كان مبنى "المجلس المدني في الرّقة" يعجّ بمقدّمي الشكاوى لما زرته في يوليو/تموز. أُنشئ المجلس في بلدة عين عيسى السورية في أبريل/نيسان ليحكم المناطق التي تحررها "قوات سوريا الديمقراطية" – المدعومة من الولايات المتحدة – من "داعش" في محافظة الرقة. جاء شيخ لمحاولة الإفراج عن أحد أقاربه المحتجز لدى قوات سوريا الديمقراطية للاشتباه بانتمائه إلى داعش. بينما كان رجل آخر يشتكي عدم اعتقال القوات جاره الذي يقول إنه ينتمي إلى داعش، وإنه استغلّ صلته بالتنظيم لمصادرة بعض ممتلكات الرجل مقدّم الشكوى.
لم يكن المشهد الذي رأيته في الأرياف السورية مجرّد شكاوى محلية عادية، إنما يضيء على سؤال سياسيّ صعب يخيّم على ميادين الحرب في العراق وسوريا والعواصم الدولية الأساسية: كيف يجب أن تكون العدالة بعد داعش؟ بمعنى آخر، مَن يحاسب مَن وعلى أي أساس؟
السؤال معقّد. رغم وجود ضرورة قصوى لتحقيق العدل، إلا أن الإجراءات القضائية المتّبعة مخيّبة للآمال. ففرز الجرائم الخطيرة التي ارتكبها داعش في سوريا والعراق ومحاسبتها يشكّلان تحديا كبيرا لأي هيئة قضائية تتمتع بالموارد الكافية وتعمل بكامل طاقتها. بعض التحديات تتمثّل في عدد الجرائم المهول وطبيعتها، وصعوبة الحصول على دليل على جرائم حصلت في فوضى الحرب، وحتمية الاضطرار إلى إجراء التحقيقات في جو مسيّس ومُستقطَب للغاية.
بالنسبة للنظامين القضائيين في العراق وسوريا – الضعيفان بالأساس واللذان استنفدتهما سنوات من النزاع والفساد – تصبح المهمة شبه مستحيلة. ما يزيد من تأزيم الوضع أن البلدين يملكان هيئات قضائية مختلفة تعمل في مناطق متعددة، وهي إما لا تتعاون في ما بينها أو تعادي بعضها علنا.
لمواجهة هذا التحدي اختارت السلطات في العراق وسوريا اللجوء إلى وسيلة قاسية. في أغلب القضايا، اعتمدت على قوانين مكافحة الإرهاب ومحاكم مكافحة الإرهاب لمحاسبة أعضاء داعش وشركائهم المشتبه بهم. قال قاضٍ في محكمة مكافحة الإرهاب في محافظة نينوى، التي تشمل صلاحياتها قضايا من منطقة الموصل، لـ "هيومن رايتس ووتش" إن المحكمة تعمل على 2000 قضية لأشخاص يشتبَه بانتمائهم إلى داعش. أما في الجهة الأخرى من الحدود، في سوريا، قال لي قاض محلّي الشهر الماضي إن "محكمة حماية الشعب"، وهي محكمة محلية تنظر في قضايا الإرهاب تحت سلطة "حزب الاتحاد الديمقراطي" ذات الحكم الذاتي في شمال سوريا، نظرت في أكثر من 700 قضية.
من السهل فهم سبب انجذاب المدعين العامين إلى قوانين مكافحة الإرهاب. فهي تسمح لهم باحتجاز الأشخاص لمدد طويلة بمجرد إثبات انتمائهم إلى داعش أو مساعدة التنظيم أو أعضائه ماديا دون الحاجة إلى دليل على ارتكابهم أعمال إجرامية محددة. لكن هذه القوانين والمحاكم قاسية إلى درجة أنه لا يمكن الاعتراض عليها. فهي لا تميّز بين أعضاء داعش الذين قد يكونون ارتكبوا جرائم اغتصاب أو إعدام وأولئك الذين عملوا كشرطة سير فقط. بالإضافة إلى أن تعريف المساعدة واسع لدرجة أنه يطبَّق على طيف كبير من السكان الذين عاشوا تحت سيطرة داعش. فمثلا، قد تجرّم القوانين النافذة الأطباء الذين عملوا في مستشفيات يديرها داعش ومحامين شاركوا في محاكم داعش وأصحاب مَتاجر محلية باعوا الطعام إلى داعش وملؤوا سياراتهم بالبنزين. هذه ليست فرضيات، ففي الأسبوعين الأخيرين أصدر العراق أوامر اعتقال بحق 15 محاميا على الأقل، على ما يبدو بسبب "جريمة" ممارسة القانون في محاكم داعش.
الاعتماد الكبير على إطار مكافحة الإرهاب بدأ يُظهر حدوده. بدأ القضاة والمسؤولون المحليون في العراق وسوريا يدركون أنه ليس بإمكانهم احتجاز الجميع. في يوليو/تموز أصدر المجلس المدني في الرقة عفوا شمل 83 محتجزا من مقاتلي داعش وصفهم بـ: "عناصر من ذوي الرتب الدنيا وأيديهم غير ملطخة بالدماء". قال المجلس إن هذه كانت بادرة حسن نية بهدف الحفاظ على الاستقرار والمصالحة.
أقرّ العراق قانونا في أغسطس/آب 2016 يعفو عن أي شخص التحق بداعش أو أي مجموعة متطرفة أخرى ضد إرادته ولم يرتكب أي جريمة مثل التعذيب أو القتل أو استخدام متفجرات. قال محسن الكركري، رئيس "اللجنة القانونية" في البرلمان العراقي، لهيومن رايتس ووتش خلال اجتماع في 7 فبراير/شباط إن هذا القانون كان بمثابة الطريق الملتوية للالتفاف على قانون مكافحة الإرهاب العراقي. حسب وزارة العدل العراقية فإن السلطات أطلقت سراح 756 سجينا منذ إقرار القانون.
قد تكون قرارات العفو ضرورية لتصحيح المحاكمات المتسرعة والجائرة، وتخفيف العبء على السجون، ولكن العملية بمرتها لا تضمن تحقيق العدالة. قال لي العديد من سكان الرقة إنهم يخافون ألا يكون المستفيدون من عفو يونيو/حزيران بالضرورة من أصحاب "الأيدي النظيفة" إنما لديهم داعمون أقوياء بين العشائر الرئيسية التي تحاول القوات الديمقراطية استيعابها لتعزيز الاستقرار. في العراق، لم يقنع العفو الكثير من القضاة، ولم يعزز المصالحة. قال قاض في محكمة نينوى لمكافحة الإرهاب لهيومن رايتس ووتش إنه يعتقد أن الذين دعموا داعش، حتى بأبسط الأعمال كإعداد الطعام، مذنبون مثل المقاتلين، وإنه لا يهتم لادعاءات المتهمين بأنهم التحقوا بالمجموعة ضد إرادتهم.
لقد حان وقت الإقرار بأن الاعتماد المفرط على قوانين ومحاكم مكافحة الإرهاب للحكم على أعمال ارتُكبت خلال فترة حكم داعش قد فشل. يجب اعتماد طريقة مطابقة لما يُعرف في الطبّ بـ "الفرز الطبي": إيلاء الأولوية لمحاكمة الجرائم الخطيرة ثم استكشاف طرق بديلة لمعالجة الجرائم الأقل خطورة. على السلطات العراقية والسورية تركيز الموارد القضائية، المحدودة أصلا، على التحقيق في أخطر الجرائم التي ارتكبها عناصر داعش. عليها تشجيع الضحايا على المشاركة في هذه الإجراءات. يمكن الاعتماد على تهم الإرهاب كلما كان ذلك ملائما، ولكن من الضروري التحقيق في – ومحاسبة – الجرائم الخطيرة مثل الاغتصاب والإعدام والخطف لمحاسبة أعمال محددة وتأمين قدر من العدالة لضحايا هذه الجرائم.
بالنظر إلى طبيعة وحدّة الجرائم التي ارتكبها داعش، ينبغي أن تكون أولوية السلطات العراقية والسورية إدراج الجرائم الدولية، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، في قوانينها بهدف محاكمة هذه الجرائم كما يجب. لكن في غياب الدعم الدولي والسياسي، من المستبعد أن تتمكن المحاكم العراقية والسورية من محاكمة هذه القضايا بنجاح.
أما بالنسة للجرائم الأقل خطورة، تحديدا الجرائم غير العنيفة، فهناك حاجة لبدائل للمحاكمة الجنائية. ليس الهدف غض النظر عن بعض الجرائم، بل إيجاد بدائل مثل التعويض المادي للضحايا والاعتذار العلني واستعادة الأملاك لتعزيز حق الضحايا وضمان المصالحة. لا يجتمع الفرز والعدالة بسهولة دائما، إنما بالنظر إلى الخيارات والمصادر القضائية المتاحة فسيؤدي هذا الجمع إلى تحسين المقاربة الحالية.