Skip to main content

بقدر ما وصلت إشارات مشجعة من انتخابات تونس الناجحة تبشر بتحول ديمقراطي جيد في العالم العربي في فترات ما بعد الثورة، فقد كانت البوادر المقلقة من مصر تشير إلى أن ثورتها انحرفت عن مسار ضمان الحريات والأهداف الديمقراطية التي نادى بها ميدان التحرير. لقد أصبح سلوك الحكام العسكريين لمصر أكثر قسوة وانتهاكاً للحقوق مع مرور الوقت، فيما يجدون الأعذار واحداً وراء الآخر لتأجيل تسليم السلطة للمدنيين. في الوقت نفسه ها هي إدارة أوباما – الراعي الأول للعسكريين – تقف في ظهر الجنرالات مثلما وقفت في ظهر حسني مبارك، فلا تنطق بكلمة واحدة على العلن تحذر فيها من المسار الخطير الذي تخطو نحوه البلاد.

لقد استمتع الشعب المصري بشهر عسل لذيذ مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فور انتفاضة يناير/كانون الثاني – فبراير/شباط التي أدت إلى تنحي مبارك. ذلك هو الجيش الذي رفض أوامر إطلاق النار على الشعب، الجيش الذي رحب به الناس بالعناق والتهليل عندما أعلن أنه سيتولى مسؤولية السلطة الانتقالية إلى حين تحضير الانتخابات المدنية واستعادة الأمن. وكان الإعلام المصري على أهبة الاستعداد لتجاهل ما حدث، حين أصدر المجلس الأعلى قراراً يفرض عقوبات جديد فضفاضة على الإضراب والتظاهر، وعندما اعتقل الجنود المئات الذين استمروا في الاعتصام. ثم شهد المصريون على المجلس الأعلى وهو يرفض إلغاء قانون الطوارئ الكريه، الذي يقنن الحبس لأجل غير مسمى دون اتهامات ومحاكمات بلا استئناف، تحت مسمى التصدي للجريمة والعنف.

لكن سرعان ما تبين أن القيادة العسكرية لمصر ليست ديمقراطية ولا ثورية. راقبها نشطاء حقوق الإنسان في صدمة والجيش يصعد من استخدامه للمحاكمات العسكرية للمدنيين، وبينهم المتظاهرين والصحفيين والنشطاء. تم محاكمة 3000 شخص محاكمات عسكرية حتى يونيو/حزيران، وهو ما يتجاوز إجمالي عدد المحاكمات العسكرية أثناء سنوات حكم مبارك الثلاثين، وأصبح عدد المحكومين عسكرياً الآن أكثر من 12 ألف شخص.

الجيش الذي أنشأ لنفسه صفحة على الفيس بوك انقلب إلى التهديد والملاحقة للصحفيين والمدونين، وراح يملي عليهم ما يقولونه وما لا يقولونه. وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول حكمت إحدى المحاكم على أيمن منصور بالسجن ثلاث سنوات بعد أن نشر رسالة على الفيس بوك رؤيت على أنها "مهينة للإسلام". وحكمت محكمة على مايكل نبيل بالسجن ثلاث سنوات بتهمة "إهانة القوات المسلحة". أما يسري فودة المذيع البارز الذي بدت عليه الثقة في الجيش عندما تحدثت إليه في يونيو/حزيران، فقد أعلن مؤخراً عن إلغاء برنامجه التلفزيوني بسبب تدخلات الجيش. لكن اليقظة الكبرى كانت مع وقوع مذبحة ماسبيرو. إذ شهد شهر أكتوبر/تشرين الأول خروج مظاهرة للأقباط احتجاجاً على إحراق كنيسة، فقامت قوات الجيش بإطلاق النار على المتظاهرين ودهستهم ومعهم المارة في الشارع، مما أودى بحياة 27 شخصاً.

ولقد حاول الجيش تبرير أساليبه الثقيلة باللجوء إلى حجج قديمة مُجربة: الحفاظ على النظام والقانون.. "الأصابع الخارجية".. مستنداً في ذلك إلى الخوف المستشري من الجريمة والفوضى. وفي دراسة أجراها معهد جالوب مؤخراً، تبين أن 38 في المائة من المصريين يخافون من الوقوع ضحايا للاعتداءات وأعمال العنف، مع كثرة تردد الحكايات عن سرقات مسلحة للسيارات وتفشي السرقة واقتحام البلطجية للأحياء. لكن في نفس الدراسة ورد أن معدلات الجريمة ما زالت ثابتة في مصر هذا العام، بعد الثورة، إذ قال 11 في المائة ممن شملتهم الدراسة أنهم تعرضوا للاعتداء أو السرقة، وهو عدد أقل بكثير من نسبة كانت 26 في المائة في عام 1998.

إن استمرار تأخر الانتخابات بادرة مقلقة على أن السادة قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يريدون العودة إلى الثكنات. الانتخابات الرئاسية التي سبق أن وُعد الناس أن تكون بنهاية هذا العام، يبدو أنها ستتم في يونيو/حزيران 2013، وهي فترة طويلة بشكل مقلق من الحكم العسكري، خاصة نظراً لسجل الحكم العسكري السيئ. بعض الأحزاب الليبرالية التي أعلنت الترحيب الكامل بالمجلس الأعلى في البداية بل ووصل بها الأمر إلى اقتراح منح الجيش حق الفيتو على التعديلات الدستورية كضمانة ضد انتصارات الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، ينظرون في قلق الآن إلى احتمالات سيطرة الإخوان المسلمين على البرلمان واستطالة مدة سريان السلطات التنفيذية للجيش.

ورغم هذه التحولات المقلقة في الأحداث، فقد أرسلت الولايات المتحدة رسائل مختلطة، إذ تقدم 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية لمصر، ولم يحدث أي تغيير هذا العام. كما أن للبنتاغون علاقة وطيدة بقيادات المجلس الأعلى منذ عشرات السنين، ولا يبدو أن تنحي مبارك قد أثر على العلاقات بين الطرفين أدنى التأثير. رأى الرأي العام المصري في تواجد مسؤولي البنتاغون في اجتماعات المجلس الأعلى للقوات المسلحة في واشنطن مؤخراً بادرة على الثقة في قيادتهم. قال شخص حضر تلك الاجتماعات أن المجلس الأعلى بذل الجهد في طمأنة وزارة الخارجية الأمريكية والكونغرس إلى أنه يمكن أن يُعهد إليه الحفاظ على استمرار السلام مع إسرائيل والأمن على الحدود، مع الإعلان بوضوح عن كل التجاهل للتحول الديمقراطي.

استمرار الولايات المتحدة في دعم القيادة العسكرية لمصر بغض النظر عن سجلهم من الانتهاكات من عدمه هو اختبار هام لوعد الرئيس باراك أوباما بعهد جديد من علاقة أمريكا بالسياسة في الشرق الأوسط. لقد طالب أوباما علناً المجلس الأعلى بوقف قانون الطوارئ ووقف المحاكمات العسكرية، لكن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية رددت مبررات المؤسسة العسكرية المصرية، بأن قانون الطوارئ مطلوب للتعامل مع "الجرائم اليومية". وتستمر الإدارة الأمريكية في مقاومة جهود الكونغرس الرامية إلى ربط المعونة بتحقيق الإصلاحات.

من التسرع الآن الحُكم على تجربة التحرير بالفشل، لكن من الضروري الإسراع بوقف عجلة العودة بمصر إلى الحكم السلطوي المستبد.

**

سارة ليا ويتسن: المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة