Skip to main content

جرحى الثورة التونسية في حاجة ماسة للرعاية

الحكومة فشلت في توفير الرعاية للمصابين برصاص الشرطة بعد مرور 17 شهرًا على الثورة

(تونس) ـ قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن العديد من ضحايا العنف البوليسي الذي وقع أثناء ثورة تونس في 2010ـ2011 لم يتلقوا رعاية مناسبة، ولم تقدم لهم الحكومة تعويضات كافية عن إصاباتهم. وبعد مرور 17 شهرًا على الثورة التي أطاحت بـ زين العابدين بن علي، مازال العديد من جرحى الثورة يعتمدون على المساعدات الخيرية، ويعانون من الآلام والإعاقات والحاجة بسبب فشل الحكومة في تمكينهم من التعويض اللازم.

واستنادًا إلى التقرير النهائي للجنة تقصي الحقائق التي أنشأتها الحكومة الانتقالية الأولى، الذي صدر يوم 4 مايو/أيار 2012، خلّفت الاحتجاجات الشعبية 132 قتيلا و1452 جريحًا في الفترة المتراوحة بين 17 ديسمبر 2010 و 14 يناير 2011 . كما قال التقرير إن معظم هذه الإصابات كانت ناتجة عن إطلاق النار، وأن 345 شخصًا أصيبوا بجروح بليغة بسبب الإصابة برصاص الشرطة، وهو ما تسبب في بتر أطرافهم أو في إعاقات جسدية أخرى.

وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "لقد تعرض هؤلاء الأشخاص إلى الإصابة أثناء دفاعهم عن الحرية، ولذلك يتعين على الحكومة ألا تدير لهم ظهرها، وألا تضيع مزيدًا من الوقت كي توفر لهم الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها ـ مجانًا إذا كانوا لا يستطيعون تحمل تكاليفها".

التقت هيومن رايتس ووتش بـ 12 جريحًا من جرحى الثورة الذين أصيبوا إصابات بليغة، وتحدثوا عن حياتهم اليومية ومعاناتهم منذ الإصابة. وعلى سبيل المثال، أصبح الأشخاص الذين أصيبوا بالشلل في حاجة إلى أكياس القولون، والعلاج الطبيعي لتجنب تقرحات الفراش، وأفرشة مضادة لتقرحات الجلد، وكراسي متحركة، وأدوية تخفيف الآلام ومضادات تخثر الدم، وصاروا يعتمدون على التبرعات الإنسانية في توفير المال للرعاية الصحية المُطولة التي يحتاجون إليها. إضافة إلى ذلك، لا يستطيع العديد من الجرحى العودة إلى وظائفهم،  فقد فقدوا فرصهم في العمل والدراسة، وتسبب ذلك في معاناتهم ومعاناة عائلاتهم معهم.

وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يتعين على الحكومة تعويض الضحايا عن جميع الأضرار الناجمة عن إصاباتهم بسبب استعمال الشرطة للقوة المفرطة وبشكل غير قانوني أثناء الانتفاضة. ويجب أن تشمل التعويضات جبرًا عن فقدان فرص الدراسة والعمل والأرباح الأخرى التي لم تكن لتُفقد لولا الجرائم المُرتكبة.

قامت السلطات الانتقالية في تونس مباشرة بعد الثورة بتوفير رعاية صحية عاجلة للجرحى، واعتمدت إجراءات تم من خلالها دفع تعويضات مالية محدودة للمصابين. ولكن العديد ممن تلقوا رعاية صحية في المستشفيات العمومية وجدوا أنفسهم يواجهون عراقيل منعتهم من مواصلة تلقي العلاج. وكانت أنواع مختلفة من الأدوية والعلاج الطبيعي والعلاج طويل المدى غير متوفرة في هذه المستشفيات، وان توفرت في العيادات الخاصة، فإنها تكون باهظة التكلفة وتتجاوز إمكانيات الجرحى.

وعلى اثر خلع بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، استلمت حكومة انتقالية السلطة ونظمت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جرت في 23 أكتوبر/تشرين الأول. وبعد هذه الانتخابات، عيّن المجلس التأسيسي حكومة انتقالية ثانية لتسيير الأعمال، بينما ينكب المجلس على صياغة دستور جديد سوف يوفر قاعدة لانتخابات عامة.

وينص القانون الدولي على حق الأشخاص الذين يتعرضون إلى إصابات بسبب استعمال وكلاء الدولة للقوة المفرطة وغير القانونية في الحصول على تعويضات مناسبة وسريعة على الضرر الذي لحق بهم، بما في ذلك الرعاية الطبية وإعادة التأهيل. ولا يُعفي إسقاط الحكومة التي كانت في السلطة عند ارتكاب التجاوزات الحكومة التي حلت محلها من تنفيذ التزاماتها بشكل كامل.

وتكفل معاهدات حقوق الإنسان الدولية واجب التعويض لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، ومنها المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتعترف بذلك أيضًا المحاكم الدولية. وتنص مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن الحق في الانصاف والجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، الذي يُنظم القواعد الحالية للقانون الدولي، على حق الضحايا في الحصول على تعويض فوري عن الضرر الذي أصابهم.

ويتعين على الحكومة أن تعطي أولوية لإنشاء آلية مستقلة، وفقًا للمادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لتقييم احتياجات جرحى الثورة وتمكينهم من التعويض المستحق بشكل شفاف.

وقالت هيومن رايتس ووتش إنه يمكن للمجلس الوطني التأسيسي إصدار مرسوم يتعلق باعتماد برنامج تعويض عبر إنشاء لجنة مستقلة متعددة الاختصاصات للإشراف عليه. ويُعهد إلى هذه الآلية بتحديد الضحايا وتسجيلهم، وإعداد قائمة نهائية بجرحى الثورة، وتقييم طبيعة إصابات الجرحى حالة بحالة اعتمادًا على أوضاعهم الصحية والاجتماعية. ويجب أن تتضمن هذه الآلية برامج صحية ونفسية وقانونية لها صلاحيات التنسيق واتخاذ الخطوات العاجلة مع الإدارات الحكومية المعنية في التعامل مع الحالات الطبية المستعجلة.

إضافة إلى ذلك، يتعين على المحاكم العسكرية، أثناء محاكمة الجرائم المرتكبة خلال الثورة، تحديد مستوى التعويض الذي سوف يُمنح للضحايا وفقًا للمعايير الدولية.

 

نظام رعاية صحية غير كاف لجرحى الثورة

بعد أن أقدم محمد البوعزيزي، بائع متجول في شوارع سيدي بوزيد، على إحراق نفسه في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، نزل آلاف المتظاهرين إلى الشوارع، وكان أغلبهم من شباب المدن والأحياء الفقيرة، وأطلقت عليهم الشرطة الرصاص الحي. واستنادًا إلى التقرير النهائي للجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها [اللجنة] ، جدّت أعنف الأحداث في 8 و9 و 12 يناير/كانون الثاني 2011 في القصرين وتالة والرقاب، حيث قُتل 22 شخصًا وجُرح مئات الآخرين، وفي تونس العاصمة وضواحيها، حيث قُتل 21 شخصًا بين 13 و15 يناير/كانون الثاني.

كما قالت اللجنة إن أغلب إصابات الضحايا كانت ناتجة عن استعمال الشرطة للرصاص الحي في حالات لم يكن فيها استعمال القوة القاتلة مبررًا بشكل قانوني. كما تسبب استعمال القوة المفرطة في جرح أكثر من 1452 شخصًا في الفترة الممتدة بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير/كانون الثاني 2011.

ومازال العديد من جرحى الثورة يعانون إلى الآن من إعاقات مزمنة أو دائمة مثل الشلل، وبتر الأطراف، وضمور الاعضاء. وعجز أغلب الجرحى عن تلقي الرعاية الصحية اللازمة، والمشورة النفسية، والخدمات الاجتماعية.

يتعين على الدولة العمل على ضمان أن لا تمارس المراكز الصحية التونسية أي تمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقات، وأن توفر لهم الخدمات بأسعار معقولة كما تنص على ذلك اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي انضمت إليها تونس في 2008. كما قالت هيومن رايتس ووتش إنه يجب على الدولة أن تقدم لجرحى الثورة المساعدة والإمكانيات اللازمة لحصولهم على رعاية صحية فعالة ، بعد أن تقلصت إمكانياتهم الجسدية والنفسية وعجزوا عن القيام  بالإجراءات المختلفة بأنفسهم.

قدمت الحكومة تعويضًا قدره ستة آلاف دينار تونسي (3800 دولار أمريكي) لجميع الجرحى، بغض النظر عن مدى خطورة إصاباتهم، و40 ألف دينار (25850 دولار أمريكي) لعائلات القتلى، وتم دفع هذه المبالغ على قسطين  الاول في فبراير/شباط والثاني في ديسمبر/كانون الأول 2011. ولكن لم يتم تحديد المعايير التي تم اعتمادها لتحديد الجرحى الذين أصيبوا بسبب الاستعمال المفرط للقوة من قبل الدولة، ولا مستوى التعويض الخاص بكل حالة.

أنشأ المرسوم رقم 8 المؤرخ في 18 فبراير/شباط 2011، بُعيد خلع بن علي، "اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات المسجلة خلال الفترة من 17 ديسمبر 2010 إلى حين زوال موجبها." وتم تعيين توفيق بودربالة، وهو شخصية معروفة في المجتمع المدني التونسي ورئيس سابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رئيسًا للجنة واختار بنفسه باقي أعضائها الأربعة عشر. 

وينص المرسوم على أن تتعهد اللجنة بجمع المعلومات والوثائق المتعلقة بالتجاوزات عبر شهادات الضحايا وعائلات القتلى والجرحى والوثائق التي يتم جمعها من جميع الإدارات والمؤسسات المعنية. ولأن المرسوم الذي أنشأ هذه اللجنة ينص على أن تبقى أعمالها سرية إلى حين تسليم تقريرها النهائي إلى رئيس الجمهورية، رفضت اللجنة إصدار قائمة بالجرحى قبل 4 مايو/أيار، تاريخ إصدار التقرير.

وتم دفع التعويضات للضحايا عن طريق الولايات (المحافظات) التي يعودون إليها بعد أن قدم الضحايا شهادات طبية تثبت إصابتهم أثناء الثورة. ومع غياب  قائمة أسماء رسمية، وآليات ومعايير واضحة بشأن الأشخاص الذين يجب إدراج أسمائهم في هذه القائمة، بالإضافة إلى عدم وجود إجراءات كافية لتقييم احتياجات الضحايا الصحية والاجتماعية، أصبح نظام التعويضات مُختلاً. إضافة إلى ذلك، لم تتخذ الحكومة أي خطوات  لضمان حصول أصحاب الإصابات الخطيرة على الرعاية الصحية طويلة المدى بشكل لازم.

قامت جمعية "نسيتني" غير الحكومية، ومركزها تونس العاصمة، بمتابعة الحالات الأكثر خطورة منذ أبريل/نيسان 2011. وقالت ليليا بوقرة، طبيبة لدى الجمعية، لـ هيومن رايتس ووتش:

في مرحلة الطوارئ، تلقى الجرحى العلاج اللازم وخضعوا لعمليات جراحية رغم الوضع المتفجر والخطير الذي كان سائدًا في ذلك الوقت، عندما كان نظام بن علي لازال يقمع المتظاهرين ومؤيديهم. وبذل معظم الأطباء قصارى جهدهم لإنقاذ الجرحى وتفادي بتر أطرافهم وتوفير العلاج اللازم لهم. ولكن منذ ذلك الوقت لم يتم اتخاذ أي خطوات للعلاج طويل المدى. ويعاني بعض المصابين من جروح تسببت لهم في إعاقات دائمة بقية حياتهم.

وتعود أسباب مشاكل الضحايا إلى غياب إجراءات العلاج طويل المدى في المستشفيات العمومية التونسية. وعلى سبيل المثال، يحتاج المصابون بالشلل كل يوم إلى العلاج الطبيعي والتمريض لتفادي تقرحات الفراش وتوقف النمو. وتوفر بعض المصحات الخاصة في تونس خدمات العلاج طويل الأمد، ولكن جرحى الثورة الذين التقت بهم هيومن رايتس ووتش لا يستطيعون توفير تكاليف هذا النوع من العلاج. ويتمتع الجرحى الأكثر حظا بهذا النوع من الرعاية الصحية اعتمادًا على التبرعات الفردية أو مبادرات المجتمع المدني.

 

مقابلات مع جرحى الثورة

كان طارق الدزيري يعمل طباخًا في مدينة الفحص، على مسافة 60 كيلومتر جنوب العاصمة. وفي 12 يناير، اخترقت رصاصات الشرطة كتفه ورئته أثناء مظاهرة أمام مركز للشرطة. وأمضى طارق شهر ونصف في مستشفى بن عروس، حيث أزال الأطباء الرصاصة من كتفه، ثم عاد إلى منزله، ومازال إلى الآن يحمل الرصاصة الثانية في رئته. وقال طارق إنه أصبح يعاني من الشلل بعد أن تعرض إلى نزيف داخلي تسبب في إتلاف عموده الفقري، وأضاف:

بعد المستشفى، بقيت في المنزل لمدة شهر ونصف، وفي تلك الفترة تدهورت حالتي الصحية. وبعد ذلك تم إرسالي لتلقي العلاج الطبيعي في مركز الصحة العمومية في جبل الوسط، ولكن حالتي الصحية لم تشهد أي تحسن. قال الأطباء إنني في حاجة إلى خمس حصص علاج طبيعي في اليوم الواحد، ولكنني كنت أتلقى العلاج لمدة لا تتجاوز عشر دقائق فقط كل يوم، وتكونت لديّ تقرحات بسبب الإقامة في ذلك المركز. كنت أحيانا اصرخ لمدة ساعات قبل أن يأتي أحد الممرضين لمساعدتي على تغيير وضعيتي. لقد نفذت إضراب جوع وشاركت في العديد من الاعتصامات من أجل الحصول على العلاج اللازم، وذهبت إلى وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية، وكل ما حصلت عليه لم يتجاوز الوعود الفارغة.

وتبرز حالة رشاد العربي الصعوبات التي يواجهها الجرحى في الحصول على الرعاية الصحية الحكومية. وقال رشاد لـ هيومن رايتس ووتش إنه كان يشارك في مظاهرة مع أصدقائه وجيرانه يوم 13 يناير/كانون الثاني 2011 في مدينة المرناقية، حوالي 30 كيلومتر شرق تونس العاصمة، فأطلقت عليهم الشرطة الرصاص الحي من مركز للشرطة وأصابته في صدره، وهو ما تسبب في إتلاف عموده الفقري.

تلقى رشاد العربي العلاج في مستشفى الرابطة العمومي في تونس العاصمة تم عاد إلى منزله وهو مشلول. وقامت عائلته، خلال الأشهر الأولى، بدفع جميع التكاليف الناتجة عن إصابته باستثناء مبلغ ثلاثة آلاف دينار الذي منحته له الدولة، وسرعان ما ساءت وضعيته الصحية عندما تكونت لديه تقرحات أسفل ظهره. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2011، حاول رشاد العربي وتسعة جرحى آخرين من جرحى الثورة شد انتباه الرأي العام والاحتجاج على غياب المساعدة الحكومية،ودخلوا في إضراب عن الطعام في مكاتب "نواة تونس"، وهي مدونة مشهورة ومستقلة في تونس.

وبعد ذلك تم إدخال رشاد العربي إلى المستشفى العسكري في تونس العاصمة، وهو مخصص عادة لموظفي وزارة الدفاع وعائلاتهم. وبعد خروجه من هذا المستشفى، تلقى رشاد علاجًا مستمرًا منذ يناير/كانون الثاني في مصحة خاصة في منطقة سُكرة، بفضل تبرعات شخصية، وهي إحدى المصحات القليلة التي تقدم علاجًا طبيعيًا طويل المدى لصدمات العظام.

تعرض أنيس بن محمد الحاجي إلى إصابة بالرصاص في فخذه يوم 15 يناير/كانون الثاني في الوردانين، مدينة تبعد 120 كيلومترا عن تونس، بينما كان يشارك في إحدى لجان حماية الأحياء. ورغم خضوعه إلى أربع عمليات جراحية في مستشفى المنستير العمومي، أصيب أنيس الحاجي بشلل. ولأنه يسكن في منطقة نائية، تبعد حوالي 25 كيلومتراً عن اقرب مدينة، لا يستطيع أنيس الحاجي التنقل لتلقي العلاج اللازم، بما في ذلك العلاج الطبيعي والمراقبة المستمرة لمعالجة التورمات وتغيير الضمادات.

وقال أنيس الحاجي لـ هيومن رايتس ووتش إن الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة من قبيل التنقل المجاني في وسائل النقل العمومية وبطاقات العلاج ليست كافية في الحالات التي تشبه حالته لأنه لا يستطيع استعمال وسائل النقل العمومية لأنها غير موجودة أصلا في قريته. وكان أنيس الحاجي يُعيل والدته وشقيقتيه، ولكنه صار عاجزًا عن العمل منذ أن تعرض إلى الإصابة.

تعرض محمد الجندوبي إلى إصابة برصاص الشرطة أثناء احتجاجات منطقة الكرم في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة يوم 13 يناير/كانون الثاني 2011. ورغم خضوعه إلى عدة عمليات جراحية، مازال محمد مشلولا، ويحمل رصاصة أسفل ظهره قيل له إن إزالتها تُشكل خطرًا كبيرًا عليه. وقام أحد رجال الأعمال بدفع تكاليف العلاج والعمليات الأولى التي أجريت على محمد الجندوبي، ولكن المساعدة الخاصة توقفت عندما أعلنت الحكومة أنها سوف تتكفل بجميع مصاريف علاج جرحى الثورة. ولكن المساعدة التي أصبح يتلقاها محمد من الدولة منذ ذلك الوقت لم تعد كافية. وقالت مفيدة، والدة محمد، لـ هيومن رايتس ووتش:

بعد أن أمضى محمد ثلاثة اشهر في المستشفى، قالوا إنهم لا يستطيعون فعل أي شيء آخر له، ولم ينصحونا باستعمال أي علاج آخر. وعندما عاد محمد إلى المنزل، أجبرنا على دفع المال لأخصائي العلاج الطبيعي ثلاث مرات في الأسبوع. لقد تعرض ابني إلى خطر الاختناق لأنهم لم يعلمونا عندما غادر المستشفى بوجوب مراقبة قصبته الهوائية التي أوشكت على الانسداد بعد ذلك بأسابيع. لقد كافحنا منذ البداية كي يحصل ابني على أدنى مستوى من الرعاية، وحتى الكرسي المتحرك اشتراه له الجيران وأشخاص آخرون.

تزعم وزارة الصحة أنه يوجد في المستشفيات كل ما يحتاجه الجرحى، وأنها تقدم خدمات جيدة. ولكننا كنا كل مرة مضطرين إلى شراء الأدوية لأنها غير متوفرة في المستشفيات. ولولا التبرعات الشخصية، لوجد ابني نفسه منسيًا بشكل كامل. لقد تحسنت حالته الصحية بشكل كبير منذ أن بدأ يتلقى العلاج في المصحة الخاصة في سُكرة بفضل التبرعات الخاصة.

 

الإطار القانوني والمؤسساتي

كانت جميع سياسات التعويض التي تبنتها الحكومات الانتقالية المتعاقبة في حق جرحى الثورة غير كافية لتحقيق التزامات تونس بضمان تعويضات مناسبة وفعالة وسريعة للجرحى، ومنها الرعاية الصحية المناسبة والتعويض لهم على معاناتهم. وفي فبراير/شباط 2011، قررت الحكومة المؤقتة منح مبلغ 20 ألف دينار (12624 دولار أمريكي) لعائلات القتلى وثلاثة آلاف دينار (1900 دولار) للجرحى بغض النظر عن خطورة الإصابة. واستنادًا إلى أرقام رسمية، قامت السلطات بدفع تعويضات لـ 2749 جريح ولعائلات 347 قتيل. وفي ديسمبر/كانون الأول، قامت الحكومة المؤقتة بدفع نفس المبالغ في قسط ثان للجرحى وعائلات القتلى.

ولم تحدد الحكومة ما إذا كانت هذه المبالغ لا تشمل التعويضات التي سوف تحددها المحاكم العسكرية في محاكمات 40 عنصرًا من عناصر قوات الأمن على جرائم تم ارتكابها أثناء محاولة الحكومة السابقة إخماد الثورة. واستنادًا إلى العميد مروان بوقرة، النائب العام العسكري، فان ثلاث محاكم عسكرية، في الكاف وتونس وصفاقس، تنظر في الوقت الحالي في محاكمات جماعية فيها ما يقارب 600 قضية.

وبعد إصلاح القضاء العسكري بتبني المرسوم رقم 69 المؤرخ في 29 يوليو/تموز 2011، سوف تقوم المحاكم العسكرية في النهاية بتحديد الخسائر المادية الناتجة عن استعمال القوة. ويعطي الفصل 7 من هذا المرسوم للضحايا حق المطالبة بالتعويض على المعاناة اعتمادًا على قانون الإجراءات الجزائية العادي. وقال أحد المدعين العامين العسكريين لـ هيومن رايتس ووتش إن 150 ضحية قاموا بتقديم مطالب تعويض. وبعد تسيلم كل مطلب تعويض، تطلب المحكمة العسكرية فحوصات الطب الشرعي من الأطباء التابعين للجهاز القضائي.

وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول، تبنت الحكومة القانون رقم 97 الخاص بالتعويضات. وتم تبني هذا القانون في اليوم التالي لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، قبل أن يعقد المجلس اجتماعه الأول.

وتبنى هذا القانون الجديد مقاربة أشمل لمنح الضحايا اعترافا سياسيًا بتضحياتهم وكذلك تعويضات مالية وأخرى متعلقة بالرعاية الصحية. ويعرف هذا المرسوم  "شهداء الثورة ومصابيها" بـ "الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا أو أصيبوا بسقوط بدني من جراء ذلك ابتداء من 17 ديسمبر 2010 إلى 19 فيفري [فبراير] 2011".

كما ينص المرسوم عدد 97 على التعويض الرمزي والمادي "لشهداء الثورة ومصابيها،" ويدعو إلى تعويضات جماعية، بما في ذلك نصب تذكاري لضحايا "ثورة 14 جانفي"، ومتحف للثورة  يسرد أحداثها ويحفظها في "الذاكرة الوطنية"، وتسمية أنهج وشوارع وساحات المناطق الأكثر تضررًا بأسماء الذين قُتلوا أثناء الثورة، وإحياء ذكرى 14 يناير/كانون الثاني سنويًا بصفة رسمية، وإدراج مادة تعليمية خاصة بالثورة في كتب التاريخ المدرسية.

ويشمل التعويض المادي والمالي معاش شهري لزوجة كل "شهيد"، أو لأبنائه أو والديه حسب الظروف، ومعاشات شهرية للجرحى اعتمادًا على درجة الاصابة التي لحقت بهم بسبب الانتهاكات التي ارتكبها أعوان الدولة.

كما ينص المرسوم على امتيازات صحية لزوجات وأبناء القتلى، دون سن 18 سنة، بما في ذلك الرعاية الصحية المجانية في المستشفيات العمومية في كافة أنحاء البلاد، ومنها المستشفى العسكري في تونس العاصمة الذي يحتوي على تجهيزات متطورة. كما يتمتع أزواج الشهداء وأبنائهم دون سن 18 سنة أو إلى انقطاعهم عن الدراسة بالنقل العمومي المجاني، ويتمتع الجرحى بنفس هذه الامتيازات دون أفراد عائلاتهم.

غير انه بعد مرور سبعة أشهر على صدور المرسوم، لم يتم بعد تنفيذ أي من هذه الإجراءات. ويعود جزء من المشكل إلى صياغة نص القانون فيما يتعلق بمن يُعتبر ضحية وغياب معايير واضحة في مسألة التعويض.

وعوضاً عن تنفيذ المرسوم عدد 97، أنشأ المجلس الوطني التأسيسي لجنة شهداء وجرحى الثورة للنظر في وضعية الضحايا والإطار الذي تبنته الحكومة المؤقتة ولاقتراح تعديلات يتم إدخالها على القوانين. وأعلنت أمينة الزغلامي، رئيسة اللجنة، بشكل علني أنه لن يتم تطبيق المرسوم عدد 97 بل سيتم تعويضه بقانون جديد. وحتى كتابة هذا التقرير، لم يتم اقتراح أي مشروع قانون على المجلس التأسيسي.

وبعد تكوين الحكومة الانتقالية الجديدة في 22 ديسمبر/كانون الأول 2011، حددت السلطات 17 جريحًا من أصحاب الإصابات البليغة الذين يحتاجون إلى رعاية طبية عاجلة لإرسالهم إلى ألمانيا وقطر لتلقي العلاج. إضافة إلى ذلك، أنشأت السلطات لجان طبية في تونس العاصمة وسوسة وصفاقس لتقييم درجات إعاقات المصابين حالة بحالة وتحديد الرعاية الطبية المطلوبة. ولكن بعد مرور سبعة أشهر، تم نقل ثلاثة مصابين فقط إلى قطر. وقال عشرة جرحى آخرين لـ هيومن رايتس ووتش إن الأطباء الذين عينتهم اللجان الطبية قاموا بفحصهم، وقال الجرحى إنهم، حتى 7 مايو/أيار، مازالوا ينتظرون قرارات الحكومة في ما يتعلق بالخطوات التالية.

 

إطار التعويضات في القانون الإنساني الدولي

في 16 ديسمبر/كانون الأول 2005، تبنت الجمعية العامة مبادئ الأمم المتحدة الأساسية و المبادئ التوجيهية بشأن الحق في الانتصاف والجبر لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي. وتنص المقدمة على أن "المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية... لا تفرض التزامات قانونية دولية أو محلية جديدة، بل تحدد آليات وطرائق وإجراءات وأساليب تنفيذ الالتزامات القانونية القائمة في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان." ويعترف القرار بخمس أشكال تعويض أساسية تهدف إلى إصلاح المعاناة التي تعرض لها الضحايا والناجون:

-        الردّ، ويهدف إلى إعادة الضحايا إلى وضعهم الأصلي قبل وقوع الانتهاكات الجسيمة.

-        دفع التعويض، ويمنح الضحايا تعويضًا ماليًا وغير مالي عن الأضرار التي لحقت بهم.

-        إعادة التأهيل، وتهدف إلى إصلاح الأضرار طويلة الأمد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان عبر توفير خدمات طبية ونفسية وقانونية واجتماعية.

-        الترضية، وتشمل مجموعة كبيرة من التدابير مثل وقف الانتهاكات المستمرة، والكشف الكامل عن الحقيقة، وإصدار إعلان رسمي وتقديم اعتذار رسمي.

-        ضمانات عدم التكرار، ومنها إدخال الإصلاحات اللازمة على قوات الأمن، وجهاز القضاء، وكل المؤسسات التي لعبت دورًا محوريًا في انتهاكات حقوق الإنسان.

كما تنص المبادئ الأساسية على أنه "ينبغي دفع التعويض عن أي ضرر يمكن تقييمه اقتصاديًا، حسب الاقتضاء وبما يتناسب مع جسامة الانتهاك وظروف كل حالة، ويكون ناجمًا عن انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي، من قبيل ما يلي: الضرر البدني أو العقلي، الفرص الضائعة بما فيها فرص العمل والتعليم والمنافع الاجتماعية، الأضرار المادية وخسائر الإيرادات، بما فيا خسائر الإيرادات المحتملة، الضرر المعنوي، التكاليف المترتبة على المساعدة القانونية أو مساعدة الخبراء والأدوية والخدمات الطبية والنفسية والاجتماعية".

إن التزام السلطات التونسية بتقديم الرعاية الصحية والنفسية اللازمة لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ينبع أيضًا من الحق في التمتع بأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة البدنية والعقلية الذي يكفله العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. ويعتمد احترام هذا الحق بشكل كبير على توفر الإمكانيات، ولكن استنادًا إلى المعايير الدولية، فان جميع الدول، وبغض النظر عن أوضاعها الاقتصادية، مُلزمة بضمان تحقيق "الالتزامات الأساسية الدنيا" في ما يتعلق بالحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية يمكن بلوغه.

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.

الأكثر مشاهدة