منذ 33 عاما، في سبتمبر/أيلول 1982، وقعت مذبحة بحق عدد كبير من الفلسطينيين في مُخيميّ صبرا وشاتيلا للاجئين على يد عناصر ميليشيا الكتائب، وسط تواطؤ إسرائيل ودعمها. تتراوح تقديرات عدد الضحايا من 700 إلى عدة آلاف.
خلُصت لجنة كاهان الإسرائيلية، المُكلفة بالتحقيق في المذبحة، إلى أن وزير الدفاع حينها آرييل شارون، يتحمل المسؤولية الشخصية عن السماح لعناصر الكتائب باقتحام المُخيمين دون اتخاذ تدابير لمنع المذبحة. أُجبر على الاستقالة من منصبه كوزير للدفاع، إلا أنه اُنتخب رئيسا للوزراء فيما بعد. مات شارون عام 2014. لم يمثُل أمام العدالة، رغم الجهود الحثيثة التي لم يُكتب لها النجاح في نهاية المطاف، لمُحاكمته في بلجيكا بموجب قوانين البلد الشاملة.
تم اتخاذ إجراء تأديبي بحق عاموس يارون، الذي قاد غرفة عمليات الجيش الإسرائيلي على سطح بناية على مسافة 200 مترا من مُخيم شاتيلا؛ أُبعد عن الأدوار العملية لمدة 3 سنوات عقب تقرير لجنة كاهان، إلا أنه تولى منصب المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية عام 1999.
لم تُخضع إسرائيل مسؤوليها للمُساءلة على الإطلاق، إلا أن لبنان لم يفعل سوى القليل من أجل تسليط الضوء على دور الجُناة اللبنانيين. خلُصت لجنة كاهان في ظل غياب تحقيق لبناني إلى أن وحدة الكتائب التي اقتحمت المُخيم كانت إحدى وحدات الاستخبارات، بقيادة إيلي حبيقة. أخبر يارون لجنة كاهان أن حبيقة لم يدخل إلى المُخيم بنفسه، بل ظل على سطح غرفة العمليات طوال الليل. وأخبر جندي إسرائيلي تواجد على سطح البناية لجنة كاهان أنه سمع أحد عناصر الكتائب يتحدث إلى حبيقة من داخل المُخيم عبر جهاز لاسلكي، ويخبره بوجود 50 امرأة وطفلا، ويسأله ما يجب عليه القيام به. جاء في الإفادة أن رد حبيقة عبر جهاز اللاسلكي كان: "هذه المرة الأخيرة التي تسألني فيها مثل هذا السؤال. أنت تعلم تحديدا ما يجب عليك القيام به".
ومع ذلك، تم انتخاب حبيقة بعد الحرب عضوا بالبرلمان لدورتين، وتقلد مناصب وزارية عدة مرات. ولم يتم التحقيق في جرائمه – خاصة دوره في صبرا وشاتيلا – على الإطلاق، سواء في لبنان أو في أي مكان آخر. اغتيل عام 2002. وقبل مقتله بيوم واحد، كان حبيقة قد أخبر زائرَين من أعضاء مجلس الشيوخ البلجيكي عن عزمه على التوجه إلى بروكسل، للإدلاء بشهادته في قضية شارون أمام المحكمة البلجيكية. حتى الآن لم تُحدَّد هوية من قتل حبيقة، وهو رجل له أعداء كُثر.
لم يكن حبيقة الوحيد الذي أفلت من العدالة في لبنان. استفاد أمراء الحرب اللبنانيون، على غراره، من العفو العام الذي صدر مع انتهاء الصراع عام 1990، وقاموا، مثلما فعل، باستبدال الملابس العسكرية بثياب مدنية فاخرة وحقائب وزراية. ومنذ نهاية الحرب، أخفقت إلى حد بعيد محاولات الانقلاب على إرث لبنان من الإفلات من العقاب في خلق أي زخم.
لم يُرفع نُصب تذكاري وطني لضحايا الحرب من المدنيين حتى الآن، ولم تُشكَّل لجنة من أجل توفير الإجابات لأهالي المفقودين بشأن مصير أحبائهم؛ كما تُلاحَق المذابح العديدة قضائيا. وفي أحد الجهود الحثيثة القليلة لمُلاحقة عناصر الميليشيات قضائيا عن عمليات الاختطاف في زمن الحرب – قضية مُحي الدين حشيشو، المفقود منذ أكثر من 30 عاما – رفضت محكمة لبنانية الدعوى لعدم كفاية الأدلة في سبتمبر/أيلول 2013.
تحدى بعض النشطاء والمُفكرين هذه الحالة من فقدان الذاكرة الجماعي من خلال إنتاجهم الفني. على سبيل المثال، حكى فيلم وثائقي من إخراج مونيكا بورغمان ولقمان سليم قصة مذابح صبرا وشاتيلا عبر شهادات 6 من عناصر ميليشيا الكتائب السابقين، الذين شاركوا فيها. ورغم ذلك، ظلت بشكل عام هذه الجهود الهامة مجرد صرخات لا صدى لها.
جُزء من التحديات المفروضة في لبنان هو كيفية التعامل مع ميراث عنف الماضي، في ظل مواجهة حاضر يشهد عنفا غير مسبوق. كيف يتسنى مُحاسبة جُناة الماضي في حين تمر جرائم أحدث دون عقاب، مثل الجولات الجديدة من الاقتتال السياسي في مايو/أيار 2008، أو الجولات الأحدث في طرابلس.
حتى الآن، قد يكون السبيل الوحيد للخروج من الدائرة المُغلقة للعنف والإفلات من العقاب في لبنان هو التعامل مع الماضي وجها لوجه. فات أوان مُحاسبة حبيقة، إلا أن الوقت لم يفت بعد لطرح الأسئلة بشأن دوره ودور رجاله في المذبحة. مثل هذه الأسئلة عن الماضي هي بمثابة خطوة أولى ضرورية لإنهاء حالة الإفلات من العقاب والتهاون المُتفشية في البلاد.
بدا من الميئوس منه تقريبا، حتى بضعة أسابيع مضت، أن نتوقع أي تعبئة شعبية حول مثل هذه القضايا في الواقع السياسي المُتشظي في لبنان. ولكن الحركة الشعبية التي ظهرت مؤخرا حول أزمة النفايات، بما تنطوي عليه من مطالبات لطبقة سياسية فاسدة بالمُحاسبة والشفافية، تبعث برسالة قوية: لم نفقد الأمل بعد. من غير المُتوقع أنّ مُجرمي الحرب، الذين قتلوا وأفلتوا من العقاب في الماضي، سيحكمون بمسؤولية في الحاضر.