تتحرك مصر بوتيرة متسارعة نحو إعدام المعتقلين. وبدا الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه في موقف الداعم للتزايد المريع في أحكام الإعدام في 2019.
مؤخرا، حاضر السيسي معارضيه، بمن فيهم قادة أوروبيون، خلال القمة العربية-الأوروبية في شرم الشيخ، قائلا إن الإعدامات جزء من "إنسانيتنا" المختلفة عن "إنسانيتكم [الأوروبية]".
لكن عند الحديث عن القيم، لم يقدم الرئيس السيسي في معرض تبريره لفورة الإعدامات سوى القليل من الحقيقة، وهدف إلى التغطية على أزمة غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث. ففي خلال حكمه، ارتفع استخدام مصر لعقوبة الإعدام بشدة إذ صدرت آلاف أحكام الإعدام منذ 2013.
تمثل هذه الزيادة خروجا عن ممارسات سابقة بتخفيف أو تعليق بعض أحكام الإعدام، والتي اتُبعت حتى أثناء الـ 30 عاما من حكم حسني مبارك الاستبدادي. حتى قتلة الرئيس السابق أنور السادات لم يُعدَموا.
يستتبع هذا الارتفاع الحاد التمعّن المتمّهل، لكن حكومة السيسي عملت على سحق أي حوار مفتوح حول عقوبة الإعدام، بينما عملت في ذات الوقت على إخراس المنظمات التي تسلط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان.
التضليل بلا هوادة
بعد وصول السيسي إلى سدة الرئاسة في 2014، حلت مصر بين أعلى 10 دول من حيث عدد الإعدامات السنوية، وانضمت إلى دول أخرى سيئة السمعة في تنفيذ الإعدام، مثل الصين وإيران والسعودية.
ومنذ 2014، أصدرت المحاكم الجنائية والعسكرية أكثر من 2,500 حكم إعدام أولي، منها المئات في قضايا عنف سياسي مزعوم، وهي المحاكمات التي عادة ما تشوبها انتهاكات شديدة للإجراءات القانونية الواجبة.
وجدت مجموعة حقوقية دولية أنه، وبالمقارنة مع الممارسات السابقة، أصدرت المحاكم الجنائية المصرية 530 حكما بالإعدام بين 1991 و2000، والتي كانت أيضا فترة عانت فيها مصر من العنف السياسي.
هناك الآن نحو 50 شخصا عرضة لتنفيذ الإعدام بحقهم في أي لحظة بعد تأكيد محاكم الاستئناف العسكرية أو المدنية أحكام إعدامهم.
في إطار التضليل بلا هوادة، يحاول الرئيس السيسي الإيحاء أن قيم حقوق الإنسان "غربية" أو "أجنبية" بالنسبة إلى مصر. إلا أنه، في الواقع، كان العديد من المصريين الشجعان على رأس حملات ضد عقوبة الإعدام لسنوات، منهم مثلا المحامي ناصر أمين ، وعالمة الأنثروبولوجيا ريم سعد، والمؤرخ خالد فهمي.
حاول السيسي الادعاء أن عقوبة الإعدام تلقى تأييدا واسعا عبر العالم، لكن في الحقيقة تراجع استخدامها بشكل ملحوظ عالميا. بحسب تقرير أممي صدر في 2015، أوقفت حوالي 160 دولة، بينها عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومنها دول إسلامية عديدة، عقوبة الإعدام في القانون أو الممارسة.
وكانت مصر في 2017 من بين 23 دولة فقط نفذت إعدامات.
إذن ماذا خلف فورة الإعدامات في مصر؟ فهم الأسباب التي أدت إلى الارتفاع الحاد في الإعدامات في مصر أساسي إن أردنا إيقافها.
فعقب إقدام الجيش على الإطاحة بالقوة بالرئيس السابق محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، حاكمت الحكومة المدعومة من الجيش الآلاف من قادة جماعة "الإخوان المسلمين" وأعضائها والمتعاطفين معها، في محاكمات جماعية غالبا، بسبب عنف سياسي مزعوم.
وقتها، كانت البلاد لا تزال في حالة اضطراب سياسي حاد، ولم يكن الحكام العسكريون قد أحكموا سيطرتهم بعد على كل مؤسسات الدولة المستقلة تقليديا. شمل ذلك القضاء وقتها، إذ تنحى العديد من قضاة المحاكم الجنائية ببساطة عن النظر في مثل تلك المحاكمات الجماعية.
ردا على ذلك، وفي أواخر 2013، أنشأت الحكومة "محاكم إرهاب" خاصة ضمن نظام المحاكم الجنائية، وعيّنت قضاة مستعدين للإشراف على قضايا العنف السياسي المزعوم.
كان ذلك هجوما كبيرا على استقلال القضاء، ومناورة لتحويله إلى أداة أخرى للقمع. أصدرت محاكم الإرهاب هذه، لا سيما عدد محدود من القضاة، مئات الأحكام بالإعدام.
يد العدالة "المغلولة بالقوانين"
لكن محكمة النقض، أرفع محاكم الاستئناف في مصر، واصلت عملها كمحطة تدقيق قوية نسبيا ضد تلك الإدانات المعيبة، ملغيةً الكثير من أحكام الإعدام بين 2014 و2016.
تحظى محكمة النقض باحترام كبير، لذا لم يكن من السهل على الحكومة تقويض استقلالها – على الأقل إلى حين اغتيال النائب العام السابق هشام بركات في يونيو/حزيران 2015.
قال السيسي في جنازته إن "يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين... ولكننا لن ننتظر على ذلك". تعهد ساعتها بتعديل قوانين البلاد، منتقدا بشدة القضاة من حوله لإبطاء تنفيذ رؤيته الخاصة "للعدالة".
نفذ السيسي وعده.
في أبريل/نيسان 2017، وافق السيسي على تعديلات قانون الإجراءات الجنائية المصري وقانون الطعن أمام محكمة النقض من أجل الالتفاف على المحكمة. وصفت "منظمة العفو الدولية" التعديلات بأنها "مسمار آخر في نعش معايير المحاكمة العادلة". وفي اليوم نفسه، وافق السيسي على تعديل آخر يُحكم فيه قبضته على تعيين رئيس محكمة النقض.
منذئذ، تراجع دور المحكمة في إلغاء أحكام الإعدام المعيبة بشكل كبير، لتؤيد العشرات منها.
بالإضافة إلى ذلك، وحتى قبل اغتيال بركات، أصدر السيسي قانونا في أكتوبر/تشرين الأول 2014 وسّع فيه بشكل غير مسبوق اختصاص المحاكم العسكرية في مقاضاة المدنيين.
ومن وقتها، أُحيل أكثر من 15 ألف مدني إلى المحاكم العسكرية، ما أدى إلى عشرات أحكام الإعدام الإضافية من قبل المحاكم الجائرة بطبيعتها.
الانتقاد العلني
تخوض مصر منذ 2011 مرحلة من الاضطراب السياسي الشديد. ورغم عدم وجود دليل على أن عقوبة الإعدام تحول دون ارتكاب جرائم خطيرة، فإن الإعدامات، لا سيما في حالات العنف السياسي المزعوم، لن تؤدي إلا إلى تعميق الشعور بالظلم، وبخاصة في ظل غياب أي رؤية أو بشائر في الأفق لأي عدالة انتقالية.
علينا ألا ننسى أيضا أن موجة الإعدامات هذه تحدث في بلد قتلت قواته الأمنية مئات المتظاهرين السلميين منذ 2011 بحصانة شبه مطلقة من العقاب، كما اتُهمت أيضا بحوادث إعدام المحتجزين خارج نطاق القضاء.
النظام القضائي المصري ليس ظالما في أغلب الأحيان فحسب، لكنه "معطوب" إلى درجة أنه في إحدى القضايا تبيّن أن توقيع قاض على عقوبة إعدام كان مزوّرا.
العيوب في المحاكمات منهجية، حيث حكم قاضٍ على أكثر من 500 شخص بالإعدام في قضية واحدة، وحكم آخر على طفل عمره 4 سنوات بالسجن المؤبد، فيما وُصف لاحقا بـ "الخطأ".
هناك مخاوف شديدة ومشروعة من أنه، وبعد عدة سنوات من تقويض ضمانات الإجراءات القانونية، وتآكل استقلال القضاء، الباب أصبح مشرعا على مصراعيه أمام فيضان الإعدامات التي تُنفذ بعد محاكمات جائرة إلى حد كبير.
ما نحتاج إليه ليس الاستماع بصبر إلى محاضرات الرئيس السيسي الخالية من الحقائق حول القيم الحقوقية في مصر، بل الانتقاد المستمر والعلني، حتى من حلفاء مصر، لرغبة الحكومة الواضحة في تنفيذ المزيد من أحكام الإعدام ضد ضحايا عملية قضائية معطوبة ومعيبة.