في الوقت الذي تتواصل فيه أعمال الشغب مجدداً في مصر، وتبسط الجماعات المسلحة سلطانها على أجزاء من ليبيا بصورة تنذر بالشؤم، وتتوالى مجازر لا تعرف الهوادة في سوريا، يتساءل البعض عما إذا كان الربيع العربي في نهاية الأمر فكرة جيدة. ولكن هل كنا حقيقة نرتضي أن نحكم على أمم برمتها بأن تعاقب بأمثال مبارك والقذافي والأسد؟ نحن نعلم من مجريات سقوط الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، وزوال الاتحاد السوفييتي أن بناء دول ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان فوق إرث من الحكم السلطوي ليس بالأمر الهين. إلا أن هناك من الخطوات ما يمكن لكل من شعوب المنطقة والمجتمع الدولي اتخاذها لكي تكون النتائج الإيجابية أدنى للتحقق.
ينبغي على الحكومات الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المقام الأول أن تتذكر أن الأغلبية الانتخابية لا تمنحها ترخيصاً بأن تفعل ما يحلو لها. قد لا تكون الحركات السياسية التي طال أمد قمعها تواقة عند فوزها بمقاعد السلطة إلى سماع ما يلمح إلى أن نطاق حكمها لم يزل محفوفاً بالقيود. بيد أن ذلك هو ما يقتضيه القانون الدولي الإنساني. إذ إن كبت الحقوق الأساسية يمكن أن ينشأ نتيجة لغرور حائزي الأغلبية بنفس السهولة التي ينشأ بها في ظل الحكم المطلق الكلاسيكي.
تمثل مصر، وهي البلد الأكبر والأقوى تأثيراً في المنطقة، نموذجاً ملخـِّصاً للمشكلة. فلقد استخدم الإخوان المسلمون التفويض الانتخابي في فرض دستور جديد يعج بتهديدات محتملة لحقوق النساء وخصوم الحكومة والأقليات الدينية، فيما يستمسك في ذات الوقت باستقلالية للمؤسسة العسكرية تتسم بالخطورة. ولقد استغلت الحكومة تلك المواد الدستورية المشبوهة في رفع العديد من الدعاوى القضائية ضد الصحفيين ومن سواهم ممن يتناولونها بالنقد. فيما استمرت ممارسات الشرطة الاعتيادية القديمة من تعذيب وهجمات مميتة على المتظاهرين كسابق عهدها.
وفيما بين الاحتجاجات الشعبية في مصر والضغط من قبل المانحين الدوليين والمستثمرين اللازمين لإنعاش الاقتصاد المصري، قد يكون من المبرر منطقياً الاعتقاد بأن الحكومة سوف تميل باتجاه الاعتدال. إلا أنه من المأمول من جماعة الإخوان المسلمين، التي طويلاً ما كابدت بنفسها الاضطهاد على يد نظام مبارك الدكتاتوري، أن تكون راغبة بدرجة أكبر عن تكرار تكتيكات سلفها القمعية.
كما وأن الاحتجاجات الدولية قد تكون أكثر مصداقية بقدر ما تكون أكثر ثباتاً ومبدئية. ولقد استرعى الأمر ملاحظة شعوب المنطقة مثلاً حين بدا أن ترويج الغرب للديمقراطية يتوقف عندما يبرز ما سواه من مصالح سواء أكانت الدنو من النفط، أو احتواء إيران، أو الدفاع عن إسرائيل. وقد يكون من الأيسر على الحكومة المصرية أن تحرف مسار الاحتجاجات الغربية بعيداً حين يكون النذر اليسير منها مصوباً تجاه القمع الذي لم تطله يد الإصلاح في البحرين، أو المملكة العربية السعودية، أو الإمارات العربية المتحدة، أما انتهاكات اسرائيل لحقوق الإنسان في قطاع غزة والضفة الغربية فذلك شأن بذاته. كذلك فإن أصداء الاحتجاجات ضد التعذيب لن تتردد بالقوة المطلوبة حين يرفض الرئيس أوباما فتح التحقيقات في أعمال التعذيب التي ارتكبتها إدارة بوش وحين تشرع الحكومة البريطانية، بل وعلى مضض، في تقصي الدور الذي لعبته في عملية إرسال المشتبهين بممارسة الإرهاب للخضوع للتعذيب في ليبيا القذافي.
غير أن أشد مشكلات المنطقة حدة هي تلك المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في سوريا. فلقد فرض الغرب العقوبات على حكومة بشار الأسد، إلا أن الإجراءات الأشد صرامة كفرض حظر دولي شامل على إرسال السلاح لقوات لحكومة أو انعقاد المحكمة الجنائية الدولية قد أعاقها النقض (الفيتو) الروسي الذي أيدته الصين في مجلس الأمن بالأمم المتحدة. ليس هناك بد من فعل المزيد لتسليط الأضواء على تلك اللامبالاة متحجرة الفؤاد من قبل بوتين تجاه إراقة الدماء السورية، وضمان ألا يتربح مورد الأسلحة الروسية الذي يغذي آلة القتل السورية من المشتريات الغربية. كما يتعين، إضافة إلى ذلك، على جامعة الدول العربية، التي تبدي مشاعر قلق ظاهرية تجاه أشقائها في سوريا، أن تضغط على العراق الدولة العضو بالجامعة لوقف تمكين شحنات السلاح من المرور من إيران إلى سوريا.
غير أن الأسد ليس بذاته المشكلة الوحيدة. فالمعارضة السورية المسلحة عبارة عن مجموعة متنوعة من الجماعات المسلحة، بعضاً منها يمارس التعذيب ويقوم بإعدام المعتقلين فيما يبدي بوضوح رؤية طائفية ضيقة لا تسمح بأية مساحة للأقليات السورية، مما يرجح بدرجة أكبر دفاع الأقليات عن الأسد عوضاً عن تحمل مخاطر مستقبل غير مؤكد تقبض عليه المعارضة. كما وأن التخوف من تقوية شوكة القوات التي ترتكب الانتهاكات أو تمثل قوات معادية محتملة هو بدوره أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الحكومات الغربية راغبة عن إرسال الأسلحة أو تقديم الدعم العسكري. إلا أن الجهاديين الذين تشملهم القوات المتمردة لديهم شبكاتهم الخاصة للحصول على الأسلحة، مما يعزز العناصر الأكثر ممارسة للانتهاكات في صفوف المقاومة المسلحة.
لقد تكون الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية كي يوفر للمعارضة بنية آمرة موحدة يمكنها كبح جماح القوات الضالعة في الانتهاكات، ويضمن حقوق الأقلية، وكذلك يسعى لرحيل الأسد وأتباعه السياسيين على أساس تفاوضي بما يحفظ على الدولة تماسك بنيتها لتلافي فوضى ما بعد صدام التي ألمت بالعراق. غير أن سلطة الائتلاف قد أخذت في الانحسار إذ أنه لا يملك أن يقدم سوى القليل لتخفيف معاناة الشعب السوري.
طبقاً لأكثر التقديرات تواضعاً، هناك حاجة لتدفق كبير الحجم من المساعدات الإنسانية. غير أنه نتيجة لاعتبارات احترام السيادة السورية والتي أسئ توجهها، والمخاوف المُغالى فيها من الانحياز لأحد طرفي النزاع، قام معظم المانحين بإرسال معونتهم عن طريق دمشق، مما يعني وصول القليل منها إلي المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة حيث تبلغ المعاناة أقصى درجات حدتها. ولهذا ينبغي على المانحين إيصال كميات ضخمة من المعونات الإنسانية عبر الحدود التركية ومن خلال أبنية الحوكمة المدنية المبدئية التي يتم تكوينها في الوقت الراهن في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة في سوريا. فقد يساعد ذلك على تخفيف المعاناة الحقيقية في الوقت الذي يتم فيه تعزيز نفوذ كل من الغرب لأبنية الحوكمة المدنية في مناطق المعارضة والتي يغلب احتمال تعزيزها لاحترام حقوق الإنسان في أوساط مقاتلي المعارضة ولتصور جامع لسوريا تضم كل السوريين. وينبغي، في التصور الأمثل، أن يتم إرسال تلك المعونات عبر للحدود بموافقة مجلس الأمن بالأمم المتحدة، غير أنه إذا ما حال التصلب الروسي دون تحقق ذلك، فعلى المجتمع الدولي حينئذ أن يتصرف بأية طريقة كانت، وأن يواصل العملية طبقاً لمقتضيات الحال من خلال جماعات المساعدة الإنسانية غير الحكومية.
حقاً قد ثبت أنه من الصعب بناء نظم ديموقراطية تبدي احترامها لحقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أنه ينبغي على المجتمع الدولي ألا يحكم بمعاقبة شعوب المنطقة بذلك المشهد المقيت لنظام حكم سلطوي لا نهاية له، ذلك إذا ما تجاوزنا عن إراقة الدماء على نطاق واسع. لقد خاطرت تلك الشعوب بالحياة في سبيل مستقبل أكثر حرية، وعلى عاتقنا تقع مسئولية دعمها. وإذ تدخل الانتفاضة العربية عامها الثالث، يتعين علينا جميعاً تكرار تعهدنا مرة أخرى بالانتهاء إلى حواصل إيجابية.
كينيث روث هو المدير التنفيذي لـ هيومن رايتس ووتش