كان فضل يعلم جيدا أن صوت الطائرات الحربية يعني الموت. لكنه لم يكن يعرف بعد أن إحداها قد قصفت منزله.
وقعت هذه الضربة الجوية التي شنها التحالف العسكري السوري-الروسي في 27 مايو/أيار 2019، في شهر رمضان المبارك. حينها، كانت إدلب إحدى آخر المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة المناهضة للحكومة في الحرب الأهلية المستمرة منذ عقد تقريبا. وفق بحث جديد لـ "هيومن رايتس ووتش"، قتلت الغارة 13 شخصا على الأقل وألحقت أضرارا بمدرسة في حي شارع البستان.
يتناول التقرير 46 هجوما في إدلب خلال المعارك الأخيرة هناك، التي استمرت من أبريل/نيسان 2019 إلى مارس/آذار 2020، ودمرت منازل، وأسواق، ومدارس، ومستشفيات بعضها أغلق نهائيا، وقتلت مئات المدنيين. سعت سوريا وروسيا إلى تبرير الهجمات على الأعيان والبنى التحتية المدنية كجزء من جهود مكافحة الإرهاب، لكن هيومن رايتس ووتش لم تجد أدلة على أي أهداف عسكرية في المنطقة المجاورة مباشرةً للهجمات. بينما نزح أكثر من مليون شخص في إدلب ويستمر هروبهم، مكافحين من أجل إعادة بناء حياتهم، ما زال لم يُحاسب أحد على هذه الهجمات غير القانونية.
تحدث فضل مع هيومن رايتس ووتش عبر الهاتف. عمره 36 سنة. في صورة ملفه الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي، ينظر مباشرة إلى الكاميرا وبجانبه أطفاله المبتسمون بسعادة. ابنتاه الأصغر، وهما توأم، ترتديان عصبتَيْ رأس بألوان الزهور وثيابا زاهية مماثلة. تلتقط الصورة أوقاتا كانت أكثر سعادة للعائلة المكونة من سبعة أفراد. لم يبقَ منهم سوى ثلاثة أحياء.
حينها، كما قال فضل، أقلقته سحابة الغبارالقريبة من منزله، لكنه لم يستطع رؤية الكثير. أراد أن يذهب ويساعد في جهود الإنقاذ. قال له أحدهم إن الغارة أصابت المولد الكهربائي في الحي، لكن شخصا آخر قال له إن الانفجار كان أقرب إلى منزله. كان الجميع يركضون نحو حيه وتبعهم فضل آملا عدم حصول الأسوأ. كان يعلم أن أطفاله، وزوجته، ووالدته كانوا متواجدين في المنزل وقت الغارة. وهو يقترب، كان قلبه يعتصر. ثم رأى من خلال سحابة الغبار أن مبنيين قد انهارا. كان منزله في مبنى سكني من أربعة طوابق أصيب وسوِيّ بالأرض. كان الناس يبكون ويصرخون، في محاولة يائسة منهم للعثورعلى أحبائهم.
عرف أن عائلته ترقد في مكان ما تحت الأنقاض.
باشر بالحفر، وسرعان ما انضم إليه "الدفاع المدني السوري" (المعروف أيضا باسم "الخوذ البيضاء")، وهي مجموعة الإنقاذ في المناطق خارج سيطرة الحكومة. انتشلوا نساءً وأطفالا من تحت الأنقاض، وكان العديد منهم مصابا بجروح واضحة، منها كسور في الأطراف؛ وبعضهم الآخر كان ميتا. شعر فضل برعب شديد بعدما وُجد ثلاثة من أولاده ووالدته أمواتا تحت الأنقاض. تم إنقاذ طفلين آخرين من أطفاله، ابنه زين (تسع سنوات) وشام (أربع سنوات) وهي إحدى التوأم، وهما على قيد الحياة، لكن الطفلة توفيت متأثرة بجراحها بعد عشرة أيام. في النهاية، لم ينجُ سوى زوجته وزين.
فر فضل وزوجته وابنه على عجل، واستقروا بالقرب من الحدود التركية في محاولة منهم لإعادة بناء بعض مظاهر الحياة الجديدة بعد غمامة الألم والخسارة الفادحة. وبعد إعلان وقفٍ لإطلاق النار في مارس/آذار 2020، عاد البعض إلى ما تبقى من منازلهم في إدلب. وجدوا البنية التحتية الأساسية مدمرة، ما حد بشكل كبير من حصولهم على الغذاء، والرعاية الصحية، والسكن اللائق.
ومثل مئات آلاف المدنيين الآخرين من إدلب، ما يزال فضل نازحا مع زوجته وابنه، وقد بدأ مؤخرا وظيفة جديدة كسائق سيارة إسعاف في "اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية". يعمل ساعات طويلة، ويقضي أحيانا ثلاثة أيام، ولكن بالنسبة له، تبقى فرصة مساعدة الآخرين مهمة.
وقع الهجوم في أريحا منذ أكثر من عام. ومنذئذ، شهد فضل العديد من الهجمات الأخرى. يتساءل دائما لماذا تستهدف الحكومتان السورية والروسية المباني المدنية. في وظيفته الحالية، تعرّف من خلال إنقاذ الناس من المباني، والمدارس، والمنازل المدمرة التي تعرضت للقصف على آخرين يمرون بالمعاناة نفسها.
يعتقد فضل أن زوجته وابنه ما زالا يصارعان الصدمة النفسية جراء الهجوم. يقلقان عند كل خروج إلى الأماكن المزدحمة في السوق وفي المدينة خوفا من هجوم آخر. يصابان بالذعر من الأصوات العالية والحركات المفاجئة، وهو قلق عليهما. يتحدث ابنه عن إخوته كل يوم. عند تناول الطعام، يتمنى وجود إخوته وأخواته لمشاركتهم. في الأعياد، يتذكر كيف اعتاد اللعب معهم وتبادل الهدايا. زوجته تسترجع فقدان أولادها يوميا وكأنه حدث بالأمس.
هجوم أريحا لم يترك فضل وزوجته وابنه. يطاردهم، ويجعل المضي قدما أمرا مستحيلا.