Skip to main content

تونس: يجب إصلاح الإطار القانوني لمحاكمة جرائم الماضي

أول قضية تعذيب تُبرز الحاجة إلى إلغاء العراقيل التي تحول دون المساءلة

(تونس، 3 مايو/أيار 2012) ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن أول قضية تتعلق بالتعذيب بعد خلع زين العابدين بن علي تؤكد ضرورة معالجة النقائص التي تعاني منها المنظومة القانونية في تونس والتي تحول دون المحاكمة الفعلية  لجرائم التعذيب . ومن المُرجح أن تُرفع العديد من دعاوى التعذيب ضد الرئيس السابق ومساعديه، وخاصة مع إقدام ضحايا آخرين على رفع شكاوى جديدة.

وقامت هيومن رايتس ووتش بدراسة أول قضية تتعلق بالتعذيب والمنظومة القانونية وإجراءات التقاضي الحالية، وقالت إن الدراسة خلصت إلى تحديد مجموعة من المسائل التي يجب على تونس معالجتها لتحقيق العدالة لضحايا جرائم فترة بن علي وغيرها من الفترات.

وقال إريك غولدستين، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "كان التعذيب منتشرًا في السجون التونسية خلال فترة حكم بن علي التي دامت 23 عاماً، وأثر ذلك على حياة آلاف الأشخاص. إن محاكمة جرائم التعذيب بشكل فعّال تتطلب إطارا قانونيًا ملائمًا، فضلا عن إرادة سياسية قوية للقضاء على الإفلات من العقاب".

في 12 أبريل/نيسان، خففت محكمة الاستئناف العسكرية أحكامًا بالسجن فرضت على عبد الله القلال، وزير الداخلية السابق، وثلاثة ضباط أمن بتهمة ممارسة "العنف ضد الآخرين". وأبقت المحكمة على أحكام بالسجن في حق بن علي وأربعة ضباط آخرين تمت محاكمتهم وإدانتهم غيابيًا بنفس التهم.

وقالت هيومن رايتس ووتش إن هذه القضية كشفت عن غياب الإرادة السياسية لدى السلطات التونسية للمطالبة بتسليم بن علي من المملكة العربية السعودية، ليمثل امام المحاكم التونسية في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان. وكان بن علي قد فرّ إلى السعودية في 14 يناير/كانون الثاني 2011.

وخلال فترة رئاسة بن علي، كانت السلطات تمارس التعذيب بشكل منهجي في جميع مراحل إجراءات التقاضي، من الاعتقال إلى الاستجواب إلى مراحل ما بعد الإدانة، وهو ما قامت منظمات حقوقية تونسية ودولية بتوثيقه بشكل شامل.

وتم إدراج عقوبة التعذيب في القانون التونسي سنة 1999، القانون عدد 89 المؤرخ في 2 أغسطس/آب 1999. ويتعين على المجلس الوطني التأسيسي في تونس ملاءمة القانون التونسي مع نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بالتنصيص على الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والإبادة الجماعية في القوانين التونسية الحالية. وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يمكن القيام بذلك إما بمراجعة المجلة الجزائية الحالية أو بإصدار تشريعات تنفيذية جديدة. كما يتعين على المجلس التأسيسي إدراج مختلف أشكال المسؤولية الجنائية التي يحددها القانون الجنائي الدولي في القانون التونسي.

وفي 12 أبريل/نيسان، خففت محكمة الاستئناف العسكرية الحكم بالسجن لمدة أربع سنوات الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة في تونس إلى سنتين فقط في حق عبد الله القلال، وزير الداخلية في حكومة بن علي بين 1991 و1995، ومحمد علي القنزوعي، مدير المصالح المختصة في وزارة الداخلية بين 1990 و1995، وضباط الأمن عبد الرحمان القاسمي ومحمد الناصر العليبي. وأبقت محكمة الاستئناف على الأحكام بالسجن لمدة خمس سنوات الصادرة في حق زين العابدين بن علي وأربعة متهمين آخرين أدينوا غيابياً.

وتمت إدانة جميع المتهمين "باستعمال العنف ضد الآخرين بشكل مباشر أو عبر أشخاص آخرين" سنة 1991 ضدّ 17 ضابطًا عسكريًا من أصحاب الرتب العالية ممن تم اعتقالهم واتهامهم بالتخطيط مع حزب حركة النهضة الإسلامي للإطاحة ببن علي. وينتمي جميع هؤلاء الضباط إلى مجموعة من المشتبه فيهم في قضية "براكة الساحل"، وهو اسم المدينة التي يُزعم أن المخططين كانوا يجتمعون فيها بشكل سري. ويُزعم أن مستجوبي هؤلاء الضباط عمدوا إلى إلحاق الأذى الجسدي بهم عن عمد، وهو ما يرقى إلى التعذيب بحسب القانون الدولي. ولكن الادعاء العسكري تخلى عن تهم التعذيب في مرحلة سابقة من المحاكمة.

وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يتعين على الحكومة التونسية تقديم طلب رسمي لاستلام الرئيس السابق من المملكة العربية السعودية كي تتم مساءلته عن انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة التي ارتكبت أثناء فترة حكمه. وبالإضافة إلى قضية براكة الساحل، يواجه بن علي محاكمات عسكرية أخرى بتهم قتل المتظاهرين أثناء الثورة التونسية، كما تمت إدانته غيابيًا في العديد من الجرائم المالية. ويتعين على السلطات التونسية أيضًا البحث عن الأربعة ضباط الآخرين الذين تمت إدانتهم باستعمال العنف في قضية براكة الساحل والذين لا يُعرف مكانهم بعد.

حددت البحوث التي قامت بها هيومن رايتس ووتش خمسة مجالات يجب على الحكومة التونسية أن توليها اهتمامًا كبيرًا كي تحقق العدالة في جرائم حقبة بن علي ولتفادي وقوع جرائم أخرى في المستقبل. ويتمثل المجال الأول في ضرورة تحقيق إرادة سياسية أقوى للمطالبة بتسليم بن علي.

أما المجال الثاني فيتمثل في جعل المحاكمات من اختصاص المحاكم المدنية عوض المحاكم العسكرية، كما تنص على ذلك المعايير الدولية. وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يجب على تونس أن لا تمنح المحاكم العسكرية صلاحية النظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات الأمن في حق المدنيين، كما هو الحال في قضية عبد الله القلال والمتهمين الآخرين. كما يجب أن تستجيب جميع المحاكمات إلى المعايير الدولية المتعلقة بتحقيق العدل، بما في ذلك تمكين المتهمين من فرصهم الكاملة للإعداد للقضية ومواجهة الأدلة والشهود المستعملين ضدهم.

وتتعلق المسائل الثلاثة الأخرى بتطبيق القانون:

  • مسؤولية القيادة ـ وتعني علم أحد المسئولين، أو حتمية علمه، بجريمة، دون أن ينجح في تفادي وقوعها، أو فشل في التحقيق مع مرتكبيها أو تقديمهم إلى المحاكمة. وكما هو الحال في محاكمة عبد الله القلال، يمكن للمتهمين في قضايا التعذيب مستقبلا إدراج مسؤولين من أصحاب الرتب العالية لم يمارسوا التعذيب بأيديهم، ولكنهم كانوا في مواقع تخول لهم منع وقوع الجريمة. ويجب أن يتضمن القانون الجنائي مفاهيم واضحة تتعلق بمسؤولية القيادة وتعكس المعايير الدولية، ويتعين على المحاكم تطبيقها في حالات التعذيب.
  • غياب الأثر الرجعي ـ وتعني ضرورة التنصيص على أن ارتكاب عمل ما، حتى لو لم يكن إجرامياً طبقاً للقانون الجنائي التونسي عند ارتكابه، يبقى مُجرّمًا بالقانون الدولي أو استنادًا إلى المبادئ القانونية العامة التي يعترف بها المجتمع الدولي. ولأنه لا يوجد في القانون التونسي ما يُجرم التعذيب في الوقت الذي تمت فيه ممارسته، أدانت المحكمة عبد الله القلال والمتهمين الآخرين "باستعمال العنف ضد الآخرين"، وهي جريمة أقل خطورة ولا تعكس خطورة الاعتداء الحاصل.
  • السقوط بالتقادم ـ ويعني ضرورة التنصيص على أن السقوط بالتقادم لا ينطبق على الجرائم الخطيرة مثل التعذيب. ورغم أن المحكمة أقرت ذلك في قضية عبد الله القلال، ولكن يجب التنصيص على هذه المسألة بشكل صريح في القانون التونسي.

وقال إريك غولدستين: "يجب الاستفادة من الدروس المستخلصة من هذه القضية، والأخطاء الفنية التي تم ارتكابها، لإصلاح الإطار القانوني الذي سوف يتم اعتماده مستقبلا في قضايا التعذيب في مرحلة حكم بن علي. ومن أجل تحقيق المساءلة المرجوة، يجب اعتماد منظومة جديدة في المحاكم لمقاضاة هذا النوع من الجرائم بما يضمن تحقيق العدالة للضحايا والمسؤولين على وجه السواء".

تُقدم هيومن رايتس ووتش في الورقة البحثية التالية عيوب الإطار القانوني المعتمد في محاكمة جرائم التعذيب، وهيومن رايتس ووتش في وضع لا يسمح لها بالتعليق على عدالة محاكمة عبد الله القلال و المتهمين الاخرين في هذه القضية، وهي مسألة أخرى.

خلفية عن القضية

تعود قضية براكة الساحل إلى سنة 1991، عندما قالت السلطات إنها كشفت عن مخطط يقوده عدد من الضباط للإطاحة بالرئيس بن علي وإقامة دولة إسلامية. وتم اعتقال 244 ضابطًا عسكريًا في الفترة الممتدة من مايو/أيار إلى يوليو/تموز 1991. وقال محسن الكعبي، رئيس جمعية إنصاف لقدماء العسكريين  ، لـهيومن رايتس ووتش إن العديد من هؤلاء الضباط تعرضوا إلى التعذيب على يد أعوان الأمن في مقر وزارة الداخلية.

وفي يوليو/تموز 1992، تمت محاكمة 171 ضابطًا أمام المحكمة العسكرية في تونس بتهم التآمر على أمن الدولة، وصدرت أحكام بالسجن المؤبد في حق 35 واحدًا منهم، بينما تراوحت أحكام البقية بالسجن لفترات بين سنة واحدة و24 سنة.

وفي أغسطس/آب 1991، قبل المحاكمة، أطلقت السلطات سراح بعض الضباط بعد أن اعتقلوا وعذبوا لمدة أشهر عديدة. وقال محسن الكعبي إنه رغم أن هؤلاء الضباط لم يُحاكموا ولم يُدانوا، قامت السلطات بطرد بعضهم من عملهم وعرّضتهم لمضايقة الشرطة لعدة سنوات.

وفي أبريل/نيسان 2011، بعد الثورة، رفع 17 متهمًا في قضية براكة الساحل دعوى بتعرضهم للتعذيب أمام محكمة مدنية. واتهمت الشكاية الأصلية بن علي ومسؤولين من وزارة الداخلية، بالإضافة إلى وزير الدفاع في تلك الفترة، بالتواطؤ في ممارسة التعذيب. وأحال قاضي التحقيق المدني القضية إلى المحكمة العسكرية على اعتبار أن المحاكم العسكرية لها صلاحية النظر في الجرائم التي يرتكبها ضباط عسكريون، كما ينص على ذلك الفصل 22 من القانون عدد 70 الذي ينظم القانون الأساسي لقوات الأمن الداخلي.

وكان قاضي التحقيق المدني قد بدأ التحقيقات اعتمادًا على الفصل 101 مكرر من المجلة الجزائية، الذي يعاقب جريمة التعذيب بالسجن لفترة قد تصل إلى ثماني سنوات. ولكن قاضي التحقيق العسكري قرر التخلي عن هذه التهم واعتبر أن الفصل 101 مكرر دخل حيّز التطبيق فقط منذ 1999 (قانون عدد 89 مؤرخ في 2 أغسطس/آب 1999)، ولذلك اعتبر تنفيذه خرقًا لمبدأ عدم وجود أثر رجعي للقانون الجزائي لأن حيثيات القضية تعود إلى سنة 1991.

وقامت المحكمة الابتدائية العسكرية بإدانة المتهمين اعتمادًا على الفصل 101 من المجلة الجزائية، الذي ينص على عقوبة السجن لمدة خمس سنوات في حق أي موظف عمومي "يرتكب بدون موجب، بنفسه أو بواسطة، جريمة التعدي بالعنف على الناس حال مباشرته لوظيفته". وعلى إثر الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بتخفيف عقوبة السجن إلى سنتين اثنتين، قال محامو المتهمين إنهم سوف يتقدمون بمطالب إلى محكمة التعقيب لإلغاء الحكم، على اعتبار أن فترة المحاكمة قد سقطت بالتقادم.

الدروس المستخلصة والمسائل التي يجب معالجتها في المحاكمات المتعلقة بالتعذيب مستقبلا

يجب أن تكون انتهاكات حقوق الانسان من اختصاص القضاء المدني

بعد خلع زين العابدين بن علي، قامت الحكومة الانتقالية بإصلاح نظام القضاء العسكري، وأدخل المرسوم عدد 69 المؤرخ في 29 يوليو/تموز 2011 ثلاثة إصلاحات أساسية:

  • تحسين ضمانات المحاكمة العادلة من خلال استحداث محكمة الاستئناف العسكرية، بعد أن كانت أحكام المحاكم الابتدائية العسكرية غير قابلة للمراجعة.
  • تعزيز استقلالية القضاء العسكري عن وزارة الدفاع بإدماج ممثلين عن القضاء المدني في المحاكم العسكرية، وضمان إمكانية مراجعة قرارات قاضي التحقيق العسكري من قبل محاكم الاستئناف في الجهاز القضائي المدني.
  • منح المدعي العسكري حق توجيه التهم دون الحاجة إلى موافقة وزير الدفاع.

وقالت هيومن رايتس ووتش إنه رغم أن هذه الإصلاحات من شأنها تعزيز عدالة واستقلالية المحاكم العسكرية، إلا أنها لا تستجيب للمعيار الدولي المتمثل في أن اختصاص المحاكم العسكرية لا يتجاوز الجرائم ذات الصبغة العسكرية البحتة.

دعت لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة جميع الدول الأعضاء في معاهدة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، إلى محاكمة الأفراد العسكريين المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان أمام المحاكم المدنية. وكتبت اللجنة في ملاحظاتها الختامية لسنة 1999 حول تقرير مقدم من شيلي: "من شأن الاختصاص الواسع الذي تتمتع به المحاكم العسكرية في نظر جميع القضايا التي يوجَّه فيها اتهام لأفراد عسكريين... أن يساهم في الإفلات من العقاب الذي يتمتع به هؤلاء الأفراد والذي يمنع عقابهم على انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة".

وأكدت اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، في قضية "سليمان ضدّ السودان"، أنه يجب على المحاكم العسكرية أن لا يتاح لها سوى اختصاص "النظر في الجرائم ذات الطبيعة العسكرية الخالصة" و"يجب ألا تتعامل مع الجرائم التي تُعتبر خاضعة للقضاء الطبيعي". إضافة إلى ذلك، تنصّ المبادئ المتعلقة بالحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في أفريقيا كما أعلنت عنها اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب على "ضرورة أن يكون الهدف الوحيد للمحاكم العسكرية تحديد الجرائم ذات الطبيعة العسكرية الخالصة التي يرتكبها أفراد عسكريون".

يجب التنصيص على تبعات مسؤولية القيادة

اعتمدت محاكمة عبد الله القلال ومحمد علي القنزوعي على مسؤوليتهم المزعومة عن سلوك قوات الأمن تحت قيادتهما زمن وقوع الأحداث. وأثناء المحاكمة، قال محامو الدفاع أن الادعاء لم يقدم أي أدلة على أن عبد الله القلال أو محمد علي القنزوعي أصدرا أوامر أو كانا ضالعين بأي شكل من الأشكال في ممارسة التعذيب، وأنه يوجه التهم إلى المتهمين فقط اعتمادًا على مسؤولياتهم السياسية دون إثبات قيامهم بمراقبة دقيقة لمنظوريهم  الذين قال المحامون إنهم كانوا يتلقون الأوامر مباشرة من الرئيس بن علي.

وبغض النظر عن الدور الحقيقي الذي لعبه عبد الله القلال ومحمد علي القنزوعي في هذه الأحداث، قالت هيومن رايتس ووتش إنه يتعين على المُشرّع التونسي مراجعة المجلة الجزائية لإدراج مبدأ مسؤولية القيادة في الجرائم الدولية بما يتناسب مع القانون الدولي. وتتفق قوانين المحاكم الجنائية الدولية على أن مسؤولية القيادة "هو مبدأ راسخ في القانون التقليدي والعُرفي" كما نصت على ذلك المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا سابقًا. إضافة إلى ذلك، يوجد نفس المبدأ في نظام روما الأساسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية التي انضمت إليها تونس سنة 2011.

ويفتقر القانون التونسي إلى التنصيص على مسؤولية أصحاب مراكز القيادة، وينص فقط على المسؤولية الجنائية التي يتحملها الأشخاص الضالعين بشكل مباشر في ارتكاب جريمة أو المشاركين في حدوثها. ويشرح الفصل 32 من المجلة الجزائية مفهوم "المشاركة" ليشمل تسهيل ارتكاب الجريمة بالمساعدة أو التحريض عليها، أو إصدار أوامر لارتكابها، أو التآمر مع الآخرين لتحقيق غاية جنائية.

هذه الأشكال من المسؤولية الجنائية لا تشمل المسؤولية المعروفة في القانون الدولي بمسؤولية أصحاب مراكز القيادة، وحيث لا يقوم صاحب المركز القيادي بإصدار أوامر أو تسهيل ارتكاب الجريمة، ولكنه بالضرورة على علم بالجريمة دون أن يمنع وقوعها أو يحيلها إلى التحقيق والمحاكمة.

وقالت هيومن رايتس ووتش إن تحقيق العدالة للمتهم والضحية على حد السواء يتطلب من المشرّع التنصيص بدقة أكبر على الملابسات التي يتحمل فيها صاحب مركز قيادي المسؤولية الجنائية على سوء سلوك مرؤوسيه. يتعين على القضاة التونسيين تطبيق المعايير التي تنص عليها معاهدة مناهضة التعذيب ولجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وتبني التعريف النهائي الذي تقدمه الاتفاقية لجريمة التعذيب.

ونصّت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، في تعليقها العام على اتفاقية مناهضة التعذيب على أن "أصحاب المراكز العليا، بما في ذلك الموظفين العموميين، لا يمكن لهم تجنب المساءلة أو الهروب من المسؤولية الجنائية عن التعذيب أو سوء المعاملة التي يرتكبها مرؤوسيهم، وحيث يكونوا على علم بوقوع السلوك غير السموح به أو على إمكانية حدوثه، دون أن يتخذوا الإجراءات الضرورية الكفيلة بمنعه".

إضافة إلى ذلك، يتطلب القانون الدولي، وعضوية تونس في المحكمة الجنائية الدولية، تبني مبدأ تجريم مسؤولية القيادة في التعذيب في الحالات التي تكون فيها ممارسة التعذيب منتشرة وممنهجة وتتوفر فيها المعايير المعتمدة لتحديد الجرائم ضدّ الإنسانية. وينص نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، على أن مسؤولية القيادة تعني مسؤولية القادة العسكريين والرؤساء المدنيين عن الجرائم التي يرتكبها عناصر القوات المسلحة أو أي شخص آخر يعمل تحت إمرتهم.

وقالت هيومن رايتس ووتش إنه من الضروري تحديد المفاهيم المناسبة للمسؤولية الجنائية على جميع المستويات، بما في ذلك مسؤولية الأشخاص التي تتجاوز الضلوع المباشر في ارتكاب الجريمة.

يجب إزالة العراقيل المتعلقة بعدم وجود أثر رجعي للقوانين أثناء محاكمات التعذيب

رغم أن تونس انضمت إلى اتفاقية مناهضة التعذيب منذ 23 سبتمبر/أيلول 1988، إلا أنها لم تصدر أي تشريع لمواءمة قوانينها مع نصّ هذه الاتفاقية إلى حدود سنة 1999. واعتبر قضاة قضية براكة الساحل أن محاكمة المتهمين بقانون سنة 1999 الذي يعرّف ويمنع جريمة التعذيب قد ينتهك المبدأ الذي يمنع الأثر الرجعي في تطبيق القانون الجنائي. واستنادًا إلى هذا المبدأ، لا يمكن إدانة أي شخص بسبب عمل لم يكن يُعتبر إجراميا عندما تم ارتكابه. ويهدف هذا المبدأ إلى حماية الأفراد من القرارات التعسفية التي تتخذها السلطات.

واعتمد القضاة في تحديد وقائع القضية على الفصل 101 من المجلة الجزائية، الذي يجرّم أعمال "العنف" دون أن يشير إلى التعذيب. وينص الفصل 101 على عقوبة بالسجن لا تتجاوز خمس سنوات ،ويصنف في القانون التونسي بالجنحة ولا ينتج عنه عقابًا مشددًا مثل جرائم التعذيب. ويوجد فرق بين جريمة التعذيب التي يعرفها القانون الدولي على أنها التسبب الإرادي في إلحاق الأذى والتعذيب بالآخرين ومفهوم العمل العنيف الذي ينص عليه الفصل 101. وتنص المادة 4 من اتفاقية مناهضة التعذيب على أن:

1. تضمن كل دولة طرف أن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، وينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأية محاولة لممارسة التعذيب وعلى قيامه بأي عمل آخر يشكل تواطؤا ومشاركة في التعذيب. .2 تجعل كل دولة طرف هذه الجرائم مستوجبة للعقاب بعقوبات مناسبة تأخذ في الاعتبار طبيعتها الخطيرة

كما تنص المادة 14 من اتفاقية مناهضة التعذيب على أن:

تضمن كل دولة طرف، في نظامها القانوني، إنصاف من يتعرض لعمل من أعمال التعذيب وتمتعه بحق قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب.

ومن شروط تمتع الضحية بحق التعويض وجود إطار قانوني يسمح بالاعتراف بأن الانتهاكات تمثل تعذيبًا. وتنص مسودة التعليق الحالي للجنة مناهضة التعذيب على أن "الدول الأعضاء مطالبة بإصدار تشريعات وإحداث آليات تشكي، وهيأت تحقيق ومؤسسات قادرة على تحديد حق الضحية وتمكينها من التعويض عن التعذيب وسوء المعاملة"، ولذلك فإن التشريعات الداخلية غير الكاملة تحول دون تمكين الضحية من الحق في التعويض.

وقالت هيومن رايتس ووتش إن النتيجة التي توصلت إليها المحاكمة تؤكد ضرورة التأكيد أن على جريمة التعذيب مُنعت في تونس منذ 1988 على الأقل. ويعتقد عدد متزايد من فقهاء القانون حول العالم أن مبدأ الأثر الرجعي في القانون الجنائي لا ينطبق على الأعمال المرتكبة التي لا يعاقب عليها القانون الداخلي لحظة وقوعها، ولكنها مجرمة في القانون الدولي أو استنادًا إلى المبادئ القانونية التي تعترف بها المجموعة الدولية.

وتؤكد المادة 15 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على مبدأ الأثر الرجعي، ولكنها أيضًا تنص على أنه "ليس في هذه المادة من شيء يُخل بمحاكمة أو معاقبة أي شخص على أي فعل أو امتناع عن فعل كان حين ارتكابه يُمثل جرمًا وفقًا لمبادئ القانون العامة التي تعترف بها جماعة الأمم".

لطالما تم اعتبار التعذيب جريمة في القانون الدولي، وتم التنصيص على ذلك في اتفاقية مناهضة التعذيب، التي انضمت إليها تونس سنة 1988. ولذلك يمكن اعتبار التعذيب مُجرّمًا في تونس منذ ذلك التاريخ بغض النظر عما إذا مذكورًا بشكل صريح في المجلة الجزائية أم لا.

يجب إلغاء مبدأ السقوط بالتقادم في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان

إن تنصيص القانون التونسي على فترة محددة يمكن خلالها فتح الملاحقة الجنائية على أعمال التعذيب يُعتبر تحديًا آخر أمام ضمان المساءلة. في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2011، ليلة الانتخابات، تبنت الحكومة الانتقالية تعديلا لأحكام المجلة الجزائية المتعلقة بالتعذيب، وأصبحت جريمة التعذيب تسقط بالتقادم بعد مرور 15 سنة من تاريخ ارتكابها.  وبعد انتهاء تلك الفترة يصبح من غير الممكن محاكمة  الجريمة. وقبل هذا التعديل، كانت جريمة التعذيب تسقط بالتقادم بعد عشر سنوات، مثل جميع الجرائم الأخرى. ولكن القانون الدولي لطالما نصّ على أن مبدأ السقوط بالتقادم لا ينطبق على انتهاكات حقوق الإنسان.

وفي قضية براكة الساحل، قال محامو الدفاع إن المتهمين يحق لهم التمتع بمبدأ السقوط بالتقادم الذي ينص عليه الفصل 5 من مجلة الإجراءات الجزائية لأن الجريمة المزعومة تم ارتكابها منذ أكثر من 20 سنة. ولكن المحكمة الابتدائية العسكرية رفضت هذا التبرير في الحكم الصادر في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، ولاحظت أن الفقرة الثانية من الفصل الخامس تنص على أن "مدة السقوط يُعلقها كل مانع قانوني أو مادي يحول دون ممارسة الدعوى العمومية".

وخلُصت المحكمة إلى أن السقوط بالتقادم لا ينطبق على هذه القضية لأن الضحايا لم يكونوا قادرين على رفع دعاوى خلال 20 سنة لأن المتهمين بارتكاب الجريمة كانوا يشرفون على جهازي الأمن والقضاء. ويساعد هذا التبرير القانوني، رغم أنه مكن من تجاوز معضلة السقوط بالتقادم، على إبراز ضرورة مراجعة النصوص القانونية التي تنص على هكذا مبادئ، وتوفيق أوضاع التشريعات التونسية مع القانون الدولي، والتنصيص على أن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم.

وانتقدت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، في تقاريرها السنوية، وجود تنصيص على سقوط جرائم التعذيب بالتقادم في القوانين الداخلية للدول الأعضاء، ودعتها إلى تعديل قوانينها الجزائية بما يضمن عدم سقوط جرائم التعذيب بالتقادم. وقالت اللجنة في تقريها لسنة 2009ـ2010 أن الأخذ في عين الاعتبار بالقواعد الآمرة (قواعد القانون الدولي العام المقبولة والمعترف بها من قبل المجتمع الدولي ككل والتي لا يجوز مخالفتها) يعني أن حظر التعذيب ومقاضاة أعمال التعذيب لا يجب أن يكون مقيداً بمبدأ الشرعية والسقوط بالتقادم.

إضافة إلى ذلك، تتفق مؤسسات مراقبة حقوق الإنسان الدولية على أن مبدأ السقوط بالتقادم لا ينطبق على الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان. على سبيل المثال، قالت محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان، في قضية "باريوس آلتوس" سنة 2010:

هذه المحكمة تعتبر أنه من غير المقبول سنّ نصوص قانونية خاصة بالعفو والسقوط بالتقادم ووضع إعفاءات من المسؤولية للتحقيق أو معاقبة المسؤولين عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من قبيل التعذيب، والإعدام الجماعي خارج نطاق القضاء، والاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، وجميع هذه الأعمال ممنوعة لأنها تتعارض مع حقوق غير قابلة للتصرف يعترف بها القانون الدولي لحقوق الإنسان.

الحاجة إلى إرادة سياسية أكبر لمتابعة تسليم بن علي

كشفت محاكمة عبد الله القلال عن غياب الرغبة السياسية لدى السلطات الانتقالية في تونس للضغط من أجل تسليم الرئيس السابق بن علي، الذي تنتظره قضايا أخرى في المحاكم العسكرية بتهم قتل المتظاهرين أثناء الثورة التونسية.

وبينما يوجد أمر توقيف دولي ضده، يتعين أيضًا على السلطات التونسية مطالبة المملكة العربية السعودية بتسليم الرئيس السابق الذي فرّ إلى هناك منذ يناير/كانون الثاني 2011.

ورغم أنه لا يوجد أي اتفاق ثنائي بين تونس والسعودية لتسليم المطلوبين للعدالة، فإن البلدين مقيدين باتفاقية مناهضة التعذيب، التي انضمت إليها السعودية سنة 1997. وتنص الفقرة الثانية من المادة الثامنة على أنه إذا تسلمت دولة طلبا للتسليم من دولة لا تربطها بها معاهدة لتسليم المجرمين، وكانت الدولة الأولى تجعل التسليم مشروطا بوجود معاهدة لتسليم المجرمين، يجوز لهذه الدولة اعتبار هذه الاتفاقية أساسا قانونيا للتسليم فيما يخص مثل هذه الجرائم.

وتمت إدانة بن علي بعديد الجرائم، وتراوحت بين اختلاس المال العام وحيازة مخدرات بشكل غير مشروع، كما تمت إدانته بقتل المتظاهرين في الأيام التي سبقت سقوطه. ولكن السلطات الانتقالية في تونس لم تطالب السعودية بتسليم بن علي، وقامت المحاكم التي تنظر في القضايا المرفوعة ضده بمحاكمته بشكل غيابي، وأصدرت في حقه أحكامًا بالسجن بلغت 60 سنة إجمالاً.

ومنذ أن تم تعيين حمادي الجبالي رئيسًا للحكومة، قال في مناسبات كثيرة إن تسليم بن علي ليس أولوية الحكومة المؤقتة. وفي 17 فبراير/شباط 2012 صرح حمادي الجبالي علي موجات راديو ساوا ، قبل زيارته إلى السعودية ، إنه لن يناقش تسليم بن علي مع السعوديين ونعت هذه المسألة بالثانوية وأنهل ليست من الأولويات.

وقالت هيومن رايتس ووتش إن رفض بذل جهود لتسليم بن علي، يحرم التونسيين من رؤية الشخص الذي يعتبره العديد منهم أول مسؤول عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان يمثل أمام المحكمة ليُعاقب على أعماله.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الموضوع

الأكثر مشاهدة