تداولت وسائل التواصل الاجتماعي الليبية وثيقة تظهر انعطافا مفاجئا للأحداث. هدفت الوثيقة إلى عرض تعهد المليشيات المشاكسة الموزعة في مدينة مصراتة، ذات الدور البارز في الانقسامات الأخيرة التي شهدتها البلاد، بدعم تشكيل حكومة وحدة وطنية. حتى بعد وساطة الأمم المتحدة للحوار المستمرة على مدار عام، لم يصل الفصيلان الرئيسيان في الصراع المسلح الدائر في البلاد بعد إلى اتفاق بشأن تشكيل حكومة مماثلة.
تلخص الوثيقة، التي تحمل أختام ما يقارب 60 ميلشيا مختلفة، كل الأخطاء الحاصلة في التعامل مع المليشيات المتعددة في مرحلة ما بعد الصراع في ليبيا. لا تزال ليبيا، بعد 4 سنوات من انتهاء الثورة، محاصرة بمئات العناصر المسلحة غير الخاضعة للمساءلة الوطنية، بدلا من أن تتحكم بها قوة أمنية موحدة خاضعة للمساءلة وتحترم الحقوق. بعض تلك المليشيات اعتقلت وعذبت الآلاف دون وجه حق.
تُظهر تلك الوثيقة بوضوح التحديات الهائلة التي تواجه الوسطاء الدوليين والإقليميين والمحليين في حشد تأييد واسع، لتشكيل حكومة وحدة وخارطة طريق معقولة، تخلق قوة جيش وشرطة على أساس وطني، لا قبلي أو محلي، تخضع للحكومة الموحدة. لكن للقيام بذلك، على رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، برناردينو ليون، والبلدان الداعمة مثل الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي التأكد من أن مسألة محاسبة من ارتكبوا جرائم خطيرة لن تمنع التوصل إلى اتفاق سياسي.
ركزت جهود الأمم المتحدة على التوصل إلى اتفاق بين الحكومة المعترف بها ومجلس نوابها دوليا في مدنيتيّ البيضاء وطبرق الشرقيتين، وبين الحكومة المعلَنة ذاتيا المدعومة من قبل المؤتمر الوطني العام في العاصمة طرابلس. تعقدت العملية بسبب الاعتداءات المسلحة المتواصلة وتغيّر خارطة التحالفات، علاوة على الانقسامات الإقليمية المستمرة وتباين مصالح الدول المجاورة والقوى الإقليمية.
تشمل العوامل الأخرى التي تعقّد الوصول إلى اتفاق، الصراعات المحلية واستياء منطقة جنوبي ليبيا المترامية الأطراف ذات الأقليات العرقية؛ تتصور هذه الجماعات أنها تُهمَّش في المفاوضات حول مستقبل ليبيا، فضلا عن تنامي وجود المجموعات المتطرفة.
لم تؤيد الحكومتان المتناحرتان في ليبيا حتى الآن الاتفاق، ويبدو أن جميع الأطراف تتعارك على المناصب ونصيبها من السلطة. لكن انتهاء الشرعية القانونية لمجلس النواب في 21 أكتوبر/تشرين الأول وخطر الفراغ الدستوري الكامل يزيدان الحاجة إلى إنجاز اتفاق.
فشل المجلس الوطني الانتقالي، وهو الهيئة التي أُنشئت عام 2011 والمسؤولة عن الانتقال إلى حكومة ما بعد القذافي، في إرساء قواعد واضحة لنزع سلاح الجماعات المسلحة "الثورية" أو دمجها بفعالية في قوات أمن الدولة. بدلا من ذلك، أنشأ المجلس قوات هجينة متنوعة من أجل "دعم" الشرطة (مثل اللجنة الأمنية العليا)، والجيش (مثل قوات درع ليبيا).
لم تنجح الحكومات المؤقتة المتعاقبة في وقف الدعم لهذه المجموعات، بالتالي نمت سلطتها وعددها حتى وصل عدد متلقي الرواتب الحكومية مع بداية عام 2014 ما يقارب 200,000 شخص، وهو رقم مذهل في بلد يحوي 6.5 مليون نسمة. بينما حُلت بعض هذه المجموعات، انضم أعضاء سابقون غالبا إلى القوات الهجينة الأخرى والتي كان بعضها اسميا تحت سيطرة السلطات الحكومية. أما البعض الآخر، فبقي متشبثا "بتوجهه "الثوري"، أو شكل ميليشيات جديدة متورطة حاليا في الصراع الدائر.
ترافق فشل وضع خطة للتعامل مع الميليشيات في ليبيا مع التزام المجتمع الدولي بانتهاج "سياسة مهادنة" في أعقاب انتفاضة 2011. كان هناك الكثير من عروض الدعم والتدريب الدوليين للمؤسسات الأمنية الوليدة في حكومة ما بعد القذافي، لكن لم تكن أي من الدول التي ساعدت في هزيمة القذافي جاهزة لمعالجة تجاوزات الميليشيات وقوات المجلس الوطني الانتقالي وارتفاع حالات إفلاتها من العقاب. من الملفت أن ما سبق لم يكن قط ضمن جدول أعمال المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة.
اتخذت الأمم المتحدة، ولا سيما لجنة العقوبات المفوضة من مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، إجراءات قليلة في البداية، حتى في سياق توثيق انتهاكات الميليشيات. استمر التلكؤ في معالجة الإفلات من العقاب ليطال التعذيب والتهجير القسري والاعتقالات التعسفية الجماعية والاغتيالات السياسية التي زادت مع تكاثر الميليشيات. أثار هذا العنف بدوره الصراعات المحلية التي زادت من زعزعة استقرار البلاد.
الجماعات المسلحة المتطرفة، بما فيها "أنصار الشريعة" وغيرها من المجموعات التابعة لـ "القاعدة"، علاوة على "الدولة الإسلامية" (المعروفة أيضا باسم "داعش")، استخدمت هذا الفراغ لتوسيع موطئ قدمها في بعض المناطق.
فشل النظام القضائي المحلي أيضا في محاكمة أفراد الميليشيات عن جرائمهم الخطيرة. في الواقع، انهار نظام القضاء الجنائي المحلي في معظم أنحاء البلاد بسبب تهديد القضاة والمدعين العامين واغتيالهم، فضلا عن التحديات التي تواجه النظام القضائي الوطني في ظل الحكومتين المتنافستين. رغم قيام مجلس الأمن بإحالة الوضع في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2011، لم يفتح الإدعاء في المحكمة أية تحقيقات خارج إطار دور مسؤولي نظام القذافي السابقين في انتفاضة عام 2011، متعللا بالمخاوف الأمنية ونقص الموارد.
تحتاج مناقشات حكومة الوحدة إلى إيجاد آلية إنفاذ قانون قابلة للحياة تجاه حل الميليشيات واستيعاب بعضا من مقاتليها في القوى الأمنية الرسمية الخاضعة للمساءلة، وإنشاء هيكلية رسمية ذات قواعد أساسية واضحة، بما فيها الحديث عمن سيكون لديه السلطة القانونية للاعتقال والاحتجاز. تشكل معالجة مشكلة الجماعات المسلحة غير الخاضعة للمساءلة حجر الزاوية في أي اتفاق مستقبلي.
على المفاوضين الدوليين ألا يهمشوا هذه المسألة ظنا منهم أن بقدرتهم التعامل معها لاحقا. إذا فعلوا ذلك، ستستمر هذه الميليشيات المسيئة، غير الخاضعة للمساءلة، في حلقة الجرائم الجماعية والإفلات من العقاب.