إنه وقت الغداء في بلدة صغيرة قرب مدينة طرابلس شمال لبنان، داخل شقة ضيّقة متداعية، تُعدّ أميرة الغداء لزوجها وأطفالها الستة. وجبة متواضعة لا تكفي لملء 8 بطون جائعة. هناك بعض الطماطم، وقليلا من الخبز الناشف، وبيضة واحدة مع بعض الخضروات .
فُتح الباب، ودخل علي الشقة. بدا عليه الانهاك، وذلك مفهوم، فهو في منتصف ورديته التي تمتد على 12 ساعة في ورشة محليّة لإصلاح السيارات التالفة. إنها مهمة صعبة وتتطلب جهدا بدنيّا مع ساعات عمل طويلة بأجر زهيد لا يتجاوز 16 دولارا أمريكيا في الأسبوع. لكن عائلة علي بحاجة إلى كل قرش. إنهم لاجئون من سوريا، ويكافحون من أجل تغطية نفقاتهم. يبلغ علي 12 سنة من العمر، ولكنه معيل الأسرة.
تهتمّ أميرة بابنها الصغير، وتقدّم له صحن الطعام حال قدومه. يمنعه تعبه من شكرها بشكل مناسب أو الحديث إليها، ويلتهم غداءه بصمت. ثم يبدأ في رواية قصته.
يصف علي كيف هربت عائلته من القصف في قريتهم قرب حمص عام 2013. كان والده يعمل قبل الحرب سائق شاحنة توصيل، وكانت الحياة مريحة. كان علي (ليس اسمه الحقيقي) وإخوته وأخواته الخمسة يذهبون إلى المدرسة، وكان متفوقا في دراسته. أحبّ المدرسة وكان جيداً خاصة في اللغة الإنغليزية.
يعمل علي الآن سبعة أيام في الأسبوع لإعالة أسرته في لبنان، وأصبحت المدرسة في سوريا ذكرى بعيدة. يعمل بدون توقف على هذه الحال منذ سنتين.
كان مغطى بأوساخ ورشة العمل، ولديه وسخ كثير تحت اظافره، ولطخت الشحوم قميصه وسرواله الجينز. يبدو انه استسلم لمصيره. قال متنهدا: "أنا أعمل ولا أذهب إلى المدرسة، ماذا تريدني أن أقول؟ هذا هو حالي".
بعد الغداء ومقابلة قصيرة، ذهب علي من جديد، ولن يعود إلا بعد غروب الشمس.
محمود (ليس اسمه الحقيقي) والد علي، يفضّل طبعا أن يعمل بنفسه على أن يعتمد على دخل ابنه الشاب. بحث عن عمل لعدة أشهر ولكنه لم يجد أحدا على استعداد لتشغيله دون تصريح إقامة ساري المفعول.
خلص تقرير جديد لـ هيومن رايتس ووتش إلى أن السلطات في لبنان تُصعّب على نحو متزايد عملية تجديد اللاجئين السوريين إقاماتهم، وتركت عشرات السوريين دون وضع قانوني وعرضة للإساءة والاستغلال. لا يستطيع البالغون العثور على عمل دون أوراق رسمية في كثير من الأحيان، والعديد من أرباب العمل اللبنانيين على استعداد لتوظيف الأطفال اللاجئين لأنهم أقل أجرا وأسهل للاستغلال من والديهم، ولا يُرجّح أن يلفتوا انتباه السلطات.
من الواضح أن والديّ علي يشعران بالألم والعار الشديد لأن ابنهما هو من يعيلهما، ولكن ليس لديهم أي خيار.
إيجار الشقة الصغيرة التي تسكن فيها العائلة 200 دولار في الشهر، ولم يدفعوا الإيجار منذ 5 أشهر. إذا لم يعمل علي، ستُرمى الأسرة في الشارع. الغذاء هو مصدر قلق دائم. تحاول أميرة إطعام الجميع مرتين في اليوم، ولكن في نهاية الشهر، عندما ينفذ المبلغ الصغير الذي يحصلون عليه من الأمم المتحدة، تأكل الأسرة وجبة واحدة في اليوم. يشتري محمود الخضار الذي يوشك أن يفسد من متجر محلي بسعر مخفض. هذا هو كل ما يستطيعون تحمّله. شراء الخبز الطازج غير وارد على الإطلاق.
قال محمود: "عندما يأتي علي إلى المنزل من العمل يبكي ويقول ‘لا أريد أن أعمل، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل’؟ فأقبّله على خده ويده وأطلب منه التحلي بالصبر".
ليس لـ علي وسيلة لفرض حقوقه كعامل، دون عقد رسمي. وقع في أحد الأيام في ورشة العمل قضيب حديدي على رأسه فأصيب في أذنه إصابة بالغة، ولكن علي ووالديه يعرفون أن الذهاب إلى مستشفى المدينة ليست فكرة جيدة. قال علي: "فقدت الوعي تقريبا، ولكن لم أحصل على رعاية طبية. هناك نقطة تفتيش دائمة على الطريق، ولم أستطع السفر لأنني لا أحمل تصريح إقامة". لو أوقِف علي لاحتُجِزت الأسرة.
هذا الخوف من الاعتقال صعّب على محمود العثور على عمل. عندما وصل لأول مرة من حمص، قضى محمود شهرا يمشي أميالا كل يوم باحثا عن عمل من أي نوع، أي شيء لإعالة أسرته. ولكن دون وضع قانوني، كان دائما معرّضا لخطر التوقيف عند نقطة تفتيش والاعتقال، لذلك نادرا ما يغادر المنزل حاليا.
يعاني محمود أيضا من مرض السكري وضعف البصر. إلا أنه لا يستطيع شراء كل الأدوية التي يحتاجها، لذلك فهو يحاول أن يبقي الأدوية أطول فترة ممكنة. يتناول الحبوب في بعض الأحيان وليس يوميا.
قال محمود: "هذه ليست حياة بشر، بل حياة حيوانات".
عائلة محمود هي مجرد واحدة من عائلات كثيرة أصبحت حياتها لا تطاق بسبب العقبات التي تحول دون تجديد تصاريح الإقامة التي فرضتها السلطات اللبنانية. يُدفَع اللاجئون غير الشرعيين إلى التواري عن الأنظار، بعد أن فرّوا من الحرب والاضطهاد. يتعرضون للفقر والاستغلال وتدني الأجور، والتحرش الجنسي بالنسبة للنساء.
لا يستطيعون رفع دعاوى لدى السلطات. يشارك عديد الاطفال اللاجئين، مثل علي، في عمالة الأطفال الخطرة بدل الذهاب إلى المدرسة، يتعرضون لخطر الإصابة، ويحرمون أيضا من التعليم. إذا سهّلت الحكومة اللبنانية قليلا قوانين تجديد الإقامات، سيخفف ذلك إلى حد كبير من محنة اللاجئين في البلاد.
بالإضافة إلى الفقر والعيش في ظلّ الخوف من الاعتقال، يعاني اللاجئون دون وثائق في لبنان من الظروف المتغيرة وغير المواتية.
يتذكر علي في حمص، كيف كان يستحم مساء، ويرتدي ثياب النوم ويذهب إلى السرير. ولكنه يذهب اليوم إلى النوم مغطى بالشحوم والوسخ.
قال محمود: "في سوريا، أحبّ علي ركوب دراجته ولعب كرة القدم. كان يضحك دوما مع أصدقائه. كنت أعطيه مصروفه، فيذهب إلى المتجر لشراء وجبات خفيفة وموز طازج": "هنا في لبنان، هو فقط يعمل ويبكي".