Skip to main content

لإنهاء أعمال القتل في ليبيا، ينبغي محاسبة الفاعلين

نُشر في: Manara Magazine
القوات المسلحة المتحالفة مع الحكومة المعترف بها دوليا تحارب جماعة مسلحة في طرابلس، ليبيا في 22 سبتمبر/أيلول 2018. © 2018 هاني عمارة/رويترز

في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، اتصل بي آمر ثوري ليبي من مصراتة مبتهجا ليخبرني شخصيا بأن مقاتلين ثوار أمسكوا بمعمر القذافي، الدكتاتور الليبي الذي حكم البلاد لفترة طويلة، بالقرب من مدينة سرت الساحلية، مسقط رأسه. أذكر أنني قلت له مذعورة: "أتمنى ألا يقتلوه". برأيي كان من المهم تحقيق العدالة على الجرائم التي ارتكبها القذافي. ساد الصمت على الطرف الآخر.

بعد بضع ساعات، ظهرت على شاشة التلفزيون اللقطات الأولى لجثة معمر القذافي الهامدة ونصف العارية. عومِل بوحشية وقُتل من قبل حشد من الناس. ظهرت معه أيضا في المشرحة المؤقتة جثة ابنه المعتصم، الذي قُبض عليه حيا وأعدِم في نفس اليوم في سرت من قبل مجموعة مسلحة أخرى.

في السنوات التالية، غالبا ما تذكرت ذلك اليوم كونه اليوم الذي تحطم فيه حاجز الخوف الذي فصل النخبة الحاكمة عن أي شخص آخر. كما كان ذلك مؤشرا على أن القتل دون عقاب سيصبح أمرا طبيعيا في ليبيا ولم يعد يقتصِر على فِرق الموت الوحشية التابعة للطاغية. منذ ذلك الحين، أصبح بإمكان أي شخص يحمل سلاحا أن يقتُل دون عقاب.

في واحدة من الحوادث الأخيرة، قُتلت حنان البرعصي في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في بنغازي على أيدي مسلحين ملثمين مجهولين. كانت حنان منتقدة جريئة لانتهاكات الجماعات المسلحة في شرق ليبيا، والتي تضمنت انتقاداتها مزاعم عن تفشي الفساد والاعتداء الجنسي. كانت في متجر في شارع مزدحم، في وضح النهار. شهدت ليبيا بعد موت القذافي فترة وجيزة من الهدوء. لكن منذ أن بدأ القانون والنظام بالانهيار في 2012، مرّت عمليات قتل لا حصر لها دون عقاب.

سلامٌ هشّ

لا يزال الحكم منقسما بين كيانين في ليبيا. حكومة "الوفاق الوطني"، المعترف بها من "الأمم المتحدة"، ومقرها طرابلس، تحظى بدعم الجماعات المسلحة في غرب ليبيا، وهي منطقة تخضع اسميا لسيطرتها. تدعم تركيا وقطر حكومة الوفاق الوطني بالسلاح والذخيرة والتدريب والمقاتلين الأجانب. أما خصم حكومة الوفاق الوطني فهي "الحكومة المؤقتة" التابعة "للقوات المسلحة العربية الليبية"، وهي جماعة مسلحة يقودها الجنرال خليفة حفتر. تعتمد القوات المسلحة العربية الليبية، المدعومة من روسيا والإمارات ومصر، على المقاتلين الأجانب. يُعدّ الدعم العسكري لأطراف النزاع انتهاكا لحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011 على ليبيا.

بعد حرب استمرت 14 شهرا من أبريل/نيسان 2019 إلى يونيو/حزيران 2020، تم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار على مستوى البلاد في 23 أكتوبر/تشرين الأول. تقود "بعثة الأمم المتحدة في ليبيا" حاليا عملية مصالحة مع "منتدى الحوار السياسي الليبي" للتفاوض بشأن هيكل حوكمة جديد وانتخابات وطنية مستقبلية. يضم المنتدى 75 مشاركا اختارتهم بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لتمثيل فئات مختلفة، رغم عدم تمثيل جميع المجموعات العرقية أو الاجتماعية. يستند الحوار السياسي إلى إطار عمل سابق يعود إلى ديسمبر/كانون الأول 2015 خلال محادثات سلام قادتها الأمم المتحدة بشأن ليبيا في الصخيرات، المغرب.

خفت حدة الاشتباكات حاليا، وهناك مفاوضات جارية. مع ذلك، لا يمكن التقليل من شأن هشاشة الوضع. تعتمد الجهات الفاعلة المحلية على الحكومات الأجنبية والشركات العسكرية الخاصة، التي تخوض صراعاتها بالوكالة في ليبيا. هناك الآلاف من المقاتلين الأجانب من سوريا والسودان وتشاد يحاربون مع طرفي الصراع.

يقول المحللون إن الحشد العسكري من كلا الجانبين مستمر ويمكن للأطراف العودة إلى القتال الفعلي إثر أقل استفزاز ممكن. رغم اتفاق وقف إطلاق النار وحظر الأسلحة، تستمر التدريبات والتمارين، بما في ذلك تدريب من قبل القوات الأجنبية، من كلا الجانبين.

عقدٌ وحشي

شهدت أجزاء مختلفة من البلاد نزاعات مسلحة متقطعة منذ نهاية ثورة 2011. رافق القتال الذي بدأ في أبريل/نيسان 2019 انتهاكات وتجاوزات حقوقية من قبل جميع الأطراف – الجماعات المسلحة والجهات الحكومية على حد سواء. انصبّ تركيز وسائل الإعلام الدولية في الأشهر الأخيرة على انتهاكات قوانين الحرب، بالنظر إلى أن النزاع المسلح كان في طرابلس وحولها. تشمل الانتهاكات ضربات جوية وغارات بطائرات مسيّرة غير قانونية، والقصف العشوائي الذي قتل مدنيين، والإعدامات غير القانونية، وتدنيس الجثث، وتدمير المباني المدنية. حددت "هيومن رايتس ووتش" أيضا استخداما مكثفا للألغام الأرضية المضادة للأفراد والأفخاخ المتفجرة المحظورة دوليا، واستخدام القنابل العنقودية من قبل القوات المسلحة العربية الليبية والقوات التابعة لها.

منذ 2011، تستمر الانتهاكات الحقوقية المنهجية وواسعة النطاق، بما في ذلك التهجير القسري لعشرات آلاف المدنيين والاحتجاز التعسفي طويل الأمد وآلاف الاغتيالات ذات الدوافع السياسية.

كانت السنوات بين 2012 و2014 دموية بشكل خاص، حيث كانت تحدث اغتيالات شبه يومية في شرق ليبيا استهدفت سياسيين وأعضاء سابقين في القوات المسلحة، ونشطاء، وقضاة ومدعين عامين، ما قد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية. أورد تقرير أعدته لجنة برلمانية ليبية 643 حالة قتل فردية في 2013 فقط.

غالبا ما يظل المهاجِمون مجهولي الهوية وتتقاعس السلطات المحلية عن التحقيق في جرائمهم ومقاضاتهم. في 2014، تتبعت هيومن رايتس ووتش ما لا يقل عن 250 عملية اغتيال ذات دوافع سياسية في شرق ليبيا، بما فيه مقتل توفيق بن سعود وسامي الكوافي – 18 و19 عاما على التوالي – على يد مهاجمين مجهولين في سبتمبر/أيلول 2014 في بنغازي. في 2014 أيضا، قُتلت سلوى بوقعيقيص، المحامية والناشطة الحقوقية الليبية البارزة، بالرصاص في منزلها في بنغازي في يونيو/حزيران 2014، على يد مجهولين. قُتلت فريحة البرقاوي، العضوة السابقة في البرلمان، وسلوى يونس الهنيد، المسؤولة السابقة في عهد القذافي، في مدينة درنة الشرقية على يد مهاجمين مجهولين في حادثتين منفصلتين.

ما يجمع كل هذه القضايا هو أن المهاجمين ظلوا مجهولي الهوية ولم تُحقق السلطات المحلية في هذه الجرائم وتلاحقها. غياب القيادة لوضع حد لأعمال القتل البشعة متغلغل على جميع مستويات إنفاذ القانون. أدت الانقسامات السياسية والوضع الأمني ​​المضطرب منذ 2012 إلى تقويض قدرة السلطات على التحقيق وإصدار أوامر التوقيف. علاوة على ذلك، كثيرا ما كان القادة العسكريون والمسؤولون في مناصب السلطة متورطين في الانتهاكات، وبالتالي لم يبدوا اهتماما كبيرا بالتحقيقات.

جوهر المشكلة

أجد أنه من غير المقبول بتاتا عدم قيام الشركاء الدوليين أصحاب النفوذ في ليبيا، بما في ذلك أعضاء أساسيون في "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة" – الولايات المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وروسيا – بإعطاء الأولوية لفرض عقوبات على الأفراد بسبب انتهاكات حقوقية لسنوات عديدة، وبالتالي تغييب المساءلة كليا. فما الحافز لوقف القتل؟

الرسالة التي يتلقاها حاليا من يرتكبون انتهاكات جسيمة، مثل القتل غير المشروع والتعذيب والاختفاء القسري، هي أنه لا يمكن المساس بهم. هذا الشعور موجود ليس فقط لدى العديد من الميليشيات في ليبيا التي أناطت بنفسها تفويضا مختلطا بالدفاع وإنفاذ القانون، بل أيضا لدى العصابات العادية، المُدججة بالسلاح، والعديد من المهربين والمتاجرين بالبشر المسؤولين عن البؤس والوضع اللاإنساني الذي يعاني منه المهاجرون وطالبو اللجوء واللاجئون.

وقف كبار القادة والمسؤولون المدنيون رفيعو المستوى في الشرق والغرب مكتوفي الأيدي بينما كانت الانتهاكات الجسيمة تُرتكب في مناطق سيطرتهم على مدى سنوات عديدة، ويبدو أنهم لا يهتمون بأن عدم تحركهم لوضع حد للانتهاكات قد يؤدي إلى محاكمتهم جنائيا بتهمة التواطؤ في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

غالبا ما أتساءل عما إذا كان من الممكن فعل شيء ما في وقت مبكر من المرحلة الانتقالية – بعد انتهاء الثورة وقبيل إجراء الانتخابات في 2012 – والذي كان من شأنه تغيير مسار البلد من حافة الانهيار الداخلي إلى بلد يكون فيه لسيادة القانون فرصة لتسود. يمكن القول إن أولئك الذين دعموا الإطاحة بالقذافي – بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة – لم يولوا احترام سيادة القانون اهتماما، الأمر الذي كان سيتطلب إنشاء نظام عدالة يضمن أن يُحاكم المسؤولين عن أسوأ الجرائم بنزاهة.

سمعت العديد من التبريرات على مر السنين من المحاورين الليبيين بأنه من غير العدل مقارنة قتل القذافي واغتياله بأي من الجرائم التي حدثت خلال فترة حكمه لأنها كانت "أفعالا فردية" قام بها أشخاص يائسون. كلما طرحت الأمر، يخبرني المسؤولون والدبلوماسيون أنه من بين جميع القضايا التي كان على المجلس الوطني الانتقالي التعامل معها في 2011، لم يكن تقديم قتلة القذافي إلى العدالة ببساطة من الأولويات.

استمرت هذه التبريرات للسلوك التعسفي والجرائم الخطيرة في الظهور عاما بعد عام مع تحوّل المقاتلين الذين كانوا ثوارا في 2011 إلى ميليشيات تعسفية. لا يحق لأي شخص أن يدعي مكانة أخلاقية سامية في بيئة لا توجد فيها عواقب للقتل والتعذيب والتهجير القسري والاختفاء القسري وغيرها من الفظائع.

ماذا بعد؟

المحاكم المحلية، التي تأثّرت بالانقسامات السياسية والنزاع المسلح، بالكاد تعمل في العديد من المناطق؛ وأعيقت إجراءاتها بسبب الانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية الواجبة. في بعض المناطق في الشرق والجنوب، انهار نظام العدالة الجنائية. منذ 2011، لم يُبتّ إلا في عدد قليل من القضايا التي تتعلق بأشخاص متهمين بجرائم خطيرة، مثل محاكمة مسؤولين سابقين من عهد القذافي التي بدأت في 2015 حكمت على ثمانية بالإعدام، ومحاكمة 2018 المتعلقة بنصب كمين لـ 146 متظاهرا ضد القذافي وقتلهم في منطقة أبو سليم بطرابلس وحُكم فيها على 45 بالإعدام. لكن في هذه المحاكمات وغيرها، وجدت هيومن رايتس ووتش انتهاكات جسيمة للإجراءات القانونية الواجبة، بما في ذلك الاعترافات القسرية، وسوء المعاملة، وغياب التواصل مع محامين.

لا تزال آليات المساءلة الدولية القائمة محدودة من حيث النطاق والفعالية. تتمتع "المحكمة الجنائية الدولية" بولاية للتحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في ليبيا منذ 2011. مع ذلك، لم تُصدر المحكمة سوى بعض مذكرات الاعتقال؛ بما في ذلك واحدة بحق محمود الورفلي، قائد "القوات الخاصة" في شرق ليبيا المتحالف مع القوات المسلحة العربية الليبية وحفتر. أما مذكرات التوقيف الأخرى التي تنتظر التنفيذ، فهي المذكرة الصادرة بحق التهامي خالد وهو مسؤول سابق في حكم القذافي لدوره في ثورة 2011، وسيف الإسلام نجل القذافي، أيضا بسبب جرائم ارتُكبت في حملة قمع الثورة. كلاهما حرّ طليق.

"البعثة الأممية لتقصي الحقائق بشأن ليبيا" والتي أنشأها مؤخرا "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة تتمتع بولاية للتحقيق في الانتهاكات الجسيمة في ليبيا منذ 2016. نظرا للوضع السائد والقيود العالمية المتصلة بتفشي فيروس "كورونا"، لم تؤسس البعثة أمانتها العامة بشكل كامل بعد.

تقاعَسَ المجتمع الدولي عن استخدام عقوبات الأمم المتحدة المفروضة منذ مدة، لا سيما ضد الأفراد الذين ارتكبوا انتهاكات حقوقية جسيمة منذ ثورة 2011. "لجنة الجزاءات المعنية بليبيا"، التي فوّضها مجلس الأمن الأممي، أدرجت ثمانية أشخاص فقط على قائمة العقوبات الفردية – اثنان من قادة الميليشيات وستة أفراد متهمين بالاتجار بالبشر. بالنظر إلى قلة الأسماء المدرجة على القوائم بالرغم من طول ولاية اللجنة، من المنصف أن نقول إن نظام العقوبات على ليبيا فشل في ردع الانتهاكات.

رغم وجود مزاعم بالفساد وشراء الأصوات، إلا أن هناك بعض الأمل في إحراز تقدم مع منتدى الحوار السياسي الليبي، الذي يتفاوض أعضاؤه حاليا حول إطار عمل للحوكمة وانتخابات مستقبلية. إذا نجحوا في تجاوز هذه المرحلة، سيتعيّن على الأعضاء الحرص على أن تكون تدابير المساءلة القوية ذات أولوية قصوى لأي سلطة مؤقتة قادمة. خارطة طريق "المرحلة التمهيدية للحل الشامل"، التي نُشرت مؤخرا، والتي اتفق عليها المنتدى بإشراف من الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني في تونس، لا تعالج بشكل كافٍ الخسائر   الحقوقية والإنسانية المدمرة بعد 15 شهرا من القتال المتهور.

تنص الخطة على دعم "عملية المصالحة الوطنية على أساس مبادئ العدالة الانتقالية وتعزيز ثقافة العفو والتسامح بالتوازي مع البحث عن الحقيقة والتعويض". لكنها لا تدعو بشكل لا لبس فيه إلى العدالة والمحاسبة على الجرائم الخطيرة، ولا تستبعد العفو عن الجرائم الخطيرة. افتقار الخطة بشكلها الحالي إلى بنود لتحقيق العدالة على وجه التحديد سيُعيق السلام الدائم.

يتطلب إنهاء الوضع الراهن إرادة سياسية وقيادة قوية (لمواجهة الخطاب المغلوط الذي غالبا ما يتم الاستشهاد به بأن العدالة تعترض تحقيق السلام). لن تكون هذه عملية سريعة وستعتمد على العديد من العوامل مثل قرارات الأطراف المحلية أو الأجنبية بشأن استئناف القتال. المطلوب اليوم هو مزيد من الشجاعة من أعضاء مجلس الأمن الأممي والسلطات الليبية للتراجع عن قبول واقع الجريمة، وتحميل الجناة عواقب القتل غير المشروع في ليبيا.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة