(القدس) ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن محاكمة عسكرية انتهت في 12 أغسطس/آب 2012 دون تحميل المسؤولية لأيّ كان لقتل أم وابنتها أثناء العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل على غزة في ديسمبر/كانون الأول 2008 ويناير/كانون الثاني 2009.
وقُتلت المرأة وابنتها عندما فتح جندي إسرائيلي النار على مجموعة من المدنيين الذين كانوا يحملون أعلامًا بيضاء كي يثبتوا أنهم من المدنيين. واختتمت الدعوى القضائية بعد أن اعترف أحد الجنود بأنه مذنب في "استخدام غير مشروع للأسلحة" دون أن يتم ربط ذلك بعمليات القتل المذكورة. وفي قضية مدنية، قامت إسرائيل بدفع تعويضات إلى عائلات المرأتين.
وقال إيريك غولدستين، نائب رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش "تحصل الجيش الإسرائيلي على أدلة قوية في عشرات القضايا على تورط جنوده في قتل فلسطينيين بطريقة غير مشروعة أثناء عملية "الرصاص المصبوب"، ولكنه أدان أربعة جنود فقط ولم يسجن أي منهم بتهمة القتل. إن عدم تحميل المسؤولية في ما بدا أنه جرائم ارتكبها جنود إسرائيليون يثير شكوكا كبيرة حول رغبة إسرائيل في محاكمة الجرائم التي ترتكبها قواتها".
وقال شهود لـ هيومن رايتس ووتش إن ريا أبو حجاج، وعمرها 56 سنة، قتلت هي وابنتها ماجدة أبو حجاج، 35 سنة، حوالي الساعة الواحدة من صباح 4 يناير/كانون الثاني 2009 بينما كانتا تحاولان مغادرة قرية جحر الديك قرب الحدود الإسرائيلية وسط غزة أثناء الهجوم الإسرائيلي. كما قالوا إن المرأتين التحقتا بمجموعة تتكون من 28 فلسطينيًا يحملون أعلامًا بيضاء بعد أن طلبت إذاعة إسرائيلية من المدنيين المغادرة وتقديم المساعدة الطبية لطفل أصيب بجروح بسبب قذيفة أصابت المنزل الذي كان يختبئ فيه ذلك اليوم.
وأضاف اثنان من بين الشهود الأربعة أنهما شاهدا جنديًا إسرائيليا يفتح النار من سلاح خفيف على المجموعة دون سابق إنذار، فأدى ذلك إلى إصابة المرأتين إصابات خطيرة، بينما لم يستطع بقية الشهود تحديد مصدر إطلاق النار.
كما قال الشهود لـ هيومن رايتس ووتش إن الجيش الإسرائيلي رفض السماح للفرق الطبية بدخول المكان بعد إطلاق النار. وقال ماجد أبو حجاج، ابن ريا، لـ هيومن رايتس ووتش، إنه عاد إلى المنزل في 20 يناير/كانون الثاني فوجد جثتي أمه وأخته في الشارع. وأضاف: "كانت الجثث لا تزال هناك، وقد دهست دبابة جثة ماجدة. وفي اليوم التالي، قدم إلينا جيراننا وجلبوا لنا رجلها [المبتورة]. بينما كانت جثة والدتي لا تزال في الساحة، وقد تغطى جزء منها بالتراب".
وقامت منظمات حقوقية إسرائيلية، وبعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة، وصحافيون مستقلون بتوثيق الحادث. ولم يسعى الجيش إلى تبرير إقدام جنوده على إطلاق النار سواء بزعم إن القوات الإسرائيلية كانت تتعرض للهجوم أو أن المرأتين كانتا تمثلان تهديدًا ما.
ووجه المدعي العام العسكري الإسرائيلي تهمة إلى أحد الجنود بقتل شخص فلسطيني بشكل متعمد في المنطقة التي قتلت فيها المرأتين، ولكنه قال انه لم يتمكن من تحديد هوية الضحية. وفي 12 أغسطس/آب، قام الادعاء بإغلاق القضية ضد الجندي، وتم إسقاط تهمة القتل العمد بعد أن اعترف هذا الأخير بتهمة أقل خطورة تتمثل في "الاستعمال غير المشروع للأسلحة" لإطلاق النار من بندقيته الهجومية دون إذن.
وقضت المحكمة العسكرية بحبس الجندي، الذي تم تعريفه بالرقيب "س"، من لواء غيفاتي التابع لقوات الدفاع الإسرائيلية، لمدة 45 يومًا، وهو الجندي الإسرائيلي الثاني الذي يقضي عقوبة بالسجن بسبب أعمال ارتكبها أثناء الهجوم على غزة سنة 2008ـ2009 الذي يبدو أن القوات الإسرائيلية ارتكبت خلاله انتهاكات لقوانين الحرب. وقامت إسرائيل بسجن جندي آخر لمدة سبعة أشهر ونصف بتهمة سرقة بطاقة ائتمان من أحد الفلسطينيين.
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن المدعي العام ومحامي الجندي قالا إنه لا توجد أدلة قاطعة على أن إطلاق النار تسبب في قتل المرأتين لأنه توجد فوارق في الروايات التي قدمها الشهود الفلسطينيون والجنود الإسرائيليون للمحققين العسكريين، بما في ذلك تاريخ إطلاق النار. ويبدو أن مكتب المدعي العام لم يتخذ أي خطوات إضافية لإعادة مساءلة الشهود الفلسطينيين للمساعدة على تجاوز التناقضات رغم أن منظمة حقوقية إسرائيلية، كانت قد ساعدت في الحصول على شهادات الفلسطينيين، دعت المحققين العسكريين إلى القيام بذلك في يوليو/تموز 2010 عندما قام الجيش الإسرائيلي بنشر ملخص موجز للقضية.
وقالت هيومن رايتس ووتش إن هذه القضية تبرز وجود عيوب كبيرة في المنظومة القضائية العسكرية في إسرائيل. وفي يوليو/تموز 2012، قالت صحيفة هآرتس: "كما هو الحال في عديد القضايا الأخرى، لم يتم الإبلاغ عن سلسلة القيادة في مستويات أعلى من الكتيبة واللواء" في عملية القتل التي وقعت في يناير/كانون الثاني 2009، وأن مكتب المحامي العام للجيش، المسؤول على محاكمة الجنود عند ارتكاب جرائم، "لم يعلم بعملية القتل إلا بعد أن رفع فلسطينيون دعوى قضائية عن طريق منظمات حقوقية". وكانت منظمة بتسليم الحقوقية قد بعثت برسالة في هذا الغرض إلى المحامي العام للجيش الإسرائيلي في مايو/أيار 2009. وفي يوليو/تموز 2010، قام المدعون العسكريون بتوجيه تهم إلى الجندي "س".
وتوصلت هيومن رايتس ووتش إلى أن التحقيقات العسكرية الإسرائيلية في ما بدت أنها انتهاكات لقوانين الحرب أثناء الهجوم على غزة لم تكن سريعة وشاملة ومحايدة. كما فشلت التحقيقات في مراجعة السياسات التي أذنت بها المستويات العليا من قيادة البلاد السياسية والعسكرية التي ربما أدت إلى حصول انتهاكات لقوانين الحرب، بما في ذلك قواعد الاشتباك المزعوم الذي أدى إلى إطلاق النار على المدنيين، وإطلاق قذائف مدفعية شديدة الانفجار في مناطق مأهولة بالسكان، والتدمير الواسع للمتلكات المدنية.
وفي النظام العسكري الاسرائيلي، في كثير من الحالات، لا تتم محاكمة الجرائم المزعومة إلا إذا قام جنود من الوحدة المعنية بإبلاغ ضباط في سلسلة القيادة بوقوع الحادث. وقالت هيومن رايتس ووتش إن هذا النظام لا يؤدي إلى التبليغ عن الأحداث التي يجب فتح تحقيق جنائي فيها لأن الضباط والجنود الذين يعملون تحت إمرتهم ربما يكونون جميعًا ضالعين في نفس الانتهاكات. كما أن هذا النظام يؤدي إلى تأخير التحقيقات الجنائية التي لا يمكن الشروع فيها إلا بعد الانتهاء من إجراءات التبليغ، وتُعرف بـ "ببيان المعلومات العملي". إضافة إلى ذلك، توجد مشكلة أخرى تتمثل في أن "بيانات المعلومات" تهدف بشكل أساسي إلى التدريب على استخلاص الدروس ولا يُشرف عليها محققون جنائيون.
وفي يوليو/تموز 2010، قال الجيش إنه فتح تحقيقًا بعد ما علم بعمليات القتل. ووجه المدعي العسكري إلى الجندي "س" تهمة إطلاق النار دون ترخيص والقتل العمد لفلسطيني مجهول الهوية في جحر الديك في 4 يناير/كانون الثاني 2009، بحسب تقرير حكومي إسرائيلي، ولكن لم يتم التأكد من هوية الشخص الذي قتله الجندي "س". كما أشار التقرير إلى وجود "تناقضات" بين التقارير العسكرية الأولى وتقارير أخرى.
وفي 6 يوليو/تموز 2010، قال مكتب المتحدث باسم الجيش إن جنودًا تم استجوابهم قالوا إن حادث إطلاق النار أدى إلى مقتل شخص فلسطيني في 5 يناير/كانون الثاني 2009 بينما قال شهود فلسطينيون إن الحادث وقع يوم 4 يناير/كانون الثاني. وساهم هذا التناقض في النتيجة التي توصلت إليها المحكمة والتي مفادها أنه لا يوجد دليل على أن المرأتين قتلتا عندما قام الجندي "س" بإطلاق النار.
وقالت منظمة بتسليم، التي ساعدت الشهود الفلسطينيين على الإدلاء بشهاداتهم للجيش الإسرائيلي، إنها راسلت المدعي العسكري عندما تحدث الجيش عن وجود تناقض للمرة الأولى، وطلبت من المحققين اتخاذ خطوات أخرى لتحديد التاريخ، ولكن المدعي العام لم يتصل بالشهود الفلسطينيين للاستماع إليهم مجددًا وتوضيح التناقضات الموجودة.
كما قالت صحيفة هآرتس إن محامي الجندي "س" أكدوا أن لا احد كسب الدعوى، رغم أن منظمة بتسليم قدمت للجيش شهادات وفاة المرأتين.
وفي 1 أغسطس/آب 2011، وافقت إسرائيل على دفع مبلغ 500 ألف شيكل (123 ألف دولار أمريكي) كتعويض لعائلة أبو حجاج في قضية مدنية تم رفعها بعد مقتل المرأتين. ونتيجة لذلك، قامت العائلة، ممثلة في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة، بإغلاق ملف القضية. وقالت هيومن رايتس ووتش إن التعويض المدني لضحايا الجرائم الدولية لا يعفي الدولة من التزامها بمحاكمة قواتها على خلفية قتل شخص مدني بشكل متعمد.
وبإدانتها للجندي "س"، أدانت المحاكم العسكرية أيضًا أربعة جنود بارتكاب انتهاكات لقانون الجيش الإسرائيلي أثناء الهجوم على غزة سنة 2008ـ2009. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2009، قضت محكمة عسكرية بتخفيض رتبة جنديين اثنين والسجن لمدة ثلاثة اشهر مع وقف التنفيذ لأنهما أرغما طفلا مدنيا على فتح حقيبة كانا يعتقدان أنها مفخخة (ولم تكن كذلك).
وفي قضية أخرى، قامت محكمة عسكرية إسرائيلية بتوبيخ قائد في لواء جيفاتي لأنه "تجاوز سلطته" وأذن بشن هجوم مدفعي أصاب المقر المركزي لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين في مدينة غزة في 15 يناير/كانون الثاني 2009. ولم يكن يوجد في ذلك المبنى أي عنصر من عناصر المجموعات الفلسطينية المسلحة. ولكن هذه القضية العسكرية اهتمت فقط باستعمال قذائف مدفعية شديدة الانفجار دون محاكمة القائد على السماح باستعمال ذخيرة الفسفور الأبيض في الحادث، وهو ما تسبب في أضرار بليغة لمجمع الأمم المتحدة. وفي ذلك الوقت، كان مئات الأشخاص المدنيين يحتمون داخل المكان.
وفي مايو/أيار، برأت محاكم عسكرية إسرائيلية نفس القائد من تهم "القصد الجنائي" أو "الإهمال" بسبب إصدار أوامر بشن هجوم على منزل مدني لم يكن يحتمي بداخله عناصر من المجموعات المسلحة في 5 يناير/كانون الثاني 2009. وتسبب الهجوم في مقتل 21 شخصًا من عائلة السموني. ولكن الجيش لم يحقق في تقارير حول منع قيام قواته بمنع الطواقم الطبية من الوصول إلى الجرحى الفلسطينيين في المكان لمدة ثلاثة أيام بعد الهجوم. وفي وقت لاحق، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي حاولت الحصول على ترخيص من القوات الإسرائيلية لوصول المساعدة الطبية، إنها وجدت أطفالا دون أكل أو شراب قرب جثث إبائهم وأمهاتهم.
كما وثقت تحقيقات أجرتها منظمات حقوقية إسرائيلية وفلسطينية ودولية حالات عديدة لما بدت أنها انتهاكات ارتكبتها القوات الإسرائيلية أثناء النزاع، وتسببت في مقتل مئات المدنيين الفلسطينيين. كما وثقت هيومن رايتس ووتش عمليات قتل أخرى في حق مدنيين يحملون أعلام بيضاء، والتدمير الوحشي للممتلكات المدنية، والقصف العشوائي بالفسفور الأبيض للمناطق الآهلة بالسكان، والعديد من الانتهاكات الأخرى. كما وثقت انتهاكات ارتكبتها المجموعات المسلحة في غزة في حق فلسطينيين آخرين وهجمات صاروخية عشوائية تسببت في مقتل ثلاثة مدنيين اسرائيليين. ولم تقم سلطات حماس بمحاكمة أي شخص بسبب الانتهاكات الخطيرة لقوانين الحرب، ولكن ذلك لا يعفي إسرائيل من واجب مقاضاة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة.
وقال إريك غولدستين: "يجب على إسرائيل إصلاح نظام العدالة الجنائية العسكرية المعطّب بضمان محاكمة الأفراد العسكريين الذين يُشتبه في ضلوعهم في ارتكاب انتهاكات دون تأخير، وعلى المدعين العامين والمحاكم جمع الأداة بكل جدية. وإذا كان حلفاء إسرائيل جادين في سعيهم إلى تحقيق سلام طويل المدى في المنطقة، فيجب عليهم الضغط من اجل ضمان المساءلة في عمليات القتل غير القانونية، بغض النظر عمن هم الجناة".