Skip to main content

تعرف على بلطجية القاهرة

عصابة تستغلها السلطات المصرية لتهديد أي شخص يظنونه معادياً لمصر، ولكن من هم بالتحديد؟

نُشر في: مجلة "صالون"

من أكبر المخاطر والعقبات التي تواجه الصحفيين ومراقبي حقوق الإنسان، ممن يحاولون مراقبة العنف في مصر ونشر التقارير عنه، عودة ظهور المجموعات الأهلية التي تهدد وتضيق على أي شخص يتوسمون فيه العداء لمصر. مما يعني في أيامنا هذه أي شخص يتحدث منتقداً الحملة القمعية الدموية على الإخوان المسلمين، أو ينظر إليه كمؤيد للرئيس المخلوع محمد مرسي، الذي حكم لمدة عام.

فلا يكاد يوم يمر دون تقارير عن صحفي تعرض للضرب أو الاحتجاز، أو ناشط حقوقي يساق إلى قسم شرطة على أيدي "المواطنين الشرفاء" كما تسميهم وسائل الإعلام الحكومية. وبينما تقوم هذه المجموعات الأهلية بمهام "واجباتها الوطنية" فإنها تجد الوقت، بطريقة ما، لسرقة الهواتف الخلوية والكاميرات والنقود من ضحاياها.

من إذن الذي يقوم بهذا العمل غير الرسمي في حماية مصر من أعدائها المفترضين؟ في بعض الحالات يبدو الأمر وكأن المهمة ملقاة على عاتق "اللجان الشعبية"، أو مجموعات حراسة الأحياء التي تتميز بعدوانية خاصة والتي تشكلت ظاهرياً لحماية البيوت والمباني مما يزعمون أنها عصابات النهب والسلب من مؤيدي مرسي. ومع ذلك، إذا أخذنا بالظواهر وبما تردد عن تعرض البعض للضرب والاحتجاز، فإن أفعال بعض اللجان الشعبية المفترضة لا تكاد تختلف عن أفعال من يصفهم المصريون بالبلطجية ـ أو الأشخاص الذين ظلوا طوال عقود يؤدون مهمة العصابة المساندة للسلطات المصرية.

أعلنت وزارة الداخلية المصرية، التي تدير الشرطة، يوم الأحد الماضي عن فرض حظر على اللجان الشعبية. وقالت الوزارة في تصريحها إن اللجان، المؤيدة للجيش بصفة عامة، تتعرض "للاستغلال من جانب آخرين لممارسة أفعال تخالف القانون". وقد يكونون في واقع الأمر وطنيين ملتهبي الحماس، لكن هناك احتمالات بديلة، بالنظر إلى التاريخ القريب.

لقد أدى البلطجية المتحالفون مع الشرطة دوراً بارزاً في محاولة تخويف المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية خلال سنوات الاحتجاجات محدودة النطاق، التي أدت إلى مظاهرات ميدان التحرير الحاشدة وأنهت سنوات مبارك الثلاثين في الحكم، في فبراير/شباط 2011، وقد ظهروا على السطح بانتظام في اضطرابات مصر السياسية منذ ذلك الحين.

والمعنى الأصلي لكلمة بلطجي (بصيغة المفرد) هو "حامل البلطة"، مما يكاد يطابق المصطلح الإنجليزي hatchet men. تعاون البلطجية المحترفون على نحو وثيق مع قوات الأمن منذ عهد الرئيس أنور السادات في سبعينات القرن العشرين على الأقل. وفي عهد مبارك كان المصريون أحياناً يشيرون إليهم بعبارة "بتوع العشرين جنيه"، بمعنى أنهم مستعدون للائتمار بأمر الشرطة مقابل 20 جنيهاً مصرياً، كانت في ذلك الوقت تعادل 3 أو 4 دولارات أمريكية. كانت الشرطة تنقلهم في حافلات للمعاونة في تفريق المظاهرات الصغيرة التي تنظمها حركة كفاية، المجموعة المطالبة بالديمقراطية والتي عارضت حكم مبارك صراحة في منتصف العقد الأول من القرن 21. وبعد انتهائهم من عملهم، كان بمقدورك أن تراهم يتناولون غداء الكشري المجاني الذي يوفره لهم رجال الشرطة.

وقد حظيت بأول اتصال مباشر بهم في مظاهرة بتاريخ 26 مايو/أيار 2005، على الدرج الرخامي لنقابة الصحفيين بوسط القاهرة. كان ذلك الدرج يمثل منطقة مخصصة لحرية التعبير ومحظورة في المعتاد على الشرطة. لكن في ذلك اليوم، وبينما كان المتظاهرون يهتفون "يسقط مبارك"، كانت الشرطة تصنع حائطاً بشرياً أمام الدرج، ثم انشق كالبحر الأحمر ليسمح بدخول البلطجية وتجاوزهم الحواجز للهجوم.

(تميزت تلك المعركة بوجه خاص من حيث أن البلطجية في ذلك اليوم استهدفوا النساء من بين المتظاهرين، باللكمات والركلات وشد الشعر والتحرش البدني. بل إنهم مزقوا أردية اثنتين منهم، وكانت الشرطة وقادتها تقف وتتفرج دون حراك).

ثم صادفتهم مرة أخرى يوم 3 فبراير/شباط 2011، عند إجرائي لمقابلات مع مؤيدي المتظاهرين في التحرير ـ من ضحايا المجموعات الأهلية في الشوارع ـ بمركز هشام مبارك للقانون، وهو منظمة مستقلة لمناهضة التعذيب وتقديم المساعدة القانونية. داهمت الشرطة المكان بقيادة ضابط جيش برتبة لواء. وأدى البلطجية دور قوات الصاعقة، فدخلوا بالهراوات وهشموا نوافذ المكتب، ونهبوا المكاتب والأرفف، وهم يصرخون ويصيحون.

فيما بعد، حين اقتاد الجنود نحو 24 شخصاً آخرين، وأنا بينهم، خارج المكتب في احتجاز تبين أنه سيستمر لمدة 36 ساعة، كان هناك حشد غوغائي يقدم لنا التحية عند المخرج، ويصدر إشارات تهديدية وبذيئة، ويرج الحافلة الحمراء التي تم سوقنا إليها.

استغل عسكر ما بعد مبارك الحشود الغوغائية المدنية في تفريق المظاهرات، واتضح أن الإخوان المسلمين لهم فريقهم الخاص من البلطجية، غير المستأجرين من الخارج، بل من داخل صفوفهم. ففي يومي 5 و6 ديسمبر/كانون الأول 2012، قام أعضاء في جماعة الإخوان وفي حزب الحرية والعدالة التابع لها باحتجاز وضرب 49 متظاهراً من اعتصام معارض لـ مرسي أمام قصر الاتحادية الرئاسي، وصوروا "اعترافاتهم" بالفيديو. وفي خطاب له بعد الواقعة، قال مرسي إن الاعترافات تمثل دليلاً على أن المتظاهرين ـ وماذا نتوقع غير ذلك؟ ـ "بلطجية مأجورون".

لمدة طويلة ظل التوصل إلى هوية البلطجية لعبة من ألعاب التخمين. فبعضهم مجرد رجال فقراء لديهم الكثير من وقت الفراغ ـ المتوافر بكثرة في مصر ـ وميل للعنف، واستعداد للعمل لحساب الشرطة. كما أن القاهرة مدينة بها الكثير من الأحياء الفقيرة التي تسيطر عليها عصابات محلية للتهريب والاتجار في المخدرات، وهي أنشطة تجعلهم في بعض الأحيان مدينين للشرطة مقابل تركهم يعملون بحرية. في 2011 قدر حازم قنديل، الباحث بجامعة كمبريدج، أن الشرطة كانت في عهد مبارك تستعين بمليون ونصف المليون من البلطجية والمرشدين بشكل غير رسمي.

في حس عميق بالمفارقة، تقلب السلطات المصرية استغلال البلطجية رأساً على عقب، حين تتهم المعارضين السياسيين بالبلطجة، أحياناً في خدمة الصهاينة، أو الأمريكيين، أو غيرهم من "الأيدي العابثة". لقد اعتبر مسؤولو مبارك أن متظاهري التحرير في انتفاضة 2011 من البلطجية، وخلال شهور حكمهم الـ17، عمد خلفاء مبارك في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بعد أن أرهقتهم مظاهرات التحرير، إلى التوقف عن نعت المتظاهرين بالثوار وبدأوا يسمونهم بلطجية. وأطلق مرسي على المتظاهرين المطالبين بخلعه، خلال حكمه الذي دام عاماً، لقب البلطجية. أما الحكومة العسكرية الحالية فقد رفعت سقف التحدي، ووصمت جماعة الإخوان المسلمين بأسرها بأنها جماعة "إرهابية".

مر كل هذا بذهني وأنا أراقب حصار مسجد الفتح بوسط القاهرة يوم الجمعة، حيث حوصر بضع مئات من أنصار مرسي بعد فرارهم من الحملة القمعية العنيفة التي قتلت ما يقرب من 100 شخص في ميدان رمسيس القريب.

في مسجد الفتح، اختلطت الشرطة والجنود برجال في ثياب مدنية كانوا يحاولون اقتحام المبنى في بعض الأحيان. وحين تمكنت الشرطة وجنودها أخيراً من إخلاء المسجد يوم السبت الماضي، هجم ذوو الثياب المدنية في محاولة لضرب المحتجزين بقبضاتهم أو بالعصي. كما تعاملوا بخشونة مع اثنين من الصحفيين. لقد عجزت الشرطة، التي أجلت مؤيدي الإخوان المسلمين عن ميادين القاهرة، وقتلت في هذه العملية أكثر من 600 شخص في الأسبوع الماضي، عجزت بطريقة ما عن إبعاد هذه الحشود. فهل كانوا مواطنين مهتمين، أم بلطجية مستقلين، أم أدوات في يد قوات الأمن؟ لعل هذه الإجابات كلها صحيحة.

هناك طريقة واحدة لإزالة الالتباس: أن تعلن الوزارة أن عهد الاستخدام الرسمي للبلطجية قد انتهى. لكن هذا بالطبع يستلزم اعتراف السلطات الحالية بأن البلطجية ظلوا طوال سنوات من أدوات الشرطة.

إنني أعتقد، بكل أسف، أننا سنظل نراهم يستخدمون طيلة سنوات قادمة.

دان ويليامز باحث أول لدى هيومن رايتس ووتش

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة