وصف وزير الخارجية جون كيري انهيار أحدث جولات محادثات السلام الإسرائيلية- الفلسطينية بأنها: "لحظة اختبار واقع" عملية السلام. وكان من الواجب أن تمتد إعادة تقييم الموقف لتشمل سياسة الولايات المتحدة المتناقضة، التي تعارض باسم المفاوضات اتخاذ أية خطوات باتجاه تحقيق العدل والمحاسبة.
يزعم المسئولون الأمريكيون أن المحكمة الجنائية الدولية تمثل خطراً على محادثات السلام، فيما يمارسون ضغوطهم على الفلسطينيين كي يتنازلوا عن مسألة اللجوء للجنائية الدولية لاستصدار أحكام بشأن الجرائم الخطيرة التي ارتكبها كافة الأطراف داخل أو انطلاقاً من الأراضي الفلسطينية. ولكن يجب على مؤيدي المفاوضات أن يدركوا أن الخطر الأكبر على السلام هو في الإفلات من العقاب على تلك الجرائم الخطيرة.
يقوي موقف الولايات المتحدة شوكة أولئك الرافضين للجنائية الدولية باعتبارها "سلاح بلا ذخيرة"؛ وذلك بحسب وصف وزير الاقتصاد الإسرائيلي المؤيد للاستيطان نفتالي بينيت الذي ورد فيما كتبه في أحد أعمدة الرأي خلال الشهر الماضي. وجاء أيضاً فيما كتب: "لن ينجح الفلسطينيون في إيقاف بناء المستوطنات الإسرائيلية ولو ذهبوا إلى لاهاي" الأمر الذي تعارضه الولايات المتحدة فضلاً عن خرقه للنظام الأساسي للمحكمة ولاتفاقية جنيف الرابعة. ويبدو بينيت واثقاً من أن "المجتمع الدولي" سوف يعارض تحركاً من ذلك النوع الذي قد يفتح "صندوق بندورا سياسي"، وأن الفلسطينيين سيتراجعون في نهاية الأمر خشية تحقيق الجنائية الدولية في الجرائم المرتكبة من جانبهم، كأعمال القصف الصاروخي من قبل جماعات مسلحة في غزة، والتي طالت بأذاها المدنيين الاسرائيليين.
في الواقع، وكما أشارت 17 جماعة حقوقية فلسطينية ودولية في خطاب وجهته مؤخراً للرئيس الفلسطيني محمود عباس، فإنه ينبغي أن تذهب فلسطين إلى لاهاي تحديداً، إذ أنه بإمكان المحكمة الجنائية الدولية بصورة محايدة فرض العدل في شأن الجرائم الخطيرة المرتكبة من قبل كل الأطراف، سواء أكانت المستوطنات، أو الهجمات غير المشروعة على المدنيين، أو التعذيب، بل وهناك إمكانية لأن تحول دون وقوع المزيد منها.
بل أن الولايات المتحدة عارضت الشهر الماضي انضمام فلسطين لمعاهدات حقوق الإنسان التي يمكن أن تزيد الضغط بهدف إنهاء أعمال التعذيب التي يرتكبها الفلسطينيون- لمجرد كونه تحرك يتم خارج إطار المفاوضات. ولقد قام مكتب أمين مظالم حقوق الإنسان الفلسطيني الرسمي في 2013 بتسجيل 497 ادعاء بوقوع تعذيب على يد قوات الأمن الفلسطينية بارتفاع في العدد عن المسجل في 2012 والذي بلغ 294 ادعاء. فيما لم توجه أية اتهامات جنائية بشأنها.
وبالمثل، فإن معارضة الولايات المتحدة للمستوطنات باعتبارها "عائق في طريق السلام" يجب أن تقودها لدعم انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية التي يعكس نظامها الأساسي اتفاقيات جنيف، التي صدقت عليها إسرائيل، إذ يحرم قيام قوة الاحتلال بنقل المدنيين فوق الأراضي المحتلة. أما بالنسبة للمستوطنات فقد أسفرت سياسة "المفاوضات وحسب" الأمريكية عن فشل واضح.
في يناير/كانون الثاني من عام 1988، وكان عدد المستوطنين يبلغ وقتها 180000مستوطناً، نقضت الولايات المتحدة قراراً لمجلس الأمن يطالب إسرائيل بالالتزام ببنود اتفاقيات جنيف. وقالت الولايات المتحدة عندئذ أن القرار تطرق "لأمور من الأفضل تناولها في الوقت الراهن عبر القنوات الدبلوماسية". وعبر نقض تلو الآخر، دار جدل الولايات المتحدة بأن القرارات التي تنتقد المستوطنات "يمكن أن تشجع الأطراف على الابتعاد عن طاولة المفاوضات". واليوم يزيد عدد ساكني المستوطنات على 540 ألف مستوطن.
إن سياسة الاستيطان الإسرائيلية ليست بمشكلة مجردة يمكن رهنها بقرار ما يتخذ في المستقبل. فالمستوطنون لم تتم مقاضاتهم عن آلاف الهجمات على الفلسطينيين وممتلكاتهم والاستيلاء على منازلهم، ومزارعهم، وينابيع مياههم. بل أنهم يتمتعون بالدعم الحكومي، والبنية الأساسية الخاصة، وحصة للفرد من المياه تعادل تقريبا ستة أمثال حصة الفرد الفلسطيني. في ذات الوقت الذي تضع فيه إسرائيل القيود على دخول الفلسطينيين مزارعهم، لتحظر على الفلسطينيين في نهاية الأمر إقامة الأبنية السكنية على 62% من مساحة الضفة الغربية، تخضع لسلطتها منفردة وتعرف بالمنطقة "ج".
تعني القيود الإسرائيلية التمييزية أن بعض الفلسطينيين يوقدون الشموع فيما يرون أناس يديرون مفاتيح الإضاءة في المستوطنات المجاورة. ويضطر الفلسطينيون الراغبين في الزواج وتأسيس أسرة لترك قراهم إذ أن السلطات العسكرية الإسرائيلية لن تمنحهم تراخيص لبناء المساكن أو توسعتها.
إن تلك الخبرات المريرة لا تجعل من مفاوضات السلام أمراً أكثر سهولة بأي حال. إلا أن الولايات المتحدة مارست ضغطاً على محمود عباس خلال أحدث جولات محادثات السلام، والتي بدأت في يوليو/تموز الماضي، كي يرجئ السعي لولاية الجنائية الدولية القضائية تسعة أشهر. وفي ذات الوقت روجت إسرائيل خططاً وعطاءات لما لا يقل عن 13851 وحدة سكنية استيطانية جديدة، طبقاً لتقرير جماعة "السلام الآن" الإسرائيلية، وكذلك هدمت منازل 878 فلسطينياً، طبقاً للبيانات التي تجمعت لدى الأمم المتحدة. وقد أشار تقرير لدبلوماسيين أوروبيين في 2013 حول أعمال تطوير القدس الشرقية إلى"موجة غير مسبوقة من النشاط الاستيطاني" مع "استئناف مفاوضات السلام". كما صرح مسئول أمريكي لصحيفة نيويورك تايمز بأنه "عند كل مرحلة" من مراحل المفاوضات الحالية "كان هناك إعلان عن مستوطنة جديدة. يضع المزيد من العصي في الدواليب".
لقد يسرت الولايات المتحدة بإعاقتها لمبدأ المحاسبة باسم دفع عملية السلام، السبيل لإقامة المستوطنات وغيرها من جرائم الحرب الكفيلة بنسف أي آفاق السلام.
ينبغي على الولايات المتحدة، التي ساندت الخضوع لولاية الجنائية الدولية في بقاع مثل ليبيا والسودان ومؤخراً في سوريا، أن تساند فلسطين في ذلك. إذ يجب ألا تصير العدالة الدولية مجرد لعبة سياسية. إن العدل هدف هام في حد ذاته، وبإمكان تهديد يتمتع بالمصداقية بالمحاكمة أمام الجنائية الدولية أن يدفع قضية السلام قدماً.
بيل فان إسفلد باحث في هيومن رايتس ووتش معني بمنطقة الشرق الأوسط، ومقره القدس.