(نيويورك) - قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن على السلطات العراقية أن تكف عن منع المظاهرات السلمية وأعمال الاعتقال والترهيب بحق مُنظّميها. وعلى قوات الأمن العراقية أيضاً احترام الحق في حرية التجمع، وألا تستخدم إلا الحد الأدنى من القوة المطلوبة في حالة وقوع العنف في المظاهرات.
بعد خروج آلاف العراقيين إلى الشوارع في صيف 2010 احتجاجاً على القصور المزمن في الخدمات الحكومية، هاجمت السلطات العراقية المظاهرات. وأصدرت وزارة الداخلية قراراً متعسفاً عن الاحتجاجات العامة، ويبدو أن مكتب رئيس الوزراء أصدر أمراً سرياً لوزير الداخلية برفض التصريح للمظاهرات الخاصة بقضايا عجز السلطات عن توفير الخدمات. وعلى مدار الشهور القليلة الماضية رفضت الحكومة التصريح بعدد كبير من المظاهرات العامة، دون إبداء أسباب. كما اعتقلت السلطات وأرهبت منظمي المظاهرات والمتظاهرين، وأدت أعمال الشرطة إلى وفيات وإصابات. وأدت الحملة إلى خلق أجواء من الخوف في صفوف المنظمين والمتظاهرين.
وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "مصادرة حقوق وحريات العراقيين التي وُعدوا بها مقابل كل المعاناة التي تحملوها منذ الحرب، تعني إجبارهم على تحمل ما لا يُطاق. متى يتعلم المسؤولون العراقيون أن إسكات صوت الشعب لا يتعدى كونه وصفة جاهزة للفرقة والشقاق؟"
وعلى مدار الشهور الماضية، ازداد الغضب الشعبي في شتى أنحاء العراق من عجز الحكومة عن توفير الكهرباء والخدمات الأساسية الأخرى بالشكل الكافي. فمع توفر الكهرباء ساعات قليلة كل يوم، ومع ارتفاع درجات حرارة الصيف نحو الخمسين درجة مئوية، خرج المتظاهرون إلى الشوارع في شتى أنحاء العراق في يونيو/حزيران. احتجاجات البصرة بلغت ذروتها في 19 يونيو/حزيران، عندما قتلت قوات الأمن متظاهرين اثنين وأصابت اثنين آخرين بعد أن حاول المتظاهرون الدخول إلى بناية المجلس البلدي.
وبدأت مظاهرات أخرى في الانتشار في أنحاء العراق، واتخذ بعضها طابع العنف، مما أسفر عن إصابات في صفوف المتظاهرين والشرطة. وفي محاولة لتهدئة الغضب، استبدل رئيس الوزراء نوري المالكي وزير الكهرباء بوزير جديد، ووعد عدة مسؤولين حكوميين بتحسين الخدمات والتحقيق في الإجراءات المميتة التي انتهجتها قوات الأمن. لكن وراء الكواليس، تحركت السلطات العراقية من أجل منع المظاهرات الأخرى واستهدفت منظميها بالاعتقالات والترهيب.
أنظمة وقواعد جديدة
في 25 يونيو/حزيران، أصدرت وزارة الداخلية أنظمة جديدة متعسفة الأحكام، تؤدي عملاً إلى عرقلة حق العراقيين في تنظيم المظاهرات المشروعة. يطالب النظام المنظمين بالحصول على "موافقة وزير الداخلية ورأي المحافظين" قبل تقديم طلب إلى مديرية الشرطة المعنية، قبل 72 ساعة من المظاهرة. ولا يذكر النظام أي المعايير تلجأ إليها وزارة الداخلية والمحافظون أو الشرطة، في معرض الموافقة على المظاهرات أو رفضها، مما يمنح الحكومة سلطة مطلقة في تحديد من يحق له عقد مظاهرة. وليس من الواضح إن كان بإمكان منظم المظاهرة الطعن في قرار الرفض أم لا.
هذه الأنظمة تقوض من الضمانات المكفولة في الدستور العراقي، والخاصة بـ "حرية التجمع والمظاهرات السلمية". كما أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية - والعراق دولة طرف فيه - يضمن الحق في التظاهر السلمي وفي عدم التعرض للاعتقال والاحتجاز التعسفيين. ويوضح العهد أن القيود على التظاهر السلمي يجب أن تكون استثنائية وفي أضيق الحدود، إذا تبين أنها "ضرورية في مجتمع ديمقراطي" لحماية "الأمن الوطني أو السلامة العامة أو النظام العام أو لحماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو لحماية حقوق وحريات الآخرين". من ثم قالت هيومن رايتس ووتش إن منح العراق سلطات مطلقة للحكومة في تقرير الحق في التظاهر يعني الإخفاق في الالتزام بمعيار الاستثنائية الوارد في القانون الدولي، فيما يخص التضييق على الحق في التجمع.
كما أن أنظمة وزارة الداخلية المذكورة تنطوي على إشكاليات بما أنها تسمح صراحة لقوات الأمن العراقية باستخدام قوة غير محدودة ضد المتظاهرين، سواء متناسبة أم لا، على حد قول هيومن رايتس ووتش. القرار ورد فيه أنه في حالة نشوب العنف أثناء مظاهرة "فسوف تستخدم الوسائل المعروفة لتفريق المتظاهرين".
وفي 5 سبتمبر/أيلول، قال مسؤول رفيع بوزارة الداخلية لـ هيومن رايتس ووتش إن يوم صدور القرار، أرسل مكتب رئيس الوزراء أمراً سرياً إلى الوزارة يوجه فيه وزير الداخلية جواد البولاني إلى رفض الموافقة على جميع المظاهرات الخاصة بانقطاع الكهرباء أو القصور في الخدمات الحكومية الأخرى، يخبره في الأمر بأنه يجب "اختلاق الأعذار إذا تطلب الأمر".
وقالت سارة ليا ويتسن: "سحق قدرة العراقيين على التعبير عما لديهم من شكاوى عن إخفاق الحكومة في توفير الخدمات الأساسية سيجعل الناس بلا شك أكثر غضباً وإحساساً بالإحباط". وتابعت: "إذا لم يكن بإمكان الحكومة حتى أن توفر الكهرباء للمدن والبلدات العراقية، فليس أقل من أن تتيح القنوات لبث الشكوى العامة".
فلاح علوان، رئيس اتحاد المجالس والنقابات العمالية في العراق، قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه منذ صدور القرار الجديد، "أصبح من المستحيل استصدار تصريح للاحتجاج على عجز الحكومة عن توفير الخدمات، من ثم كف الناس عن المحاولة". علوان، الذي نظم عشرات المسيرات والمظاهرات منذ عام 2003، قال إن القانون يحظر المظاهرات فعلياً.
وقال: "النتيجة واحدة، عندما نحاول الحصول على تصريح من وزارة الداخلية، إما لا يردون أو يقولون لنا إنهم يفحصون الطلب. وبعد فترة، ييأس المنظمون".
وقال أربعة أشخاص يريدون تنظيم مظاهرات، لـ هيومن رايتس ووتش، إنهم لم يتلقوا التصاريح أو الرد على الطلبات - في الشهور التالية على صدور القرار.
وقال راشد إسماعيل محمود، من حزب العمال الشيوعي العراقي: "بعد أن قلت لهم إننا سنحتج تضامناً مع سكان البصرة ثم على انقطاع الكهرباء، راحوا يحيلوني من بناية لوزارة الداخلية إلى أخرى لمدة أسبوع، وكل منهم يقول إنه غير مسؤول عن مساعدتي". وحاول محمود الحصول على تصريح بتجمع صغير في ساحة الفردوس - منبر التظاهر الشهير في بغداد.
وقال محمود: "أخيراً قلت لضابط إنهم إذا تعمدوا منع التصريح، فسوف ننظم المظاهرة على أية حال، فهو حقنا". وأضاف: "هددني بوجود أوامر بتفريق الحشود غير القانونية بإطلاق النار فوق الرؤوس واعتقال كل المشاركين".
وفي مظاهرة غير مصرح بها في مدينة الناصرية الجنوبية مساء 21 أغسطس/آب، وقعت مصادمات بين الشرطة والمتظاهرين، مما أسفر عن إصابة نحو 16 شخصاً، من الجانبين، حسبما أفادت التقارير الإخبارية. واعتقلت قوات الأمن 37 شخصاً وأطقت مدافع المياه واستخدمت الهراوات في تفريق المظاهرة، أثناء إلقاء المتظاهرين الحجارة والعصي. وقال صحفي أسوشيتد برس، أكرم التميمي، الذي شهد على المظاهرة، إن منظمي المظاهرات في المنطقة أصبحوا خائفين من الكشف عن هوياتهم، وأن سلوك قوات الأمن يزيد التوترات ويؤدي إلى تدهور الوضع.
وقال لـ هيومن رايتس ووتش: "تصرفت الشرطة بعدوانية بالغة وبدأت في إطلاق النار فوق رؤوس الناس". ومنعت قوات الأمن كاميرات تصوير الإعلام من تصوير الحدث، وضربت مراسل تلفزيوني وكسرت كاميراته، على حد قول التميمي.
في اليوم التالي، أدان نائب الرئيس عادل عبد المهدي السلطات على رد فعلها على الاحتجاجات.
وورد في البيان الذي أرسلت نسخة منه إلى هيومن رايتس ووتش: "إن التظاهر السلمي المشروع الذي يحترم المصالح العامة والمال العام هو أحد الوسائل للتعبير عن الرأي التي ضمنها الدستور والقانون العراقي. وإن واجب قوات الأمن حماية المتظاهرين لا التسبب بآذاهم واعتقالهم... إننا نهيب بالحكومة المحلية وبقوات الأمن أن تلتزم القانون وتبقى في حدود صلاحياتها وأن تستمع الى طلبات المتظاهرين والمواطنين وأن تعمل على معالجة تردي الخدمات لا أن تستخدم القوة والقمع وأساليب الملاحقة والكبت".
وفي احتجاج يندد بالعجز في شبكة المياه في 11 أغسطس/آب بمدينة شمشمال الشمالية، طلبت قوات الأمن من مصور الحصول على المقطع الذي صوره، وفيه إطلاقهم النار فوق رؤوس المتظاهرين. طبقاً للشهود، أطلق المسؤولون النار على الصحفي بعد أن رفض وهرب.
وورد في بيان لمنظمة "مراسلين بلا حدود": "ما حدث في [شمشمال] أمر مشين بكل بساطة. فإن عناصر القوى الأمنية المسؤولين عن التهديدات اللفظية وأعمال العنف الجسدية باتوا يطلقون النيران الآن بطريقة متعمدة وسط الشارع على صحافي".
استهداف المُنظّمين
بعد وفاة متظاهرين اثنين على الفور، في مظاهرة 19 يونيو/حزيران بالبصرة، هاجمت السلطات العراقية المنظمين، واعتقلت اثنين على الأقل يُشتبه في أنهما من منظمي المظاهرة خلال الأيام التالية. في 22 يونيو/حزيران، داهمت قوات الجيش العراقي منزل شخص يُشتبه في كونه أحد المنظمين، وهو مثام كاظم، ولم يكن في البيت. وقال مسؤولون محليون بالبصرة ومراسلون صحفيون إن الجنود قبضوا على ابنيّ كاظم الاثنين وقالوا لأسرته إنهما سيبقيان قيد الاحتجاز إلى أن يسلم كاظم نفسه.
وقال أحمد الصليتي، نائب رئيس مجلس البصرة المحلي، لـ هيومن رايتس ووتش في 8 سبتمبر/أيلول: "هذا أمر غير مقبول بالمرة. نحن [الحكومة المحلية] أجرينا مكالمات عديدة مع الأمن، وأخبرناهم أن يكفوا عن استهداف منظمي المظاهرة. الأمر لا يتعلق بالأمن، بل له دوافع سياسية".
أحد منظمي مظاهرة البصرة ممن تحدثوا إلى هيومن رايتس ووتش قال: "اختبأ ثلاثة منّا. ومن لم يتم القبض عليه تعرض لمضايقات. يأتي الجنود إلى الحي كل يوم ويستجوبونني عما أفعله، وأين كنت، ومن أقابل... معاملتي بهذه الطريقة وكأنني مجرم رسالة لي ولغيري بألا نشارك في تنظيم المظاهرات".
ويطالب القرار منظمي المظاهرة بتسجيل بياناتهم لدى وزارة الداخلية، مما يثير القلق في أوساط الناشطين الذين قد يُستهدفون بالمضايقات أو ما هو أسوأ. أحد المنظمين من بغداد قال لـ هيومن رايتس ووتش: "ردود الفعل الحكومية في البصرة أثرت بالفعل في الناس في باقي أنحاء البلاد. والآن، أحاول تنظيم مظاهرة في بغداد عن حقوق الموظفين، وهذا صعب. فالأمر لا يقتصر على خوف المنظمين الآن، بل هناك الكثيرين لا يريدون المشاركة في أية مظاهرة بسبب إمكانية تعرضهم للاعتقال، وهم يخشون استخدام قوات الأمن للعنف لتفريق الحشود".
وقالت سارة ليا ويتسن: "ما يحدث شبيه بالعراق القديم، حيث تخويف الناشطين كي يلتزموا الصمت ويخفضوا رؤوسهم. العراقيون المهتمون بما يحدث في بلدهم ويريدون إبداء آرائهم في مشكلات العراق يجب أن يتم الاحتفاء بهم، لا ترهيبهم".
بينما ركزت الحملة بالأساس على منع المظاهرات عن القصور في الخدمات الحكومية، فلم يكن باقي المتظاهرين بمعزل عن تدخلات الحكومة، حتى لو كان لدى المنظمون تصاريح صحيحة.
في 7 سبتمبر/أيلول، منعت قوات الأمن المتظاهرين الداعين الأحزاب السياسية العراقية لتشكيل حكومة، من المضي قدماً على مسار المظاهرة المخطط له في بغداد، حتى رغم استيفاء المنظمين لجميع التصاريح من وزارة الداخلية، ومنها تصريح كتابي من وزير الداخلية نفسه، وكان مسار المظاهرة قد وافقت عليه الحكومة ومسؤولو الأمن مسبقاً. المظاهرة - من تنظيم جمعية الأمل العراقي، وهي منظمة حقوقية غير حكومية، كان من المقرر أن تُعقد أمام البرلمان، حيث عقد المتظاهرون الاحتجاجات على مدار سنوات دون وقوع مشاكل.
وقالت رئيسة جمعية الأمل، هناء إدوار: "منظمتنا لها تاريخ طويل في التظاهر السلمي، لكن فجأة لا يسمحون لنا [بالاستمرار]". بعد أن تحدثت إلى مسؤولي الأمن على الهاتف، قيل لها إنه بناء على أوامر مكتب رئيس الوزراء، فليس مسموحاً بعقد المظاهرة.
وقالت لـ هيومن رايتس ووتش: "اليوم، يمنعون التظاهر السلمي المشروع. وغداً، نخشى أن يلجأوا إلى ما هو أكثر من هذا".