Skip to main content

على لبنان اتخاذ إجراءات جديدة لحماية طرابلس

يجب ملاحقة المقاتلين قضائيا ومعالجة المظالم المجتمعية

(بيروت) ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن العنف المتكرر والمستمر بين جماعات مسلحة في مدينة طرابلس بشمال لبنان قد فرض على سكانها ثمناً باهظاً من الموت والدمار. أدت أحدث جولات العنف، التي اندلعت في 19 مايو/أيار 2013 بضاحيتي جبل محسن وباب التبانة، إلى مقتل 29 شخصاً على الأقل وجرح أكثر من 200، ويبدو أنها أوقفت مظاهر الحياة في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان. بين الموتى ثلاثة جنود من الجيش اللبناني، وستة على الأقل من الجماعات المسلحة.

دعت هيومن رايتس ووتش السلطات اللبنانية إلى الوفاء فورا بواجباتها في حماية أمن السكان بنشر تواجد أمني أكثر كثافة في المنطقة والاحتفاظ به، واعتقال وملاحقة المسؤولين عن الهجمات العنيفة على السكان.

قال نديم حوري، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "تظهر هذه الجولة الأخيرة من العنف المميت إخفاق نهج ’الضمادة السريعة‘ الذي تتبناه السلطات اللبنانية في معالجة الصراع في طرابلس. تحتاج طرابلس إلى حماية سكانها على أساس التزام جديد من الدولة بأمنهم وسلامتهم".

تصاعد العنف المتقطع بين الضاحيتين منذ مايو/أيار 2008، إذ نشبت 16 جولة مختلفة من العنف منذ ذلك الحين. وبحسب السكان والجماعات المسلحة العاملة في المنطقة فقد صارت أرضاً خصبة للعنف المتزايد منذ اندلاع النزاع في سوريا، حيث أدى التوتر الطائفي بين السنة والعلويين إلى تفاقم التهاون القائم بالفعل في حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وميراث المظالم بين الطوائف.

دعت هيومن رايتس ووتش السلطات اللبنانية إلى حماية السكان بنشر وإبقاء المزيد من القوات الأمنية في المنطقة، ومنع نشوب جولة جديدة من العنف بمصادرة الأسلحة من المسلحين، واعتقال وملاحقة المسؤولين عن إطلاق الرصاص على السكان وقصفهم. كما دعت هيومن رايتس ووتش الحكومة إلى تشكيل لجنة تضم قادة من الطائفتين لمعالجة المظالم التاريخية الكامنة بين السكان وتقييم ما يمكن عمله لمعالجة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها الحماية وترميم منازلهم وغيرها من الممتلكات.

رغم أن التوترات الطائفية بين ضاحيتي جبل محسن وباب التبانة تعود إلى زمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) إلا أنها تصاعدت بسبب النزاع في سوريا. تقف ضاحية جبل محسن التي تسكنها أغلبية علوية بقوة في صف الحكومة السورية، بينما تعد المناطق المحيطة بها ذات الأغلبية السنية، بما فيها باب التبانة، معاقلاً للمقاتلين الإسلاميين السنة الذين يتوحدون مع مقاتلي المعارضة في سوريا ويؤيدونهم.

يبدو أن الاشتباكات الحالية، التي قال السكان لـ هيومن رايتس ووتش إن شرارتها اشتعلت بسبب المعركة الجارية للسيطرة على بلدة القصير الحدودية السورية، يبدو أنها قد اجتذبت مقاتلين لبنانيين من معارضي حكومة الأسد ومؤيديها على السواء. تعد تلك الاشتباكات الأكثر دموية منذ اندلاع العنف بين جماعات جبل محسن وباب التبانة في مايو/أيار 2008.

نيران القناصة والقصف، وأثرها على الحركة والتعليم والصحة
تحدث باحثو هيومن رايتس ووتش مع ستة مصابين، بينهم طفل وسيدة، كانوا ما زالوا يتعافون في مستشفيات بشمال لبنان، وستة من أقارب هؤلاء وغيرهم من السكان المصابين. وقد وصفوا جميعاً التعرض لنيران الأسلحة الآلية ونيران القناصة، وكذلك القنابل المقذوفة بالصواريخ ونيران الهاون، من جماعات مسلحة في المنطقة.

تم أخذ أول ضحايا هذا العنف، وهو محمد أحمد يوسف البالغ من العمر 18 عاماً وهو أحد سكان جبل محسن، إلى أحد مستشفيات طرابلس الساعة 3:45 من مساء 19 مايو/أيار، حيث توفي لاحقاً متأثراً بطلق ناري في جانبه الأيسر، وفق ما قاله العاملون بالمستشفى لـ هيومن رايتس ووتش. في محادثة هاتفية، قال أحد أقاربه لـ هيومن رايتس ووتش إن يوسف الذي كان يعمل نجاراً كان مع أصدقائه في أحد المقاهي حين قام مسلحون ظنوهم من باب التبانة بإطلاق النار عليه هو وأصدقائه. قال حسن، وهو ساكن آخر من سكان جبل محسن، لـ هيومن رايتس ووتش إن مسلحين من جبل محسن ردوا بالنيران بعد إطلاقها على يوسف ففجروا جولات متكررة من تبادل النيران بين الضاحيتين.

قال خالد، وهو سني جريح من الملولة، وهو أحد الأحياء المجاورة لجبل محسن، قال لـ هيومن رايتس ووتش من على سريره بالمستشفى إنه تعرض للرصاص في طريقه إلى عمله يوم 22 مايو/أيار، من قناص من جبل محسن. وتابع قائلا

استيقظت بالأمس واتصلت بمشرفي لأخبره بأنني لن أحضر للعمل بسبب خطورة الوضع الأمني. فقال إنني إذا لم أحضر فلا داعي لتجشمي عناء الحضور بعد ذلك، وهكذا أخذت دراجتي النارية واتجهت إلى هناك. عندما بلغت نهاية الشارع قررت تجنب الطريق الرئيسي المار بجبل محسن، وأخذت طريق المحجر لأنه أكثر أمناً. وفجأة صاح بي أحد السكان لتحذيري من القناصة... [بعد أن فعل هذا] بدأت أقود ببطء بحذاء الجدار وبعيداً عن الشارع. وبعد خمس دقائق أصبت بالرصاص فوق مقعدتي.

تم إطلاق عدة دفعات من الهاون أيضاً في هذه الجولة من العنف. في 24 مايو/أيار أفادت مصادر أمنية بإطلاق ما يقرب من 1200قذيفة هاون وقنبلة يدوية مقذوفة بالصواريخ أثناء الليل بين 23 و24 مايو/أيار في المدينة. تعرفت هيومن رايتس ووتش على بقايا قذائف هاون من عيار 120 مم و82 مم، وكذلك على بقايا قنابل يدوية مقذوفة بالصواريخ ("آر بي جيه") وسط ركام الأسلحة المعثور عليها في العنف الراهن.

قالت وفاء، وهي فتاة علوية عمرها 14 عاماً كانت في أحد المستشفيات مع أمها، قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنهما كانتا في المنزل يوم 19 مايو/أيار حين سقطت قذيفة على شقتهما بالطابق الخامس فجرحت أمها. قالت:

كنت مع أمي، أستريح بإحدى الغرف مساء الأحد، حين سقطت قذيفة على بنايتنا فحطمت زجاج النوافذ وأصابت الشظايا أمي في القدم اليمنى... باب التبانة أمامنا مباشرة. ونحن نسكن قرب مستشفى الزهراء... بمنطقة سكنية... كانوا يطلقون النيران على المباني أيضاً.

قالت وفاء لـ هيومن رايتس ووتش إن بعض الأشخاص من المنطقة ساعدوها هي وأمها على الذهاب إلى عيادة الزهراء بجبل محسن، ومن هناك أخذهما الصليب الأحمر في عربة عليها علامات الإسعاف إلى مستشفى خارج الحي. وقالت إن عربة الإسعاف تعرضت للرصاص في الطريق، وقد تعرضا لحادث سيارة نتيجة لهذا. عندما رآها باحثو هيومن رايتس ووتش في المستشفى يوم 23 مايو/أيار، قالت وفاء إنها كانت تبيت هناك لرعاية أمها لعدم وجود طريق آمن للعودة إلى المنزل.

في كل اشتباك تتعرض آلاف العائلات للحصار في منازلها بفعل العنف، وتضطر لاستخدام طرق معقدة ولكنها خطيرة للفرار من المنازل والمبيت عند الأقارب في أجزاء أخرى من المدينة، كما قال السكان. ورغم أن العنف يؤثر في الأمن والأرواح بكافة المناطق المتضررة، إلا أن سكان جبل محسن لا يستطيعون الفرار بسهولة حيث أن الحي محاط فعلياً بأحياء معادية في أحيان كثيرة. وكثيراً ما يعتمد سكانه على عيادة الزهراء الطبية الوحيدة وفقيرة التجهيزات، مما يعرض الجرحى لخطر النزف حتى الموت أو الوفاة متأثرين بجراحهم قبل الوصول إلى الرعاية الطبية الكافية. قال العاملون بالعيادة الذين تحدثوا مع باحثي هيومن رايتس ووتش قبل جولة العنف الأخيرة إن بعض المرضى توفوا بسبب تعذر الوصول إلى الخدمات الطبية الكافية، أو بسبب تأخر الحصول على الرعاية الطبية.

علاوة على هذا فإن المدارس في كافة المناطق المتضررة تضطر بانتظام إلى إغلاق أبوابها بسبب الاشتباكات المسلحة، وقد تسبب أثرها الصادم على أطفال المدارس في انخفاض واضح بمؤشرات الأداء، بحسب المدرسين الذين تحدثوا مع هيومن رايتس ووتش.

قالت وفاء، الطالبة بمدرسة أبي فراس في جبل محسن، إن مدرستها مغلقة بسبب العنف وإنها أغلقت أبوابها عدة مرات على مدار العام الدراسي السابق بسبب المناوشات. وقالت إن موعد امتحاناتها هو 22 يونيو/حزيران، وهي تخشى ألا تستطيع التركيز على دراستها أو حضور الامتحانات بسبب العنف.

أثر العنف على الممتلكات والنشاط الاقتصادي
بخلاف حصيلة القتلى والعدد الكبير من السكان الذين جرحوا في الاشتباكات، كلف العنف ثمناً مالياً باهظاً من حياة السكان في مناطق المدينة المتأثرة بالنزاع.

ظهرت على كل البيوت تقريبا التي زارتها هيومن رايتس ووتش في جبل محسن والأحياء السُنية المحيطة به في مطلع مايو/أيار 2013 ظهرت عليها تلفيات بسبب العنف، تتراوح بين آثار الرصاصات المفردة وآثار القنابل المقذوفة بالصواريخ وحتى الشقق السكنية التي دمرتها تماماً الحرائق الناشبة بفعل آثار المتفجرات. في غالبية الشقق السكنية المعرضة للنيران المباشرة التي زارتها هيومن رايتس ووتش، كانت الغرف الأكثر تعرضاً للعنف غير مستخدمة أثناء الاشتباكات، أو لجأ السكان إلى رص أجولة الرمال أو الكتل الخرسانية بإزاء الجدران لحماية أنفسهم.

قال السكان أيضاً إن النشاط الاقتصادي توقف بالكامل تقريباً في المنطقة، مع إغلاق الكثير من الشركات والمصانع في المناطق المتضررة. كما شهدت مدينة طرابلس الكبرى تدهوراً اقتصادياً محسوساً بسبب العنف، مع تضاؤل صناعة السياحة بها وجفاف منابع الاستثمار، بحسب ممثل إحدى المنظمات الخيرية المحلية.

استجابة الدولة
منذ 2008، ومع كل جولة جديدة من العنف، كانت الحكومة اللبنانية تتبع نمطاً مألوفاً يعد أفضل وصف له هو أنه محاولة لاحتواء الوضع بنشر الجيش أثناء كل جولة، وعدم القيام بشيء يذكر لحين نشوب الجولة التالية من العنف.

للجيش وجود مستديم في جبل محسن والأحياء السنية المجاورة له على السواء، والكثير من ضباط الجيش على معرفة جيدة بالجماعات المسلحة من الجانبين. قبل الجولة الأخيرة من العنف، في كل من جبل لمحسن وباب التبانة، شهد باحثو هيومن رايتس ووتش ضباطاً من الجيش يتحدثون مع عناصر جماعات مسلحة بالاسم الأول، وأجروا مقابلات مع مقاتلين مسلحين يجلسون بحرية على بعد أمتار من مواقع الجيش. ويبدو أن الجيش اللبناني في فترات السلم لا يفعل شيئاً يذكر لاحتواء أنشطة المقاتلين المسلحين.

في تلك الجولة الأخيرة، تدخل الجيش اللبناني يوم 19 مايو/أيار لوقف العنف بإطلاق النار على مصدر النيران، وإرسال الدوريات، ونصب الحواجز على الطرق. في 20 مايو/أيار واصل الجيش الرد بالنيران على الجماعات المسلحة التي تطلق الرصاص في المنطقة، وجمّد وزير الدفاع تراخيص السلاح حتى إشعار آخر، قائلاً إن المخالفين سيقعون تحت طائلة القانون.

تعثرت محاولات التوصل لوقف إطلاق النار بوساطة الجيش في 23 مايو/أيار وسط جولات متجددة من العنف، لكن الهدوء النسبي بدا في 27 مايو/أيار وكأنه قد عاد إلى المدينة مع انتشار كثيف للجيش بداخلها. وشأن جولات العنف السابقة، لم يُبذل جهد جدي لاعتقال المسلحين من الجانبين أو مصادرة الأسلحة بأية طريقة جدية، رغم توجيهات الوزارة.

قال نديم حوري: "يحمل النزاع السوري إمكانية صب الزيت على نيران المظالم فيما بين الطوائف وتحويل الوضع الراهن إلى حرب صريحة. وعلى الحكومة أن تتحرك الآن لنزع سلاح المسيئين ومعالجة لب هذه المظالم قبل فوات الأوان".

أقوال السكان الجرحى وأقاربهم
قال فايز، أحد سكان جبل محسن والبالغ من العمر 42 عاماً، لـ هيومن رايتس ووتش من على سريره بالمستشفى إنه أصيب في الصدر يوم 21 مايو/أيار في طريق عودته إلى منزله بعد شراء الخبز من مخبز عمران. وقال أيضاً:

كنت في طريق العودة... حين أطلق قناص النار عليّ. أصيب رجل آخر كان بجواري...وقتل. كان الرصاص يأتي من اتجاه البقّار وميدان أبو علي [في باب التبانة]. كنا ثلاثة أو أربعة رجال نقف تحت البناية ونتحدث عن أكثر الطرق أمناً للعودة إلى منازلنا. ولم ندرك أنهم يروننا من حيث كنا... أصبت برصاصة واحدة في الصدر، ثم جاء مجموعة من الرجال بعد أن سمعوا صياحنا وصراخنا، ووضعوني في سيارة وأخذوني إلى عيادة الزهراء. بعد هذا جاء بي الجيش إلى هذا المستشفى... كان هذا في نحو الثالثة أو الرابعة عصراً. لم يكن مع أحد منا سلاح. كان الرجال الآخرون مدنيين مثلي.

قال فايز لـ هيومن رايتس ووتش إن شقيقه رياض معراف قتل في جولة عنف سابقة بين المنطقتين في 15 أبريل/نيسان 2012. ووصف لنا كيف أفسدت هذه الجولة وجولات العنف السابقة حياته اليومية، فقال: "حين يبدأ القتال لا يجد سكان جبل محسن مكاناً يلجأون إليه. لا يمكننا التحرك. لا يوجد مخرج آمن... نحن محاطون بالقناصة".

في نفس المستشفى تحدثت هيومن رايتس ووتش أيضاً مع مها، وهي فتاة علوية عمرها 13 عاماً من علما، الحي الواقع شرقي باب التبانة وجبل محسن، أصيبت في الصدر بدورها. قالت مها لـ هيومن رايتس ووتش إنها أصيبت على الدرج أمام منزل جدها يوم 19 مايو/أيار في نحو السادسة مساءً. وقالت أيضا:

كنت مع أقاربي أمام منزل جدي حين سمعنا ما يشبه انفجاراً عالياً. ثم شعرت وكأن هناك شيئاً بداخلي. كنت واقفة بجوار الباب ورأيت الدم على ثيابي. صرخ عمي الذي كان معي وأخذني ووضعني بالسيارة وجاء بي إلى المستشفى...

قال مروان، وهو سني عمره 23 عاماً من باب التبانة وصف نفسه بأنه موظف بشركة في بيروت يعمل في مناوبات ليلية، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه كان يمشي عائداً إلى بيته عبر السوق في باب التبانة في الواحدة والنصف من صباح 22 مايو/أيار في طريق العودة من عمله حين أصيب بشظايا قذيفة. قال:

مررت ببعض الأشخاص [في السوق] ونصحوني بأن أعود أدراجي لأنهم يطلقون قذائف الهاون. ثم سقطت قذيفة على الجانب الآخر من الشارع المواجه لي... بعد إصابتي تجمع بعض الناس على صراخ أحد الأشخاص بوجود شخص مصاب. ورأيت أنني أنزف من صدري فوضعت يدي الأخرى على جرحي وسرت نحوهم. فقدت الكثير من الدماء وغبت عن الوعي. لا أذكر بعد هذا إلا وأنا في المستشفى هنا.

قال مروان إن بعض السكان المسلحين كانوا في السوق في توقيت هجمة الهاون التي أصابته، وأنهم كانوا يردون بالنيران على مصدر الهجوم. وقد قدّر وجود ما بين 4 و5 مسلحين في كل شارع مر به في باب التبانة.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة