Skip to main content

أصدرت محكمة جنائية مصرية يوم 4 يونيو/حزيران حكمها بالسجن على 43 شخصا بتهمة الانتماء لمنظمات غير قانونية. ولقد كان ذلك السيناريو مألوفاً بالنسبة لأي شخص عمل في مجال حقوق الإنسان في ظل حكم حسني مبارك، حين كنا ننتقد بصفة منتظمة اعتقال المئات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وتقديمهم للمحاكمة بذات التهمة . غير أن المتهمين في هذه المرة هم عاملون مصريون وأجانب بمنظمات غير حكومية أمريكية وألمانية. القانون الدولي واضح في هذا الصدد إذ يقرر أنه ينبغي ألا يعتبر الانتماء لمنظمة غير مسجلة في حد ذاته  جناية.

ومع ذلك نجد أن آخر مسودة لقانون الجمعيات الجديد الصادرة عن مؤسسة الرئاسة المصرية  لن تمنع تكرار حكم 4 يونيو/حزيران. تدعي مؤسسة الرئاسة أن مسودة القانون الجديدة لا تتضمن عقوبات جنائية، إلا أنه ادعاء مضلـِّل. فالمسودة  تنص بوضوح أن العقوبات الواردة بالقانون  لا تخل بالعقوبات الأشد الواردة بقانون العقوبات. وبذلك تؤكد المسودة تطبيق مواد قانون العقوبات ذات الصياغة الملتبسة التي تجرم  الانضمام إلى أو إنشاء منظمة غير مرخصة، وتسمح  بمحاكمة الموظفين بتلك المنظمات لمجرد ارتيادهم اليومي لمكاتبهم.

مسودة مؤسسة الرئاسة الصادرة في 29 مايو/أيار تعد أفضل حالاً من المسودة المفزعة الصادرة عن وزارة العدل، وقد تحسنت الأولى شيئاً ما على مدى الشهرين المنصرمين. ومع ذلك فإنها ما انفكت تتسم بالقمعية البينة وتخرق التزامات مصر الدولية. وهذا التقييم هو تقييم تقني، وليس تقديراً سياسياً. فالاختبار الرئيسي لأي قانون جمعيات هو في ما إذا كان بمقدور المنظمات العمل بحرية دون تدخل من السلطة التنفيذية، وباستقلال مع حريتها في الحصول على مصادر تمويل تمكنها من البقاء.

لقد تتبعت مسار صدور قانون الجمعيات هذا على مدى عامين، وفي أبريل/نيسان 2012 كنت متفائلة بحذر إذ أن المسودة التي تقدم بها حزب العدالة والحرية فى وقتها لمجلس الشعب  اتسمت بالليبرالية نسبياً. إلا أنه بحلول شهر فبراير/شباط من العام الحالي، أي حين تقدم الحزب بمسودته الجديدة بعد مضي ثمانية أشهر من حكم الرئيس محمد مرسي، أصبح من الواضح أن اتجاهات الحزب قد تغيرت. فالمسودة الجديدة قد حوت في شأن المنظمات الأجنبية والتمويل الأجنبي بعضاً من أسوأ المواد المقتبسة عن المسودة التي أعدتها وزارة الشؤون الاجتماعية، التي كانت دائما إحدى جبهات عمل الأجهزة الأمنية التي تراقب المنظمات غير الحكومية.

مسودة الرئاسة تعزز وتقنن سيطرة الدولة على المنظمات غير الحكومية، وذلك بتمكينها السلطات من منع المنظمات من الحصول على التمويل سواء المحلي أو الدولي. ولقد أكدالمقرر الخاص المعني بالحق في حرية تكوين الجمعيات، حين كنت أتحدث خلال الأسبوع الماضي في  ندوة جانبية بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، أن الحق في تشكيل الجمعيات يسير جنباً إلى جنب بل ويعتمد على الحق في الحصول على التمويل. ذلك فيما تمنح مسودة مؤسسة الرئاسة لهذا القانون الحكومة سلطات غير مقيدة في رفض طلب أية منظمة تلقي التبرعات محلياً أو الحق في الحصول على التمويل الخارجي.

كذلك تمنح مسودة القانون السلطات حقاً مطلقاً فى الاعتراض على أي من أنشطة المنظمات المصرية أو الدولية. فإذا لم  تستجيب المنظمة يكون للحكومة أن تقاضيها أمام المحاكم.

وعلى النقيض لما ادعته مسؤولة بمؤسسة الرئاسة المصرية، فإن حق السلطات في الاعتراض هو حق غير مقيد طبقاً لنص هاتين المادتين كلتيهما. والشرط الوحيد المتطلب هو أن يكون الاعتراض "مسببا". وكثيراً ما رفضت الأجهزة الأمنية الحكومية تحت حكم مبارك طلبات التمويل الخارجي لمنظمات حقوق الإنسان لتنفيذ مشروعاتها، على التعذيب مثلاً،  لـ"أسباب أمنية" دون أى مبررات أخري،  وكان ذلك يعد كافياّ.

كذلك فإن مسودة القانون لا تشتمل على أية ضمانات حال قررت الحكومة شل حركة منظمة ما تقوم على مشروعات تتصل، لنقل مثلاً، بالزواج المبكر أو حقوق الأقليات الدينية، بحرمانها بصفة مستمرة من التمويل. بل إن مجتمع حقوق الإنسان في مصر  سيكون مؤذياً بصفة خاصة لأن التمويل الأجنبي كان دائماً بمثابة حبل النجاة إذ أن رجال الأعمال في عهد مبارك لم يكونوا ليجرؤوا على تمويل منظمات حقوق الإنسان.

في مقابل ذلك، فى مسألة تسجيل المنظمات المصرية، فإن مسودة القانون تمثل تحسنا عن القانون القائم. فالمسودة  تنص على أن للحكومة أن تعترض على التسجيل لسببين فقط: أن  تقوم المنظمة  بأنشطة ذات طابع عسكري، أو أن تكون أنشطتها بهدف الربح. ولو كانت مؤسسة الرئاسة راغبة في توخي الشفافية وفي أن تحمي فئات المجتمع المدني من التدخلات التحكمية فقد كان بمقدورها أن تحد بالمثل من سلطة الاعتراض على أنشطة المنظمات في إطار هذين الشرطين.

تعكس مسودة الرئاسة خوفاً عميق الجذور وغير مبرر تجاه دور المنظمات الدولية في مصر. ولقد طفا ذلك الخوف كذلك على سطح الأحداث خلال يناير/كانون الثاني 2011، حين داهم الجيش مركز هشام مبارك للقانون واحدة من أهم منظمات حقوق الإنسان واعتقل 27 من المدافعين عن حقوق الإنسان. وفي وقت لاحق من ذلك العام قامت السلطات بشن حملة المداهمات والتحقيقات بحق المنظمات غير الحكومية والتي أفضت في النهاية إلى الإدانات الثلاثة وأربعين التي صدرت في 4 يونيو/حزيران. إن مسودة القانون تعكس نفس نمط التفكير بمعاملتها لموظفي المنظمات غير الحكومية باعتبارهم عملاء محتملين لجهات أجنبية.

إن القانون الدولي لا يجيز للحكومات التمييز بين المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية. إلا أن مسودة القانون تؤسس لتشكيل لجنة تنسيقية يحتمل أن تضم أجهزة الأمن المصرية بين أعضائها بغرض رصد أنشطة المنظمات الأجنبية والتمويل الأجنبي. ويجوز أن تقيد تلك اللجنة بصورة تحكمية أنشطة المجموعات الدولية لأسباب مبهمة من قبيل "السيادة الوطنية" وهو اتهام تواتر استخدامه ضد الجماعات التي تنتقد صور انتهاك حقوق الإنسان في مصر.

بل وتنص المسودة كذلك بأنه على أية منظمة مصرية ترغب في التعاون مع إحدى المنظمات الدولية أن تخطر السلطات بذلك سلفاً. وعليها أيضاً أن تسعى للحصول على تصريح السلطات قبيل انضمامها إلى منظمة أو كيان دولي، بل إن الإخفاق  في تحقيق ذلك  يجعل المنظمة عرضة للعقوبات، ومن بينها الأمر القضائي بوجوب تجميد المنظمة لأنشطتها أو أن تتعرض للحل في نهاية الأمر.

لقد اتسمت العملية الانتقالية في مصر بالفوضى التي أخفقت خلالها حكومات متعاقبة من بينها حكومة الرئيس مرسي في تحقيق إصلاحات مؤسسية حاسمة أو معالجة قضيتي المحاسبة والعدالة الاجتماعية. فانتهاكات جهاز الشرطة تتواصل وقد شهدت مصر ارتفاعاً في عدد حالات الوفاة أثناء الاحتجاز واستخدام مفرط للقوة في التعامل مع المظاهرات، كما تواصل مسلسل الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة من قبل الشرطة والجيش. كما تصاعد عدد المحاكمات الجنائية بتهمتي التشهير وازدراء الأديان ، كذلك شرع البرلمان المصري في وضع مسودة لقانون قمعي للمظاهرات يعطي للشرطة حرية  مفرطة لتفريق المظاهرات بطريقة عنيفة.

لقد فقد المصريين منذ عامين الخوف من الدولة البوليسية التي أقامها مبارك. تلك الحقيقة لم تزل تبعث بأكبر الآمال في أنهم سوف يواصلون بإصرارهم مطالبة حكوماتهم بالعدالة الاجتماعية والإصلاح والمحاسبة؛ ليس فقط من خلال ممثليهم المنتخبين ولكن أيضاً على نحو جماعي من خلال جماعات تتراوح بين اتحادات بني الجيرة وحتى منظمات حقوق الإنسان كبيرة.   

إن قانون الجمعيات الذي يحترم حق التنظيم هو أمر أساسي لحماية قدرة مجتمع حقوق الإنسان على العمل بحرية. وهو كذلك أمر أساسي لتمكين منظمات تنموية من النوع الذي تحتاجه مصر بصورة ماسة، حيث تستمر الأزمة الاقتصادية في إلحاق شديد أذاها بفقراء هذا البلد. والأمر في نهايته هو خيار سياسي بيد الرئيس المصري، الذي لا يزال بمقدوره تغيير المسار.

هبة مُرايف هي المسؤولة عن ملف مصر في هيومن رايتس ووتش

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة