نقترب من الذكرى الخمسين للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين حاملين سؤالا واحدا مهما: هل ستمر 50 سنة أخرى من الحكم العسكري والنزوح القسري وسرقة الأراضي الفلسطينية ومواردها؟ أما من احتمال لحل سلمي للنزاع يؤدي إلى إستعادة الفلسطينيين حقوقهم أو إلى انتهاء تطبيق قانون الاحتلال المؤقت نظريا (رغم أن البعض ما زال يصر أنه يمكن التوصل إلى الحل الخيالي بـ"إعلان دولتين" رغم توسع المستوطنات الذي لا ينتهي).
في المقابل، يتحدث اليوم المسؤولون الإسرائيليون عن "إدارة الصراع"، مفضلين على ما يبدو الوضع القائم على أي مفاوضات تجبرهم على التخلي عن أراض استعمروها بالمستوطنات بطريقة غير مشروعة. يغرق صانعو القرار السياسي الأمريكيون في بئر عميق من الدعم العسكري والديبلوماسي لإسرائيل. وُجدد هذا الدعم في 2016 بمبلغ 38 مليار دولار للعقد المقبل، بدون أي محاولة لتغيير السياسات الإسرائيلية، بالإضافة إلى تصريحات إدارة أوباما، التي تبدو بعيدة الآن، بأن إسرائيل "تبني واقع دولة واحدة من الاحتلال الدائم الذي يتعارض بشكل أساسي مع مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية".[1]
ويبدو أن الفلسطينيين استسلموا وانهزموا. فصخب تهديدات حماس اختفى، بعد أن تعبت من التخبط في قفصها في غزة، غير آسفة على إطلاق الصواريخ العشوائية على المدن الإسرائيلية، رغم أنه يؤدي إلى رد جوي عاصف من الجيش الإسرائيلي يدمر أراضيها. تركز السلطة الفلسطينية أكثر على بقائها السياسي، في مواجهة أزمة ثقة وازدياد قوة محمد دحلان، عدو الرئيس الفلسطيني محمود عباس اللدود، والذي ُيزعم أن الإمارات العربية المتحدة تدعمه.[2] "المقاومة" الفلسطينية العنيفة يمثلها اليوم رجال ونساء ومراهقون يستخدمون سكاكين المطبخ لطعن إسرائيليين عشوائيين، غير مسببين إلا الذعر والإصابات، بينما تشيد حماس بهذه الأفعال مدعية أنها "انتقام" .
يوجد أمل، على الأقل في ما يتعلق بالعدالة، والوعد، يوما ما، بردع الجرائم الإسرائيلية المستمرة بسرقة الأراضي والموارد بالإضافة إلى الهجمات الإسرائيلية والفلسطينية غير المشروعة على المدنيين التي تميز كل إندلاع حرب – الصلاحية الجديدة المعطاة للمدعية العامة لـ "المحكمة الجنائية الدولية" والمراجعة المستمرة للجرائم المرتكبة في فلسطين والمنطلقة منها منذ يونيو/حزيران 2014. في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أشارت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية في تقريرها السنوي حول المراجعات الأولية إلى أن مكتبها ما زال يعمل على التحقق من وجود أساس معقول لفتح تحقيق.[3] في حال قررت المدعية العامة فتح استقصاء رسمي، ستكون المحكمة الجنائية الدولية أول هيئة دولية تملك الصلاحية لفرض عقوبات جنائية على مسؤولين حكوميين إسرائيليين على دورهم في نقل مدنيين إسرائيليين إلى مستوطنات شرق القدس والضفة الغربية، بالإضافة إلى قادة عسكريين ومدنيين فلسطينيين وإسرائيليين متورطين في جرائم حرب أخرى.
هناك جهود عالمية أخرى تركز على التمييز بين إسرائيل والمستوطنات الإسرائيلية. أظهر الاتحاد الأوروبي رغبة جديدة بتطبيق قوانينه الخاصة بفرض وضع علامات على سلع المستوطنات[4] – وقد أصدرت فرنسا قرارا تطبق فيه هذه القوانين في 2016 [5] – وحرمان المستوطنات من ميزات اتفاقيات التجارة التفضيلية. كما يوجد ارتفاع متزايد بعدد اليهود التقدميين الذين يسعون إلى مقاطعة سلع المستوطنات الإسرائيلية،[6] معتقدين بأن إجراء موجه كهذا سيشكل ضغطا على الحكومة الإسرائيلية للتخلي عن سياساتها الإستيطانية، بينما ينؤون بأنفسهم تماما عن حركة "المقاطعة وسحب الإستثمارات والعقوبات" التي تسعى إلى معاقبة بشكل أوسع الحكومة الإسرائيلية على نطاق أوسع من الانتهاكات المرتكبة بحق الفلسطينيين، من ضمنها إلغاء الإحتلال نفسه. دعت "هيومن رايتس ووتش" كافة الشركات إلى إنهاء أنشطتها في المستوطنات أو معها من أجل الالتزام بما عليها من مسؤوليات حقوقية؛ وجدنا أن من المستحيل التعامل مع المستوطنات بدون المساهمة او الاستفادة من بنية الانتهاكات التحتية التي تعتمد عليها المستوطنات.[7] الحملة الدولية لجعل "الفيفا"، الاتحاد الدولي لكرة القدم، توقف رعايتها لمباريات في المستوطنات غير المشروعة في الضفة الغربية، سلطت الضوء على الانتهاكات الحقوقية في التعامل التجاري مع المستوطنات. والسنة الماضية، كلف مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بوضع قاعدة بيانات للشركات التي تمارس نشاطا في المستوطنات أو معها، على ما يبدو كإعلان عام وفردي لعدم موافقة المجلس على هذه النشاطات.[8]
لا تشير هذه الإجراءات إلى أن العاملين في المجتمع المدني ينشطون في مختلف حركات المقاطعة الاجتماعية والسياسية فحسب، بل إلى الحكومات والشركات أيضا، التي قد تؤثر إيجابا على الحكومات المُنتهِكة فتطبق واجباتها الحقوقية من خلال الالتزام بقوانينها ومسؤولياتها الخاصة. في جنوب أفريقيا، كانت مقاطعة شركات الخدمات المالية التابعة لدولة الفصل العنصري هي التي ساهمت في انهيارها وتحولها. بعد كارثة رانا بلازا في بنغلادش، كانت الشركات في الطليعة لتوقيع اتفاقيات لحماية العمال، ما دفع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لزيادة الضغط على الحكومة البنغالية. أدت الحركة العالمية للشفافية وضد الفساد إلى إصدار قوانين جديدة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية تفرض على الشركات الاستخراجية الكشف عن دفعاتهم إلى حكومات من أجل إنتاج موراد طبيعية. نُظِمت حملات عامة موجهة نحو اللجنة الدولية الأولمبية لاشتراط مشاركة السعودية في الألعاب الأولمبية للعام 2012 بضم نساء رياضيات في وفدها الأولمبي وإنهاء التمييز ضد النساء في مجال الرياضة. أدت هذه الحملات إلى مشاركة 4 سعوديات ضمن الوفد السعودي الأولمبي لأول مرة في تاريخ السعودية والقيام بالتزامات لإنهاء السياسات التمييزية.
في هذه الحالة، انتقدت الحكومة الإسرائيلية إجراءات مكافحة الاستيطان بموجة من الخطابات والإجراءات الانتقامية القانونية والديبلوماسية، التي تقيد ليس فقط الأفعال بل الخطاب النقدي أيضا. أصدرت قانونا يستحدث مسؤولية مدنية عن الضرر لمجرد تأييد مقاطعة إسرائيل (المعرّفة بشكل فضفاض: "تفادي عمدا أي علاقات اقتصادية أو ثقافية أو أكاديمية مع أي شخص أو هيئة لمجرد ارتباطه مع دولة إسرائيل، أو إحدى مؤسساتها أو منطقة تحت سيطرتها، بشكل قد يؤدي إلى وقوع أضرار اقتصادية أو ثقافية أو أكايمية" [تمت إضافة الخط المائل]). في مارس/آذار، أصدرت قانونا يمنع الأجانب الذين يناصرون المقاطعة من دخول البلاد.[9] ودعمت قوانين "ضد المقاطعة" في أوروبا وعدة ولايات أمريكية، لا تعاقب فقط من ينشط في يقاطع إسرائيل أو مستوطناتها، لكن أيضا المؤسسات أو الأفراد الذين يدعمون هذا المطلب.[10] وفي الوقت نفسه، توسع مستوطناتها الموجودة[11] ببناء عشرات آلاف الوحدات السكنية الجديدة والطرقات والبنى التحتية، وتقر قوانين في فبراير/شباط "تشرع" المستوطنات (أو كما تعرف بالمواقع الأمامية) التي لم تكن "مصرح بها" والتي بنيت على أراض أخذت من مالكين فلسطينيين أفراد.[12]
المعضلة العملية، بالطبع، هي أنه حتى لو نجح الدعاة المعارضون للمستوطنات بأعجوبة في الضغط على إسرائيل بإنهاء بناء المستوطنات، وسحب مواطنيها الـ500 ألف على الأقل الذين يسكنون أراض محتلة، أغلبهم في مجتمعات يهودية فقط، وإعادة هذه الأرض التي أخذتها إلى مالكيها الفلسطينيين، لن يتمكن هؤلاء الدعاة بالضرورة من إنهاء النهب الإسرائيلي للماء والمعادن والأحجار من الأراضي الفلسطينية. وقانون الاحتلال يمنع هذا النهب، لكن الإسرائيليين يتغاضون عنه كما تغاضوا عن إجراءات حماية أخرى وضعها قانون الاحتلال.
والأكثر إثارة للقلق، أن إنهاء الاستيطان لن ينهي بالتالي الاحتلال وحرمان شعب محتل من حقوقه المسموح بها بموجب أحكام قانون الاحتلال، حتى لو طبقت بشكل مناسب. على سبيل المثال، تتيح قوانين الاحتلال لمحاكم عسكرية تابعة لقوات الاحتلال بمحاكمة المدنيين وفق القوانين العسكرية، أو حجزهم لمدة غير محددة بدون محاكمة. يملك الجيش الإسرائيلي سلطة تحت الاحتلال تسمح له بالحد من حرية التحرك استنادا إلى ضرورات أو أسباب أمنية، ويمكنه استخدام هذه السلطة لمنع الفلسطينيين من مغادرة الأراضي المحتلة حتى لو عنى ذلك انقطاعهم عن أعمالهم أو مدارسهم أو أفراد من العائلة يعيشون في الخارج. كما يزعم أنه يملك السلطة لتحديد مكان سكن الفلسطينيين وأن يستولي على ممتلكات خاصة أو يستخدمها أو يمنع الوصول إليها لتأمين حاجاته الأمنية. ويمكن تحمل هذه النتائج لفترة قصيرة بسبب حرب أو حالة طوارئ، لكن على المدى الطويل، تحول الحياة العادية إلى مستحيلة. وتكمن المعضلة القانونية التي نواجهها في أن قانون الاحتلال وُضع كتدبير مؤقت، لكن حين يُعمل به باستمرار، يسمح بالحرمان الدائم من هذه الحقوق.
هذا الواقع غير اللائق دفع المزيد من المناصرين والخبراء ليس فقط إلى تحديد فجوات في الحماية من جراء التطبيق الدائم لقانون الاحتلال، لكن إلى الإبداع في التفكير في توسيع استخدام وسائل الحماية الحقوقية مع تركيز أقوى على الحقوق المدنية والسياسية، بما فيها المساواة بموجب قانون واحد للجميع في أرض تخضع لولاية أو سيطرة حكومة ما، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الهوية الوطنية. ما زال إطار العمل القانوني لإيصال هذه المطالب تحت التطوير والمناقشة. لكن العديد في الحركة للمطالبة بحقوق الفلسطينيين وحريتهم يدفعون بقوة في هذا الاتجاه، بينما يصعِّدون ضد هذه الذكرى الأليمة لاحتلال عسكري بغيض ومسيء، لا يبدو له حل في الأفق.
[1] مارك س. تونر، "الموافقة على مستوطنة جديدة في الضفة الغربية" بيان صحفي. وزارة الخارجية الأمريكية. 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
[2] ازا وينستانلي، "هل سنشهد عودة محمد دحلان؟"، ميديل إيست مونيتور، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016، عبرالانترنت.
[3] "تقرير حول نشاطات المراجعات الأولية"، مكتب المدعي العام، المحكمة الجنائية الدولية، 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، عبر الانترنت.
[4] روبن إيمونتت، "الإتحاد الأوروبي يحمي وضع علامة على السلع المصنعة في المستوطنات الإسرائيلية"، رويترز، 18 يناير/كانون الثاني 2016، عبر الانترنت
[5] باراك رافيد، "فرنسا تصدر قوانينا تفرض التجار على وضع علامات على السلع المستودرة من المستوطنات الإسرائيلية"، هآرتز، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، عبر الانترنت
[6] تود غيتلين وبيتر بينارت وبيتر بروكس ومايكل والزر وإدوارد ويتين و آل "من أجل مقاطعة إقتصادية وعدم اعتراف سياسي للمستواطنات الإسرائلية في الأراضي المحتلة"، ذا نيويورك ريفيوو او بوكس، 13 اوكتوبر/تشرين الأول، 2016، عبر الإنترنت
[7] آرييند غانيسان، "تجارة الاحتلال: كيف تسهم الأعمال التجارية بالمستوطنات في إنتهاك إسرائيل لحقوق الفلسطينيين"، هيومن رايتس ووتش، 19 يناير/كانون الثاني 2016، عبرالانترنت.
[8] "مجلس حقوق الإنسان يتبنى 6 قرارات ويختتم جلسته العادية الحادية والثلاثين". مكتب مفوض المم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، 24 مارس/آذار 2016، عبر الإنترنت.
[9] "الكنيست يقر قانون منع مأيدو المقاطعة من دخول إسرائيل"، تايكز أوف إسراييل، 6 مارس/آذار 2017
[10] "قانون ضد المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات في ولاية"، باليستنيان ليغل/ 2016 عبر الانترنت
[11] حاسون نير، "القدس توافق على بناء 181 وحدة سكنية بعد الخط الخضر" هأآرتز، 3 نوفمبر/تشلاين الثاني 2016 عبر الانترنت
[12] "اسرائيل تقر قانون تشريع المستوطنات اليهودية بمفعول رجعي" ذا غارديان، 6 فبراير/شباط 2017