بعض الاقتصاديين بأن مثل هذه الوعود "مضللة" و"بعيدة عن الواقع".
رغم مواردها المحدودة، تبقى الحكومة اللبنانية ملزمة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان بحماية حق الناس في مستوى معيشي لائق. وذلك يشمل ضمان حصول الجميع - لا سيما أولئك الذين يشملهم الإغلاق - على الغذاء، والماء، والرعاية الصحية، وغيرها من الاحتياجات الأساسية.
في أوقات الأزمات الاقتصادية، على لبنان أن يثبت أنه بذل قصارى جهده لحشد جميع الموارد المتاحة، بما فيها المساعدة الدولية، وتوزيعها بطريقة تحترم حقوق الإنسان ودون تمييز، بما فيه التمييز الديني أو الطائفي.
لكن في وقت سابق من هذا الشهر، حذرت منظمتي، "هيومن رايتس ووتش"، من أن أكثر من نصف سكان لبنان معرضون لخطر الجوع بسبب تقاعس عن تنفيذ خطة قوية ومنسقة لمساعدة الأسر التي فقدت مصادر رزقها.
بالنسبة للعديد من اللبنانيين، كان تعامل الحكومة مع أزمة كورونا مثالا للمشاكل التي خرجوا للتظاهر ضدها في أكتوبر/تشرين الأول.
النظام الطائفي الذي ساد منذ الحرب، الذي أعطت الأحزاب السياسية من خلاله منافع لمؤيديها – كانت الأمور تسير بموجبه إلى حد ما – لم يعد نافعا بالنسبة إلى الأغلبية. وقد برزت كل عيوب نظام ما بعد الحرب إلى الواجهة بعدما أثبتت الحكومة عجزها عن توفير حتى أبسط الاحتياجات لمواطنيها.
لم تؤد عقود من حكم النخبة السياسية في فترة ما بعد الحرب إلا إلى ترسيخ عدم المساواة وإضعاف مؤسسات الدولة، وتركت البلاد بقلّة من الموارد في وجه الأزمات الاقتصادية والصحية الحالية.
خرج بعض اللبنانيين إلى الشوارع بالفعل - على الرغم من إجراءات الإغلاق - للاحتجاج على ما أصبح حقيقة اقتصادية لا تطاق.
تلتزم غالبية المواطنين منازلها حتى الآن، لكن الكثيرين أوضحوا أنه بمجرد زوال خطر فيروس كورونا، سيعودون إلى الشوارع في معركة متجددة ضد انعدام المساواة، والطائفية، والفساد.