(طرابلس) ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن السلطات بمدينة مصراتة وحولها تمنع آلاف الأشخاص من العودة إلى قريتا طمينة وكراريم، وفشلت في منع المليشيات المحلية من نهب المنازل وحرقها في هذه القرى.
وقالت هيومن رايتس ووتش إن هذا الانتهاك يعكس أيضًا ما تعرض له قرابة 30 ألف نازح من مدينة تاورغاء المجاورة الذين مُنعوا من العودة إلى منازلهم لمدة تجاوزت خمسة أشهر.
وحاول مسؤولو مدينة مصراتة تبرير الانتهاكات لـ هيومن رايتس ووتش، بأن سكان طمينة وكراريم وتاورغاء قاتلوا مع قوات القذافي وارتكبوا أعمالاً وحشية في حق سكان مصراتة خلال نزاع 2011.
وقال بيتر بوكارت، رئيس قسم الطوارئ في هيومن رايتس ووتش الذي زار القرى مؤخرًا والتقى بعدد من السكان المهجرين: "تحولت طمينة وكراريم إلى مدن أشباح لأن مسؤولي مدينة مصراتة يمنعون آلاف الأشخاص من العودة إلى ديارهم. وتقوم مجموعات مسلحة من مصراتة بنهب المنازل وتدميرها بالضبط كما فعلت ذلك لمدة أشهر في تاورغاء".
وقالت هيومن رايتس ووتش إنه ينبغي على سلطات مدينة مصراتة إصدار أوامر فورية للمليشيات التي تسيطر عليها بالتوقف فورًا عن نهب وتدمير المنازل، وتجنيد قوة حمائية في المناطق المذكورة لتسهيل عودة المهجّرين.
وقالت هيومن رايتس ووتش إنه ينبغي على الحكومة الانتقالية في ليبيا والأطراف الدولية التي تساندها الضغط على سلطات مصراتة والمليشيات حتى تتوقف عن ممارساتها القمعية تُجاه الأشخاص المهجرين. ويجب التحقيق مع قادة المليشيات وعناصرها المسؤولين عن الجرائم، وتقديمهم إلى القضاء لمحاسبتهم، وتشمل تلك الجرائم منع الأشخاص من العودة إلى منازلهم.
كما قالت هيومن رايتس ووتش إن المجلس الوطني الانتقالي والحكومة الانتقالية لم يتمكنا من فرض سيطرتهما على مئات المليشيات في ليبيا. أما في مصراتة، فيتمتع المجلس العسكري المحلي بسيطرة واسعة على ميليشيات المدينة التي تُقدر بـ 250 مجموعة مسلحة. ويبدو أن المجلس العسكري في مصراتة يدير نقاط تفتيش، منها ما يقع على مسافة حوالي 80 كيلومترًا جنوب المدينة.
وقال بيتر بوكارت: "يمكن لسلطات مدينة مصراتة أن تقوم بالمزيد للسماح للمهجرين بالعودة الآن وحماية ممتلكاتهم، ويجب عليها اتخاذ الخطوات اللازمة لوقف هذه الجرائم الوارد ذكرها في القانون الدولي".
قال رمضان زرموه لـ هيومن رايتس ووتش في مطلع فبراير/شباط، وهو رئيس المجلس العسكري في مصراتة، إن مشكلات كراريم وطمينة بين سكان القريتين وحلّها يتطلب من السكان السابقين للقريتين تسليم "المجرمين" حتى يمثلون أمام القضاء.
وفي فبراير/شباط، تحدث مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، في نفس الموضوع، وقال للإعلام إنه يمكن للعائلات العودة إلى المناطق المحيطة بمدينة مصراتة "بعد أن يُقدم المطلوبين للعدالة".
وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يجب ألا يُشترط السماح بعودة الناس إلى ديارهم بمقاضاة بعض الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا تورطوا في أعمال إجرامية. ويجب اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عودة المهجّرين قبل أن يتم احتلال أو تدمير منازلهم فيصبحوا مُشردين بشكل دائم. كما قالت هيومن رايتس ووتش إن منع مجموعة من الناس من العودة إلى منازلهم يرقى إلى مستوى العقوبة التعسفية الجماعية.
وفي طمينة وكراريم، شاهدت هيومن رايتس ووتش عناصر المليشيات تنهب وتحرق المنازل خلال زيارتها للقريتين أواخر يناير/كانون الثاني. كما شاهدت هيومن رايتس ووتش كتابات على جدران ما لا يقل عن عشرة منازل تقول بأن اللجنة الأمنية في كراريم منحت ملكية المنازل إلى "مُلاك" جدد. كما تم تبديل أسماء المالكين الأصليين لبعض المنازل بأسماء جديدة.
وفي كراريم، 25 كيلومترًا جنوب مصراتة، شاهدت هيومن رايتس ووتش عشرات العائلات ممن لم يغادروا القرية أو عادوا إليها أثناء النزاع، ويبدو أن السبب أن هذه العائلات كانت تساند القوات المناوئة للقذافي. وكان في القرية حضورًا مكثفًا لميليشيات كانت تتكون من سكان كراريم الذين قاتلوا في صفوف القوات المناهضة للقذافي. أما في طمينة، عشرة كيلومترات جنوب مصراتة، فلم تشاهد هيومن رايتس ووتش أي منزل مأهول، رغم أن المسؤولين يقولون إن 20 بالمائة من السكان عادوا إلى ديارهم. ولا تزال تاورغاء مهجورة بشكل تماماً.
وقال بعض المهجرين من طمينة وكراريم لـ هيومن رايتس ووتش إن قوات القذافي أمرت السكان المدنيين بمغادرة القريتين يوم 12 مايو/أيار 2011. وفرّ سكان تاورغاء مع قوات القذافي أثناء تراجعها منتصف أغسطس/آب.
وقال بعض سكان طمينة وكراريم ممن حاولوا العودة خلال الأشهر القليلة الماضية لـ هيومن رايتس ووتش إن عناصر من ميليشيات مصراتة أوقفوهم في نقطة تفتيش تبعد 80 كيلومترًا جنوب المدينة. وقام المسلحون بالتثبت من أسماء السكان استنادًا إلى قوائم بالأسماء لأشخاص مطلوبين متهمين بالتعاون مع قوات القذافي أو الضلوع في جرائم ارتكبت أثناء الحرب. كما قال سكان القريتين الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش إن أسماءهم لم تكن في القائمة، ولكن تم منعهم من العودة إلى منازلهم.، ونقلتهم عناصر من الميليشيات إلى مجمع شقق مُسيجة على مشارف تاورغاء، وما زال سكان القرى النازحين هناك إلى الآن.
وفي أواخر يناير/كانون الثاني 2012، زارت هيومن رايتس ووتش المجمع السكني المذكور وشاهدت ما يتراوح بين 60 ومائة أسرة هناك تحت حراسة ميليشيات من عدة مدن. وقال قائد إحدى الميليشيات إن رجاله يقومون بحماية السكان ومساعدتهم على تأمين الطعام وحاجيات أخرى. يمنع رجاله الناس من مغادرة المجمع دون حراسة لحمايتهم من الهجمات التي يمكن أن يتعرضوا لها، على حد قوله.
وقال بعض المُهجرين إن عدد سكان طمينة وكراريم كان يقدر بخمسة آلاف شخص في كل قرية، وكان الكثيرين منهم موالين للزعيم الليبي السابق معمر القذافي. وكان الكثير من سكان القريتين يعيشون في مزارع صغيرة تعود ملكيتهم لها إلى ما يقارب 60 سنة. واستعملت قوات القذافي القريتين وتاورغاء ومدن وبلدات أخرى قريبة من مصراتة كقواعد لشن الهجمات على مصراتة التي كانت تحت سيطرة المعارضة أثناء الحرب، وكذلك لفرض حصار عليها في أبريل/نيسان ومايو/أيار مما أثر بشكل كبير على حياة المدنيين.
ويزداد الوضع سوءا بالنسبة إلى ما يقارب 30 ألف شخص من سكان تاورغاء مقارنة بسكان القريتين المجاورتين، إذ أن المدينة مهجورة بشكل كامل بعد أن تعرض سكانها إلى التهجير والمضايقة والهجمات والاعتقالات على يد ميليشيات مدينة مصراتة، وهو ما تسبب أحيانًا في وقوع حالات وفاة لأشخاص رهن الاعتقال، كما قامت هيومن رايتس ووتش بتوثيق ذلك في وقت سابق. وفي 6 فبراير/شباط، قامت مجموعة من الميليشيات بمهاجمة مخيم للنازحين من تاورغاء في منطقة جنزور في طرابلس. واستنادًا إلى عشرة شهود، تسبب الهجوم في مقتل سبعة رجال ونساء وأطفال وجرح أكثر من 15 آخرين.
وقامت هيومن رايتس ووتش بزيارة تاورغاء أكثر من 12 مرّة بين سبتمبر/أيلول ويناير/كانون الثاني، وشاهد باحثوها عناصر المليشيات وهم يحرقون ويدمرون المنازل خلال تلك الزيارات. وفي أواخر يناير/كانون الثاني، لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من العثور على أي منزل في تاورغاء لم يتم إحراقه.
واستنادًا إلى المادة 7 (د) من نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، يعتبر "إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان" جريمة ضد الإنسانية، ويُعرّف ذلك بـ "نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر، دون مبررات يسمح بها القانون الدولي". ويمكن اعتبار منع النازحين من العودة "عملا قسريًا" يؤدي إلى تهجيرهم بشكل إجباري. ويُعتبر ذلك جريمة ضد الإنسانية إذا مورس بشكل واسع وممنهج كجزء من سياسة اختيارية تتبناها بعض التنظيمات على غرار المجالس العسكرية.
وعملا بقانون النزاعات المسلحة، يُسمح بترحيل السكان أثناء النزاع المسلح فقط في ظروف محددة، ولكن يجب السماح للسكان الذين تم ترحيلهم بالعودة فور انتهاء النزاع. إن الأمر بترحيل السكان المدنيين، والتدمير المتعمد للمتلكات المدنية، وعقاب السكان المدنيين بشكل جماعي، كلها أعمال يُمكن أن ترقى إلى جرائم حرب.
وقالت هيومن رايتس ووتش إن الحكومة الانتقالية في ليبيا، وسلطات مدينة مصراتة، والقادة العسكريين جميعهم ملزمون بموجب القانون الدولي بالتحقيق في هذه الجرائم ومنع حدوثها، وتسهيل عودة المدنيين إلى ديارهم. وقد يجد المسؤولون العسكريون والمدنيون في المناصب القيادية، قد يجدوا أنفسهم بصدد المحاسبة والمحاكمة داخل ليبيا أو أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وقال بيتر بوكارت: "إذا كنت من تاورغاء أو طمينة أو كراريم، فإن ليبيا الجديدة ليست بالمكان الآمن لك. لقد حملت بعض ميليشيات مصراتة السلاح للتخلص من القمع، وها هي الآن تُعيده إلى هناك من خلال قمع الآخرين".
أدلة من طمينة وكراريم
قابلت هيومن رايتس ووتش ستة من سكان طمينة وتاورغاء، كل على انفراد، وعشرات الأشخاص الآخرين في أربع مجموعات. وقال هؤلاء الأشخاص جميعاً إن قوات القذافي كانت موجودة في القريتين أثناء محاصرة مصراتة في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2011. وقالوا أيضًا إن قوات القذافي أصدرت أمرًا بإخلاء القريتين يوم 12 مايو/أيار، ومنحوا السكان ساعات قليلة لترك منازلهم.
وقال السكان إن أغلب أهل طمينة وكراريم فرّوا ولم يأخذوا إلا القليل من متاعهم، وتركوا مواشيهم خلفهم. كما قال السكان إنه لم يكن لديهم أي خيار سوى الهروب في اتجاه الجنوب إلى المناطق التي كانت تحت سيطرة قوات القذافي مثل الهيشة ووادي زمزم وسرت؛ بسبب القتال العنيف الذي كان يدور بين الخط الأمامي للمعارضة في مصراتة والمناطق الخاضعة لقوات القذافي.
ومازال أغلب سكان القريتين مهجرين في هذه المناطق إلى اليوم، ويعيشون في ظروف صعبة جدا لأن مسؤولي مصراتة لا يسمحون لهم بالعودة إلى ديارهم.
وقال "مصطفى" (اسم مستعار)، وهو فلاح من طمينة وعمره 40 سنة ويعيش الآن في شقة صغيرة في سرت، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن 35 شخصًا من ست عائلات كانوا يعيشون معًا في مزرعة مساحتها عشرة فدادين في طمينة. وقال إن قوات القذافي جاءت في بداية الحصار على مصراتة في أبريل/نيسان، وسمحت للعائلات بالبقاء هناك، ولكنها قالت إنها تتحمل مسؤولية أي إطلاق نار قد يأتي من هناك. وبسبب القتال الدائر هناك، قررت العائلات الفرار يوم 14 أبريل/نيسان. وأضاف مصطفى: "كان الطريق الوحيد الذي يمكن أن نغادر منه [في اتجاه الجنوب]، ولذلك هربنا جميعًا إلى سرت".
كما قال مصطفى إن عائلته خلّفت وراءها 250 رأس غنم، كانت كل ما تملكه العائلة. وبعد الحرب، حاول أفراد العائلة العودة ولكن إحدى ميليشيات مصراتة أجبرتهم على الانتقال إلى شقة مجمع الإمارات قرب تاورغاء، وأعلمتهم أنهم يحتاجون إلى تصريح كتابي من جميع جيرانهم قبل السماح لهم بالعودة. وقدم ثلاثة جيران تصاريحهم، ولكن رابعًا رفض التوقيع، وكان ابنه قد قُتل أثناء قتاله في صفوف المعارضة.
وقال "أحمد" (اسم مستعار)، وعمره 45 سنة وهو أب لثلاثة أطفال، قال لـ هيومن رايتس ووتش إن عائلته فرت يوم 13 مايو/أيار من مزرعتها بمساحة خمسة هكتارات في طمينة، التي يمتلكها منذ سنة 1966، في اتجاه سرت. وأضاف أحمد "لم نهرب في ذلك الاتجاه لأننا كنا نساند القذافي، بل لأنه كان من المستحيل المرور من الخط الأمامي، ولذلك توجهنا صوب الجنوب". وفي أواخر يناير/كانون الثاني، كان أحمد لا يزال يعيش في شقة في مجمع الإمارات. ورفض المجلس العسكري في كراريم عودة أحمد وجيرانه إلى منازلهم. وقال أحمد:
أنا هنا منذ 24 نوفمبر/تشرين الثاني، ولم نستطع جميعًا العودة إلى أرضنا. إذا حاولت العودة إلى مزرعتي، فسوف يقومون باعتقالي وحبسي. هم يصفوننا بالخونة المهجرين. توجد لجنة أمنية في كراريم، وترفض السماح لأي شخص بالعودة. حتى أولئك الذين يسكنون في مصراتة لا يمكنهم العودة إلى مزارعهم.
كما قال أحمد إنه حاول ذات مرة العودة إلى منزله من سرت ولكن مسؤولين أوقفوه في نقطة تفتيش تبعد 80 كيلومترًا عن المدينة، واقتادوه إلى مجمع شقق الإمارات، وهناك لا يُسمح له ولغيره بالمغادرة.
عدت من سرت في سيارتي الخاصة [يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني]. وعند نقطة التفتيش [التي تبعد 80 كيلومترًا]، أوقفنا المسؤولون واقتادونا إلى هذه الشقق. هم لا يسمحون لنا بمغادرة هذا المكان [إلا في سيارات الميليشيا]، دون سياراتنا الخاصة. توفر لنا الميليشيا الطعام الأساسي فقط: لا غلال، لا لحوم... لقد خسرنا كل شيء: سياراتنا، ومنازلنا، وأرضنا، وآلاتنا الزراعية، وممتلكاتنا، وحيواناتنا. وحصل كل ذلك [النهب والتخريب] بعد التحرير وليس أثناء الحرب.
وقال "إبراهيم" (اسم مستعار)، وهو من كراريم وعمره 60 سنة وله 12 طفلا، إنه استأجر مزرعة من الحكومة منذ سنة 1948. ومع مجيء القذافي إلى السلطة سنة 1969 مُنحت الأرض إلى عائلته. وتحدث إبراهيم لـ هيومن رايتس ووتش عما حدث في النصف الأول من 2011:
كانت الأمور على ما يُرام بين فبراير/شباط ومارس/آذار. كان الجنود على مسافة كيلومترين اثنين من مزرعتي، وكنا نحن في الوسط. لم أقدم أية معلومات إلى الجنود عن جيراني، ولم يطلبوا مني الطعام.
وفي 12 مايو/أيار، جاء الجيش إلى مزرعتي وطلبوا مني المغادرة. غادرنا في سيارتي الخاصة، ولم نأخذ معنا إلا بعض الملابس، وتركنا كل شيء. لم يكن لدينا الوقت الكافي، فقد طلبوا منا المغادرة على الفور. كنا نعتقد أننا سوف نتغيب فقط ليومين أو ثلاثة أيام ثم سنعود، ولذلك لم نحمل أي شيء معنا، وانطلقنا إلى الهيشة...
لم نحاول العودة بسبب نقاط التفتيش. مدينة مصراتة فقط هي التي يوجد فيها هذا العدد الكبير من نقاط التفتيش [المحيطة بالمدينة]، ولا يسمح المسؤولون لأهلنا بعبورها. وحتى لو سمحوا لي بالمرور، فسوف أذهب وأعيش في بيت محترق. لقد نهبوا كل شيء، وخسرت 150 رأس غنم، وسبع بقرات، وثلاثة خيول. لو كان الأمر بيدي لعدتُ إلى هناك، رغم أنه تم حرق جميع المنازل. كلنا نرغب في العودة.