في صيف عام 1996، بدأت تتسرب من ليبيا روايات عن حادث قتل جماعي في سجن بوسليم بطرابلس، لكن التفاصيل ظلت غير وافية، وفي البداية نفت الحكومة وقوع الحادث. وقد أفادت الجماعات الليبية في خارج البلاد بأنه نحو 1200 سجين قد لقوا حتفهم.
وخلال عامي 2001 و2002، بدأت السلطات الليبية في إبلاغ عائلات بعض المسجونين في بوسليم بأنهم لقوا حتفهم، ولكنها لم تسلم جثث هؤلاء المسجونين لذويهم، ولم تطلعهم على التفاصيل المتعلقة بأسباب الوفاة. وفي إبريل/نيسان 2004، اعترف الزعيم الليبي معمر القذافي علناً بوقوع حوادث قتل في بوسليم، قائلاً إن من حق عائلات السجناء معرفة ما حدث لهم.
وفي مايو/أيار 2005، قامت منظمة هيومن رايتس ووتش بزيارة لسجن بوسليم الذي يديره جهاز الأمن الداخلي؛ وقال رئيس الجهاز العقيد التهامي خالد إن الحكومة بدأت التحقيق في الحادث الذي وقع عام 1996، ولكن لم تفد أي معلومات عن طبيعة أو تاريخ التحقيق. وتبعًا لذلك، طلبت هيومن رايتس ووتش من الحكومة الليبية موافاتها بتفاصيل عن التحقيق، ولكن الحكومة لم ترد على هذا الطلب.
وفي المقابلات التي أجرتها منظمة هيومن رايتس ووتش مع سجناء بوسليم في شهر مايو، لم يبدي المساجين ‘ستعدادهم للتحدث عن تلك الواقعة، فيما يبدو خوفاً من السلطات. واقتصرت المقابلات على حالاتهم الفردية، وقد أجمعوا على أن الأوضاع في السجن قد تحسنت مؤخراً.
وفي يونيو/حزيران 2004 ثم في يونيو/حزيران 2006، أجرت هيومن رايتس ووتش مقابلة مع سجين سابق في بوسليم ادعى أنه شهد حوادث القتل؛ وقال حسين الشافعي، الذي يعيش حاليًا في الولايات المتحدة حيث تقدم بطلب لجوء، إنه أمضى الفترة 1988-2000 في سجن بوسليم بسبب تهم سياسية، ولكنه لم يقدم للمحاكمة قط؛ وعمل في مطبخ السجن في يونيو/حزيران 1996. وقد تعذر على هيومن رايتس ووتش التحقق من ادعاءاته، ولكن كثير من التفاصيل التي أدلى بها تتفق مع ما ورد في تقرير صادر عن إحدى الجماعات الليبية في الخارج استناداً لرواية شاهد آخر.
ووفقاً لما ذكره الشافعي، فإن الواقعة بدأت في حوالي الساعة 4:40 مساءً من يوم 28 يونيو/حزيران، عندما احتجز سجناء العنبر 4 في السجن حارس يدعى عمر أثناء إحضاره الطعام لهم؛ وفر المئات من سجناء العنابر 3 و5 و6 من زنزاناتهم؛ وكانوا غاضبين بسبب تقييد الزيارات العائلية، وسوء الأوضاع المعيشية في السجن التي تدهورت في أعقاب فرار بعض السجناء في العام السابق. وقال الشافعي لهيومن رايتس ووتش:
وفي غضون خمس أو سبع دقائق، بدأ الحراس الذين كانوا على الأسطح في إطلاق النار على السجناء الذين كانوا في المناطق المكشوفة؛ فأصيب 16 أو 17 ؛ وكان أول سجين يلقى حتفه هو محمود المسيري؛ ف واحتجز السجناء حارسين كرهينة.
و أضاف الشافعي أنه بعد نصف ساعة، وصلا إلى السجن في سيارة "أودي" خضراء داكنة برفقة حرس أمني، أن اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين وهما عبد الله السنوسي - عديل القذافي وناصر المبروك. وأمر السنوسي بوقف إطلاق النار، وطلب من السجناء تعيين أربعة ممثلين للتفاوض بالنيابة عنهم؛ فاختار السجناء محمد الجويلي ومحمد غلايو ومفتاح الدوادي ومحمد بوسدرة.
ونقلاً عن الشافعي، الذي قال أنه شاهد وسمع المفاوضات من المطبخ، إن السجناء طلبوا من السنوسي ملابس نظيفة، والتريض في الخارج، و رعاية طبية أفضل، والسماح بالزيارات العائلية، والحق في المثول أمام القضاء، لأن كثير من السجناء كانوا مسجونين بدون محاكمة. وقال السنوسي إنه سوف يعالج الأوضاع الحالية، ولكن يجب على السجناء العودة إلى زنازينهم وإخلاء سبيل الرهينتين؛ فوافق السجناء، وأخلوا سبيل أحد الحارسين، ويدعى عطية، ولكن الحارس الآخر، واسمه عمر، كان قد لقي حتفه.
وأخذت قوات الأمن جثث القتلى، ونقلت الجرحى إلى المستشفى لتلقي الرعاية الطبية؛ وركب نحو 120 من السجناء المرضى الآخرين ثلاث حافلات لنقلهم إلى المستشفى فيما زُعم؛ وقال الشافعي إنه رأي الحافلات تنقل السجناء إلى مؤخرة السجن.
وفي حوالي الخامسة من صباح 29 يونيو/حزيران، نقلت قوات الأمن بعض السجناء بين القسمين المدني والعسكري من السجن؛ وبحلول الساعة التاسعة صباحاً كانت قد أجبرت المئات من السجناء على الخروج من العنابر 1 و3 و4 و5 و6 إلى مختلف ساحات السجن؛ ونقل سجناء العنبر 2 غير المشدد الحراسة إلى القسم العسكري، فيما ظل سجناء العنبرين 7 و8 داخل زنازينهم الفردية. وروى الشافعي، الذي كان خلف مبنى الإدارة مع غيره من العاملين بالمطبخ آنذاك، لمنظمة هيومن رايتس ووتش ما حدث بعد ذلك قائلاً:
في الساعة 11:00، ألقيت قنبلة يدوية في إحدى ساحات السجن؛ لم أرَ من رماها، ولكني متأكد من أنها كانت قنبلة؛ سمعت دوي انفجار، وعلى الفور بدأ إطلاق النار بصفة مستمرة من الأسلحة الثقيلة وبنادق الكلاشنكوف من فوق الأسطح؛ واستمر إطلاق النار من الساعة 11:00 حتى 1:35.
وأضاف الشافعي قائلاً:
لم أرى السجناء القتلى الذي أطلقت عليهم النار، ولكني رأيت من كانوا يطلقون النار؛ وهم وحدة خاصة يرتدي أفرادها القبعات العسكرية ذات اللون الكاكي؛ وكان ستة منهم يطلقون النار من بنادق الكلاشنكوف...
رأيت ستة رجال على الأقل - على أسطح مباني السجن؛ كانوا يرتدون الزي العسكري الكاكي الفاتح وعصابات الرأس الخضراء التي تشبه العمائم.
وفي حوالي 2:00 عصراً، استخدمت القوات المسدسات "للجهاز" على من كانوا لا يزالون أحياء.
كان عدد السجناء المحتجزين في بوسليم آنذاك يتراوح بين 1600 و1700 سجين، وقتلت قوات الأمن "نحو 1200 شخص"، حسبما أفاد الشافعي؛ وقد حسب هذا الرقم بناء على عدد الوجبات التي أعدها قبل الحادث وبعده.
بدأت عمليات التنظيف في حوالي الساعة 11:00 من صباح اليوم التالي، 30 يونيو/حزيران، حيث قامت قوات الأمن بنقل الجثث على عربات اليد؛ وألقي بالجثث في خنادق تم حفرها لبناء جدار جديد، يترواح عمقها بين مترين وثلاثة أمتار، وعرضها متر واحد، وطولها نحو 100 متر. وقال الشافعي "طلب مني حراس السجن أن أغسل ساعات اليد المخلوعة من أيدي السجناء القتلى، وكانت ملطخة بالدماء". وفي عام 1999، صب مسؤولو الأمن الأسمنت على الخندق، على حد زعم الشافعي وإن كان يعتقد أنهم أزالوا الجثث من الموقع فيما بعد.
والرواية الأخرى الوحيدة لهذه الواقعة ترد في تقرير "الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا"، وهي جماعة سياسية معارضة تتخذ مقرها خارج ليبيا؛ إذ يؤكد التقرير رواية الشافعي إلى حد بعيد استناداً لرواية سجين سابق شهد الواقعة (غير الشافعي) ولم يذكر اسمه.
ويقول تقرير "الجبهة الوطنية" أن 120 من السجناء المرضى والجرحى ركبوا الحافلات في 28 يونيو/حزيران لتلقي العلاج الطبي، ثم أعدم الكثيرون منهم، ولو أن التقرير جاء خالياً من التفاصيل.
ويقول التقرير إنه في حوالي الساعة الحادية عشر من اليوم التالي "ألقيت رمانات (قنابل يدوية) ثم تبع صوت الانفجارات إطلاق رصاص كثيف من أسلحة مختلفة منها بنادق الكلاشنكوف ورشاشات الأغراض العامة والغدارات، واستمر ذلك لمدة ساعة تقريباً".
ولا يشير التقرير إلى أي خنادق، ولكنه يقول إن الجثث نقلت على متن شاحنة مبردة تابعة لشركة نقل اللحوم وأخرى تابعة للصيد البحري. وفي 30 يونيو/حزيران، استخدمت رافعة صغيرة في نقل الجثث الأخيرة إلى حاوية كبيرة. ويقول التقرير إن 1170 سجيناً قد لقوا حتفهم، ولكنه لا يورد أسماءهم.
ونفت الحكومة الليبية وقوع أي جرائم؛ وفي مايو/أيار 2005، و قد قال رئيس جهاز الأمن الداخلي لهيومن رايتس ووتش إن السجناء احتجزوا بعض الحراس أثناء توزيع إحدى الوجبات، واستولوا على أسلحة من مستودع الأسلحة والذخيرة بالسجن. وأضاف أن بعض السجناء والحراس لقوا حتفهم أثناء محاولة رجال الأمن إعادة النظام إلى السجن، وقد فتحت الحكومة تحقيقاً بناء على أوامر أمين العدل.
و قال خالد: "عندما تنتهي اللجنة من عملها، الذي بدأته بالفعل، سوف نصدر تقريراً مفصلاً يجيب على كافة الأسئلة."
وأضاف خالد أن أكثر من 400 سجين قد فروا من بوسليم في أربع حوادث هروب منفصلة قبل وبعد الواقعة المعنية: في يوليو/تموز 1995، وديسمبر/كانون الأول 1995، ويونيو/حزيران 1996، ويوليو/تموز 2001. وقال إن من بين الهاربين رجالاً حاربوا في صفوف الجماعات الإسلامية الجهادية في أفغانستان وإيران والعراق.
وتقول جماعة ليبية أخرى تتخذ مقرها في سويسرا، وهي منظمة "التضامن لحقوق الإنسان"، إن السلطات في عام 2001 قد بدأت في أبلاغ 112 عائلة بأن أحد أقربائها المسجونين في بوسليم قد لقي حتفه، بدون تسليم الجثة لهم أو موافاتهم بأي تفاصيل عن أسباب الوفاة. وفضلاً عن هذا، فإن 238 عائلة تزعم أنها فقدت الاتصال بقريب لها كان مسجوناً في بوسليم.
وأعربت المنظمة عن قلقها بشأن أحد السجناء الأربعة الذين مثلوا السجناء في المفاوضات، لانقطاع أي أخبار عنه اعتباراً من 28 يونيو/حزيران، وهو محمد بوسدرة الذي قالت المنظمة إن السلطات نقلته من سجن بوسليم إلى معتقل غير معروف في صيف عام 2005، ولم يتلق أحد أي اتصال منه منذ ذلك الحين.
وتحدثت منظمة هيومن رايتس ووتش مع شقيق أحد السجناء السابقين في سجن بوسليم، كانت السلطات قد أبلغته بوفاة شقيقه؛ وقال فرج العواني، الذي يعيش الآن في سويسرا، إن عملاء الأمن اعتقلوا شقيقه إبراهيم العواني، البالغ من العمر آنذاك 25 عاماً، من منزل العائلة في البيضاء في يوليو/تموز 1995؛ ولم تتلق الأسرة أي اتصال منه بعد ذلك.
وفي عام 2002، قال أفراد جهاز الأمن الداخلي للعائلة إن إبراهيم توفي في أحد مستشفيات طرابلس بسبب المرض. واطلعت هيومن رايتس ووتش على شهادة الوفاة التي قدمها أفراد الأمن للعائلة والتي تفيد بوفاة إبراهيم في 3 يوليو/تموز 2001 ولكنها تخلو من أي معلومات مفصلة عن سبب وفاته، وبالرغم من الالتماسات المتكررة، لم تقم السلطات قط بإعادة جثته لذويه عملاً بما ينص عليه القانون الليبي ولم توضح ما إذا كان إبراهيم العواني قد توفي في أحداث يونيو/حزيران 1996 أو في وقت لاحق.
وقال فرج العواني "كل ما نريده هو أن نعرف ماذا حدث له، وأن نستعيد جثته."