كيف تبدو الحياة داخل غزة بعد 15 عاما على بداية الإغلاق؟
عمر شاكر (ع ش): يخترق الإغلاق فعليا كل جوانب الحياة اليومية، بدءا من حرية تنقل الناس إلى القدرة على نيل الفرص التعليمية أو المهنية، أو طلب الرعاية الطبية، أو زيارة الأقارب في مكان آخر. كما ساهم في تدمير الاقتصاد في غزة، حيث يعتمد 80٪ من السكان على المساعدات الإنسانية ولا تستطيع معظم العائلات الحصول على كهرباء منتظمة، ورعاية صحية جيدة، ومياه نظيفة. تمنع السلطات الإسرائيلية معظم سكان غزة من السفر عبر إيرز (بيت حانون)، وهو معبر الركاب من غزة إلى إسرائيل، للدراسة في الخارج، أو حضور المؤتمرات، أو قضاء الإجازات، وهي أنشطة يعتبرها معظمنا من المسلَّمات. بينما يمكن لسائح أمريكي أو فرنسي ركوب طائرة غدا وزيارة البلدة القديمة في القدس، أو رام الله، أو غيرها في الضفة الغربية المحتلة، لا يستطيع معظم فلسطينيي غزة ذلك. كثير من الشباب، الذين يمثلون أغلب السكان، لا يرون أي مستقبل هناك.
عبير المصري (ع م): لا يستطيع فلسطينيو غزة أن يقرروا ما إذا كان بإمكانهم السفر، أو إلى أين، أو متى. أولئك الذين يحالفهم الحظ في تأمين منحة دراسية أو فرصة عمل في الخارج قد يقضون شهورا في التحضير لتلك الفرص، ليُحرموا في النهاية من القدرة على مغادرة غزة.
العديد من فرص التدريب والتطوير المهني غير متوفرة داخل غزة، ووصف أشخاص تحدثنا معهم كيف أثّر ضياع الفرص ليس فقط على تطورهم الشخصي أو المهني، ولكن أيضا على صحتهم النفسية. إنهم أشخاص متحمسون ومتعلمون يتخرّجون ولا يرون مستقبلا لأنفسهم تحت الإغلاق. يريدون السفر والحصول على التدريب، أو حتى رؤية العالم في الخارج، لكن لا يمكنهم ذلك. قال أحدهم، والذي تكرر رفض طلبه للحصول على تصريح سفر: "لا يوجد مستقبل في غزة... لا يوجد سوى حكم بالإعدام".
كيف تبرر إسرائيل منع السفر واستمرار الإغلاق؟
ع ش: تبرر السلطات الإسرائيلية الإغلاق بأسباب أمنية وتشير إلى صعود حماس إلى السلطة في غزة في 2007. لكن سياسة إسرائيل تمنع حرية التنقل للأشخاص في غزة افتراضيا، مع استثناءات محدودة، بغض النظر عن أي تقييم فردي للمخاطر الأمنية التي قد يشكّلها شخص بعينه. يمتلك الفلسطينيون بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان حق حرية التنقل، خصوصا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يمكن لإسرائيل تقييدها إلا لأسباب محدودة كالتصدي لتهديدات أمنية محددة وملموسة. من الواضح أن هذه القيود الشاملة لا تلتزم بهذا الشرط.
كيف يُطبَّق منع السفر؟ هل لدى الناس أي خيارات للسفر خارج غزة؟
ع ش: تفرض إسرائيل على سكان غزة منع سفر عام. الغالبية لم تغادر غزة قَطّ، لا سيما من هم دون 30 عاما. للمغادرة، يجب الحصول على تصريح إسرائيلي نادرا ما يتم إصداره ويقتصر على مجموعة ضيقة من الاستثناءات، مثل الإجراءات الطبية العاجلة.
مع استحالة سفر معظم سكان غزة عبر معبر بيت حانون الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، برز معبر رفح بإدارة مصر كمنفذ رئيسي لغزة إلى العالم الخارجي. لكن مصر تغلق معبر رفح كثيرا. حتى عندما يكون المعبر مفتوحا، كما كان الحال بشكل أكثر انتظاما في السنوات الأخيرة، تُقيّد السلطات المصرية السفر بشدة، بسُبُل منها التأخيرات المطولة، وفي بعض الحالات، إساءة معاملة المسافرين.
لتفادي هذه القيود، يمكن للفلسطينيين اللجوء إلى شركات سفر مصرية خاصة، بعضها له صلات بالسلطات المصرية، أو وسطاء فلسطينيين، ودفع مبالغ كبيرة لتقليل مخاطر رفض الدخول أو سوء المعاملة وتسريع سفرهم. لكن هذا الخيار يفوق قدرة معظم سكان غزة، وغالبا ما يُجبر الأشخاص المضطرون للسفر لأسباب طبية، أو لرعاية قريب مريض، أو لضمان الالتحاق بالعام الدراسي الجديد، على تحمل عبء مالي ضخم.
مع قلة فرص التقدم في غزة، يخاطر الكثيرون ويسافرون عبر رفح. من مصر، يسعى البعض للسفر بشكل غير نظامي إلى أوروبا، ويخوضون قد تكون رحلة محفوفة بالمخاطر بمساعدة المهربين على أمل إيجاد الحرية والفرص في أوروبا.
هل يمكنكِ إخباري عن بعض الأشخاص الذين تحدثتِ معهم وحاولوا خوض هذه الرحلات؟
ع م: تحدثتُ مع والد صالح حمد، الذي تخرّج من المدرسة الثانوية في غزة وأراد الحصول على وظيفة. مع قلة الفرص في غزة، قرر صالح المغادرة. أخبرنا والده أن صالح دفع ألف دولار أمريكي لتسريع سفره خارج غزة عبر مصر في 2018، ثم إلى تركيا، وبعدها دفع للمهربين هناك مبلغا أكبر لخوض رحلة خطرة عبر بحر إيجة. أخبرني والده أنه عندما وصل إلى أوروبا، واجه صالح صعوبات في الحصول على وضع قانوني في اليونان ثم اجتاز عدة دول سيرا على الأقدام قبل غرقه أثناء محاولة عبور نهر يفصل بين البوسنة وصربيا. كل ما أراده صالح هو وظيفة وحياة أفضل.
هناك رجل آخر تحدثت إليه، هو يحيى بربخ، المعيل الوحيد لزوجته، وطفليه، وأمه، وأخته. كل ما أراده هو إعالتهم. نظرا لاستحالة القيام بذلك في غزة، سافر بشكل غير نظامي إلى أوروبا في يناير/كانون الثاني 2022. اقترض المال وباع مجوهرات أمه لتمويل السفر، بما يشمل تكلفة تسريع سفره خارج غزة عبر مصر.
بين تركيا واليونان، واجه القارب الخشبي الذي وفره المهربون ليحيى ومهاجرين آخرين مياه هائجة وغرق، وغرق ثلاثة أشخاص. قال يحيى إنه أُنقذ مع ناجين آخرين ونُقلوا إلى مركز للّاجئين في اليونان. بينما كان عمال الإنقاذ يحاولون تخليص الآخرين، ترك رسالة صوتية لوالدته على هاتف صديقه يقول فيها باكيا: "أمي، أنا يحيى. أمي، كنا نغرق لساعتين. انتشلتنا [السلطات] للتو... أمي، مات الرجال الذين كانوا معنا... أمي، أكلنا السمك".[1] قرر يحيى العودة إلى غزة. أصابته تجربته بصدمة، تعهد بعدم المخاطرة مرة أخرى، رغم أنه عاطل عن العمل ويواجه المستقبل المجهول نفسه الذي واجهه في السابق. قال: "السجن الذي نعيش فيه هو ما أجبرنا على المخاطرة، أرى الألم في عيون أطفالي وأمي عندما لا يكون لديهم ما يأكلونه. ليس لدي وظيفة ولا أعرف كيف أطعمهم".
كانت النتيجة مختلفة بالنسبة لخليل النجار. أخبرنا خليل أنه أراد السفر للحصول على منحة دراسية في بريطانيا. حاول السفر عبر مصر مرات عدة، لكن السلطات المصرية منعته مرارا. دفع 1,500 دولار أمريكي لتسريع سفره خارج غزة عبر مصر، لكن الشرطة احتجزته في مطار القاهرة ورحّلته إلى غزة. قال إنه خسر منحته الدراسية بسبب التأخير، لكنه كان مصمما على مغادرة غزة لإيجاد فرص في مكان آخر. غادر ودفع للمهربين للوصول إلى أوروبا عبر البحر. بعد محاولات عدة، منها محاولات كاد القارب أن ينقلب فيها، واعتقالات من قبل سلطات مختلفة (إحداها من قبل السلطات اليونانية استمرت أربعة أشهر)، وصل أخيرا إلى ألمانيا، حيث يقيم حاليا.
ما الذي يجب أن يحدث لتحسين حياة الناس في غزة؟
ع ش: المصاعب التي يفرضها الإغلاق، بما فيها الدمار الاقتصادي، تعكس الوضع البائس في غزة. تمثل قلة الفرص للناس في غزة جزءا من سياسة متعمدة فُرضت كجزء من جريمتَي السلطات الإسرائيلية ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد ضد ملايين الفلسطينيين. يجب أن ينتهي ذلك.
على إسرائيل رفع الإغلاق الشامل والسماح بحرية التنقل من غزة وإليها. إذا اعتبرت إسرائيل أن أمنها يتطلب التدقيق في مَن يدخل أراضيها، يجب أن يكون الفحص الأمني فرديا وخاضعا للاستئناف. كان لديها متسع من الوقت لتطوير هكذا نظام. بحكم طبيعته المعممة، فإن منع السفر الحالي غير قانوني.
عبير، منذ فترة قصيرة تمكنتِ أخيرا من مغادرة غزة للعمل والسعي وراء الفرص في الخارج. كيف تشعرين عند سماع هذه القصص من الآخرين؟
ع م: لدي قصصي وأحمل قصص الآخرين لأنني أشاركهم الكثير. أنا أكثر حظا من معظم سكان غزة وأعمل في منظمة دولية، لكن حتى أنا لم أتمكن من مغادرة غزة لأول مرة إلا في 2018، عندما كان عمري 31 عاما. عندما أرى مدى سهولة التنقل لدى الآرين حول العالم بحرية، يصعب تقبل واقع الفلسطينيين في غزة. من المؤلم معرفة أن الكثيرين محرومون من الحق الأساسي في التنقل بحرية لمجرد أنهم فلسطينيون يعيشون في غزة.
أذكر حديثي مع خليل وسماعه يصف الحياة خارج غزة. وصف كيف اتسعت الآفاق الآن بعدما توقفت الحدود الصارمة والقيود التعسفية عن فرض خيارات حياته عليه وكيف أصبحت أحلامه خططا يشعر أن بإمكانه تحقيقها. أخبرني وهو يسترجع ذكريات رحلته أنه يفتقد عائلته، ومجتمعه، وحياته في غزة، لكن في النهاية، "الحرية لا تقدر بثمن".