مع استمرار الهجمات العشوائية، يفر الملايين من المديين السوريين من منازلهم، بينما يُوسّع ما يُسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا باسم "داعش") المعلن ذاتيا، من أعمال القتل خارج سوريا والعراق. الخبر السار الوحيد القادم من أعنف صراع يجري في الشرق الأوسط يتمثل في بداية بروز ملامح لاتفاق ينهي الصراع، حيث أصدرت الجهات الخارجية الفاعلة في الحرب الأهلية في سوريا إعلانا يحدد المبادئ الأساسية تجاه وصول الفرقاء إلى تسوية سياسية أثناء محادثات جرت في فيينا أواخر أكتوبر/تشرين الأول. يدعو إعلان فيينا إلى تبني حكم علماني، وإنهاء وجود داعش و"باقي الجماعات الإرهابية"، والحفاظ على حدود ما قبل الحرب، وحماية الأقليات ومؤسسات الدولة، ومسائل أخرى. مع ذلك، فشل الإعلان في معالجة القضية الرئيسية المتمثلة في كيفية بناء الثقة اللازمة بين الأطراف المتحاربة لتحقيق هذه الأهداف. من الضروري البدء ببناء الثقة بين الأطراف مع استعداد المفاوضين لجولة جديدة من المحادثات في نيويورك أواخر ديسمبر/كانون الأول أو أوائل يناير/كانون الثاني، وخاصة من خلال المطالبة بوضع حد للهجمات ضد المدنيين التي تدفع بالسوريين إلى الهرب، وإقصاء المسؤولين عنها.
جوهر المشكل
بات من الواضح حاليا أن لا أحد من أطراف النزاع قادر على تحقيق الانتصار عسكريا. لم تتمكن قوات الرئيس السوري بشار الأسد من تحقيق تقدم كبير ضد المتمردين بالرغم من انضمام روسيا إلى الحرب ودعم حزب الله والقوات الإيرانية له؛ في حين لم يتمكن مقاتلو المعارضة بدورهم من تحقيق خرق في الممر الواصل بين دمشق وساحل البحر المتوسط الذي تسيطر عليه الحكومة. يجب إقناع جميع الأطراف المعنية بالحاجة إلى تسوية سياسية، كما يجب ألا يستند الحل الوسط هذا – إن كُتب له النجاح – على رغبات الأطراف المتحاربة، بل على إيجاد حل لجوهر المشكل.
ترغب جماعات المعارضة المسلحة وبعض داعميها الأجانب في تنحي الأسد ومساعديه، فهؤلاء هم المسؤولون عن رسم خطط الهجمات العشوائية الوحشية ضد مناطق تسيطر عليها المعارضة بهدف تفريغها من سكانها، وإقناع المدنيين الآخرين بتبعات سيطرة المتمردين. ليس من مصلحة أحد أن تتفتت الدولة السورية، ربما باستثناء الجماعات المتطرفة الساعية إلى تقسيم البلاد، وهو ما قد ينجم عنه رحيل مفاجئ للأسد دون وجود بديل، ما سيزيد في العنف. من المهم الحفاظ على قوات أمن ونظام قضائي فعال نظرا لأن انهيارهما سيؤدي إلى تفشي الفوضى، ما سيعرض الأقليات السورية المتعددة للخطر. بعبارة أخرى، فإن أفضل مسار هو عملية انتقالية لا وجود للأسد فيها.
يود الرئيس الأسد ومساعديه، بطبيعة الحال، البقاء في السلطة لأجل غير مسمى. إلا أن المعارضة أوضحت بشكل قاطع عدم قبولها ببقائهم في مناصبهم على المدى الطويل نظرا لما قاموا به، كاستخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة ضد الأحياء والمؤسسات المدنية، والاعتقالات الجماعية والتعذيب والاعدام في حق المعارضين. ألمحت روسيا إلى أنها غير متمسكة بالأسد في حال ترك منصبه عبر مفاوضات لا ثورة، كما ألمحت إيران إلى الأمر ذاته. يشير هذا إلى أن كلا البلدين مهتمان بإقامة علاقات مع النظام في دمشق لا مع من يرأسه. يُعتبر الأسد جزءً هاما من النزاع، بالتالي لا يمكن ألا يكون له مكان على طاولة المفاوضات. على روسيا وإيران استخدام نفوذهما الكبير لفرض اتفاق يؤدي إلى رحيله، نظرا لعدم إمكانية الدفاع عما قام به خلال فترة حكمه.
العفو والمساءلة
ما الذي قد يحدث للأسد إن تنازل هو ومعاونيه الدمويين عن السلطة تحت الضغط؟ سيسعون بلا شك للحصول على عفو عن جرائمهم، لكن لا ينبغي منح هذا العفو لعدة أسباب. رفض المجتمع الدولي، منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، بشكل عام إعطاء موافقته على العفو تجاه مرتكبي الفظائع الجماعية. يتطلب القانون الدولي المحاسبة حيث يعد هذا احتراما للضحايا، ويؤدي إلى عدم تشجيع القيام بالمزيد من الفظائع. إضافة لما سبق، حتى لو جرى عفو، فسيكون ذلك بلا معنى. صحيح أن سوريا حاليا ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن أي حكومة سورية مستقبلية مُعترف به دوليا ستُشجع على الانضمام إليها والموافقة على اختصاصها بأثر رجعي. إن حدث ذلك، لن تقبل المحكمة العفو عن الفظائع الجماعية.
تستطيع المحاكم الأجنبية التي لها ولاية دولية، تشمل مجرمين سوريين محتملين موجودين على أراضي تحت هذه الولاية، تجاهل أي عفو يُمنح لهم. حتى في الداخل السوري، لن يكون العفو فعالا، ولدينا أمثلة عن فشل حالات عفو عن الفظائع مُنحت تحت ضغط العنف في أماكن مثل الأرجنتين وشيلي وبيرو.
بالنظر لما سبق، لا يتوقع معظم المفاوضين قيام الأسد بتسليم نفسه إلى لاهاي، وسيعترض قليل منهم إن فر هو وأعوانه إلى موسكو أو طهران، وقد يؤجل إلى وقت لاحق الحديث عن إمكانية القبض عليهم هناك وتقديمهم إلى المحاكمة. إن بقوا في سوريا، كما تعهد الأسد، يجب حتما رفض أي محاولة لاستبعاد المحاسبة مستقبلا عبر إصدار عفو رسمي.
أما أشكال المحاسبة الأخرى، فهي غير قابلة للتفاوض، ويجب أن تبدأ في أقرب وقت ممكن. في البداية، على الحكومة الانتقالية أن تتضمن لجنة تقصي حقائق لها صلاحية استدعاء أي شخص من أجل اعداد سجل تاريخي مفصل في الفظائع التي ارتكبتها جميع الأطراف، وجمع أدلة للملاحقات القضائية المستقبلية، وإنشاء نظام للتعويضات من أجل الضحايا وأسرهم. يجب منع أي شخص اتضح أنه مسؤول عن تجاوزات كبيرة – عبر إجراءات عدالة واضحة – من تولي منصب عام، بمن في ذلك الأسد وزمرته.
الحكم التشاركي
إن أُزيل الأسد ودائرته من السلطة، فمن سيكون البديل؟ وفقا لإعلان فيينا، سيأتي البديل من خلال انتخابات بإشراف الأمم المتحدة. لكن إجراء انتخابات ذات مصداقية في سوريا التي مزقتها الحرب وشردت الملايين من سكانها سيستغرق تحضيرها وقتا طويلا. بالتالي، من الضروري أولا تشكيل حكومة ائتلافية متفق عليها بقيادة شخصيات ذات مصداقية بين الأغلبية السنية والعلويين وباقي الأقليات الأخرى الذين عهدت بمصيرها إلى حد كبير للأسد. سيحدد السوريون المشاركون في المفاوضات مكونات هذا الائتلاف والذي يصفه إعلان فيينا بأنه "ذي مصداقية، وشامل، وغير طائفي". ستزيد إمكانية التوصل إلى تسوية في سورية بشكل كبير في حال طالب المجتمع الدولي باستثناء المسؤولين عن ارتكاب فظائع جماعية من قيادة سوريا المستقبلية. إن ما سبق هو أمر ضروري ليس فقط لأسباب تتعلق بالمحاسبة، ولكن لأنه من الصعب تصور أي توافق في الآراء حول تشكيل ائتلاف يشمل من ارتكبوا هذه الجرائم.
أما بالنسبة لتركيبة حكومة الائتلاف، ونظرا لتاريخ سوريا الحافل بالقمع على أيدي قوات الحكومة وتعدد القوى المركزية المسيطرة على أجزاء مختلفة من البلاد، فالأفضل ضمان وجود قدر هام من الحكم الذاتي على الأقل في البداية. من شأن ذلك أن يضع قدرا كبيرا من السلطة الحكومية في أيدي مجموعة من الإقطاعيات بدلا من دولة قوية مدارة مركزيا. يجب أن تترافق مثل هذه اللامركزية مع ضمانات بمشاركة كل الجماعات التي تعيش في ظل قوى الائتلاف، بما في ذلك الأقليات، في الحكم المحلي بتقديم الاستشارة على الأقل. ينبغي أن يكون الهدف استبدال النظام الجامد من أعلى إلى أسفل في سوريا بهياكل سلطة تفاوضية تشاركية، ترافقها أنظمة أمن وعدالة عملية. تقدم التجربة الأخيرة للحكم في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد والتجارب القصيرة الأجل، ولكن الغنية، لبعض المجالس المحلية العاملة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في عامي 2011 و2012 أمثلة مفيدة. يجب أن يكون هناك قدر كبير من التنسيق والتعاون بين القوى اللامركزية نظرا لاحتمال إحجام جماعات المعارضة عن التخلي عن أسلحتها، علاوة على الحاجة لمحاربة داعش.
أما عمن يمكن إدراجه في الائتلاف الحاكم المستقبلي من جماعات المعارضة المسلحة، فإن العامل الأساسي في ذلك هو التأكد مما إذا كانت هذه الجماعات قد أظهرت التزاما بمنع عناصرها من الإساءة ومحاسبة من قام بالإساءة. يفترض معظم المراقبين مشاركة مجموعات مختلفة من الجيش السوري الحر في مثل هذا الائتلاف وتعاون القوات الكردية معه على الأقل. من غير المؤكد إدراج "أحرار الشام" في الحكومة الائتلافية المستقبلية، وهي جماعة إسلامية مسؤولة عن فظائع عديدة طوال الحرب؛ إلا أنها قدمت واجهة أكثر واقعية بعد سبتمبر/أيلول 2014 إثر مقتل أكبر قادتها في هجوم بالقنابل. يعتمد احتمال تواجدها كجزء من الحل في سورية، أو استبعادها، على وجود تغيير ملموس ودائم في سلوكها. سيُستثنى قطعا أعضاء جماعتي داعش و"جبهة النصرة" "التابعة لتنظيم "القاعدة" من الانضمام بسبب الفظائع الكثيرة التي ارتكبوها وتهديدهم للمصالح الغربية. في الواقع، تكمن أهم نتيجة للاتفاق السوري في إنتاجه ائتلافا حاكما يمكنه قتال هذه الجماعات المتطرفة بفعالية، عبر تقديم المزيد من القوات البرية القليلة حاليا.
شرط أساسي للسلام
يعتمد تحقيق اتفاق على تطوير مستوى الثقة المفقودة حاليا بين الفصائل المتحاربة المتعددة في سوريا. من الصعب جدا، بعد كل شيء، مصافحة الفرقاء لبعضهم بعد أن قتلوا أسر وجيران بعضهم البعض. هذا ما يجعل فكرة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري تجاه إعطاء الأولوية للاتفاق فوق الفظائع خطأ. يجب ألاّ يكون وضع حد لقتل المدنيين – وهي الجريمة التي يقوم بها جميع الأطراف بنسب متفاوتة أكبرها الحكومة السورية – نتيجة ثانوية للاتفاق، بل هو الشرط الأساسي للحصول عليه. يجب عدم النظر إلى الفظائع كعَرَض جانبي، كما فعل إعلان فيينا، بل يجب استخدام النفوذ الكبير للدول لوضع حد لها الآن من اجل الوصول إلى اتفاق.
دعا مجلس الأمن الدولي في عديد المناسبات لوضع حد للفظائع في سوريا، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لفرض مثل هذه المطالب، وخاصة بعد بدء روسيا عملياتها العسكرية في سوريا نهاية سبتمبر/أيلول. في محاولة ربما لتجنب الظهور بمظهر المتواطئة في الهجمات على المدنيين، ضغطت موسكو على الحكومة السورية للتخلي عن استخدام الأسلحة عشوائيا، حيث تعهدت دمشق بذلك في خطاب وُجه إلى الأمم المتحدة في 9 نوفمبر/تشرين الثاني. لكن خلصت أبحاث "هيومن رايتس ووتش" في سوريا إلى أن حكومة الأسد لم تف بوعدها. على هذا أن يتغير، وعلى الحكومات المشاركة في المفاوضات، ولاسيما روسيا وإيران اللتان دعمتا بقاء الأسد حتى الآن، الإصرار على إيقاف فظائعه. سيقطع إنهاء الفظائع شوطا طويلا نحو تهيئة الظروف التي قد تُنجح المحادثات السورية.