كان صديقي العزيز جيم فولي، الصحفي الأمريكي الذي أعدمه تنظيم الدولة الإسلامية بوحشيةٍ هذا الأسبوع، واحداً من أرقّ الناس الذين عملت معهم وأكثرهم اهتماماً بالآخرين. وفي عالم تغطيات الحروب الذي يتّصف في أغلب الأحيان بالتنافسية والتفاخر، تميز جيم بتواضعه وعطفه وطبيعته المتميزة بروح الفريق.
دخل جيم فولي حياتي خلال الانتفاضة الليبية عام 2011 ضد معمّر القذافي، عندما قبض عليه جيش القذافي مع ثلاثة صحفيين آخرين ومن ثم اختفوا. كنتُ أوّل من أجرى المكالمات المؤلمة مع عائلاتهم لإطلاعهم على ما حدث، وانضممت في الأسابيع التي تلت إلى الجهود الدؤوبة من أسرهم وزملائهم وأصدقائهم في محاولة العثور عليهم وإعادتهم إلى الوطن.
عندما أُطلق سراح جيم واثنين من الصحفيين الآخرين في نهاية المطاف، تلقينا الخبر المأساوي بمقتل أحد الصحفيين الأربعة، وهو الصحفي أنطون هامرل من جنوب افريقيا، حيث تم إطلاق النار عليه أثناء القبض عليهم، وتُرك ينزف حتى الموت في الصحراء. لم يتم العثور على جثته رغم محاولات واسعة النطاق، ودُفِن في قبر مجهول.
أصبحت وجيم بعد الإفراج عنه أصدقاء بشكل سريع، أثناء الاحتفال بحريته مع أصدقائه الكثر في مقهى "هاف كينغ" في نيويورك، وهو مقهى تقليدي يرتاده الصحفيون عادةً. كان جيم في غاية الامتنان لجميع الجهود التي بُذلت للإفراج عنه، إلا أنه عبّر عن نيّته في العودة إلى التغطية الصحفية الحربية بعد أن يمضي بعض الوقت في التعافي في المنزل، رغم تحفظات عائلته.
انضم جيم إليّ في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، في مهمة لـ هيومن رايتس ووتش إلى سرت، المدينة الليبية التي جرت فيها المعركة النهائية في الحرب عام 2011. كانت معركة وحشية، وقضينا الليلة الأولى في النوم جنباً إلى جنب في حاوية شحن معدنية، وكانت صواريخ غراد القوية التي يطلقها الثوّار تحلّق فوقنا وتنفجر في مكان قريب، وتهزّ الأرض تحتنا باستمرار. وجدنا نفسينا صباح اليوم التالي في الخطوط الأمامية لنشهد نهاية لتلك الحرب، وكان الثوار في كل مكان حولنا ينفجرون في البكاء فرحاً مع نهاية محنتهم.
استمرّ جيم وسط كل هذا الجنون في التصوير والعمل، دون أن يفقد رباطة جأشه. لم أسمع كلمة تذمر أو شكوى واحدة من جيم خلال تلك الأيام والليالي الصعبة. وكان يواصل عمله ويتقبل المشقة مهما ازدادت. قضى جيم ليلة وفاة القذافي في مساعدة زميل له من أجل تحضير لقطات القاء القبض على معمّر، التي صوّرها أحد الثوّار بهاتفه المحمول، وقضى ساعاتٍ في تقليص حجم الملفات وإرسالها عبر اتصال الإنترنت البطيء، في حين أن الجميع كانوا يحاولون الحصول على صورة مميّزة لـ معمّر القذافي وابنه المعتصم حين كانا ميّتين وممدّدين في منزل مجاور.
لم يكن جيم من أولئك الصحفيين الذين يأتون إلى مناطق الحرب ويعدّون بعض التقارير ثم يرحلون. عندما وصل جيم أراد أن يعيش مع السكان المحليين وأن يشاركهم معاناتهم ويسرد قصصهم. كان يقضي أشهراً في أماكن مختلفة، ويسافر في سيارات الأجرة المحلية ويكوّن صداقات محليّة. أتقن جيم كمدرّسٍ سابقٍ كيفية التواصل مع الناس، حيث كان قادراً على التخفيف من شدة أعنف الظروف، وعلى كسب ثقة أولئك الذين يجب مساعدتهم.
هذا هو ما يتطلّبه الأمر كي يعرف بقية العالم ما يحدث في أماكن مثل ليبيا وسوريا والعراق: فأشخاص مثل جيم يجب أن يخوضوا المخاطر المحسوبة للذهاب إلى هناك وتوثيق وتغطية ما يحدث، فعالمنا سيكون مكاناً أقل معرفةً بكثير من دون أشخاص شجعان ومتفانين مثل جيم.
اختفى جيم قبل نحو عامين في الأيام الأولى للصراع السوري، حين أوقفت مجموعة من الرجال سيارة الأجرة التي كان يستقلّها، بالقرب من بلدة بنّش، فأمسكوا به وطلبوا من السيارة الرحيل. سارع زملاؤه في غلوبال بوست وأصدقاؤه وعائلته إلى محاولة معرفة ما حدث وتحديد مكانه. تابعوا كل دليل مهما كان مستبعداً، ويأسوا بعد أن تضاءلت كل خيوط الأدلة. لم يكن هناك أي معلومة لعدة أشهر ثم سنوات، إلا الشائعات وليس هنالك علامة واحدة على بقائه على قيد الحياة، لقد اختفى بكل معنى الكلمة.
أتمنّى لو لم يكن هناك فيديو يظهر إعدامه الوحشي في مشهدٍ سيسكن عائلته وأصدقائه إلى الأبد. إنّ التفكير باللحظات النهائية المليئة بالإرهاب التي مرّ بها جيم هو أمر لا يحتمل، هذه اللحظات التي صممها تنظيم الدولة الإسلامية ليرهبنا جميعاً. ومما لا يطاق أيضاً هو التفكير بوجود رهائن آخرين في يد تنظيم الدولة الإسلامية، محتجزين لنفس الغرض، وأن مئات من العراقيين والسوريين ومعظمهم مجهولون قد عانوا مصير جيم ذاته على يد تنظيم الدولة الإسلامية، ولكنّ جيم يريد منّا أن نفكر في ذلك.
وداعاً يا عزيزي جيم، وسوف نتذكّرك لجمال الحياة التي عشتها بشكلٍ جيد لا لنهايتها الوحشية.