الملخص
يَدين رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي بمنصبه للحراك الثوري وتوقيته. لم يطالب مئات آلاف المحتجين الذين خرجوا إلى الشوارع في وسط العراق وجنوبه في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2019 بإسقاط الحكومة آنذاك فحسب، بل أيضا بإسقاط النظام السياسي بأكمله، الذي بُني بعد الاجتياح الأمريكي والبريطاني للبلاد في 2003. كان معظم المتظاهرين يؤمنون بأن هذا النظام، الذي مضى عليه حوالي 20 عاما، كان سبب استمرار ضعف الخدمات العامة، وشح الفرص الاقتصادية، والمستقبل القاتم بشكل عام، لا سيما في صفوف الشباب الذين يزيدون عن 50٪ من سكان العراق.
ردت قوات الأمن على الاحتجاجات بعنف شديد بلا هوادة. وفقا لـ "الأمم المتحدة"، قُتل حوالي 500 محتج وأصيب آلاف آخرون في الأسابيع القليلة الأولى فقط من الانتفاضة. الجناة هم مجموعة من قوات أمن الدولة العراقية، بمن فيهم الشرطة الاتحادية والجيش، وكذلك الجماعات المسلحة التي تساهم في تكوين "قوات الحشد الشعبي"، وهي مجموعة من حوالي 60 كيانا مستقلا توجهها أجندات سياسية مختلفة.
مع ذلك، لم يترك صمود المحتجين مجالا لبقاء حكومة رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي. كانت قوات أمن الدولة العراقية تقتل الأشخاص نفسهم الذين يُفترض بها أن تحميهم، واعتبر المحتجون رئيس الوزراء – بصفته رئيسا للقوات المسلحة العراقية ولأنهم كانوا يفترضون أن الرد المسلح كان يحصل بإذنه – من أكثر المسؤولين عن أعمال العنف. بعد ثمانية أسابيع من بدء الاحتجاجات، استقال عبد المهدي، لتكون المرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر التي تسقط فيها حكومة بفعل انتفاضة شعبية.
اختارت مجموعة من الأحزاب والقادة السياسيين مصطفى الكاظمي كمرشح توافقي لتشكيل حكومة جديدة في ربيع 2020. كان أحد أبرز الالتزامات الواعدة التي قطعها الكاظمي كرئيس وزراء جديد للعراق هو التعهد بالسعي إلى المحاسبة على العنف ضد المحتجين. وصرّح علنا أن "من سفك دماء العراقيين" لن يفلتوا من العدالة. إلا أنه وبعد مرور عامين ونصف على هذه التصريحات، ما زالت المساءلة القانونية لهؤلاء الجناة بعيدة المنال.
يقيّم هذا التقرير التقدم الذي تحقق نحو المساءلة عن قتل وإصابة المحتجين والنشطاء أثناء انتفاضة 2019-2020 وفي أعقابها في وسط العراق وجنوبه. يتناول التقرير جانبين من جهود المساءلة المفترضة من قبل الحكومة العراقية: العدالة القانونية لمرتكبي أعمال العنف، والتعويض المالي لضحايا العنف وعائلاتهم. يسلط هذا التقرير الضوء على تفاصيل حالات محددة من العنف ضد المحتجين - بعضها بارز والبعض الآخر أقل بروزا. تشير الأدلة من الضحايا وعائلاتهم إلى أنه على الرغم من الاهتمام الأولي من السلطات العراقية بتحديد وقائع الحوادث والجرائم، ولا سيما اغتيال النشطاء، إلا أن هناك القليل من المتابعة من قبل الشرطة أو القضاء لإحقاق المساءلة ضمن النظام القانوني العراقي.
في حين لم تكن جهود المساءلة القانونية كافية إطلاقا، نجحت السلطات العراقية في دفع تعويضات مالية لعائلات المحتجين الذين قُتلوا أثناء المظاهرات، وأولئك الذين اغتالتهم الجماعات المسلحة في عمليات مستهدِفة. مثلا، وفقا للحكومة العراقية و"مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان" (مفوضية حقوق الإنسان) في بغداد، تلقت أكثر من 500 عائلة قُتل أقاربها بسبب مشاركتهم في نشاط احتجاجي 10 ملايين دينار عراقي (6,850 دولار أمريكي) كدفعة تعويض لمرة واحدة من "مؤسسة الشهداء" العراقية. كما تتلقى معظم هذه العائلات مدفوعات شهرية من "هيئة التقاعد الوطنية".
لكنّ التعويض المالي لجرحى الاحتجاجات أو محاولات الاغتيال يتم بشكل أبطأ. أصرّت الحكومة العراقية سابقا على أنها ستعوض المصابين – بما يشمل إرسال مواطنين إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي إذا كانت خطورة إصاباتهم تستدعي ذلك، ودون أي تكلفة مالية على المصابين. لكن الحكومة العراقية لم تضع آلية رسمية وواضحة للمصابين، وبعضهم في حالة خطرة، للحصول على تعويضات. بالنسبة للمصابين الذين تلقوا تعويضات، ظلت بعض القضايا عالقة لأكثر من عامين قبل تقديم أي تعويض مالي، وفقط بعد تعيين محامين للمساعدة في تسريع المطالبات، ولكن بتكلفة مالية كبيرة على المصابين. تشير التقارير مؤخرا أيضا إلى أن بعض المصابين على الأقل من الذين نجحوا في السفر إلى الخارج لتلقي العلاج لم يتلقوا بالفعل العلاج المناسب، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن وزارة الصحة العراقية أرسلت بعض المصابين إلى مراكز طبية غير مجهزة لعلاج الإصابات المحددة.
بالإضافة إلى قسم الخلفية الذي يقدم سياقا لهذا البحث، تُعرض نتائج هذا التقرير عبر قسمين وسلسلة من الحالات والأفراد الذين تأثروا بشكل مباشر بالعنف. يدرس التقرير خمس حوادث قتل أو محاولة قتل ضد محتجين، منها: مقتل أربعة نشطاء، منهم امرأتان؛ ومحاولة اغتيال ناشط أدت إلى إصابته؛ واختطاف واختفاء ناشط ما يزال مفقودا. كما يدرس التقرير حالات أربعة جرحى سعوا للحصول على تعويضات عن إصاباتهم إثر أعمال عنف ارتكبتها قوات الأمن والجماعات المسلحة التابعة للدولة.
تهدف هذه المقاربة التي تركز على الحالات إلى تسهيل قراءة الخصوصيات التي يواجهها الضحايا وأسرهم؛ في الوقت نفسه، تشير التجارب الفردية التي مر بها النشطاء وأقاربهم أيضا إلى أنماط تشمل حالات عدة. بعبارة أخرى، تساعد خصوصيات الحالات المنفصلة في الكشف عن القواسم المشتركة بينها والتي بدورها تسلط الضوء على الطرق التي نادرا ما تُفرض فيها المساءلة عن العنف ضد المحتجين في العراق.
أحد أسباب عدم تحقيق المساءلة القانونية فعليا عن هذا العنف هو أن الجهات الأمنية التابعة للدولة نفسها ضالعة في الحوادث ذاتها التي عليها التحقيق فيها. مثلا، أشار كل من أفراد عائلات القتلى والجرحى الناجين من محاولات الاغتيال الذين تمت مقابلتهم إلى حقيقة أن نقاط التفتيش الأمنية المنتشرة، التي يديرها أفراد قوى الأمنية الحكومية في مختلف المدن، لم تفعل شيئا يذكر لمنع القَتَلة من التنقل عبر المناطق والمدن لتنفيذ الاغتيالات. في بعض حالات الاغتيالات ومحاولات الاغتيال، أصر الذين تمت مقابلتهم على اختفاء نقاط التفتيش القائمة منذ فترة طويلة بشكل غامض قرب مواقع عمليات اغتيال النشطاء وقبلها بفترة وجيزة. وبالتالي، لا يستغرب أفراد الأسر الذين يسعون إلى المساءلة القانونية أن القضايا القانونية التي يرفعونها "نُيِّمت"، أي تم تحييدها أو تجاهلها من قبل السلطات، كما صرّح بعض الأشخاص الذين تمت مقابلتهم، لأن أي تحقيق جاد قد يورط الشخصيات والمؤسسات نفسها التي يطالبها هؤلاء الأشخاص بتحقيق العدالة.
النتيجة الأخرى المشتركة بين الحالات هي أن السلطات العراقية تبدو غالبا سريعة في التصرف فور وقوع الهجمات على النشطاء والمحتجين، بما فيها حالات الاغتيال المستهدِف. تأخذ الشرطة أقوال أفراد الأسرة غالبا في نفس اليوم الذي وقعت فيه حادثة القتل، ويُجري قضاة التحقيق المكلفون بفحص تفاصيل الجريمة في كثير من الحالات مقابلات مع أفراد الأسرة ويأخذون شهاداتهم في غضون أيام من وقوع الحادثة. لكن بعد فترة وجيزة، تُهمل القضايا. نادرا ما تتابع السلطات العراقية مع العائلات أو تقدم إليها أي معلومات مستجدة عن التحقيقات.
لم تتجاهل السلطات العراقية بشكل كامل الأفراد والعائلات الذين تأثروا بشكل مباشر بالعنف ضد النشطاء والمحتجين. في سياق نادرا ما تتحقق فيه العدالة القانونية في القضايا البارزة وتلك الأقل شهرة على حد سواء، استخدمت السلطات العراقية التعويضات المالية كشكل من أشكال الإنصاف للعائلات التي قُتل أقاربها في إطار الاحتجاجات. لكن هذه العملية، مع أنها جديرة بالإشادة لتقديمها بعض التعويضات، لم ترقَ إلى مستوى مساعدة آلاف المحتجين المصابين.
عملية الحصول على التعويض، بشكل عام، مرهقة، وبيروقراطية، وبالكاد تكون واضحة بالنسبة للأشخاص المؤهلين. تتوزع الموافقات المطلوبة للتعويض على ما لا يقل عن ست وزارات ومؤسسات عامة مختلفة. "مكتب رئيس الوزراء" له يد مباشرة في دفع التعويضات لعائلات القتلى والموافقة عليها، وهو اهتمام على أعلى المستويات في الحكومة العراقية يستحق الإشادة أيضا.
لكن مجرد تقديم التعويضات المالية إلى أسر القتلى لا يكفي لتحقيق المساءلة عن العنف الذي يسمح به أفراد أمن الدولة العراقية، أو يسهّلونه، أو يوجهونه. وفقا لبعض التقديرات، أصيب أكثر من 27 ألف محتج كنتيجة مباشرة لمشاركتهم في الاحتجاجات والمظاهرات. إذا ظل التعويض المالي أداة مركزية لجبر أعمال العنف، فينبغي أيضا تقديمه بصيغة مناسبة، وكفوءة، وفعالة إلى أولئك الذين يعيشون مع جميع أنواع الإصابات والندوب التي أحدثتها أيدي القوات الأمن التابعة للدولة.
بشكل عام، بينما يمكن للتعويض المالي أن يكون شكلا هاما للإنصاف، فإنه لا يكفي لمواجهة التحديات الهيكلية الكامنة في المؤسسات العامة العراقية. لهذا السبب رفضت العديد من العائلات التي تستحق الحصول على تعويض مالي، بما فيها عائلات القتلى، السعي للحصول على تعويض عن خسارتها. بدل ذلك، تطالب العائلات فقط بالعدالة القانونية ومحاسبة مرتكبي أعمال العنف وقتلة أحبتها.
العدالة القانونية والمساءلة، وهما من المطالب الرئيسية للحركة الاحتجاجية التي أطاحت بالحكومة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أساسيتان لاستدامة النظام السياسي في العراق على المدى الطويل. لهذا جعل النشطاء والمحتجون الذين سعوا إلى المشاركة في الانتخابات الاتحادية في أكتوبر/تشرين الأول 2021 – بدلا من رفضهم بشكل قاطع، كما فعلت بعض شرائح الحركة الاحتجاجية – المساءلة ركيزة أساسية لبرامجهم الانتخابية. بالنسبة للعديد من هؤلاء النشطاء الذين طالبوا بإصلاح النظام السياسي للبلاد، لن يكون تحقيق المساءلة عن قتل وتشويه المحتجين السلميين في العراق أقل من حدث ثوري.
التوصيات
إلى مكتب رئيس الوزراء
· ينبغي لـ "لجنة تقصي الحقائق" التي شكّلها رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي أن تنشر علنا نتائج تحقيقاتها في العنف ضد المحتجين. يجب أن تتضمن هذه النتائج تفاصيل التحقيقات مع حماية حق الخصوصية للضحايا والعائلات، إذا اختاروا ذلك. ينبغي أن تتضمن النتائج تفاصيل كيفية إجراء التحقيقات، وعدد الحالات المدروسة وطبيعتها، وماذا تحقق من مساءلة عن الجرائم، إن تحققت.
· بحسب مستوى مسؤولية عناصر قوات الأمن والجماعات المسلحة التابعة للدولة عن قتل المحتجين الذي تتوصل إليه لجنة تقصي الحقائق، ينبغي دعوة الجهات القضائية إلى محاسبة الجناة، بما في ذلك بإحالة أفراد الأمن وأعضاء الجماعات المسلحة المتورطة – بمن فيهم أعضاء قوات الحشد الشعبي – أمام المحاكم العراقية للمحاكمة الجنائية.
· حث السلطات القضائية من خلال "مجلس القضاء الأعلى" على نشر معلومات علنية حول حالة أي تحقيقات جنائية في العنف ضد المتظاهرين وضمان إتاحة المعلومات بشكل مستمر بشأن أي محاكمات للجناة المتهمين.
· ضمان الاستقلالية القانونية، والهيكلية، والفعلية لنظام العدالة الجنائية، والتأكد من أن القضاء مستقل تماما، وأن القرارات المتعلقة بالقضايا الفردية خالية من أي تدخل أو ضغط من الوزراء، وأن دور الحكومة المركزية هو حماية استقلالية نظام العدالة وضمانها، من أي عوامل بما فيها محاولات الترهيب الخارجي بشأن الملاحقات القضائية والمحاكمات.
· وضع ونشر سياسة واضحة وموجزة للتعويض والرعاية الطبية لضحايا العنف المرتبط بالاحتجاجات السياسية وعائلاتهم. ينبغي أن تتكون هذه السياسة من خطوات مباشرة تُقلّل العقبات البيروقراطية التي تعيق الحصول على التعويضات، بما في ذلك الحد من عدد الهيئات والوزارات المطلوب مشاركتها. ينبغي أن تتضمن هذه السياسة أيضا جدولا زمنيا معقولا لمعالجة المطالبات وتلقي التعويض.
· وضع آلية فعالة ضمن وزارة الصحة لتحديد مراكز العلاج الطبي بشكل مناسب، بما في ذلك خارج العراق، حيث يمكن للمواطنين العراقيين تلقي العلاج لإصاباتهم، مع تغطية الحكومة العراقية جميع التكاليف.
منهجية التقرير
يستند هذا التقرير إلى مقابلات أجراها باحثو هيومن رايتس ووتش خلال ثلاث رحلات بحثية إلى العراق في مارس/آذار، وأبريل/نيسان، وأغسطس/آب 2022. أجرى الباحثون مقابلات شخصية مع 15 رجلا و10 نساء في بغداد، والبصرة، والناصرية، والسليمانية، وإربيل.
شمل الأشخاص الذين تمت مقابلتهم محتجين استُهدفوا وأصيبوا في محاولات اغتيال أو أصيبوا أثناء مشاركتهم في احتجاجات حاشدة، بالإضافة إلى أفراد عائلات المحتجين المصابين، والقتلى، والمختطفين. أجريت ست مقابلات أخرى عبر الهاتف مع نشطاء يعيشون الآن خارج العراق، بعد أن أجبروا على الفرار بسبب التهديدات التي يتعرضون لها هم أو عائلاتهم.
أعطى معظم الذين تمت مقابلتهم الإذن باستخدام أسمائهم الحقيقية. استُخدمت أسماء مستعارة في بعض الحالات، كما يشير التقرير. أجريت جميع المقابلات باللغة العربية.
أبلغ الباحثون جميع من قابلوهم بهدف المقابلات، وطبيعتها الطوعية، والطرق التي ستستخدم بها هيومن رايتس ووتش المعلومات، وحصلوا على موافقة مستنيرة من جميع الذين قابلوهم، والذين كانوا على علم بأنهم لن يتلقوا أي أجر أو بدل عن مشاركتهم في هذا البحث.
كما تحدثت هيومن رايتس ووتش وأجرت مقابلات مع ممثلين عن منظمات غير حكومية محلية ودولية معنية بقضايا المساءلة عن العنف ضد المحتجين.
يعتمد هذا التقرير أيضا على بحث مكثف أجرته هيومن رايتس ووتش حول العنف ضد المحتجين في العراق بين 2019 و2021.
بعثت هيومن رايتس ووتش برسالة إلى الحكومة العراقية السابقة برئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في 31 مارس/آذار 2022. توضح الرسالة النتائج الأولية لأبحاثنا وتطلب ردودا على أسئلة حول جهود مساءلة الحكومة للتصدي للعنف ضد المحتجين، بالإضافة إلى أسئلة حول سياسات الحكومة للتعويضات المالية لضحايا العنف وأسرهم. لم تقدم الحكومة العراقية ردا رسميا مكتوبا على الرسالة، لكنها قدمت من خلال مقابلة مع أحد كبار مستشاري الحكومة معلومات حول جهود الحكومة (كعدد العائلات التي تلقت تعويضات). هذه المعلومات مدرجة في التقرير.
الخلفية
الانتفاضة، والعنف، وغياب المساءلة
في خريف 2019، خرج العراقيون في وسط العراق وجنوبه إلى الشوارع بمئات الآلاف مطالبين بإسقاط النظام السياسي الذي حكمهم لنحو عقدين من الزمن. بدأت الاحتجاجات في 1 أكتوبر/تشرين الأول واستمرت ثمانية أيام، ثم استؤنفت في 25 أكتوبر/تشرين الأول واستمرت لشهور. أجبر انتشار الانتفاضة وصمود المحتجين رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي على الاستقالة، لتكون الأولى من نوعها في تاريخ العراق المعاصر بعد أن كانت مطلبا رئيسيا للمتظاهرين آنذاك.[1]
طالب المحتجون باستقالة عبد المهدي لأسباب شملت الرد العنيف على حركة الاحتجاج بإشراف حكومته والذي حمّل المحتجون حكومته مسؤوليته. [2] القوات الأمنية التابعة للدولة والجماعات المسلحة المرتبطة رسميا بالمؤسسات العامة وتتلقى دعمها انتشرت لقمع الانتفاضة. بين أكتوبر/تشرين الأول 2019 وأبريل/نيسان 2020، قتلت هذه القوات 487 متظاهرا على الأقل خلال احتجاجات في وسط العراق وجنوبه. [3] وكما وثّقت هيومن رايتس ووتش آنذاك، يبدو أن قوات مسلحة غير محددة وقوات أمن حكومية تعاونت على قتل المحتجين. [4]
واصل المحتجون ملء الشوارع حتى بعد استقالة حكومة عبد المهدي. في قائمة مطالبهم، لم يُحمّل المتظاهرون الحكومة الحاكمة وحدها مسؤولية محنتهم، بل أيضا النظام السياسي الإثني - الطائفي بأكمله والذي أسّسه ويسّره الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق بعد العام 2003. [5] أصر المتظاهرون على مسؤولية هذا النظام عن المشاكل الهيكلية في مختلف أنحاء العراق، كالخدمات العامة المتردية، بما فيها الكهرباء والمياه النظيفة، ونقص الوظائف والفرص الاقتصادية، لا سيما في صفوف الشباب الذين تتزايد أعدادهم، أو "جيل 2000" الذي بلغ سن الرشد في عراق ما بعد 2003. [6]
بقي المتظاهرون في الشوارع ليس في العاصمة العراقية بغداد فحسب، ولكن أيضا في مدن جنوبية عدة، منها الناصرية، والعمارة، والبصرة. [7] تظل جغرافية هذه الاحتجاجات مهمة. أغلب سكان المحافظات والمدن الجنوبية في العراق من العرب الشيعة، الذين ينتمون إلى نفس طائفة الأحزاب السياسية المهيمنة التي تحكم العراق اليوم. [8] كما أن السخط الجماهيري في هذه الأجزاء من البلاد يتحدى سردية عن العراق طاغية ومع ذلك وتبسيطية ولا تبيّن الفوارق الدقيقة، وهي أن البلاد تعاني من انقسامات عرقية وطائفية وتتطلب نظاما سياسيا يوزع التمثيل على أساس الهوية العرقية والدينية. [9]
هددت انتفاضة 2019-2020 النظام السياسي بكامله ومجموعة من الجهات الفاعلة السياسية والمسلحة التي تسيطر عليه وتستفيد منه. [10] يمكن القول إن هذا التهديد الوجودي هو ما دفع مجموعة من الأحزاب المؤثرة من مختلف الأطياف السياسية العراقية إلى الالتحام حول استراتيجية من العنف والقتل هدفها إنهاء حركة الاحتجاج. [11]
تشكلت قوات الحشد الشعبي في 2014 ردا على استيلاء تنظيم "الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا بـ "داعش") على ثلث أراضي العراق من قبضة الجيش العراقي الذي كان فقد قوته. كانت قوات الحشد الشعبي، التي توسعت لتشمل حوالي 60 مجموعة مسلحة من مختلف الانتماءات السياسية، أساسية لاستعادة تلك الأراضي نيابة عن السلطات العراقية. إلا أن بعض هذه الجماعات – وتحديدا تلك التي تشكلت قبل قوات الحشد الشعبي بسنوات – تورطت في مجموعة من الانتهاكات أثناء عملياتها ضد داعش وبعدها، كما وثقت هيومن رايتس ووتش سابقا. [12]
اتخذت قوة هذه المجموعات صبغة مختلفة في فبراير/شباط 2016، عندما أصدر رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي مرسوما تنفيذيا يقضي بأن تخضع قوات الحشد الشعبي لقائد القوات المسلحة العراقية، وهو رئيس الوزراء. اكتسب المرسوم طابعا رسميا وشرعيا أكثر في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، عندما أقر البرلمان العراقي قانونا يدمج رسميا قوات الحشد الشعبي في قوات الأمن العراقية. [13] يجعل إدماج قوات الحشد الشعبي في قوات الأمن رئيس وزراء البلاد مسؤولا في نهاية المطاف عن أفعال وقرارات قوات الحشد الشعبي والأحزاب التي تتألف منها، إلا أن سلطة رئيس الوزراء على هذه المجموعات قانونية أكثر منها فعلية.
ليست قوات الحشد الشعبي كيانا متماسكا، بل هي مزيج من جماعات متفرقة لا تتوافق دائما، وتنتمي إلى معسكرات مختلفة ذات أجندات سياسية خفية على شريحة واسعة من الناس. لكن وضعها الجماعي الرسمي كجزء لا يتجزأ من قوات الأمن العراقية يمثل سياقا مهما لكيفية تمكن بعض الجماعات المكونة لقوات الحشد الشعبي من تنفيذ أعمال عنف ضد المحتجين بدون عقاب. [14]
على سبيل المثال، تمكّن الأفراد والجماعات الضالعة في عمليات اغتيال ضد النشطاء من التنقل بسهولة في مختلف المدن وبينها لتنفيذ عمليات القتل. كما سيرد لاحقا في هذا التقرير، تتساءل عائلات القتلى والناجين من محاولات الاغتيال باستمرار عن كيفية تمكن القَتَلة المحتملين من الدخول والخروج بسهولة من المناطق السكنية التي يُزعم أنها مؤمّنة من قبل قطاعات أخرى من قوات الأمن العراقية، مثل الشرطة الاتحادية أو الجيش. يكمن جزء من الإجابة في حقيقة أنه يُسمح لبعض الجماعات المسلحة، بصفتها جزءا من قوات الحشد الشعبي، بتجاوز الإجراءات والمرافق الأمنية، كنقاط التفتيش في المدن والضواحي. [15]بعبارة أخرى، يساعد الغطاء الذي تؤمّنه الدولة العراقية لقوات الحشد الشعبي على تسهيل قتل النشطاء الذين تزعم الحكومة العراقية أنها تحميهم.
من ناحية أخرى، استمرت حركة الاحتجاج أمام العنف المتواصل على يد مجموعة من الجهات والفصائل الأمنية العراقية. استمرت المظاهرات في مارس/آذار 2020، قبل اضطرار النشطاء إلى البقاء في منازلهم بسبب تفشي فيروس "كورونا". تهدئة النشاط الاحتجاجي لم تعني أنه تمت تلبية أهم مطالب المتظاهرين بالكامل، ولا توقف العنف الموجه ضدهم. استمر العنف ضد المحتجين حتى بعد تفرقهم البطيء خلال الأسابيع الأولى للجائحة، وبعد تشكيل حكومة جديدة في مايو/أيار 2020 برئاسة مصطفى الكاظمي. واصلت جماعات مسلحة غير محددة تهديد النشطاء البارزين في جميع أنحاء العراق وأخفت الكثيرين أو اغتالتهم في نهاية المطاف. [16]
وصل رئيس الوزراء السابق الكاظمي إلى السلطة على ظهر أكبر انتفاضة عراقية منذ عقود. بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، وعد بالمحاسبة على العنف ضد المحتجين، وأصر على أنه سيحاكم المسؤولين عن إخفاء عشرات النشطاء، وقتل المئات، وإصابة عشرات الآلاف الآخرين. [17] في أكتوبر/تشرين الأول 2020، شكّل الكاظمي لجنة حكومية لتقصي الحقائق للتحقيق في أعمال العنف ضد المحتجين منذ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بما في ذلك تحديد المسؤولين. [18]
لكن منذ إنشاء اللجنة، لم ينشر مكتب رئيس الوزراء علنا أي معلومات حول نتائج عملها. في تقريرين حديثين عن المساءلة في العراق، قالت مفوضية حقوق الإنسان إنها لم تتمكن من الحصول إلا على معلومات محدودة حول عمل لجنة رئيس الوزراء ونتائجها. [19]
منذ 2019، وثّقت هيومن رايتس ووتش حالات اغتيال استهدفت نشطاء بارزين، وحالات إخفاء، وإصابات. [20] يدرس هذا التقرير هذا العنف المستمر لاستكشاف أي تقدم محرز في المساءلة القانونية التي وعدت بها الحكومة العراقية منذ فترة طويلة، بالإضافة إلى توثيق أي تعويضات مالية تتلقاها عائلات أولئك الذين قتلوا أو أصيبوا نتيجة مشاركتهم في الاحتجاجات السلمية.
رغم الوعود السياسية والجهود الشكلية لتحقيق المساءلة القانونية، تُظهر الحالات الواردة في هذا التقرير كيف أن الحكومة العراقية لم تحاسب المسؤولين عن قتل المحتجين، وإخفائهم، وإصابتهم. أحرزت الحكومة العراقية تقدما أكبر في مجال التعويضات المالية عن أعمال العنف ضد المحتجين. لكن الحالات الموثقة، إلى جانب الأدلة الأخرى المتاحة، تشير إلى أن هذا غالبا جاء في شكل مدفوعات لعائلات المحتجين القتلى - تقريبا كبديل للمساءلة القانونية للمتورطين في عمليات القتل.
كما تلقى بعض المحتجين الذين أصيبوا بجروح خطيرة أثناء أنشطة الاحتجاج، وكذلك المستهدفين بالاغتيال بسبب مشاركتهم في حركة الاحتجاج، تعويضات جزئية عن إصاباتهم. لكن مطالبات التعويض الناجحة للمصابين غالبا ما تتأخر، أحيانا لسنوات، وغالبا ما يدفع المصابون من أموالهم الخاصة أثناء سعيهم للتعويض (بسبب التكاليف القانونية)، أو عندما يُحرمون من التعويض الذي تقدموا بطلب من أجله. التأخيرات والعقبات البيروقراطية تشير أكثر إلى تقصير الحكومة العراقية في الوفاء بمسؤوليتها عن توفير رعاية جيدة طويلة المدى لمن تعرضوا لتشوهات وندوب دائمة.
القضايا القانونية "النائمة"
بعد فترة وجيزة من تولي منصبه، وعد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي بمحاكمة المسؤولين عن أعمال العنف ضد المحتجين. [21] تمحور جزء من هذا الجهد حول تشكيل لجنة تحقيق من المفترض أن تدرس قضايا العنف ضد المحتجين. [22] كما حاولت حكومة الكاظمي في أسابيعها الأولى إثبات أنها كانت تتابع كل قضايا قتل بمفردها بشكل محدد. وكتب الكاظمي على تويتر في مايو/أيار 2020، معلنا عن جهود هدفها اعتقال مرتكبي أعمال العنف ضد المحتجين في البصرة: "وعدنا بأن المتورطين بدم العراقيين لن يناموا ليلهم، نحن نفي بالوعد".[23] في يونيو/حزيران 2020، زعمت السلطات أنها ألقت القبض على رجل قالت الحكومة إنه اعترف بقتل محتج وأعمال عنف أخرى في بغداد. [24] استُخدمت هذه الجهود من قبل الحكومة الوليدة آنذاك لإثبات جديتها بشأن المساءلة – رغم اتضاح أن هذه الحالات استثنائية وليست مؤشرا على أي نمط إيجابي تجاه المساءلة القانونية.
في يوليو/تموز 2020، قُتل هشام الهاشمي بالرصاص أمام منزله في حي زيونة شرقي بغداد. كان الهاشمي باحثا بارزا ومحللا للقضايا الأمنية في العراق. بينما كان يتمتع بعلاقات ودية مع معظم النخب السياسية في العراق، كان الهاشمي أيضا مستشارا لرئيس الوزراء السابق الكاظمي. [25]
وبالتالي فُسّر اغتياله على نطاق واسع على أنه رسالة إلى الكاظمي تحذره من استهداف الجماعات المسلحة القوية في العراق، بما في ذلك السعي إلى المساءلة عن العنف ضد المحتجين. [26]
أصبحت قضية الهاشمي بحد ذاتها اختبارا حقيقيا لجدية حكومة الكاظمي في التعاطي مع المساءلة. في يوليو/تموز 2021، في الذكرى السنوية الأولى لمقتل الهاشمي، أعلن الكاظمي اعتقال أحد المشتبه بأنهم من القَتَلة والذي أكدت الحكومة اعترافه بالجريمة. [27] ورد أن المشتبه به، وفقا للحكومة، اعترف بأنه عضو في جماعة "كتائب حزب الله" المسلحة، والتي هي جزء من قوات الحشد الشعبي.[28] مع ذلك، فإن القضية ضد المشتبه به لم تتحرك. [29] لم يتضح لعدة أشهر ما إذا كان قد بقي في السجن أو أطلق سراحه. أشار باحثان لهما خبرة طويلة بشأن العراق في مقابلات مع هيومن رايتس ووتش أن السلطات أفرجت عن المشتبه به دون لفت الأنظار، بينما أشارت مصادر أخرى مقرّبة من الحكومة إلى أنه في الواقع ما يزال في السجن، كما أشارت التقارير الأخيرة أيضا، لكن القاضي المختص لم يتمكن من المضي قدما في الإجراءات القضائية بسبب الضغط السياسي. [30]
تشكل قضية الهاشمي مؤشرا مفيدا عما إذا كانت المساءلة موجودة أو معدومة. إن عجز السلطات عن المضي قدما في المساءلة في نظام العدالة، عندما كانت قادرة فيما يبدو على تحديد واحتجاز واحد على الأقل من المشتبه بهم، وحيث كانت الضحية قريبة جدا من رئيس الوزراء نفسه، لا يبشر بالخير كثيرا للقضايا الأقل بروزا.
في أكتوبر/تشرين الأول 2020، شكّل الكاظمي لجنة لتقصي الحقائق، بموجب الأمر الديواني رقم 293، لدراسة العنف الموجه ضد المحتجين. جاء تأسيسها بعد نصف عام من تولي الكاظمي منصبه، ما يشير إلى أن وعوده بتعجيل إعطاء الأولوية للمساءلة سيتبعها التباطؤ. باستثناء عدد قليل من القضايا المنفصلة، لم تحرز حكومة الكاظمي في النهاية سوى تقدما ضئيلا في التحقيق في مقتل المحتجين، ناهيك عن اعتقال الجناة، ومحاكمتهم، وإدانة.
في تقريرها حول المساءلة عن العنف ضد المحتجين الذي نُشر في مايو/أيار 2022، وثقت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (البعثة)/مفوضية حقوق الإنسان أربع قضايا فقط، خلال العام السابق، من الإدانات في قضايا هجمات استهدفت ناشطين بالقتل، وإطلاق نار، والاختطاف، والإخفاء والتي نُسبت إلى "عناصر مسلحة مجهولة الهوية"".[31] بالنسبة لقوات الأمن التابعة للدولة المشتبه بارتكابها جرائم مماثلة، حدد التقرير بالمثل أربع قضايا فقط معروضة على المحاكم. ذكر التقرير أنه "لم تتمكن البعثة/مكتب المفوضية السامية من تحديد أي قضايا أخرى تجاوزت مرحلة التحقيق خلال الفترة المشمولة بالتقرير".[32]
تشمل دراسات الحالة التالية خمس حوادث عنف استهدفت النشطاء والمحتجين، كان بعضها بارزا خلال المظاهرات. أسفرت ثلاث من هذه الحوادث عن اغتيال أربعة نشطاء، بينهم امرأتان. الحادثة الرابعة، وهي محاولة فاشلة للاستهداف بالاغتيال، أسفرت عن إصابة ناشط بجروح خطيرة. وأدت الحادثة الخامسة إلى اختطاف وإخفاء ناشط ما زال مفقودا.
في كل من هذه القضايا، كان التقدم ضئيلا أو معدوما في المساءلة القانونية للمسؤولين عن العنف. يأتي غياب التقدم هذا على الرغم من تقديم الضحايا والشهود أدلة إلى السلطات، بما فيها إلى لجنة رئيس الوزراء للتحقيق. حتى الآن، لم تعلن اللجنة سوى عن قدر قليل من المعلومات بشأن جهودها أو نتائجها.
هذه القضايا ليست شاملة ولا استثنائية، بل هي نماذج للطرق التي نادرا ما تحققت فيها المساءلة القانونية عن قتل النشطاء والمتظاهرين وجرحهم. بعبارة أخرى، تلقي هذه القضايا والأدلة التي قدمها الأشخاص الذين تمت مقابلتهم الضوء على الطرق التي تبقى فيها المساءلة القانونية عن العنف ضد المحتجين بعيدة المنال، وكيف أن القانون لم يطبّق بل جرى "تنويمه".
أمجد في مدينة العمارة
كان مجيد كاظم محمد (56 عاما)، والمعروف أكثر باسم أمجد الدهامات، من أبرز الدعاة إلى العدالة الاجتماعية في العمارة، عاصمة محافظة ميسان في جنوب شرق العراق، والممتدة على طول الحدود الإيرانية. رأى السكان المحليون أمجد على أنه أحد زعماء الاحتجاجات، لأسباب منها تاريخه كناشط في مجتمعه. قال علي كاظم محمد (52 عاما)، شقيق أمجد: "كان يتظاهر في الشوارع منذ 2011"، في إشارة إلى المظاهرات التي اجتاحت العالم العربي في ذلك العام. [33] نشط أمجد في مجال العدالة الاجتماعية لسنوات بعد ذلك، وفي 2014 حصل على جائزة "رجل السلام" عن محافظة ميسان. وفقا لعلي، عندما اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في العراق في 2019، كان أمجد من أوائل من نصبوا خيمة في وسط مدينة العمارة.
قال أربعة نشطاء محليين لـ هيومن رايتس ووتش إنه في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بعد شهر من بدء الاحتجاجات في وسط العراق وجنوبه، استدعت السلطات أمجد ونشطاء آخرين مقربين منه إلى مركز الشرطة المحلي لحضور اجتماع مع قائد شرطة المحافظة. [34] وفقا لمحتجين حضروا الاجتماع، أُبلغ النشطاء بأن سبب الاستدعاء هو أن قائد الشرطة أراد مناقشة مطالب جزء من المحتجين في المدينة. أُفيد أن قائد الشرطة ساعد في تأمين مجموعة من عروض العمل مع شركة نفط صينية تعمل في المنطقة وأراد استشارة قادة الاحتجاج بشأن من يجب أن تُعرض عليهم هذه الوظائف على وجه التحديد. [35] قال بعض النشطاء الذين حضروا الاجتماع لقائد الشرطة إنهم ليسوا مهتمين بتسمية أفراد لهذه الوظائف المفترضة. كما أصروا على أن هذا التطور لم يفعل سوى القليل لتهدئة المطالب الأوسع والأعمق لحركة الاحتجاج. [36]
عُقد الاجتماع ليلا، بين الساعة 8:30 مساء و9:30 مساء. بعد انتهاء الاجتماع، عاد بعض النشطاء إلى ساحة الاحتجاج الرئيسية في العمارة بينما توجه آخرون إلى منازلهم. قال أحد النشطاء الحاضرين، "عزيز"، لـ هيومن رايتس ووتش إنه عندما غادر الاجتماع وسار نحو سيارته مقابل مركز الشرطة، رأى سيارة مرسيدس من التسعينيات مركونة في مكان قريب. كان محركها يعمل ويجلس بداخلها رجلان تمكن عزيز من رؤيتهما من خلال نافذة السائق المفتوحة. [37] كان كلا الرجلين يرتديان قبعة ولهما لحيتان طويلتان. عندما وصل عزيز إلى سيارته، انطلقت بسرعة سيارة المرسيدس، الرمادية اللون وبدون لوحات ترخيص.
يتذكر عزيز: "كنت ما زلت أقود السيارة بعد ثلاث دقائق عندما تلقيت المكالمة". قيل له إن أمجد الدهامات وناشط آخر معه أصيبوا بالرصاص على بعد مئات الأمتار فقط من مركز الشرطة الذي كان قد غادره عزيز للتو. أصابت رصاصة الناشط الثاني بجروح. لكن أمجد تلقى النصيب الأكبر من الهجوم؛ أُطلقت عليه النار أربع مرات ومات قبل وصوله إلى المستشفى.
بدت السلطات العراقية في البداية مهتمة بالتحقيق في مقتل أمجد. أخذ المحققون إفادات شهود في المستشفى في نفس ليلة الاغتيال. بعد أربعة أيام من دفن ابنهما، استُجوب والدا أمجد وزوجته من قبل قاضي تحقيق ينظر في جريمة القتل. [38] قال علي شقيق أمجد: "كانت كلها أسئلة وإفادات بسيطة".
ولكن منذ خطوات التحقيق الأولية هذه، لم يحصل أي تقدم واضح في تحديد المسؤول عن مقتل أمجد. لم تعتقل الشرطة العراقية أحدا رغم وقوع الجريمة على بعد أمتار من مركز شرطة العمارة. توقف المحققون عن طرح الأسئلة في قضية فيها العديد من الشهود، بمن فيهم قائد الشرطة المحلية نفسه، الذي نُقل منذ ذلك الحين خارج محافظة ميسان بالكامل.
كما تُظهر القضايا الأخرى أدناه، تُسارع السلطات العراقية غالبا في أخذ إفادات الشهود والعائلات، وهي سرعة تبدو مثيرة للإعجاب لتحديد الحقائق الموجودة. لكن غالبا ما يتبع هذه السرعة صمت، حيث تمر شهور أو أحيانا سنوات دون أي متابعة من السلطات مع معظم الأفراد والعائلات الذين يرفعون قضايا قانونية مماثلة، وفي جميع القضايا تقريبا لا يُحتجز أو يُتهم أي مشتبه بهم.
غياب أي مساءلة قانونية عن مقتل أمجد هو مثال هام، لأسباب منها الجهود الدؤوبة التي يبذلها شقيقه علي لتحقيق العدالة. رغم متابعته مع مختلف السلطات القانونية حول حالة القضية والتحقيق، لم يصل علي إلى أي شيء. قال بأسى: "القوى السياسية المسؤولة عن المساءلة هي في الواقع من ترتكب الانتهاكات، نريدهم ببساطة أن يطبقوا القانون".
في بداية 2020، بدأ علي نفسه يتلقى التهديدات، خاصة لسعيه إلى تحقيق العدالة لأخيه. أسس علي مؤخرا "منظمة تشرين لحقوق الإنسان" لتعزيز مطالب حركة الاحتجاج، بشأن مسائل منها العنف ضد المحتجين. [39] التهديدات التي تلقاها علي بسبب هذا العمل أجبرته على الفرار من منزله في العمارة إلى إقليم كردستان العراق. اتصل مسؤول أمني كبير بعلي مباشرة وأخبره أن حياته في خطر. "سافرتُ أولا إلى بغداد ومكثتُ 15 يوما في فندق، ثم سافرت إلى إربيل ومكثت هناك لثلاثة أو أربعة أشهر". سافر علي منذئذ إلى مدن مختلفة وعاش فيها بهدف الحماية. قال: "أحيانا أعود إلى دياري في العمارة، لمجرد رؤية عائلتي، ليومين أو ثلاثة كل بضعة أشهر. لكنني أسافر ليلا فقط كيلا يراني أحد".
سارة وحسين في البصرة
ربما لم يكن مقدرا لـ سارة طالب عيدان (23 عاما) أن تصبح ناشطة. روى أفراد عائلتها لـ هيومن رايتس ووتش أنها لطالما كانت طفلة هادئة جدا وخجولة، وكثيرا ما تحترم الآخرين.[40] تزوجت سارة وهي صغيرة وأنجبت ابنة. ولكن بعد طلاقها، لاحظت عائلة سارة أنها تغيرت وأصبحت تتحدث بجرأة أكبر.
في صيف 2018، اندلعت احتجاجات حاشدة في البصرة بعد أزمة المياه النظيفة التي ضربت المدينة. نُقل أكثر من 100 ألف شخص إلى المستشفى بعد تعرضهم للتسمم بسبب تلوث المياه العامة.[41] خلال الأزمة، أصبحت سارة تتحدث بجرأة، مع العزم على أن الحياة اليومية في مدينتها يجب أن تتغير إلى الأفضل.
قالت سارة في فيديو انتشر بسرعة خلال احتجاجات 2018: [42] "خرجنا إلى الشوارع للحصول على أبسط الخدمات، الماء والكهرباء. نحن هنا منذ 17 يوما في الاعتصام، ولم ينظر إلينا أحد [من الحكومة]. لم يقل أحد: "حسنا، يمكننا تلبية أحد مطالبكم". وبالتالي زادت المطالب الآن، أكثر من مجرد الماء والكهرباء. أضافت وهي تشير خلفها، فوق كتفها الأيسر، باتجاه مكتب المحافظ: "الآن أريد إسقاطه".
لفت دور سارة البارز في احتجاجات 2018، ودعوتها إلى إسقاط الحكومة المحلية، الانتباه إليها وعائلتها. سرعان ما تبع ذلك تهديدات لحياتها، بحسب والدتها، أم سارة. جاءت التهديدات على شكل رسائل مباشرة إلى حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، مرسلةً من حسابات تختفي بمجرد وصول الرسائل. كما تلقت رسائل تهديد نصية من أرقام هواتف مجهولة.
هربت سارة وزوجها الثاني، حسين عادل علي (25 عاما)، من العراق بسبب التهديدات. سافرا إلى تركيا ومكثا هناك معظم عام 2019. لم يعودا إلا بعد تلقي حسين خبرا بأن والدته كانت مريضة بالسرطان.[43] عند عودتهما إلى البصرة، ظلا بعيدين عن الأنظار. أقاما في البداية مع عائلة سارة، ثم استأجرا شقتهما الخاصة في حي جنينة بالمدينة.
وفقا لعائلة سارة، عندما خرج المتظاهرون مجددا إلى شوارع البصرة بعد عام تقريبا، في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019، لم تشارك سارة وحسين. اختارا بدل ذلك المراقبة من الأرصفة، ومشاهدة تحالف من البصراويين من مختلف الأجيال يخرجون بالآلاف. في مساء اليوم التالي، في 2 أكتوبر/تشرين الأول، تلقت أم سارة مكالمة من صديقة سارة وحسين تطلب التحدث مع والد سارة، عمو طالب. قيل لها إن حادثة وقعت في منزل سارة. سارعت أم سارة وهي تتوقع الأسوأ، قالت: "وصلت وكانت فوضى".[44]
قُتلت سارة وحسين داخل منزلهما. وفقا لأم سارة، أخذت الشرطة المحلية إفادات من الموجودين في مكان الحادث في ذلك المساء، بمن فيهم أم سارة، التي قدّمت، إلى جانب والد سارة ووالدَيْ حسين، إفادات إلى قاضي التحقيق في اليوم التالي أيضا. أصرت أن ملابسات اغتيالهما غريبة: "توجد عادة نقطة تفتيش على بعد 200 متر من منزلهما. كما كان هناك حظر تجول رسمي حينها".
حظر التجول، على الأقل بحسب ما هو مفترض إن لم يكن في الواقع، يعني عدم السماح للمركبات العادية بالتحرك في المدينة بعد ساعة معينة دون موافقة سلطات الدولة – لكن مركبات الأمن التابعة للدولة معفاة من هذا الأمر. بالنظر إلى قرب نقطة تفتيش، لا تفهم أم سارة كيف يمكن لسيارة غير مرخصة دخول الحي وتنفيذ عمليتَيْ قتل. "أُطلِقت النار على ابنتي ثلاث مرات. وعلى حسين سبع مرات. ولم يسمع أحد شيئا؟" تصر أم سارة على أن الحي الذي يعيشان فيه محاط بكاميرات المراقبة وأن بعض هذه اللقطات جُمعت من قبل السلطات، ولكن لم تُعرض على عائلتَيْ سارة وحسين.
تفترض أم سارة أيضا أن سارة وزوجها كانا على الأرجح يستضيفان زائرا قبل مقتلهما نظرا لأن سارة كانت ترتدي الحجاب. "كانت سارة ترتدي الحجاب داخل منزلها [عندما قُتلت]. لذا، لا بد من وجود شخص غير مقرب منهما كان يزورهما".
قابلت والدة سارة مرتين مسؤولين من "خلية الصقور الاستخبارية"، وهي وحدة تحقيق من النخبة تابعة لـ "وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية" بـ "وزارة الداخلية"، مرة في 2019 وأخرى في 2020. [45] كما زارت أم سارة رئيس الوزراء آنذاك مصطفى الكاظمي بعد ثلاثة أشهر من مقتل ابنتها. تعهد الكاظمي بالعثور على من قتلوا ابنتها وصهرها واعتقالهم. قالت: "قال إن الأمر سيستغرق منهم ثلاثة أشهر - مر حوالي ثلاث سنوات، ولم يحدث شيء".
على غرار قضية أمجد أعلاه، حظي مقتل سارة وحسين باهتمام سريع من السلطات، لكن بلا تقدم حقيقي بعد حوالي ثلاث سنوات. لفتت أم سارة الانتباه إلى أدلة مادية يمكن أن تكون حيوية لأي تحقيق، بما فيها أدلة الفيديو المحتملة، والتي لم تُعرض عليها قَط. يمكن لهذه اللقطات أن تقدم إجابات حول كيف ولماذا يمكن النفاد من نقطة تفتيش تابعة لأمن الدولة، مفترض أنها موجودة لسلامة السكان، قبيل عملية الاغتيال المزدوجة.
رِهام في البصرة
في سن الـ 30، كانت رِهام شاكر يعقوب تحمل دكتوراه في الرياضة واللياقة البدنية، وتمتلك وتدير صالة لياقة بدنية. لم تُنظّم رِهام احتجاجات ولم تكن ناشطة بارزة، ولكنها كانت "صوتا نسائيا بارزا" في المجتمع المدني في البصرة، وهو ما كان كافيا لإثارة غضب جماعات مسلحة غير محددة.[46] بعد بدء احتجاجات 2019، تلقت رِهام تهديدا عبر رسالة نصية. [47] قدّمت بلاغا للسلطات تضمّن رقم الهاتف الذي جاءت منه الرسالة، لكن عائلتها لم تسمع شيئا حينها. [48]
في 19 أغسطس/آب 2020، كانت رِهام تقود سيارة بصحبة أختها فاطمة وصديقة رِهام. على مقربة من منزل عائلة رِهام وفاطمة، فتح مسلح مجهول على دراجة نارية النار على سيارتهما وقتل رِهام.[49] وأصيبت صديقتها أيضا. ركضت فاطمة إلى المنزل وأبلغت والدهما شاكر بإطلاق النار.
قال شقيق رهام، علي (33 عاما)، بإصرار: "كان هناك دائما عناصر شرطة في ذلك الشارع [حيث وقع إطلاق النار]، 24 ساعة في اليوم حيث كانوا". يحمل ادعاؤه شبها كبيرا بقضية قتل سارة وحسين: "لكن يوم إطلاق النار لم يكونوا هناك، كانوا قد انسحبوا".
أخذت الشرطة أقوال والدَي رِهام ليلة إطلاق النار. وصادرت سيارة رِهام كدليل لمدة شهر. كما قابل محققو المحكمة الأسرة بعد ثلاثة أيام من قتل رِهام. لم يحدث أي نوع من المتابعة إلا بعد سبعة أشهر، هذه المرة من مسؤولي الاستخبارات المرتبطين بوزارة الداخلية. اتصلوا لإبلاغ الأسرة بأنهم نفذوا اعتقالات – ليس بشأن قتل رِهام، ولكن بشأن التهديد الذي كانت تلقته في 2019. عندها فقط علمت عائلة رِهام أن السلطات المحلية اعتقلت رجلا بالفعل بسبب التهديد قبل أشهر. كان رقم الهاتف الذي جاءت منه رسالة التهديد النصية مسجلا باسم الرجل.
قال والد رِهام، شاكر (57 عاما): "قيل لنا إنه من بغداد، وإن له إخوة ينتمون إلى جماعات مسلحة. لذا على الأرجح أن يكون التهديد قد صدر منهم". وجّهت السلطات اتهاما إلى الرجل، حسن جبر محسن، بموجب قانون مكافحة الارهاب العراقي. يواجه المدانون بموجب هذا القانون إما السجن المؤبد أو الإعدام.
حضرت هيومن رايتس ووتش محاكمة محسن في 31 مارس/آذار 2022. رغم اتّهام محسن بموجب قانون مكافحة الإرهاب، إلا أن التهمة كانت إرسال رسالة تهديد نصية إلى رِهام يعقوب في 2019، وليس اغتيالها. خلال المحاكمة القصيرة، التي استغرقت قرابة 20 دقيقة، طرحت هيئة من ثلاثة قضاة على المتهم سلسلة من الأسئلة المتعلقة بالتهديد والاغتيال.
نفى محسن أي تورط له في قتلها، كما نفى إرسال التهديد. كرر وهو يبكي عندما سُئل كيف سُجّل رقم الهاتف الذي جاء منه التهديد باسمه: "لا أعرف، لا أعرف". كما نفى محسن أي ارتباط بأي حزب سياسي أو جماعة مسلحة.
حضرت عائلة رِهام يعقوب المحاكمة أيضا. واحدا تلو الآخر، تنازل أفراد عائلتها – والدها، وأمها، وأختها فاطمة، التي كانت في السيارة مع رِهام عندما قُتلت – عن حقهم في اتهام محسن بالتهديد. رغم تسجيل شريحة الهاتف باسمه، إلا أنهم يعتقدون أن محسن لم يتورط في تهديد رِهام أو قتلها. أشاروا إلى أنه من السهل على شخص مقرب من محسن استخدام هويته لتسجيل شريحة هاتف دون علمه.
إلى جانب ذلك، أصر شاكر والد رِهام: "نعرف من قتلها. لكنهم هربوا إلى إيران في نفس الليلة". تصر عائلة رِهام ومحاميهم على أنهم قدموا معلومات وأدلة حول من يعتقدون أنهم قتلة رِهام، لكنهم لم يتصرفوا بناء على هذه المعلومات.
يزعم أفراد أسرتها أن الأدلة، التي لم يشاركوها مع هيومن رايتس ووتش، تُظهر أن جماعات مسلحة مرتبطة بقوات الحشد الشعبي تدير "خلايا" اغتيال. كما يزعمون أن أدلتهم تشير إلى أن هذه الخلايا تتكون من ستة أشخاص ينفذون عمليات قتل باستخدام سيارتين ودراجة نارية. "شخصان للمراقبة، واثنان للدعم، واثنان ينفذان المهمة".
بعد محاكمة محسن بتهمة تهديد رِهام، وبناء على رغبة عائلتها، أسقطت السلطات التهم الموجهة إلى محسن. وفقا لعائلة رِهام يعقوب، لم تشرع السلطات العراقية حتى اليوم في إجراء مزيد من التحقيقات في اغتيالها.
تشترك قضية رِهام في أوجه تشابه مأساوية مع قضية سارة وحسين، سواء من حيث ما بدا أنه اختفاء لعناصر الأمن التابعين للدولة من شوارع البصرة قبيل قتل النشطاء، وأنواع التهديدات التي تلقتها سارة ورِهام على الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي. تشير أوجه التشابه هذه إلى وجود صلة بين الدور والوظيفة اليومية لمؤسسات الأمن التابعة للدولة والطريقة التي تحدث بها الاغتيالات المستهدِفة – كيف يمكن لخلايا الاغتيالات مثلا التحرك والقتل في أماكن عادة ما تكون مؤمّنة بشدة.
لهذا الارتباط بدوره تأثير مباشر على عمليات المساءلة القانونية. جزء من سبب إخفاق جهود المساءلة هو أنها قد تورط السلطات نفسها التي تتمثل مسؤوليتها العامة في توفير الحماية العامة.
علي صالح في الناصرية
يتذكر حيدر صالح غافل (30 عاما) شقيقه الأصغر علي (27 عاما): "اعتدت أن أكون معه طوال الوقت". لذا، في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتصل حيدر بعلي أكثر من 20 مرة عندما لم يسمع منه. أخيرا، رد صديق علي على الهاتف وأخبر حيدر أن علي في المستشفى. "لكنني لم أتمكن من العثور عليه. ثم اكتشفت عبر مواقع التواصل الاجتماعي أنه مات".[50]
تنص شهادة وفاة علي أنه مات برصاص حي. أصر حيدر على متابعة دعوى قضائية ضد أفراد الأمن الحكوميين الذين قال عنهم، بحسب تصريحات محتجين آخرين تواجدوا في نفس اليوم قرب جسر الزيتون، أنهم مسؤولون عن قتل المحتجين. قال حيدر: "كنت هناك أيضا. خلال يومين، بين 28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني، استشهد 84 متظاهرا بالقرب من الجسر".[51]
رفع حيدر دعوى قضائية لدى الشرطة ورُفعت إلى محكمة العدلي. وألمح إلى تورط قوات الأمن العراقية في قتل المتظاهرين، بما في ذلك "قسم الاستجابة للطوارئ"، و"فرقة السوات"، وعناصر الشرطة الاتحادية، وجميعها مرتبطة بوزارة الداخلية. كما زعم حيدر أن أفراد الأمن تجنبوا استخدام أجهزة اللاسلكي التي تصدرها الدولة لإيصال الأوامر. بل استخدموا هواتفهم المحمولة، بما في ذلك استخدام الرسائل الصوتية، لكيلا تُسمع أو تُسجل أوامر إطلاق الرصاص الحي على المحتجين.
حدّد حيدر اثنين من أفراد الأمن العراقي كانا حاضرين أثناء قتل المحتجين وأعطى اسميهما للسلطات، التي لم تتابع مع حيدر بشأن شكواه.
خالد في البصرة
في بداية يناير/كانون الثاني 2021، بعد أكثر من عام على اندلاع الانتفاضة في وسط العراق وجنوبه، كان خالد سامر (31 عاما) يعلم أنه ليس بأمان. كانت له مشاركة كبيرة في حركة الاحتجاج لشهور. تضمّن جزء من جهوده تشكيل فريق من المحامين للتطوع بوقتهم للدفاع عن المحتجين المستهدفين بالاعتقال. في 3 يناير/كانون الثاني، تلقى خالد مكالمة هاتفية من صديق وزميل محتج يدعى حسين. يروي خالد أن حسين قال له: "الوضع هنا خطير، لسنا بأمان هنا بعد الآن".[52]
في نفس اليوم، اغتيل قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" الإيراني، وأبو مهدي المهندس، قائد قوات الحشد الشعبي العراقي، بضربة جوية بطائرة مسيّرة أمريكية على موكب سياراتهما المغادر من "مطار بغداد الدولي".[53] خشي النشطاء من أن اغتيال هذين القائدين، الذي يثير غضب إيران، سيجعل وجودهم اليومي في النهاية أكثر خطورة. توقع العديد من النشطاء أن انتقام الجماعات المسلحة المدعومة من إيران للاغتيال المزدوج سيتوجه ضد المحتجين الذين يهددون النظام السياسي الذي كان لسليماني والمهندس دور أساسي فيه.
يتذكر خالد: "لم يكن لدي المال لمغادرة البصرة، فبقيت". بعد أسبوع، أوقف ثلاثة عناصر استخبارات بملابس مدنية خالد أثناء سيره في الشارع. طلبوا منه إبراز هويته، ثم اعتُقل وسُلّم إلى "مديرية شرطة البصرة". احتجزته الشرطة ثلاث ساعات مع نشطاء آخرين شاركوا في الاحتجاجات. عند إطلاق سراحه، ذهب خالد إلى إربيل لثلاثة أسابيع قبل أن يعود إلى البصرة.
بعد ستة أشهر، في 17 يوليو/تموز 2021، قاد خالد السيارة لنحو 3 كيلومتر من منزله. فجأة، تقدم رجل على دراجة نارية بجانبه، وسحب مسدسا، وأطلق 11 رصاصة تجاهه. "أُصبت بثلاث طلقات في جسدي، على جانبي الأيسر – واحدة في كتفي، واثنتان في ذراعي". استقرت ثماني رصاصات أخرى في سيارته.
قاد خالد سيارته للخلف لمسافة 50 متر تقريبا، وتركها تتراجع حتى توقفت. عندها ظهرت سيارة أخرى – "تويوتا لاند كروزر جي إكس آر" (بالعامية جكساره) – وسدت الطريق أمامه. على غرار قضيتي سارة ورِهام من قبل، وموحيا بوجود نمط، أشار خالد إلى الاختفاء الغريب لنقاط التفتيش التي تكون موجودة في العادة: "توجد عادةً نقطتا تفتيش في المنطقة التي تعرضت فيها لإطلاق النار، واحدة على المدخل وواحدة على المخرج. لكن يومها لم تكن هناك أي منهما".
ثم غادرت الدراجة النارية والجكساره بسرعة مثلما ظهرتا بسرعة. "ظنوا أنني ميت. أطلق سائق الدراجة النارية النار في الهواء، للإشارة إلى انتهاء العملية".
تابع خالد: "اتصلت بصديق جاء لمساعدتي وذهبنا إلى المستشفى، خضعت لعملية جراحية استغرقت يوما". أمضى خالد شهرا يتعافى في المنزل، وعمل خلال هذه الفترة أيضا على رفع دعوى قضائية لمحاولة اغتياله. "قدمت إفادة إلى الشرطة في المستشفى. وبعد عشرة أيام قدمت إفادة إلى المحكمة". أثناء متابعة قضيته بعد شهر تقريبا من الحادث، علم خالد من وحدة مكافحة الجريمة في شرطة البصرة أن ملفه نُقل إلى خلية الصقور.
"لكن عندها علمت أن القضية قد انتهت. علمت حينها أنه لن يكون هناك أي دليل ليجدوه. لن يجدوا أي لقطات فيديو [بعد فترة طويلة من الحادث] ولن يقوموا حتى بالتحقيق". لم يسمع خالد بأي تقدم بشأن قضيته وتوقف عن المتابعة مع السلطات القانونية.
سجاد في الناصرية
في 19 سبتمبر/أيلول 2020، غادر سجاد ستّار شنان (25 عاما) منزله على مضض. قالت والدته إنه كان متعبا. لكن أصدقاءه اتصلوا به وأصروا على انضمامه إليهم للاطمئنان على صديق لهم أصيب في انفجار في موقع التظاهر الرئيسي في الناصرية، في ساحة الحبوبي. تتذكر والدته، أم سجاد: "اغتسل بسرعة، ووضع بطاقة هويته و10 آلاف دينار [6.80 دولار أمريكي] في جيبه، وخرج".[54] كان الوقت في أول الليل، حوالي الساعة 8 مساء. بعد 20 دقيقة فقط، علمت أم سجاد باختطاف ابنها بعد انتشار الخبر بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
من المحتمل أن سجاد العراقي، الاسم الذي يُعرف به أكثر، كان مستهدفا بسبب كتاباته العلنية وانتقاداته بشأن الفساد بين القادة السياسيين، كالاستيلاء على الأراضي والعقارات في الناصرية وجوارها. [55] كان سجاد وخمسة من أصدقائه في طريقهم إلى المستشفى عندما أوقفتهم شاحنة صغيرة بدون لوحات ترخيص. خرج ما بين سبعة وتسعة مسلحين مجهولين من السيارة. قال أحد الشهود، منتظر عبد الكريم، الذي كان مع سجاد في السيارة في تلك الليلة: "بدت المحنة وكأنها استغرقت ست ثوان، حطموا نافذة السيارة، وأخذوا هواتفنا".[56]
كما أشار الشهود على اختطاف سجاد، الذين كانوا معه حينها، إلى أن سائق سيارتهم كان على الأرجح طرفا في الجريمة. قال باسم فليح حسن (43 عاما)، صديق آخر كان في السيارة مع سجاد وأصيب برصاصة في ساقه أثناء اختطافه: "رفعنا قضية ضده [السائق]. لكننا سمعنا أنه خارج العراق الآن".[57] زعم عدة شهود أن السائق المتهم وشقيقه مرتبطان بالجماعة المسلحة "فيلق بدر"، التابعة لقوات الحشد الشعبي.
قال عبد الكريم: "قدمنا كل هذه المعلومات إلى العديد من مؤسسات الأمنية الحكومية [من أجل الدعوى القضائية]، المؤسسات التي ينبغي أن تتحمل المسؤولية، لكن لم يكن هناك تحرك جاد من قبلهم، ولم نحظَ بتواصل مع لجنة رئيس الوزراء". يصر هؤلاء الشهود على أنهم قدموا معلومات عن القضية إلى ست مؤسسات أمنية حكومية على الأقل: "الشرطة الاتحادية والمحلية، ووحدات الاستخبارات التابعة لوزارة الداخلية؛ "جهاز مكافحة الإرهاب" و"جهاز الأمن الوطني" التابعان لمكتب رئيس الوزراء؛ أمن محافظة ذي قار؛ والمخابرات الاتحادية. قال عبد الكريم: "كل ما فعلوه هو إجراءات روتينية".
ما يزال سجاد مفقودا. تعرف أم سجاد كل الشائعات حول أين يمكن أن يكون سجاد. [58] يعتقد بعض أصدقائه أنه قُتل، وألقيت جثته في نهر الفرات، أو ربما دفن على يد من قتلوه. يأمل آخرون أنه محتجز في سجن سري. لا أحد متأكد. رغم تلقيها تهديدات تطالبها بسحب الشكوى الجنائية بشأن اختطاف ابنها، بقيت أم سجاد صامدة. قالت بأسى: "اعتنيت به طوال حياته، أريد فقط أن أعرف ما حدث له".[59]
في 2 يوليو/تموز 2022، أفادت مجموعة متنوعة من مصادر التواصل الاجتماعي العراقية أن رئيس الوزراء آنذاك الكاظمي تلقى تقريرا يؤكد مصير سجاد. أشار التقرير إلى أنه قتل بعد اختطافه في قضاء سيد دخيل إلى الشرق من الناصرية.[60] إلا أن "التقنية من أجل السلام"، وهي منظمة عراقية تعمل على التحقق من الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، لم تتمكن من تأكيد هذه الشائعات.[61] استشهدت المنظمة بتصريح من مكتب محافظ ذي قار ينفي أن يكون لديه أي أخبار عن مصير سجاد، كما نقلت عن عباس شقيق سجاد إنكاره وجود أي تحديث بشأن حالة سجاد أو مكانه. ما يزال مصيره مجهولا.
تشير القضايا التي تناولها هذا القسم من التقرير إلى أنه رغم الاهتمام الأولي من السلطات بقضايا العنف ضد المحتجين، بإجراءات منها أخذ إفادات الشهود وجمع الأدلة الأخرى كمقاطع الفيديو، تبقى القضايا القانونية متأخرة بيد الشرطة والمحققين القضائيين. حتى في حالة رِهام يعقوب، فإن القضية التي وصلت في النهاية إلى المحكمة في وقت سابق هذا العام لم تكن بشأن اغتيالها في 2020، بل كانت بشأن تهديد صدر ضدها قبل اغتيالها بشهور.
كما تشير تفاصيل هذه القضايا إلى أنه مثلما تورط أفراد أمن الدولة في أعمال عنف ضد المحتجين المشاركين في انتفاضة 2019-2020، فقد يكونون متورطين أيضا في اغتيالات مستهدِفة، لأسباب منها على يبدو الانسحاب من المناطق قبيل تنفيذ اغتيال أو محاولة اغتيال لناشط فيها. تساعد الصلات المحتملة بين مؤسسات الأمن التابعة للدولة وما تسميه العائلات المنكوبة بـ "خلايا الاغتيال" في تفسير كيف ولماذا يظل المسؤولون عن تحقيق المساءلة غير مهتمين في النهاية بتنفيذها.
تعويض ناجح؟
إلى جانب المساءلة عن العنف ضد المحتجين، وعد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي أيضا بتقديم تعويضات إلى المحتجين وعائلاتهم – عائلات كل من المتظاهرين القتلى والمصابين.
عملت حكومة الكاظمي على تقديم تعويضات إلى العائلات التي قُتل أقاربها خلال الاحتجاجات. تُعطى دفعة لمرة واحدة للعائلات من خلال مؤسسة الشهداء العراقية، التي تأسست في 2005 لتقديم تعويضات إلى عائلات ضحايا نظام صدام حسين.[62] في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بعد أيام من بدء الانتفاضة، أعلنت الحكومة آنذاك برئاسة عادل عبد المهدي أن المحتجين الذين قُتلوا خلال المظاهرات سيُعتبرون شهداء؛ هذا التصنيف سيؤهل أسرهم للحصول على مخصصات من مؤسسة الشهداء. [63]
قال مسؤول حكومي كبير لـ هيومن رايتس ووتش إنه كانت هناك معارضة في البدء من البعض في مؤسسة الشهداء للمشاركة في دفع تعويضات لأسر المحتجين. ترجع هذه المعارضة إلى أسباب منها الرغبة في تجنب خلق تصور أنه يوجد تكافؤ بين القتل في الماضي والحاضر.[64] لكن حكومة مصطفى الكاظمي عززت تبني تسمية "شهيد" بعد توليها السلطة. بالإضافة إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق في مقتل المحتجين، أعلنت حكومة الكاظمي أنها ستقدم الرعاية الطبية إلى المحتجين المصابين، مع إعطاء المصابين بجروح خطيرة حق العلاج الطبي في الخارج وتغطية جميع النفقات من قبل الحكومة. [65]
وفقا للحكومة العراقية، تلقت 509 عائلات محتجين منحة الشهيد البالغة 10 ملايين دينار عراقي (6,850 دولار أمريكي)، كما تلقت المنحة 17 عائلة من عائلات القتلى من قوات الأمن.[66] بالإضافة إلى الدفعة لمرة واحدة، تتلقى عائلات القتلى راتبا شهريا من إدارة هيئة التقاعد الوطنية العراقية.
أحرزت حكومة الكاظمي تقدما في تعويض عائلات المحتجين الذين قُتلوا. لكن بالنسبة للمحتجين المصابين، فتجربتهم أكثر تعقيدا. تلقى العديد من المحتجين المصابين بجروح خطيرة تعويضات عن إصاباتهم، لكن بعد فترات انتظار طويلة وجهود مكثفة. اضطر بعض المحتجين المصابين إلى توكيل محام بتكلفة باهظة للتعامل مع الإجراءات البيروقراطية مع المؤسسات العامة، بما فيها مؤسسة الشهداء. كما لم تخصص الهيئات والوزارات العامة الأخرى ذات الصلة – أو لم يُسمح لها بتخصيص – الموارد الكافية للمساعدة في جهود تعويض المصابين. [67]
في مقابلة مع هيومن رايتس ووتش، أصر مسؤول حكومي كبير على أن حكومة الكاظمي أوفت بتعهدها بتقديم تعويضات إلى عائلات القتلى – بدليل تلقي أكثر من 500 عائلة تعويضات. وفقا للمسؤول، في نهاية مارس/آذار 2022، كانت هناك 112 قضية أخرى قيد التعويض. [68] لكن عدد المصابين الذين تلقوا تعويضات غير معروف، وبقدر ما تستطيع هيومن رايتس ووتش التوصل إليه، لم يُرصد المصابون على غرار القتلى الذين رُصدوا للتعويض.
كما يبدو أنه لا توجد مجموعة موثقة من الإجراءات لكيفية مطالبة المحتجين المصابين بتعويضات حكومية في المقام الأول. ولكن وفقا لممثل الحكومة، توجد عملية لعائلات القتلى للمطالبة بالتعويض. تتكون هذه العملية من خمس خطوات على الأقل: تسجيل وفاة شخص لدى الشرطة ووزارة الداخلية؛ التأكيد مع "وزارة الصحة" على سبب وفاة الشخص، مثلا بالذخيرة الحية؛ تسجيل قضية المتوفى أمام القضاء؛ رفع القضية إلى لجنة حقوق الإنسان المختصة بالشهداء التابعة للحكومة؛ وإجراء تحقيق في الوفاة/القتل بواسطة محققين حكوميين، بالتعاون أحيانا مع أجهزة المخابرات العراقية. [69]
هذا التنقل بين المؤسسات ليس غريبا على الإجراءات البيروقراطية في العراق. لكن بسبب غياب الوضوح والتسهيلات في إجراءات التعويض، فقد غاب الاتساق عن خطة التعويض التي وفرتها السلطات العراقية للمحتجين المصابين المؤهلين للحصول على تعويض مالي. كما أثرت هذه الجهود بدورها على جودة رعاية المصابين. لطالما كان ضعف مرافق ومؤسسات الصحة العامة العراقية مصدر شكوى من المواطنين، بمن فيهم المحتجون.[70] وبالتالي، لم يتمكن العديد من المتظاهرين المصابين بجروح خطيرة من تلقي علاج مناسب ومستمر داخل البلاد، ما يجعل عددا كبيرا من المصابين مؤهلين للعلاج في الخارج على نفقة الدولة على ما يبدو.
لكن بعض المصابين قالوا لـ هيومن رايتس ووتش إنه رغم إصاباتهم الخطيرة، حرمتهم السلطات الصحية العراقية فعليا من تلقي العلاج الطبي في الخارج. في الوقت نفسه، اكتشف أولئك الذين حصلوا على الموافقة وسافروا إلى الخارج للعلاج أن وزارة الصحة العراقية أرسلتهم إلى مستشفيات غير مجهزة إطلاقا لتزويدهم بالرعاية الكافية لعلاج إصاباتهم. [71]
زعمت الحكومة العراقية إحراز تقدم في تعويض عائلات القتلى. لكن هذه النجاحات المزعومة ساعدت في إخفاء آليات التعويض غير الكافية للآلاف الذين ما زالوا يعيشون مع إصاباتهم، وكثير منهم أصيبوا بها على أيدي قوات الأمن التابعة للدولة والجماعات المسلحة المرتبطة بقوات الحشد الشعبي.
علي كامل في الناصرية
بعد حوالي خمسة أشهر من المظاهرات والاعتصامات في وسط العراق وجنوبه، اكتسب العديد من المحتجين الشباب مكانة بارزة بين أبناء وطنهم، لا سيما في المدن الأصغر مثل الناصرية. أحد هؤلاء النشطاء كان الطالب علي كامل (20 عاما). كان حاضرا باستمرار في الاحتجاجات في ساحة الحبوبي وقرب جسر الزيتون. في 22 فبراير/شباط 2020، كان علي يشارك في الاحتجاجات تحت الجسر، قرب مبنى ديوان حاكم المحافظة.[72] يومها، كما فعلَتْ سابقا، فتحت قوات الأمن التابعة للدولة النار على المحتجين، فقتلت علي برصاصة في الصدر. [73]
وفقا لوالد علي ومن حضروا الاحتجاجات ولم يشهدوا مقتل علي، كان لمؤسسات الأمن المختلفة التابعة للدولة قوات حاضرة أثناء الحادثة، بما فيها شرطة مكافحة الشغب، والشرطة الاتحادية العراقية، وقسم الاستجابة للطوارئ، وكلها تابعة لوزارة الداخلية. وفقا للحاضرين يومها، كانوا جميعا يرتدون الزي الرسمي. يصر النشطاء على وجود مقاطع فيديو، التقطت من منزل قريب، تُظهر عناصر الشرطة الاتحادية يفتحون النار على الحشد.
أصر كامل، والد علي، على أن "هناك صور واضحة للغاية" من المقاطع. "رفعنا قضية ضد الشرطة الاتحادية وقدمنا الفيديو المصور من المنزل إلى المحكمة". لم تتمكن هيومن رايتس ووتش من العثور على هذه المقاطع. لكن وفقا لكامل، اعترف ثلاثة أو أربعة عناصر شرطة بفتح النار يومها، واعتقلتهم لجنة رئيس الوزراء المختصة بالتحقيق في أعمال العنف ضد المحتجين. لا يعرف كامل إذا ما كان عناصر الشرطة هؤلاء قد اتُهموا، أو أُدينوا، أو حُكم عليهم مقابل أفعالهم. المحققون من بغداد "جاؤوا وغادروا الناصرية، ولم يقابلوا الشهود حتى".
إلا أن كامل تلقى تعويضا حكوميا عن مقتل ابنه بعد تقديم الوثائق، بما فيها شهادة وفاة علي التي تنص على وفاته برصاص حي في القلب. تلقى 10 ملايين دينار عراقي (6,850 دولار أمريكي) من مؤسسة الشهداء. كما يتلقى دفعة شهرية قدرها 900 ألف دينار عراقي (615 دولار) من هيئة التقاعد العراقية.
سيف في بابل
سافر سيف سلمان (27 عاما) إلى بغداد من بابل للمشاركة في استئناف الاحتجاجات في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019. روى لـ هيومن رايتس ووتش ما يتذكره عن تحركاته وزملائه المحتجين يومها، وكيف واجهوا جميعا أعمال عنف من رجال يرتدون ملابس سوداء بالكامل ويحملون بنادق الغاز المسيل للدموع مصوبة نحو المتظاهرين. [74] كما كانت قوات الأمن التابعة للدولة ضالعة في الهجمات. [75]
لاحقا ذلك اليوم، احتل سيف ورفاقه المحتجون الجسر الجمهوري الذي يربط ساحة التحرير بمدخل المنطقة الخضراء. "كنا سبعة على الجسر، وأصبنا جميعا. كنت الثالث". أصيب سيف بقنبلة غاز مسيل للدموع – إصابة مباشرة في ساقه اليمنى. استقرت العبوة في ساقه. "كان الغاز ما يزال يخرج من ساقي وهي فيها".
سارع أصدقاؤه إلى نقله إلى "مستشفى الشيخ زايد"، الملاصقة لساحة التحرير جنوبا. "عرف الأطباء فورا أنه ليس بمقدورهم إجراء الجراحة التي أحتاج إليها". بعد نقله إلى مستشفى ثانٍ لم يستطع بدوره علاجه، وصل سيف أخيرا إلى "المدينة الطبية"، وهي مستشفى كبير ومجمع طبي في شمال بغداد.
خضع سيف في الأيام التالية لسبع عمليات جراحية في ساقه. لكنها جميعها لم تعالج الضرر. قال: "كانت الغرغرينا تنتشر، والرائحة فظيعة". وافق سيف أخيرا على البتر.
رفع سيف ورفاقه المتظاهرون دعوى قضائية ضد كبار سياسيي الحكومة، الذين حملّوهم المسؤولية النهائية عن العنف والإصابات التي تعرضوا لها. لم يتم أي تقدم في القضية، على غرار القضايا السابقة التي نوقشت في هذا التقرير، مع غياب التواصل من المحاكم بشأن التقدم في شكواه.
تلقى سيف دعما طبيا من منظمة "أطباء بلا حدود"، التي عملت لتزويده بأطراف صناعية عالية الجودة وعلاج فيزيائي للمتابعة أثناء تعافيه.[76] بينما لم يحصل أي تقدم في قضيته أمام المحاكم، أبلغته السلطات أنه مؤهل للحصول على تعويض وأن مؤسسة الشهداء تولت قضيته لمراجعتها. في حالات الإصابة، تبدأ مطالبات التعويض بالأوراق والموافقات من مؤسسة الشهداء، والتي تحيل بعد ذلك مطالبات التعويض إلى هيئة التقاعد الوطنية.
رغم ذلك، استمر تأخير القضية التي رفعها سيف للمطالبة بالتعويض لأسباب منها تعدد الجهات الحكومية المعنية بالتحقق من الطلب – مؤسسة الشهداء، و"جهاز الأمن الوطني"، ووزارة الصحة، والشرطة المحلية، وسلطات المحاكم المحلية.[77] دفعت التأخيرات البيروقراطية سيف في النهاية إلى توكيل محام. قال مُصرّا: "إذا لم توكّل محاميا، لن يحرز طلبك أي تقدم".[78]
أخبره محاميه أنه لكي تتم معالجة دعواه بشكل أسرع، سيتعين على سيف دفع "رسوم" إضافية أو رشاوى للسلطات والمؤسسات المعنية. قال سيف: "بدون المال والواسطة، ستظل تنتظر تحت أشعة الشمس". وافق سيف على دفع الرسوم الإضافية.
في أبريل/نيسان 2022، بعد حوالي عامين ونصف من فقدان ساقه لمجرد الاحتجاج، تلقى سيف تعويضا عن إصابته. اعتُبرت إصابته خطيرة، ومنحت مؤسسة الشهداء سيف 36 مليون دينار عراقي (24,650 دولار أمريكي) كدفعة لمرة واحدة. لكن بعد احتساب أتعاب محاميه والرشاوى التي دفعها، قال سيف إنه حصل على نصف المبلغ فقط.
اللجنة الطبية التي قيّمت إصابات سيف أعطته إحدى أعلى نسب العجز التي تقدمها، وهي عملية حسابية تتناسب مع إصابة الفرد. تقييم الـ 90٪ الذي حصل عليه سيف يعني تلقيه 1.2 مليون دينار عراقي شهريا (820 دولار). يستخدم سيف معظم هذه الأموال لدفع تكاليف الرعاية الطبية المستمرة. "أسافر إلى بغداد مرة في الأسبوع لتلقي العلاج الطبيعي. أدفع 100 ألف إلى 150 ألف دينار عراقي أسبوعيا للعلاج (70-100 دولار أمريكي)".
تشير قضية سيف إلى أن بعض المحتجين المصابين بجروح خطيرة تلقوا تعويضات. لكن سيف لم يتلقَّ أمواله إلا بعد عامين ونصف من الانتظار، وبعد اضطراره إلى توكيل محام ودفع مبالغ، شكلت فعليا رشاوى، لمجموعة من السلطات المعنية بمعالجة طلبه. بدون دعم قانوني والدفع من تعويضه النهائي، كان سيف سينتظر وقتا أطول للحصول على نتيجة، دون أن يكون النجاح مضمونا.
نور الدين في بغداد
"كنا فقط نهتف ضد الحكومة". ما يتذكره نور الدين خالد لم يبدُ خطيرا. لكن التاريخ كان 25 أكتوبر/تشرين الأول 2019، اليوم الأول لاستئناف الاحتجاجات الحاشدة بعد ثمانية أيام من الاحتجاج الذي حدث في بداية الشهر. "كان هناك حاجز إسمنتي بيننا نحن المتظاهرين والشرطة. حوالي الساعة 10:50 صباحا، بدأت شرطة مكافحة الشغب بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع نحونا".[79]
قال نور الدين (23 عاما) إنه بعد عشر دقائق من بدء هجمات بالغاز المسيل للدموع، أصيب في عنقه بقنبلة غاز. قال: "نقلني متظاهرون آخرون في توك توك إلى مستشفى ابن النفيس. بقيت في العناية المركزة خمسة أيام فاقدا الوعي ليومين آخرين، قبل إخراجي أخيرا". لكن نور الدين اضطر للعودة إلى المستشفى بعد أربعة أيام من خروجه. قال: "اضطررت للخضوع لعملية جراحية أخرى لأن السوائل الكيميائية كانت تخرج من رقبتي بسبب الغاز المسيل للدموع".
خضع نور الدين لثلاث عمليات جراحية، إحداها في السليمانية في شمال العراق. ولكن نتيجة الهجوم بالغاز المسيل للدموع، أصيب بتلف عصبي دائم. "ذراعي الآن مشلولة، فلا يمكنني تحريك ذراعي اليمنى. كما عانيت من تلف في أعصاب الأحبال الصوتية". قدم نور الدين طلب تعويض عن إصاباته، ويتلقى الآن راتبا شهريا من هيئة التقاعد. لكن الحكومة التي يعتبرها مسؤولة عن إصاباته لم تلبِّ بعد احتياجاته الطبية.
قال نور الدين متحسرا: "أحتاج إلى عملية جراحية [لأحبالي الصوتية] لا يمكن إجراؤها إلا خارج العراق. لا أستطيع تحمل التكلفة. ذهبت إلى وزارة الصحة لطلب المساعدة لكنني لم أتلقّ شيئا. قال رئيس الوزراء إن الحكومة سترسل الجرحى إلى الخارج لتلقي الرعاية التي يحتاجون إليها والتي لا يمكنهم الحصول عليها هنا. آمل فقط أن تترجم الحكومة أقوالها إلى أفعال".
أحمد في الناصرية
نجا أحمد ستار جبار سمير (33 عاما) من الموت ثلاث مرات على الأقل. كانت الأولى في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بينما كان في خيمة احتجاج في ساحة الحبوبي. تحركت شرطة مكافحة الشغب لإخراج المحتجين، أولا بضربهم بالهراوات. قال إن "التقدم كان بطيئا" قبل أن يتصاعد. [80] أطلقت قوات أمن الدولة الغاز المسيل للدموع ثم الذخيرة الحية. أصيب أحمد في ساقه، وأخرجه أصدقاؤه من الساحة ونقلوه إلى المستشفى.
وقعت الحادثة الثانية في 10 يناير/كانون الثاني 2020، عندما احتل هو ومحتجون آخرون طريقا رئيسيا على جسر فهد. كانوا يعتصمون لأسبوع عندما اقتحمت قوات أمن الدولة، دون سابق إنذار، موقع الاحتجاج. "أصيب الصبي الذي بجانبي، مصطفى غزي، بالرصاص. في الواقع، قُتل يومها محتجان آخران اسمهما مصطفى".
بعد هذا الهجوم على المحتجين، رفع أحمد ونشطاء آخرون قضية ضد ضابط شرطة كبير في الناصرية حينها. يتذكر أحمد: "[أعرف] أنه كان هناك وأدار إجراءات الشرطة يومها، كان في مقدمة القوات". قدم شهود إفادات إلى الشرطة. كما تابعوا مع محكمة الاستئناف وأدلوا بأقوال ضد ضابط الشرطة.
لم تتقدم القضية. قال أحمد: "في المرة الأولى التي ذهبتُ فيها لتقديم شكوى ضده، هددني رجال الشرطة. قالوا لي إنه رئيسنا وقد نعتقلك لتقديم هذه الشكوى". وفقا لأحمد، بعد الحادث بقليل، نُقل ضابط الشرطة خارج الناصرية وفي النهاية إلى العمارة، حيث أصبح قائد شرطة محافظة ميسان. [81]
كانت المرة الثالثة التي كاد أن يُقتل فيها أحمد أثناء الاحتجاج في 21 أغسطس/آب 2020. عاد رفقة نشطاء آخرين إلى خيمة الاحتجاج في ساحة الحبوبي عندما انفجرت دراجة نارية مركونة على مقربة. أفقد انفجار الدراجة أحمد وعيه. بالكاد نجا وأصيب بضرر دائم في بصره.
سافر إلى بغداد للعلاج. أخبره الأطباء هناك أنه سيتعين عليه السفر إلى الخارج للخضوع لعملية جراحية لتحسين بصره. ناشد وزارة الصحة العراقية، لكن المسؤولين هناك خلصوا إلى أن أحمد لن يستفيد من العلاج الطبي في الخارج. سيتعين عليه تحمل تكاليف العلاج الطبي في الخارج بنفسه.
قال أحمد: "سافرت إلى إيران لإجراء عمليتين لعينيّ. بصري أفضل قليلا الآن. لكن كان علي دفع 10 آلاف دولار مقابل العلاج". وسعى للحصول على تعويض عن إصاباته ولم يتلقَّ بعد أي تعويض. قال متأسفا بشأن عملية تعويض الجرحى: "إنها مجرد ممارسة روتينية، وفي النهاية لن ينجح الأمر ولا يستحق المحاولة مرة أخرى". يرتبط شعور أحمد باليأس بشأن هذه الإجراءات بعدد العراقيين الذين هم في وضع مماثل: "لدينا الكثير من الأشخاص ذوي الإعاقة هنا، وهم بدون مساعدة. نحتاج جميعا إلى المساعدة والدعم".
توضح قضية أحمد ضرورة قيام السلطات العراقية بتحسين نظام التعويضات لآلاف العراقيين الذين أصيبوا نتيجة مشاركتهم في المظاهرات والاحتجاجات. إلا أن التقارير الأخيرة تشير أنه حتى العراقيين الذين سُمح لهم بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج الطبي، والذي تحملت كلفته الحكومة العراقية، لم يتلقوا الرعاية التي يحتاجون إليها. [82] أصيب أحد المرضى، وعد العزاوي، بالشلل بسبب رصاصة في ظهره. أُرسل إلى ألمانيا بسبب إصابته بالشلل، ولكنه اكتشف فور وصوله أن المستشفى التي أُرسل إليها مخصصة لرعاية المسنين، وليس الشلل.
في النجاح النسبي الذي حققته السلطات العراقية في تعويض ضحايا العنف ضد المحتجين، تركّزت جهودها بشكل كبير على عائلات القتلى. كما نجح بعض المحتجين المصابين في الحصول على تعويضات. لكن الذين نجحوا انتظروا في الغالب سنوات لتلقي الأموال؛ استسلم معظم الآخرين، لعلمهم أن تعيين محام لتسريع قضيتهم سيكون مكلفا جدا.
شكر وتنويه
أجرى البحث لهذا التقرير وكتبه فريق أبحاث العراق. ساهمت الباحثة الأولى في قسم الأزمات والنزاعات بلقيس والي في بحوث التقرير، وقدم متدرب في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الدعم في البحث. راجعت التقرير الباحثة السابقة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سارة الكيالي ونائب مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا آدم كوغل.
قدمت الباحثة الأولى في قسم حقوق المرأة روثنا بيغم مراجعة متخصصة. قدم نائب مديرة البرامج توم بورتيوس المراجعة البرامجية. قدّم المستشار القانوني الأول كلايف بالدوين المراجعة القانونية. أعدت التقرير للنشر منسقة أولة في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومسؤول المنشورات ترافيس كار.
تعرب هيومن رايتس ووتش عن امتنانها للمتحدثين في هذا التقرير، والناجين من العنف والعائلات التي فُقد أو قُتل أقاربها، والذين ما زالوا صامدين بمطالبتهم بالعدالة والمساءلة.