Skip to main content

بناء الثقة في تونس يتطلب إصلاح قوات الأمن

منذ بدء الثورة، عاشت تونس على وقع عنف متكرر، شمل عمليتي اغتيال للمعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وقتل ثمانية جنود في جبل الشعانبي. تسبب هذا العنف في أزمة سياسية، وأدّى التوتر إلى تعميق الهوة بين الحكومة بقيادة الإسلاميين والمعارضة العلمانية. إن مستقبل تونس يتوقف على قدرتها على تهيئة الأمن، وهو ما يتطلب إصلاح المؤسسات الأمنية.

إلى حد الآن، لم تبذل الحكومة جهودًا كافية لتحقيق الهدف المنشود. إذ كثفت السلطات من العمليات الأمنية، ما أدّى إلى اعتقال إرهابيين مزعومين وملاحقة مجموعات مسلّحة في جبل الشعانبي وحوله، ولكن الشعب لا يثق في أمن الدولة. ولإعادة بناء الثقة، يحتاج التونسيون إلى ما هو أكثر من الشعارات والغارات التي يشنها الجيش والشرطة. يحتاج الجهاز الأمني إلى إصلاح شامل كي يتحول من نقطة سوداء إلى خدمة شفافة خاضعة للمساءلة.

انعدام المساءلة ـ الماضي والحاضر
في تونس الجديدة، لا تزال الاعتداءات تحدث دون عقاب. وبعد مرور أكثر من سنتين على خلع بن علي، لم يتم تقريبًا التحقيق في جل حوادث التعذيب أو الاعتقال أو القتل التعسفي من الماضي، وقامت الحكومة الانتقالية ب محاكمة قرابة 40 قائدًا أمنيًا وضباطًا من ذوي الرتب الدنيا، ولكن هذه المحاكمات شابتها أخطاء كبيرة لأن المنظومة القضائية العسكرية تنقصها الاستقلالية وتفتقر إلى الحياد. ومازال النظام الحالي لم يحقق العدالة للضحايا.

ورغم أن التعذيب كان أمرًا متفشيًا أثناء حكم بن علي، إلا أن السلطات الجديدة لم تجر سوى محاكمة واحدة تتعلق بالتعذيب، ونتج عنها إدانة أحد وزراء الداخلية السابقين وبعض أعوانه، ولم يقم أي طرف بالتحقيق في دعاوى التعذيب الكثيرة التي شهدتها تلك الفترة. وعندما لا تتم معالجة انتهاكات الماضي، فإن ذلك يعني أنها ستتواصل.

ومنذ الثورة، استخدم أعوان الشرطة القوة الوحشية بشكل متكرر ضد متظاهرين سلميين، وهو ما يبرز عدم جدوى التوجيهات والتدريبات الجديدة. في الأيام التي تلت اغتيال البراهمي،لجأت قوات الأمن إلى استخدام الغاز المسيل للدموع بشكل مكثف وغير مبرر لتفريق المظاهرات، فنتج عن ذلك مقتل شخص واحد وإصابة آخرين بجروح. كما قامت الشرطة بضرب وتعنيف عديد المتظاهرين، بما في ذلك أعضاء في المجلس الوطني التأسيسي.

وفي 19 مايو/أيار، تسبب أعوان أمن في مقتل شخص واحد وإصابة أربعة آخرين بالذخيرة الحية ورصاص الرش في مواجهات في أحياء الانطلاقة والتضامن التي تسكنها الطبقات العاملة. كما استخدمت الشرطة رصاص الرش في سليانة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فنتج عن ذلك إصابة 20 شخصًا بجروح. وفي 9 أبريل/نيسان، وبعد أن منعت وزارة الداخلية المسيرات، استخدمت الشرطة العنف لتفريق مظاهرة سلمية في أهم شارع في تونس العاصمة. إن المطلوب الآن هو تدريب أعوان الأمن من جديد؛ حتى يفهموا أن مهمتهم تتمثل في حماية التونسيين وليس الاعتداء عليهم.

غياب الشفافية في وزارة الداخلية
كانت السرية سمة مميزة لوزارة الداخلية في عهد بن علي. وبعد الثورة، تمت إعادة هيكلة الوزارة بشكل فوضوي، ولم يتسن للعموم فهم القواعد التي تحكمها.

وفي 7 مارس/آذار، أعلنت الوزارة عن حلّ إدارة أمن الدولة، المعروفة بالبوليس السياسي، والتي يُعتقد أنها كانت تقود الحملة التي كان يتعرض لها معارضو النظام السابق. ولكن ليس من الواضح ما إذا كان قد تم طرد الذين كانوا يعملون في هذه الإدارة، أم أنهم نُقلوا إلى مناصب أخرى في الوزارة.

وفي الفترة الممتدة من فبراير/شباط إلى أكتوبر/تشرين الأول 2012، أجبر 91 مسؤولا ساميًا، بما في ذلك مديرين عامين، على التقاعد. وتوالى على الوزارة أربع وزراء، جاء كل واحد منهم بأشخاص جدد على رأس الإدارات العامة، وهو ما أعطى انطباعًا بأن التعيينات تتم حسب الولاء السياسي ولا تعتمد على معايير موضوعية.

يتفاقم انعدام الشفافية في ما يتعلق بهياكل وزارة الداخلية، والتعيينات فيها، والطرد منها، بسبب التكتم على عديد القوانين الهامة المنظمة للوزارة التي لا تُنشر في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية. على سبيل المثال، مازال المرسوم عدد 246 الصادر في 15 أغسطس/آب 2007، الذي أعاد التنظيم الهيكلي لقوات الأمن الداخلي غير متوفر للعموم.

ومن جانبه، قال المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، في تقريره حول تونس سنة 2012، إن هذه السرية كانت عنصرًا مهمًا ساهم في الإفلات من العقاب، وكانت توفر حماية للفاعلين في الجهاز الأمني إبان نظام بن علي. وإلى الآن، مازال غياب الشفافية يغذي جميع الأساطير المُحاكة حول الوزارة، ويوفر لها حماية من الرقابة البرلمانية والقضائية.

نحو إصلاح أمني يتناسب مع حقوق الإنسان
يجب على النواب المنتخبين والسلطات الأخرى أن تجعل من التحقيق في انتهاكات قوات الأمن في الماضي والحاضر أولوية قصوى. إن أي منظومة محاسبة فعالة تتطلب سلطة قضائية مستقلة تتولى التحقيق بكل جدية في انتهاكات الماضي والحاضر، دون الحاجة إلى انتظار شكاوى فردية من الضحايا. ويحتاج النظام الفعال إلى توجيهات واضحة من وزارة العدل إلى المدعين العامين تلزمهم بالتحرك لملاحقة أي مزاعم تتعلق بالانتهاك، والاستخدام المفرط للقوة، والتعذيب.

يحتاج التونسيون إلى أن يتابع البرلمان العمليات التي يقوم بها الجهاز الأمني والتي بقيت لمدة طويلة محاطة بالسرية. كان المجلس الوطني التأسيسي قد كوّن لجنة لتقصي الحقائق بعد أحداث 9 أبريل/نيسان للتحقيق في قمع المتظاهرين على يد الشرطة، ولكن لم يكن لأعضاء اللجنة من صلاحيات ما يساعدهم على التحقيق بشكل فعال. إن على البرلمان التونسي المقبل تكوين لجنة دائمة لها صلاحيات وسلطات قوية لمتابعة الاستخدام المفرط للقوة، كما يتعين على الحكومة أن تضمن شفافية سياسات وزارة الداخلية وهيكلتها بشكل منظم.

بينما ينشغل الساسة، من جميع الأطياف، بالتفاوض حول حلّ للأزمة السياسية، يجب عليهم أن لا ينسوا أن البلاد في حاجة إلى خارطة طريق لإدخال إصلاح شامل على المؤسسات الأمنية، ولإعادة الانتقال إلى مساره الصحيح. 

آمنة القلالي هي باحثة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش، مستقرة في تونس.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة