بالنسبة إلى خلف، العراقي البالغ من العمر 38 عاماً، بدأ يوم 16 سبتمبر/أيلول كأي يوم عمل صيفي مشمس تقليدي. فقد ارتدى زيه الرسمي الخاص برجال الشرطة، ويتكون من قميص أبيض وسروال أزرق وقبعة، واتجه إلى ميدان نيسور المزدحم ببغداد. وبحلول السابعة صباحاً كان في الشارع، يوجه الحركة المرورية القادمة من طريق اليرموك متجهة إلى الميدان. وحين شاهد أربع عربات ضخمة ببنادق مُركبة أعلاها، فعل ما كان يفعله دائماً؛ إذ أوقف المرور وأفسح المنطقة بعد أن أدرك من الطوافتين المرافقتين للعربات أن هذا موكب أمني لشركة أمنية.
في بادئ الأمر بدا هذا شيئاً طبيعياً للغاية في عالم بغداد غير الطبيعي (كما كان في شهر سبتمبر/أيلول 2007). وأوضح خلف: "المواكب مألوفة". لكن هذا الموكب تراجع في التفافة غير متوقعة واتجه في الطريق المعاكس ليدور حول الميدان أحادي الاتجاه، وليتوقف في منتصفه ويبدأ في إطلاق النار. بعد 15 دقيقة، كان 17 عراقياً قد ماتوا، وأصيب عشرات آخرين، وفي سيارة بيضاء كانت قد اشتعلت فيها النيران؛ تفحمت جثتان حتى لم يعد التعرف عليهما ممكناً.
وقال خلف: "كان فيلم رعب"، ليصف بهذه الكلمات ما خلّفه حادث إطلاق نار شركة بلاك-ووتر سيئة السمعة.
وقد قابلت خلف في 30 نوفمبر/تشرين الثاني في حجرة اجتماعات صغيرة بفندق في أسطنبول بتركيا. وفي أحد أكثر الشهادات التي تم جمعها إلى اليوم عمقاً بشأن بلاك-ووتر، كان خلف من بين خمسة شهود وضحايا استقلوا الطائرات من بغداد إلى أسطنبول لمقابلة سوزان بيرك، وويليام أونيل وفريق المحامين والمحققين التابع لهما. ويقاضي الفريق شركة بلاك-ووتر بالنيابة عن ضحايا حادث إطلاق نار 16 سبتمبر/أيلول.
وكان هذا الحادث المميت نقطة مفصلية استتبعها التدقيق في المشكلات التي يتسبب فيها المتعاقدون من الجهات الخاصة، والذين يعملون في ظل حالة من الإفلات من العقاب مع نشرهم للعنف المعمم المصاحب للعمليات الأميركية في العراق.
ومع وجود تجربة سابقة مُستفادة من قضية مماثلة تم رفعها قبل عامين ضد المتعاقدين الأميركيين بخصوص فضيحة سجن أبو غريب، فلعل بيرك أونيل هي شركة المحاماة الوحيدة في البلاد التي أمكنها جمع شهادات الشهود وروايات الضحايا بهذه السرعة، مع تحديد الحجج القانونية والبدء في عملية محاسبة شركة بلاك-ووتر.
إلا أن المحزن في الأمر أن القضية قد تكون السبيل الوحيد أمام الضحايا وأسرهم لتلقي التعويض المناسب على خسارتهم.
وقد أعاد خلف سرد أحداث ذلك اليوم على حشد من المحامين من أصحاب الحواسب المحمولة في تلك الحجرة. وقال إنه شاهد قافلة بلاك-ووتر وهي تدور عائدة نحو الشارع الذي وقف فيه يوجه المرور. ومع توقف القافلة، شاهد خلف رجلاً ضخماً بشارب يقف أعلى السيارة الثالثة ليطلق عدة أعيرة نارية في الهواء. والتفت خلف نحو طريق اليرموك ليرى ما الذي عساه دفعه لإطلاق النار وسمع امرأة تصيح: "ابني! ابني!". وركض بطول ثلاث سيارات إلى الخلف ليتوقف لدى سيارة بيضاء ليجد امرأة تحمل شاباً صغيراً مترنحاً غارقاً في الدماء.
والرجل هو أحمد، طالب الطب البالغ من العمر 20 عاماً والمتفوق على دفعته، والمرأة هي أمه محاسن، طبيبة أمراض الجلدية الناجحة وأم لثلاثة أبناء.
وقال خلف: "حاولت مساعدة الشاب، لكن أمه كانت ممسكة به بقوة بالغة". وتابع: "رفعت ذراعي الأيسر عالياً في الهواء محاولاً أن أشير للقافلة لتوقف إطلاق النيران"، وأضاف أنه أعتقد أن القافلة سوف تستجيب لمثل هذه الإشارة من رجل شرطة. ووصف كيف جلس القرفصاء إلى جانب السيارة، ومد ذراعه الأيمن إلى الداخل وكان رأسه إلى الخارج ويده اليسرى لأعلى في الهواء تشير للقافلة، ومسدسه مؤمناً في جرابه. ثم أُرديت الأم قتيلة أمام عينيه.
ثم ازدادت كثافة النيران، كما قال خلف بعينين حمراوين وفي جدية بالغة. اختبأ خلف كشك لشرطة المرور، لكن الرصاصات انهارت بالقرب منه وأصابت إشارة المرور المجاورة وباب الكشك، وفر عائداً إلى طريق اليرموك لاجئاً إلى الأمان خلف أحد المرتفعات. وظل هناك مع مئات آخرين حتى انتهت الفوضى، يراقب الطوافتين وهما تدوران فوق الشارع وتشرعان في إطلاق النار على من تحتهما.
وبعد 15 دقيقة، مضت القافلة المكونة من أربع عربات تدور حول الميدان ثم ابتعدت. ووسط الحطام ارتقت سحب ملونة إلى السماء من بين هدية القافلة الراحلة... وهي قنابل دخان متعددة الألوان.
وفي تعليقات تم التحضير لذكرها في جلسة الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول، ادعى رئيس مجلس إدارة بلاك-ووتر – إيريك برينس – أن حراس الشركة: "ردوا على أهداف تنطوي على التهديد كانت قد بادرت بإطلاق النار عليهم"، بمن فيهم "رجال معهم بنادق أيه كيه – 47 يطلقون النار على القافلة" و"اقتربوا من العربات التي بدا أنها مفخخة ومجهزة بالقنابل". وحضّر برينس شهادة تؤكد أيضاً أن أحد العربات قد تم تعطيلها بفعل "نيران العدو" ووجب جرّها بعيداً عن المكان. وزعم أن الطوافتين لم تقوما بإطلاق النار على الأشخاص بالأسفل. (لم يتم ذكر هذه التعليقات... فقد بادرت وزارة العدل بإجراء تحقيق قبل يوم من جلسة الكونغرس وطالبت اللجنة بألا تناقش تفاصيل حادث 16 سبتمبر/أيلول. وفيما بعد ظهرت تعليقات برينس في صحيفة الواشنطن بوست).
إلا أن روايات خلف والآخرين تتعارض مع تأكيدات برينس. فخلف – الذي كان موجوداً قبل بدء إطلاق النار – قال إنه لم ير قط شخصاً يطلق النار على القافلة أو يقترب منها. وراقب العربات الأربع جميعاً وهي تبتعد بعد انتهاء إطلاق النيران لمدة 15 دقيقة، وانكمش في رعب والطوافتان تبدآن في إطلاق النار. وحسب أن كل من الطوافتين ستبدأ في إطلاق النار على الأشخاص المختبئين وراء المُرتفع، ممن لجؤوا إليه فراراً من الشارع.
وتدعم تعليقات خلف الروايات الرسمية، بما في ذلك نتائج تحقيقات لمكتب التحقيقات الفيدرالية كانت قد تسربت، وخلصت إلى أن 14 على الأقل من الـ 17 قتيلاً في الحادث كان موتهم غير مبرر، بالإضافة لأقوال أدلى بها مسؤولون عسكريون تخالف ما زعمته شركة بلاك-ووتر من أنه قد تم إطلاق النار على حراسها وأنها تعرضت للهجوم. ولم تجد تحقيقات الحكومة العراقية أي دليل على أنه قد تم استفزاز الحراس أو مهاجمتهم، وأطلق متحدث باسم رئيس الوزراء نوري المالكي على الحادث وصف "قتل متعمد".
ووصف للمحامين أيضاً مشهد الميدان أثناء وجود قافلة بلاك-ووتر فيه، الموظف البنكي حوبي، البالغ من العمر 32 عاماً الذي كان متواجداً هناك أثناء استراحة الغداء، عائداً من محاولة فاشلة لشراء هدية لمولود صديقه (فقد أدى انفجار لا صلة له بالحادث المعني في سوق قريب إلى تقصير مدة رحلة التسوق). وأوضح أنه علق في الزحام المروري على الجانب المقابل للميدان، الجانب البعيد عن طريق اليرموك، وسمع بداية إطلاق النار. وحين خرج من سيارته ليحاول معرفة ما يدور، رأى القافلة والسيارة البيضاء تحترق، وبدأ يهتف في السيارات الأخرى لكي تلتفت وتعود. وحومت فوقه الطوافتين، وكل منها فيها رجل يحمل بندقية آلية تطل من الطائرة.
وأدار حوبي سيارته في ذعر إلى الاتجاه المعاكس وشرع في مغادرة المكان حين اقتربت القافلة من خلفه، وألقت بزجاجات مياه على سقف سيارته. وقال: "فجأة شعرت بألم في ذراعي الأيمن وفي ساقي اليسرى، وفتحت باب السيارة وتدحرجت منها إلى الخارج". وتقدمت السيارة لمسافة قصيرة ثم ارتطمت بجدار وتوقفت، وقال حوبي: "حسبت أنني أحتضر".
وقضي الأيام الثلاثة التالية في المستشفى وأخضع لجراحة كبيرة على ذراعه الأيمن الذي تهشم بفعل رصاصة. وقضي الشهرين التاليين في البيت يتماثل للشفاء. ومن المتوقع إزالة القضيب المعدني الكبير الذي ذرعه الجراح في يده لمساعدته على الشفاء في نهاية ديسمبر/كانون الأول.
ومثل خلف، قال حوبي إنه لم ير أي أحد على جانبه من الميدان يهدد قافلة بلاك-ووتر بأي شكل.
والآن توجد 16 أسرة تكابد الحزن على القتلى، ومثل حوبي، هناك كثيرون يحاولون التماثل للشفاء من جراحهم.
أما هيثم، الأب والزوج الرصين المتماسك لأحمد ومحاسن، اللذان ماتا في السيارة البيضاء، فكان ينتظر أن يمرا عليه لأخذه من المركز الصحي الذي يعمل به في فترة ما بعد الظهر. وانتظر وانتظر ثم أخيراً ذهب إلى البيت دونهما. قال: "حاولت أن أتحلى بالصبر، وكررت الاتصال لكن اعتقدت أن هواتفهما الخلوية خارج نطاق الخدمة".
وأخيراً، حوالي الساعة الخامسة مساءً، اتصل بشقيقه الذي يعمل في المستشفى القريب من ميدان نيسور. وذهب شقيقه إلى حجرة الطوارئ ثم إلى المشرحة. وعرف أن كل الجثث هناك تم التعرف عليها باستثناء جثتين متفحمتين وتوجد أجزاء مفقودة من الجثمانين. ثم اتجه شقيقه إلى الميدان حيث اتصل بهيثم ليخبره أنه وجد سيارة بيضاء متفحمة عليها أرقام تماثل أرقام سيارة الأسرة.
وتعرف هيثم على ابنه مما تبقى من حذائه. وكان جبينه ومخه مفقودين وجلده محترق تماماً. وتعرف على زوجته التي يعرفها منذ 20 عاماً من بقايا حشو أسنانها.
وبعينين مغرورقتين بالدموع وصف هيثم زوجته وابنه: "إذا كنت ترى الزواج نصف حياتك، إذن فمحاسن كانت النصف الأفضل من حياتي". وأضاف: "كنا معاً دائماً. ولا أعرف كيف أدير حياتي أو أعتني بطفلينا الآخرين دونها".
وقال: "وأحمد كان ابني الأول، وكان الجميع يحبونه".
واتصلت وزارة الخارجية بهيثم وسألته كم يريد كتعويض... وقال هيثم عن هذا: "قلت إن حياتهما لا تقدر بثمن". لكن ممثل وزارة الخارجية أصر على أن يعطيه رقماً. وبالتالي قال له هيثم: "إذا تمكنوا من إعادة أحبائي إليّ، فسوف أمنحهم 200 مليون دولار عن طيب خاطر".
ولم يتمكن أي من العراقيين الذين تمت مقابلتهم الشهر الماضي من وصف خسارتهم دون البكاء.
أما أسعدي، البالغ من العمر 31 عاماً، وهو رجل هادئ نادر الابتسام، فقد أصبح كبير الأسرة بعد أن قُتل شقيقه أسامة في إطلاق النار. وقد تغير وجهه الهادئ وانهار وهو يصف اللحظة التي عرف فيها بشأن إطلاق النار. وخلّف شقيقه ورائه زوجة وأربعة أطفال. وأسعدي هو الآن الوحيد الذي يعمل في الأسرة وينفق عليها.
وقام بتوثيق ما تبقى من سيارة شقيقه. فإلى جانب خط ممتد من حفر الرصاصات على أحد أبواب السيارة، يوجد ثقب بحجم كرة القدم في سقف السيارة وآخر في باب السائق الجانبي.
وأبو هاشم البالغ من العمر 27 عاماً، أصبح بدوره وفجأة كبير أسرته حين قُتل شقيقه الأكبر في 9 سبتمبر/أيلول أمام متجر السجاد الخاص بالأسرة، في حادث يُعزى لبلاك-ووتر بدوره. وكانت زوجة شقيقه قد ولدت طفلتها الأولى قبل 20 يوماً من الحادث. وتناقلت التقارير مقتل أربعة عراقيين آخرين على الأقل في حادث 9 سبتمبر/أيلول ذاك.
وليست هذه بالحوادث المنفصلة. ففي أكتوبر/تشرين الأول أصدرت لجنة الكونغرس الخاصة بالإصلاح الحكومي والرقابة تحليلها لعمل بلاك-ووتر الداخلي منذ عام 2005، وجاء فيه 195 حادث إطلاق نار خلال العامين الماضيين، منها 160 حادثاً بادر فيها العاملون ببلاك-ووتر بإطلاق النار أولاً. وليست بلاك-ووتر هي المشكلة الوحيدة. فثمة ما يُقدر بـ 20000 إلى 35000 متعاقد أمني خاص يعملون الآن في العراق، دون مراقبة كافية، ودون تدريب كافي أو عقوبات قانونية تفرض على القائمين بالانتهاكات منهم ومحاسبتهم.
وربما تكون قضية بيرك أونيل هي القضية الوحيدة التي يتلقى فيها الضحايا التعويض على خسارتهم. وقد عرضت وزارة الخارجية على أقارب الضحايا 10000 دولار للقتلى في حادث 16 سبتمبر/أيلول، وهو رقم يعتبره الكثيرون زهيداً بشكل مهين ورفضوا تقاضيه. وفي قضايا أخرى أقل جسامة تورط فيها المتعاقدون الأميركيون، لم يتم عرض التعويض على أحد.
وقال لي بعض العراقيين إنهم لا يأبهون بالنقود أصلاً. بل لا يريدون إلا عقاب المسؤولين. لكن أيدي العراقيين مغلولة، فقد صدر أمر من طرف سلطة التحالف المؤقتة في أخر أيامها – وما زال سارياً – يسمح للمتعاقدين الخاصين بالإفلات من العقاب بموجب القانون العراقي.
وتفيد التقارير الآن بأن الادعاء الأميركي يحاول إعداد قضية قوية الحجج والبراهين ضد المتورطين في حادث 16 سبتمبر/أيلول. وإذا نجحوا في هذا المسعى فسوف تكون أول مرة تحاسب فيها الحكومة الأميركية جنائياً متعاقد أمني خاص جراء السلوك العدواني بحق العراقيين. وفي قضايا أخرى لا تبدأ التحقيقات من الأساس، بسبب غياب الإرادة السياسية، والقيود الناجمة عن عدم إمكانية فرض القوانين الجنائية الأميركية بالخارج، وغياب وحدات التحقيق الميداني. وحتى في هذه القضية، لم يزر مكتب التحقيقات الفيدرالية موقع الحادث لأكثر من أسبوعين بعد الحادث، وأثناء تلك الفترة قابل محققون من وزارة الخارجية العاملين ببلاك-ووتر فمنحوهم قدراً من الحصانة، مما صعّب من الملاحقة الجنائية.
والتشريع الجاري نظره في الكونغرس كفيل بسد بعض الثغرات القانونية، ومحاسبة كل المتعاقدين الأمنيين الأميركيين على المخالفات المرتكبة بالخارج. لكن مثل هذا التشريع لن يكون فعالاً إلا بالإشراف على تنفيذه وإنفاذه. ولن يكفي مقاضاة بعض العاملين ببلاك-ووتر، فثمة حاجة لإصلاح شامل لأسلوب عمل المتعاقدين الأمنيين والمشرفين على عملهم.
والمعرض للخطر هنا هي حياة الأبرياء، وكذلك سمعة أميركا في الشرق الأوسط وفي جميع أنحاء العالم.
وقد كتب لي أحد الرجال الذين قابلتهم في أسطنبول بعد أن عدت إلى الوطن: "أبلغي حبنا العميق لكل الأميركيين الذين يبذلون الجهد والمساعدات لإيقاف قتل الأبرياء في جميع أنحاء العالم". وأضاف: "أرجوك، نريد أن نحيا في سلام، وأن يحيط بنا الأصدقاء، وليس القتلة".