يطلق الحراس في المدينة الليبية النائية زنتان على أسيرهم، سيف الإسلام القذافي، "صندوقنا الأسود". يعرف الابن الثاني الأكبر سنا لمعمر القذافي أسرار الماضي في ليبيا، وقالوا: "سيف الإسلام كان يتعامل مع شركات وحكومات أجنبية، ويعرف أماكن سجناء مختفين، وتفاصيل الجرائم التي ارتكبت خلال محاولة النظام الفاشلة في قمع الثورة الشعبية العام الجاري". كان لابد من حماية سيف الإسلام، 39 عاما، حتى يعلم الليبيون والعالم حقيقة ما حدث في ليبيا. وبالنسبة للحراس في زنتان، وهي مدينة جبلية قوامها 50 ألف نسمة، فإن الحفاظ على المطلوب الأول من العدالة في ليبيا في مأمن من ذلك النوع من مقاتلي المعارضة المحمومين، الذين نفذوا على ما يبدو الإعدام في والد سيف وأخوه معتصم، يقدمون الفرصة لإصلاح سمعة البلاد على مسار تحقيق العدالة عقب مقتل معمر القذافي في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
بصفتي مستشارا خاصا لـ هيومن رايتس ووتش، كنت قد رتبت مع الحكومة الليبية الجديدة لمقابلة سيف بشأن ظروف اعتقاله بعد إلقاء القبض عليه في 19 نوفمبر/تشرين الثاني في أقصى جنوب البلاد. قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة له بعد أربعة أيام من القبض عليه، لتصدر بيانا مقتضبا كالعادة، ولم ير أو يسمع الجمهور عنه شيئا منذ ذلك الحين.
دخل سيف الإسلام الحجرة مرتديا غطاء رأس كبير من الصوف البني مطرز الجانب. مد يده اليسرى، فيما أخفى يمناه في الغطاء. وقال بابتسامة ساخرة: "أهلا بك في زنتان"، مما استدعى ضحكة مكتومة من محتجزيه ومنّي. كانت ابتسامته مشرقة. لكن سيف كان قد خسر تأنقه الذي رأيته على شاشة التلفزيون وسمعت عنه ممن التقوا به من قبل. كان لديه لحية غير مشذبة ورأسه الحليق يحيط به الشعر الأشيب كما حدوة الحصان. لم يكن المكان على شاكلة ما اعتاده العهد من أماكن: غرفة خافتة الإضاءة مع سجادة كالحة ومساند على امتدادها. قبل عامين أقام حفلة فخيمة في عيد ميلاده السابع والثلاثين على ساحل مونتينيغرو؛ ضيوفه، كما ذكرت تقارير، كان من بينهم الملياردير الروسي أوليج ديريباسكا والأمير ألبرت أمير موناكو.
مازح سيف الحراس بتبسط قائلا: "أوه، عظيم"، حين أعطوه نظارته، والتي أخذت منه لإصلاحها في طرابلس. فكرت في لا مبالاته وخمنت أنه فشل في استيعاب مدى خطورة موقفه. أو ربما أنه كيف يمكن لإنسان أن يتصرف حين يولد لعائلة دكتاتور واعتاد حل جميع المشكلات بإلقاء الأوامر أو بالمال.
في الوقت الحالي يعيش سيف الإسلام فيما يمكن اعتباره "مأزق قضائي". وفقا للنائب العام الليبي الجديد، فإن سيف قيد التحقيق في تهم الفساد قبل الثورة وفي الجرائم المزعوم ارتكابها خلال حملة الحكومة القمعية العنيفة هذا العام. إذا أدين في جرائم الحرب المزعومة فسيحكم عليه بالإعدام. في الوقت نفسه، فإنه مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي بزعم ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الأيام الأولى من الحملة القمعية، حين فتحت القوات الحكومية النار على المتظاهرين السلميين في شرق البلاد. بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1970، الذي يعطي الحق للمحكمة الجنائية الدولية في التحقيق، يتعين على الحكومة الليبية تسليم سيف الإسلام للاهاي. لكن الحكام الجدد في ليبيا قالوا لي إنهم مصممون على التحقيق معه داخل ليبيا. بإمكانهم طلب إذن من قضاة المحكمة الجنائية الدولية للقيام بذلك، ولكن يجب أن يسوقوا في المذكرة القانونية الحجة بأنهم سيمنحون المتهم المحاكمة العادلة في التهم نفسها. أحد أسباب زيارتي لسيف كان لمعرفة ما إذا كان يقابل المحامين تمهيدا لمحاكمته المحتملة، وقتما تبدأ.
لمدة عشر سنوات منح أبرز أبناء القذافي بصيص الأمل للعديد من الليبيين بأن التغيير ربما سيأتي يوما ما إلى ليبيا. في كلية لندن للاقتصاد حصل على درجة الدكتوراه؛ وكان عنوان أطروحته دور المجتمع المدني في "دمقرطة" مؤسسات الحوكمة العالمية: من "القوة الناعمة" إلى صناعة القرار الجماعية"، وفي وطنه بليبيا، ضغط لإطلاق سراح بعض السجناء السياسيين وعمل على توسيق نطاق الجدل في ليبيا المغلقة المفرطة في القمع. وكان مسئولا عن جلب ممثلي منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى البلاد لأول مرة خلال حكم والده، ومسؤولاً عن طرح تساؤلات حول السلطة المطلقة لأجهزة والده الأمنية. أكانت تلك خطوات حقيقية نحو التغيير أم أن كل ذلك كان مجرد حيلة لكسب الود في الغرب، حيث لاقي ترحيبا في بيوت أصحاب النفوذ من المليارديرات والسياسيين؟ لست أعرف، وانقسم الليبيون أنفسهم حول تلك النقطة. على أية حال، فقد فشل في تحقيق إصلاحات حقيقية وموقفه في صراع العام الحالي كان واضحا تماما؛ لقد وقف مع والده في مواجهة وحشية لسحق الغضب الشعبي الليبي.
في البداية لم يكن يريد الحرس المخصص لسيف تركنا وحدنا. واقترحوا البقاء، ثم تركونا في الأخير لبضع دقائق حتى يتثنى لسيف التأكيد على انفراد على ما إذا كان كل شيء قد قاله حول المعاملة التي تلقاها حقيقية أم لا. وقد رفضت بقائهم بأدب. وعلى غير المتوقع، لم يستمر الحراس في الرفض ووافقوا على مغادرة الحجرة.
جلسنا على مساند في الزاوية، متحدثين بالإنجليزية. وبدا سيف واضحا وهادئا. قال إن بإمكانه قراءة الكتب الموضوعة على رف خزانة على جانب الحجرة، لكنه ليس مسموحا له بالاطلاع على الصحف، أو الإذاعة، أو التلفزيون. وقال أيضا إن الطعام الذي يقدم له جيد ومعاملة الحراس له تتسم بالعدل، "المعاملة حسنة، على الأقل فأنا داخل بلادي. ليس ثمة تعذيب أو أي شيء من هذا القبيل".
سألته عن يده اليمنى فرفعها. غطت ضمادات بيضاء جديدة إبهامه، وسبابته، والإصبع الأوسط. رفع الضمادة عن الإبهام، ورأيت قطعا نظيفا في أعلاه بعدما قطعت عقلة منه. وقال إن عقلة السبابة قطعت أيضا من أعلاها، مع تهتك عميق في الإصبع الأوسط من أعلاه لآخره، وأن "هناك طبيب يأتي كل أسبوع".
الظن السائد في ليبيا أن المتمردين الذين احتجزوا سيف قطعوا أصابعه لأنه كان يلوح بها في التلفزيون الحكومي وهو يلقي كلمته الشهيرة في بداية الصراع. في الكلمة المنفردة، التي شوهدت كثيرا على شاشة التلفزيون و"يوتيوب"، كرر عروضه بالإصلاح لكنه توعد بأن الحكومة ستدمر الانتفاضة، وتقاتل، "حتى آخر رجل وامرأة ورصاصة". لكن سيف بدد الأسطورة الشائعة بأن أصابعه قد قطعت للثأر منه. قال: "حدثت الإصابة في يدي خلال هجوم لحلف الناتو". فسألته متى، فرد: "كان ذلك منذ شهرين مضيا. كنا في مكان يدعى وادي زمزم ـ قتل 26 شخصا من جماعتي". حين يتحدث ينظر لأسفل متأملا على ما يبدو. ووفقا لما قاله، فقد أجرى طبيب ليبي عملية في يده في الحجرة التي كنا نجلس فيها.
سيف قال إن الإصابة، في الحقيقة، أدت لإلقاء القبض عليه. دون أن يعطي تفاصيل أوضح أن إصابة يده "تدهورت" أثناء فراره عقب مقتل والده، لذا فقد رتب للالتقاء بطبيب في جنوب ليبيا. اكتشف مقاتلو المعارضة موعده مع الطبيب وأوقفوه هو وأعوانه. (لدى الحراس رواية أخرى أقل تجميلا للصورة من سيف: كان يحاول الفرار من البلاد حين ألقي القبض عليه، وفقا وأخبرهم أحد العارفين بمحاولته فلاحقوه).
لم يكن لسيف سوى شكوى واحدة. "المشكلة الكبيرة"، وفقا لما قاله حول ظروف اعتقاله، "هي العزلة التامة". وأضاف أن مسئولين حكوميين وقادة عسكريين عديدين كانوا قد جاءوا لزيارته، من بينهم "من يدعى رئيس الوزراء"، لكنه كان عاجزا عن الاتصال بأي شخص من اختياره، حتى عن طريق الهاتف.
تلك العزلة التامة، اكتشفت أنها أبقت سيف بدون تمثيل قانوني. وقال لي: "احتاج للاتصال بعائلتي أو أصدقائي من أجل العثور على محام".
فيما بعد أثرت قضية حاجة سيف لمحام أمام الحكومة. هذا هو السؤال الذي طرأ في صميم ما ستصبح ليبيا عليه: هل ليبيا الجديدة ستمنح المعتقلين الحقوق التي منعها معمر القذافي عن الليبيين لمدة طويلة؟ هل ستعطي السلطات الليبية أكثر الرجال المطلوبين أمام العدالة الحق في الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة عادلة تحتكم للقانون؟ سيف واحد من بين نحو 8،000 معتقلا في مرحلة ما بعد القذافي، الذين ألقى القبض عليهم من قبل الحكومة وعشرات الميليشيات، وجميعهم بحاجة لمحام وقاض لمراجعة مشروعية احتجازهم على وجه السرعة.
النائب العام قال إن الدولة ستسمح لسيف باستقدام محام بعد أن يتم ترحيله إلى منشأة أكثر أمنا في طرابلس. واقترحت أن الحكومة بإمكانها السماح له بالوصول إلى محام الآن، حتى في ظل الظروف الصعبة في زنتان.
مع مواصلتنا الحديث لاحظت وجود مؤشرات على أن سيف ربما لا يدرك تماما وضعه الخطير. كاد يعتذر لسجانيه عندما تحدث عن عزلته: "ليست [عزلتي] لأنهم يريدون الإضرار بي أو الإساءة إلي، ولكن بسبب الموقف"، قال ذلك أمام حراسه. مضيفا: "هذا الأمر أيضا لحمايتي ـ أنا لست شخصا عاديا". وأخبرني حراسه فيما بعد، على الغداء، أنه تحدث عن العودة إلى السلطة.
سيف حثني على البحث في أمر 10 آلاف شخص من "شعبنا"، قاصدا أنصار والده الراحل، الذين قال إنهم معتقلين حاليا من قبل السلطات الجديدة، "تم احتجازهم في بنغازي ومصراتة وطرابلس والزاوية وزنتان"، وراح يُعدد أسماء المدن والبلدات الليبية، وأكد أن "هناك تنكيلا بهم". اندهشت لجهوده في استمالتي له، كما لو كان لا يزال يعتقد أنه في موقع قيادة. وأخبرته بأننا كنا نرصد السجون وأماكن الاحتجاز المؤقتة عن كثب ووثقنا بعض الانتهاكات.
بعد 30 دقيقة دخل الحراس مرة أخرى للغرفة، وأبديت استعدادي لأن أخرج. وحين كنا نتحدث بدا سيف وكأنه يتمتع ببعض السلطة. لكن فيما كنا نقف في منتصف الحجرة، في زنتان النائية، سلمنا على بعضنا بأيدينا اليسرى، وقد حمل عيني على التأمل لوقت طويل. وتساءلت عما إذا كان ما يفعله استعراضاً إضافيا لقوته وتحديه أم ربما خيانة للخوف.
*فريد آبراهامزهو مستشار خاص فيهيومن رايتس ووتش.*