أخبرتني شيماء أبو جزر وهي تصف منزل العائلة المكون من ثلاثة طوابق في رفح جنوب غزة: "كنت أقول لزوجي إنني أشعر وكأنه قصر". عاشوا فيه ستة أشهر فقط قبل أن يُسوّى بالأرض في غارة جوية إسرائيلية في فبراير/شباط 2024. اشترت شيماء وزوجها عبد الله المنزل جديدا. قالت: "ادّخرنا 15 عاما للحصول على هذا المنزل".
تحدثتُ إلى شيماء (33 عاما) في يونيو/حزيران على سريرها في المستشفى في الدوحة، قطر، حيث كانت تتعافى من عمليتها الجراحية رقم 49 لعلاج الإصابات التي لحقت بها جراء الانفجار الذي أودى بحياة عبد الله وابنهما محمد (15 عاما) وابنتهما جنان (11 عاما) وأدى إلى ولادة طفلها ميتا بعد تسعة أشهر من الحمل. يعيش طفلاها الناجيان، شقيق جنان التوأم حذيفة (11 عاما) وابنتها مريم (6 سنوات) معها في غرفتها في المستشفى.
بدأت شيماء للتو في تحريك ساقيها مرة أخرى بمساعدة جهاز المشي أو "الووكر". عندما بدأت الأعمال العدائية الحالية بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية في غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت شيماء كثيرة التنقل. كانت خبّازة، تملأ أيامها – وحسابها على "إنستغرام" – بكعكات أعياد الميلاد التي تلفّها شرائط التزيين والفواكه المغطاة بالشوكولاتة وكعكات التمر اللذيذة التي تعدها لزبائنها.
بعد مرور 11 شهرا، أصبحت الصور التي تحتفظ بها على إنستغرام تذكار لأقاربها الـ 13 الذين قُتلوا في ثلاث غارات جوية إسرائيلية في غزة، بما في ذلك القصف الذي أصابها وقتل زوجها وأطفالها. كان الهجوم الأول في 10 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أصيب منزل شقيقة عبدالله في انفجار أدى إلى مقتلها وزوجها وثلاثة أطفال أعمارهم 6 سنوات و4 سنوات وسنة. وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول، قَتل هجوم ثانٍ شقيق عبدالله وزوجته وثلاثة من أطفالهما. وبعد أربعة أشهر، في 11 فبراير/شباط، جاءت الضربة المدمرة على منزل شيماء الجديد.
في أعقاب قصف 10 أكتوبر/تشرين الأول الذي أصاب منزل شقيقة زوج شيماء، عثر عمال الإنقاذ، على سطح أحد الجيران، على جثة مقطوعة الرأس لفتاة افترض أفراد الأسرة أنها ابنة أخت شيماء ديما (16 عاما). ودُفنت الرفات مع عائلة شقيقة زوج شيماء. وبعد يومين، عثر الأقارب على ديما على قيد الحياة في "المستشفى الأوروبي". ما زالوا لا يعرفون هوية الفتاة التي دفنت مع العائلة.
"120 يوما من الجحيم"
في 14 أكتوبر/تشرين الأول، غادرت شيماء منزلها في رفح مع أطفالها الأربعة للاحتماء في مدرسة تديرها وكالة الأمم المتحدة للّاجئين الفلسطينيين، "الأونروا"، في مخيم تل السلطان للاجئين، معتقدة أن عائلتها ستكون أكثر أمانا هناك. كانت شيماء حاملا في شهرها الخامس وفوّتت موعدها الأول للصورة بالموجات فوق الصوتية (أو ما يعرف بالصورة الصوتية)، والذي كان مقررا في 8 أكتوبر/تشرين الأول.
تُقدر شيماء أن ما لا يقل عن 5 آلاف نازح انتهى بهم الأمر محتمين في المدرسة خلال الوقت الذي مكثت فيه هناك. ضاق بها وبعائلتها فصل دراسي يحوي أكثر من 50 آخرين. قالت شيماء: "كان الدخول إلى الحمام صراعا في حد ذاته. كان عليك الانتظار نصف ساعة أو ساعة حتى يحين دورك". ومع ذلك، مكثوا هناك 120 يوما آملين البقاء في مأمن.
وقالت شيماء إن الأونروا، التي تدير المدرسة الآن كمأوى، "زودتنا بالمياه المالحة للغسل وتحميم الأطفال. ولكن أغلب الوقت كان الماء بالكاد يتوفر، لذلك استخدمتُ علبة بها بعض المياه خلف باب الفصل [لأحمم] أطفالي وأغسل الأطباق". في غياب الخصوصية، اضطرت شيماء إلى إنشاء منطقة غسيل مؤقتة، كما فعلت جميع العائلات الأخرى هناك.
لم يكن هناك ما يكفي من مياه الشرب، وكان صهريجٌ لنقل المياه غير الصالحة للشرب يصل كل بضعة أيام. غالبا ما لجأ النازحون في الملجأ إلى الشرب منه. أصيب البعض بالإسهال والقيء بينما أصيب آخرون، منهم ابنة أخت شيماء، والموجودة في رعايتها، بالتهاب الكبد الوبائي أ.
كانت الأسرة تعيش على معلبات التونة والفاصوليا، والجبن، والخبز القديم الذي كانوا يشترونه أو يقدم إليهم. أخبرتني شيماء أن "المرأة الحامل تحتاج إلى الطعام، ويحتاج الأطفال إلى الطعام. لم نرَ الفاكهة، لم نرَ الخضروات. كانت أجسادنا ضعيفة للغاية. لم يكن أطفالنا قادرين على النهوض واللعب أو التحرك".
خلال تلك الأيام الـ 120، بقي زوج شيماء، وهو رجل دين يدير شبكة خيرية، في منزلهما في رفح واستمر في العمل.
الهجوم
في 11 فبراير/شباط، شعرت شيماء، التي كانت تقترب من نهاية حملها، بانقباضات. وقالت: "غادرت المدرسة لإحضار ملابس للطفل". أخذت شيماء أطفالها وعادت إلى منزل عائلتها في رفح فيما كان من المفترض أن يكون رحلة سريعة إلى المنزل قبل العودة إلى المخيم وانتظار ولادتها.
وجدَت شيماء المنزل مغبرا وفي حالة من الفوضى. فبدأت في التنظيف، على أمل أن يأتي الناس للترحيب بالطفل الجديد بعد ولادته. وقالت: "جهزت المنزل، وغسلت السجاد، وغسلت الفراش حتى أتمكن من تجهيز منزلي للزوار. لم أكن أعلم أنني أقوم بتجهيز منزلي للقصف".
بحلول نهاية اليوم، كانت شيماء والأطفال على استعداد للعودة إلى ملجأ الأونروا في المدرسة. كانت شيماء قد ملأت أمتعتهم بالأساسيات التي يحتاج إليها الطفل. بينما وضّبت ابنتها جنان طلاء الأظافر.
ولكن بعد ذلك قال زوج شيماء إنه يتوق إلى تناول المعمول، وهو كعك التمر الذي كانت شيماء تخبزه قبل الحرب. قالت: "ألغيت العودة إلى المدرسة في تلك الليلة". وخططت بدلا من ذلك للعودة إلى المدرسة في صباح اليوم التالي.
في البداية، كان المساء بمثابة عودة إلى حياتهم الطبيعية. تراقصت جنان في الأرجاء، وصوّرت شيماء على هاتفها وجبة جميلة من المعمول كانت تعدها.
لكن الليل كان مخيفا للعائلة، حيث كانت معظم الغارات الجوية تحدث في ذلك الوقت. كان منزل رفح قد أصيب أصلا بقنبلة في ديسمبر/كانون الأول.
احتجّت جنان البالغة من العمر 11 عاما، قائلة: "ماما، أرجو ألا ننام في المنزل الليلة"، وذهبت مريم البالغة من العمر ست سنوات للنوم في منزل جدّيها المجاور.
قالت شيماء، وهي وقتئذ حامل في شهرها التاسع، لجنان: "لا أستطيع السير خطوة واحدة إلى المدرسة. يستغرق الأمر ربع ساعة سيرا على الأقدام إلى المدرسة". أخبرتني أنه لم تكن هناك أي وسيلة نقل على الإطلاق، لا شيء سوى الحرب.
حوالي الساعة 2 صباحا، استيقظت العائلة على دويّ انفجارات. تَجمّع الجميع في سرير شيماء وزوجها. في الساعة 3 صباحا، ومع اشتداد الانفجارات، طلبت شيماء من جنان أن تأتيها بثوب الصلاة من الجانب الآخر من الغرفة. كانت الأسرة تستعد للفرار. قالت لي:
أمسكَت بثوب الصلاة لتعطيني إياه، لكنها لم تفعل. في تلك اللحظة أصابت قنبلة المبنى الذي نسكنه. وفجأة انهار السقف فوقي. انقسم المبنى إلى نصفين. وانهار الجانب الذي كنت فيه، باتجاه الطريق. أمسكَت ألسنة لهب قدمي، وبدأ لحم ساقي يذوب. كنت محظوظة لأن تنكات المياه سقطت بجواري، فتمكنت من استخدام الماء لإطفاء الحريق. هذا ما مكّنني من الاحتفاظ بساقي اليسرى بالكامل. كان مشهدا مخيفا للغاية. انقسم سريرنا إلى نصفين. طار نصفي وبقي نصف [زوجي] في المنزل.
سمعتُ حذيفة يصرخ من تحت الأنقاض: "لا تتركوني هنا!". أخرجه الناس من تحت الأنقاض، وكان وجهه وجسده وقدمه اليسرى مغطاة بالحروق. قالوا إنه سيفقد بصره، ولكنه لم يفقده بمعجزة. لم أسمع أطفالي الآخرين يصرخون..
والد شيماء وجَدَها وسط الأنقاض وحملها إلى مستشفى محمد يوسف النجار في رفح. وضعها الممرضون بداية في خيمة خارج المبنى الرئيسي لعدم توفر الأسرّة بالداخل، ولكنهم نقلوها إلى الداخل عندما رأوا خطورة إصابتها. ثم أرسلها أحد الأطباء إلى الخارج مرة أخرى، مشيرا إلى الجثث والجرحى على الأرض، وقال إنه لا يوجد مكان لها.
بعد ثلاث ساعات من عدم تلقيها العلاج، حملها والدها إلى المستشفى الأوروبي في مدينة خان يونس المجاورة. لم يخبرها أحد بمقتل زوجها وطفليها في الغارة. قالت لي:
اعتقَدَ طبيبي أنني أعرف أنهم استشهدوا، فقال لي: "كنت أحب الصلاة خلف زوجك، رحمه الله. كان صوته جميلا للغاية عندما يتلو القرآن". قلت له: "رحمه الله"، وتظاهرت بأنني أعلم.
علمت لاحقا أن زوجي توفي بعد 20 دقيقة من الهجوم، وكانت أمعاؤه مُدلّاة خارج جسده. أصيب ابني الأكبر محمد بشظية معدنية في رأسه.
استشهدت جنان أيضا. عُثر عليها مبتورة الساقين وثمة شظية في رأسها. هناك صورة لجنان بعد استشهادها معلقة على جدار [المنزل] وثوب الصلاة معلق خلفها على الجدار نفسه.
أخبرتني شيماء عن صورة انتشرت لرفات ابنتها تم تداولها عبر الإنترنت في اليوم التالي للضربة. قالت عن الفتاة التي رقصت معها في المطبخ قبل ساعات فقط من أن يُقسم منزلها وعالم والدتها إلى نصفين: "رحلت جنان، رحمها الله".
بعد انتظار ثلاث ساعات في المستشفى الأوروبي، خضعت شيماء لعملية جراحية. كانت لديها سبعة كسور في ساقها اليسرى وقدمها، وثلاثة كسور في ساقها اليمنى وقدمها، وحروق شديدة في جميع أنحاء الجسم. قالت لي:
عندما رأيت إصاباتي، أغمي علي. توسلت الأطباء، "أرجوكم أن تُجروا لي عملية قيصرية وتُخرجوا الجنين من بطني. دعوه يعيش"، ألا يكفي أن الآخرين قد استُشهدوا. في ذلك الوقت كان طفلي ما يزال حيا. قالوا لي، "صحتك هي أولويتنا. لقد خضعتِ لعدّة عمليات وحالتك حرجة. علينا الانتظار للغد".
بعد يومين، توقف الجنين عن الحركة. وفي اليوم الثالث وضعتُ جنينا ميتا. ... حتى صرخة الحياة حرمته إياها [إسرائيل]. حملتُ ابني لأربع دقائق قبل أن يأخذوه مني ويكفنوه. طلبت أن يسموه على اسم والده عبد الله، وأن يفتحوا قبر والده ويضعوه في حضنه. فتحوا قبر والده بعد ثلاثة أيام فوجدوه مسجّى على حاله وكأنه نائم، مع ابتسامة على وجهه.
بقيت شيماء هادئة طوال معظم فترات حديثنا، لكن مشاعرها تغلبت عليها عندما أخبرتني عن مقابلة شاهدَتها لرجل من غزة لا تعرفه. ادعى أن ابنته هي الموجودة في الصورة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي. قالت لي أن أخبر العالم أن هذه الصورة المروعة، التي تمثل العواقب الوحشية لحرب إسرائيل في غزة، كانت لابنتها، وليس ابنة أحد آخر.
الدوحة
في 3 مارس/آذار 2024، دفعت شيماء 20 ألف دولار أمريكي للخروج من غزة مع حذيفة ومريم. أخبرها الأطباء في غزة أنهم يخططون لبتر ساقيها. ذهبت إلى مصر للحصول على رأي طبي ثانٍ حيث خضعت لعدة عمليات جراحية، ثم انتقلت إلى الدوحة في 18 مارس/آذار، حيث خضعت لمزيد من العمليات.
عندما تحدثنا في يونيو/حزيران، كان ذلك قبل يوم من إجراء عملية جراحية أخرى. قالت شيماء: "سيبدؤون بعدها في تدريبي على المشي إن شاء الله. ليس لدي كعب في قدمي. سُحق عظم الكعب، لذلك صنعوا لي حذاء خاصا وإن شاء الله، سأكون قادرة على المشي بعدها".
خضع حذيفة لـ 20 عملية جراحية. شُفي وجهه إلى حد كبير، وهو يمشي بمساعدة العكازات.
ما تزال شيماء حبيسة التفكير بعائلتها وأصدقائها في غزة:
ذهبت في ديسمبر/كانون الأول لزيارة صديقتي التي تعيش في خيمة... طلبت منها أن تُحضر لي فراشا لنجلس بالخارج تحت المطر. لم أستطع تحمل الحر؛ كانت الخيمة شديدة الحرارة. تخيلي كيف أصبحت الخيمة الآن في يونيو/حزيران. عندما أتحدث مع عائلتي، أرى وجوههم محروقة بفعل الشمس، حيث يجلسون بجانب البحر طوال اليوم لأنهم لا يستطيعون تحمل حرارة الخيمة. ... كنت أتحدث إلى بعض أقاربي، ولم أتعرف عليهم لأنهم تغيروا كثيرا. إنهم نحيفون للغاية والشمس أحرقتهم. ... يقول لي إخوتي "إيّاكِ والتفكير في العودة إلى غزة". لكنني أودُّ زيارة قبر زوجي. لم أودّع زوجي وأولادي.
تحدّثت شيماء عن حياتها مع طفليها الناجيَين في الدوحة:
أتظاهر بالقوة أمام حذيفة. في الليل، يضع دمية على أحد جانبيه ودمية أخرى على الجانب الآخر، واحدة اسمها جنان والأخرى محمد. "يكلمهما ليلا فيقول: "سامحيني يا جنان كنت أضربك". كان يعاملها بقسوة لأنه أكبر منها بخمس دقائق.
ثم يلتفت إلى الدمية الأخرى ويقول "سامحني يا حمودة. نعم يا أخي، كنت سندي. كنت تدافع عني في المدرسة. كنت تدافع عني إذا أراد أحد ما أن يؤذيني. من سيدافع عني الآن؟"
يمر علينا الليل بصعوبة. يذكرنا بأوجاعنا.
تنتظر شيماء أن ينام حذيفة ومريم حتى تبكي. وتقول:
كانت مريم حبيبة أبيها... دائما ترسم صورة رجل وامرأة، فأسألها، "من ترسمين يا مريم؟" فتقول: "أنتِ وأبي"، فأجيبها، "عسى أن يجمعنا الله به ونراه في الجنة. ادعي له... ركزي في دراستك لتصبحي دكتورة وتعالجي المرضى حتى لا يموتوا كما مات والدك".
إن شاء الله لن تُحرم من أمها، وإن شاء الله سأمشي مرة أخرى حتى أتمكن من تربيتهما.
التقرير الكامل "خمسة أطفال في حاضنة واحدة: انتهاكات حقوق النساء الحوامل أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزة" متوفر على: