وُجدت حقوق الإنسان لحماية الناس من انتهاكات الحكومات وإهمالها. تقيّد الحقوق ما يمكن للحكومات فعله وتفرض واجبات لضبط طريقة تصرفها. لكن ظهر اليوم جيل من الشعبويين يقلبون هذه الحماية رأسا على عقب. يدّعون أنهم يتحدّثون "باسم الشعب"، لكنهم يرون في الحقوق عائقا أمام تحقيق إرادة الأغلبية، وعقبة لا داعي لها لحماية البلاد من الأخطار والشرور المحتملة. وبدل تقبّل الحقوق على أنها حماية للجميع، يُعطون الأفضلية لمصالح الأغلبية المعلنة، مشجعين الناس على تبني معتقد خطير: أنهم لن يحتاجوا أبدا إلى الدفاع عن حقوقهم ضد حكومة متسلطة تدّعي العمل باسمهم.
تزايدت جاذبية الشعبويين مع تزايد غضب الناس من الأوضاع الراهنة. في الغرب، يشعر الكثيرون أنهم متخلفون عن الركب بسبب التغيرات التكنولوجية وعولمة الاقتصاد وتزايد الفوارق. تزرع أحداث الإرهاب المريعة الخوف والقلق في نفوس الناس. ولا يحس بعضهم بالارتياح في مجتمعاتهم التي صارت أكثر تنوعا من الناحية العرقية والدينية. هناك شعور متنام بأن الحكومات تتجاهل انشغالات الناس.
في مزيج السخط هذا، يزدهر بعض السياسيين، بل يمسكون بزمام السلطة، على أساس أن الحقوق تساعد فقط المتهم بالإرهاب أو طالب اللجوء على حساب الأمن والرفاه الاقتصادي والتفضيلات الثقافية للأغلبية المفترضة. فيجعلون اللاجئين والمهاجرين والأقليات أكباش فدى. كثيرا ما تذهب الحقيقة ضحية، بينما الأهلانية (تفضيل مصالح المولودين في البلد على حقوق المهاجرين) والعداء للأجانب والعنصرية ومعاداة الإسلام في تصاعد.
يهدد هذا التوجه الخطير بهدم إنجازات حركة حقوق الإنسان المعاصرة. كانت تلك الحركة في بداياتها منشغلة بفظاعات الحرب العالمية الثانية والاضطهاد الذي صاحب الحرب الباردة. ولما تبينت الشرور التي يمكن للحكومات الإقدام عليها، تبنت الدول سلسلة من معاهدات حقوق الإنسان للحد من الانتهاكات وردعها. كان من الواضح أن الدفاع عن تلك الحقوق ضروري ليعيش الأفراد بكرامة. كان الاحترام المتنامي لحقوق الإنسان أساس مجتمعات أكثر حرية وأمنا وازدهارا.
لكن اليوم، أصبح عدد متزايد من الناس لا يرون في الحقوق حماية لهم من الدولة، بل عقبة أمام جهود الحكومات للدفاع عنها. في الولايات المتحدة وأوروبا، تحتل الهجرة صدارة لائحة التهديدات، حيث تتقاطع المخاوف بشأن الهوية الثقافية والفرص الاقتصادية والإرهاب. صارت فئة واسعة من الناس، بتشجيع شعبوي، تعتبر أن الحقوق تحمي فقط "هؤلاء الآخرين" ولا تحميهم، فيمكن إذن الاستغناء عنها. يقول الشعبويون إنه إن أرادت الأغلبية تقييد حقوق اللاجئين والمهاجرين أو الأقليات، فيجب أن تكون مُخّولة لفعل ذلك. حيلولة المعاهدات والمؤسسات الدولية دون ذلك فقط يؤجج تلك الكراهية تجاه الحقوق في عالم تُولى فيه الأسبقية للأهلانية على حساب الانفتاح على العالم.
ربما من طبيعة الإنسان صعوبة الإحساس بالتماهي مع من هم مختلفون عنه، وسهولة القبول بانتهاك حقوقهم. يهوّن الناس على أنفسهم بافتراض خطير: بأنه يمكن تطبيق القانون بشكل انتقائي – بأنه يمكن انتهاك حقوق الآخرين بينما تبقى حقوقهم مصونة.
لكن الحقوق بطبيعتها لا تقبل المقاربة الانتقائية. قد لا تحبّ جيرانك، لكنك إذا أهدرت حقوقهم اليوم، فإنك تخاطر بحقوقك غدا، لأن الحقوق في النهاية ترتكز على واجب متبادل بمعاملة الآخرين كما تريدهم أن يعاملوك. انتهاك حقوق البعض هو إضعاف لهيكل الحقوق الذي سيحتاج إليه لا محالة أعضاء الأغلبية المفترضة، الذين تُرتكب باسمهم الانتهاكات.
إننا نُعرّض أنفسنا للخطر بنسيان ديماغوجيي الماضي من فاشيين وشيوعيين وأمثالهم ممن ادّعوا القدرة على فهم مصالح الأغلبية، وسحقوا الفرد في النهاية. عندما يعتبر الشعبويون الحقوق عقبة أمام ما يرونه إرادة الأغلبية، فإن انقلابهم على من لا يتفق مع أجندتهم مسألة وقت. يكون الأمر أشد خطورة عندما يهاجم الشعبويون استقلال القضاء لالتزامه بسيادة القانون – أي لفرض قيود الحقوق على التصرفات الحكومية.
هذه الادعاءات باتباع إرادة الأغلبية بلا قيود والهجوم على الضوابط التي تقيد سلطة الحكومة قد تكون أعظم خطر تواجهه الديموقراطية في الغرب اليوم.
انتشار التهديد وردّة الفعل الفاترة
بدل مواجهة هذه الموجة الشعبوية، يبدو أن العديد من القادة السياسيين الغربيين فقدوا الثقة في قيم حقوق الإنسان، مكتفين بتقديم دعم فاتر لها. قلّة هُمُ القادة الذين أبدوا استعدادا للدفاع عنها بقوة، باستثناء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والرئيس الأمريكي باراك أوباما.
يبدو أن بعض القادة دفنوا رؤوسهم في الرمل على أمل أن تمر رياح الشعبوية. ويبدو أن آخرين يأملون أن مجاراة الشعبويين قد تخفف من سطوتهم، هذا إن لم يطمعوا هم في الاستفادة من المشاعر الشعبوية. انتقدت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي "محامين يساريين ناشطين في حقوق الإنسان" يتجرأون على مواجهة القوات البريطانية بشأن التعذيب في العراق. اقتبس الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند من دليل "الجبهة الوطنية" وجعل حرمان مزدوجي الجنسية المولودين في فرنسا من جنسياتهم جزءا رئيسيا من سياسته ضد الإرهاب، وهي المبادرة التي تخلى عنها فيما بعد بأسف. الحكومة الهولندية تدعم تقييد ارتداء النساء المسلمات للنقاب وما يشابهه. ويدعم عدد من القادة الأوروبيين اليوم دعوة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى إغلاق الحدود الأوروبية وترك اللاجئين في وضع حرج. من شأن محاكاة الشعبويين بهذه الطريقة تقوية السياسيين الذين يهاجمون قيم حقوق الإنسان وإعطائهم الشرعية.
يمكن إيجاد توجهات مماثلة خارج العالم الغربي. يبدو أن صعود الشعبويين الغربيين قد شجع عددا من القادة على تصعيد انتهاكاتهم لحقوق الإنسان. مثلا، دافع الكريملن بقوة عن حكم فلاديمير بوتين المستبد معتبرا أنه ليس بأسوأ من سجل الغرب الحقوقي الآخذ في التدهور. وكما الشأن بالنسبة لبوتين، واصل الرئيس شي جين بينغ أكبر حملة اضطهاد للأصوات المعارضة في الصين منذ عقدين. استغل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محاولة انقلاب ضده لسحق الأصوات المعارضة. عزز الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حملته القمعية بعد الانقلاب الذي قاده. رئيس الفليبين رودريغو دوتيرتي دعا علانية إلى إعدام المتهمين بتعاطي المخدرات والاتجار فيها دون محاكمة – بل وإعدام الحقوقيين الذين يدافعون عنهم. رئيس الوزراء الهندي ناريندا مودي حاول إسكات المنظمات الحقوقية المعارضة، بينما غض الطرف عن التهديد وجرائم الكراهية التي يرتكبها القوميون الهندوس ضد الأقليات الدينية والعرقية.
أما الرئيس السوري بشار الأسد، فضرب بقوانين الحرب الدولية عرض الحائط، مُدركا أن لا خطر عليه ليس من احتجاجات الغرب العَرَضية، مدعوما بروسيا وإيران و"حزب الله" اللبناني، فهاجم المدنيين بلا هوادة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة بما في ذلك شرقي حلب. في أفريقيا، انتقد عدد من القادة، الذين يخشون على أنفسهم من الملاحقات المحلية أو الدولية، "المحكمة الجنائية الدولية" وأعلن 3 منهم نية الانسحاب منها.
لصد هذه التوجهات، هناك حاجة ماسة إلى إعادة التأكيد على أهمية حقوق الإنسان. يمكن تقبل ارتباك السياسيين الرئيسيين واضطرارهم لإعادة ترتيب أوراقهم بسبب صعود الشعبويين، لكن لا يُعقل أن يتمّ التخلي عن المبادئ الحقوقية الأساسية، لا من قبلهم ولا من قبل الشعب. تخدم الحكومات الملتزمة باحترام حقوق الإنسان شعوبها أفضل لأنهم أبعد عن الفساد وتعظيم الذات والاعتباطية التي ترافق الحكم الاستبدادي عادة. والحكومات المؤسسة على احترام سيادة القانون في موقع أفضل للاستماع إلى مواطنيها وقضاياهم والتطرق إليها. كما أن الحكومات التي تحترم حقوق الإنسان يسهُل استبدالها عندما يُصبح الشعب غير راض عن حكمها.
لكن إذا هيمنت جاذبية الرجل القوي وتعالت أصوات التعصب، فقد يدخل العالم مرحلة مظلمة. لا ينبغي الاستخفاف بالديماغوجيين الذين يضحّون بحقوق الغير باسمنا اليوم، للتخلص من حقوقنا غدا عندما تصبح أولويتهم الحقيقية – الحفاظ على السلطة – في خطر.
خطاب ترامب الخطير
كانت حملة دونالد ترامب الناجحة لنيل رئاسة الولايات المتحدة خير مثال على سياسة التعصب هذه. تطرق ترامب، بوضوح تارة وبطريقة مبطّنة تارة أخرى، إلى غضب كثير من الأمريكيين من الركود الاقتصادي والمجتمع الذي يزداد تنوعا، بطريقة تتعارض مع المبادئ الأساسية للكرامة والمساواة. فقد قدّم صورة نمطية عن المهاجرين وصورة شرّيرة عن اللاجئين وهاجم أحد القضاة لكونه من أصول مكسيكية، وسخر من صحفي ذي احتياجات خاصة، وتجاهل عدة تهم بالاعتداء الجنسي، ووعد بالتراجع عن حق النساء في التحكم في خصوبتهن.
ما يزيد الطين بلة كون خطابه فارغا من الناحية العملية. فمثلا، ارتكز جزء هام من حملته على مهاجمة الاتفاقيات التجارية والاقتصاد المُعولم، لكنه أيضا جعل من المهاجرين غير المسجلين أكباش فدى، مُتّهما إياهم بسرقة وظائف الأمريكيين. ومع ذلك، فإن حملة التهجير الواسعة التي هدّد بها، بما في ذلك لأولئك الذين لهم أواصر متينة بالولايات المتحدة ومساهمة إيجابية في الاقتصاد، لن تفيد في إعادة وظائف الصناعة التي فقدتها الولايات المتحدة منذ زمن. مازال التوظيف ينمو في الولايات المتحدة، لكن الركود الاقتصادي لدى البعض لا يمكن ربطه بالمهاجرين غير المسجلين الذين لم تتغير أعدادهم بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، والذين هم عادة على استعداد للقيام بأعمال لا يريدها معظم الأمريكيين.
خلال حملة الانتخابية، كانت خطته لمواجهة الإرهاب الذي يرتكبه المسلمون عقيمة هي الأخرى – بل قد تفضي إلى نتائج عكسية – حيث شوّه صورة المجتمعات المسلمة التي يُعدّ تعاونُها مهما لاستباق مؤامرات الغد. صوّر اللاجئين كخطر أمني رغم كونهم يخضعون لتدقيقات أكبر بكثير من معظم الأشخاص الذين يزورون الولايات المتحدة لأغراض التجارة أو التعليم أو السياحة. كما لم يُبدِ ترامب أي استعداد للتخفيف من الإجراءات الفضفاضة مثل المراقبة الشاملة، وهي خرق سافر للخصوصية ولم تثبت أنها أكثر نجاعة من الحراسة الهادفة التي تخضع للرقابة القضائية.
بل طرح ترامب العودة إلى استخدام التعذيب مثل الإيهام بالغرق، ناسيا على ما يبدو الهدية العظيمة التي قدمها جورج بوش الإبن للمجنّدين الإرهابيين تحت مسمى "تقنيات الاستجواب المعززة". بعد الانتخابات، اكتشف ترامب متأخرا بعد نقاش مع الجنرال الذي عينه على رأس وزارة الدفاع أن التعذيب غير مجد، لكنه أعرب في نفس الوقت عن استعداده للعودة إلى التعذيب "إذا كان ذلك ما يريده الشعب الامريكي". ومن المفترض أن ينال هو شرف تنفيذ تلك الرغبة، متناسيا القوانين والمعاهدات التي تمنع تلك الوحشية مهما كانت الظروف.
موجة الشعبوية في أوروبا
في أوروبا، حاولت شعبوية مماثلة لوم الهجرة، سواء إلى الاتحاد الأوروبي أو داخله، على الركود الاقتصادي. ومع ذلك، قد يجعل هؤلاء الذين كانوا يأملون في وقف الهجرة بالتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي – وهو ربما أوضح مثال على هذا التوجه – اقتصاد بريطانيا أسوأ حالا.
في القارة الأوروبية برُمّتها، يحلم مسؤولون وسياسيون بالعودة إلى أزمنة بعيدة بل خيالية من النقاء العرقي المزعوم، رغم استقرار أقليات مهاجرة في معظم البلدان بشكل نهائي، لكن اندماجهم كأعضاء منتجين في المجتمع يعوقه ذلك العداء الآتي من فوق. هناك مفارقة مأساوية في السياسات المعادية للهجرة لبعض القادة، كما الشأن بالنسبة لأوربان في المجر: رحبت أوروبا بالمهاجرين المجريين الفارين من الاضطهاد السوفييتي، لكن اليوم، يفعل أوربان كل ما بوسعه لجعل حياة الفارين من الحرب والاضطهاد أكثر بؤسا.
ليست أي حكومة مضطرة لقبول كل من طرق بابها، لكن القانون الدولي يحد مما يمكن فعله لمنع الهجرة. يجب الاستماع إلى طالبي اللجوء، وإذا كانت مطالبهم سليمة يجب منحهم ملاذا آمنا. لا يجوز إعادة أي كان إلى الحرب أو الاضطهاد أو التعذيب. وباستثناء حالات نادرة، يجب منح المهاجرين الذين قضوا سنوات في بلد ما أو طوّروا علاقات عائلية فيها مسلكا لتسوية وضعهم. لا يجوز للاحتجاز أن يكون تعسفيا، ويجب أن تتبع إجراءات الإجلاء الطرق القانونية. بإمكان أي حكومة أن تمنع أو تجلي المهاجرين الاقتصاديين مع أخذ هذه المحاذير بعين الاعتبار.
لكن بخلاف نداءات الشعبويين، يجب احترام حقوق الأقليات المهاجرة المقيمة بشكل قانوني في بلد ما احتراما كاملا. لا ينبغي لأحد أن يتعرض للتمييز في السكن أو التعليم أو الشغل. وللجميع، بغض النظر عن وضعهم القانوني، الحق في حماية الشرطة والعدل في النظام القضائي.
إذا احترمت الحكومات هذه المحاذير، يمكنها منع دخول المهاجرين الاقتصاديين وإعادتهم إلى أوطانهم.
لكن بخلاف مناشدات الشعبويين، يجب احترام حقوق مجتمعات المهاجرين التي تعيش بحسب القانون في بلد ما بشكل كامل. يجب ألا يواجه أي أحد التمييز في السكن، التعليم، أو العمل. الجميع، بغض النظر عن وضعهم القانوني، لهم في الحماية من قبل الشرطة والإنصاف في النظام القضائي.
على الحكومات الاستثمار لمساعدة المهاجرين على الاندماج والمشاركة في المجتمع بشكل كامل. وعلى المسؤولين خاصة رفض كراهية وتعصب الشعبويين وتأكيد ثقتهم في المحاكم المستقلة والمحايدة التي من واجبها الحفاظ على الحقوق. وحتى مع ازدياد التنوع في بلدان العالم، تبقى تلك الطرق الفضلى لضمان الحفاظ على التقاليد الديموقراطية التي أثبتت أنها أفضل طريق للازدهار.
يبرر بعض السياسيين، خاصة في أوروبا، عداءهم للمهاجرين – خاصة المسلمين – بالقول إنهم يريدون قمع النساء واضطهاد المثليين كما الحال في بلدانهم الأصلية. لكن الرد الصحيح على تلك الممارسات القمعية هو رفضها – فهي السبب الذي جعل الكثير من اللاجئين يهجرون بلدانهم – وضمان احترام كل أفراد المجتمع لحقوق كل الآخرين. ليس الجواب أن ترفض حقوق فئة من الناس – عادة ما يتعلق الأمر بالمسلمين في الظروف الراهنة – باسم حماية حقوق الآخرين. هذه الانتقائية في احترام تطبيق الحقوق تمسُّ بشمولية الحقوق وهي جوهرها.
تزايد الاستبداد في تركيا ومصر
إن حكم إردوغان الذي يزداد دكتاتورية في تركيا خير مثال على خطر حاكم يهضم الحقوق باسم الأغلبية. فقد أبدى مع مر السنين تسامحا أقل مع أولئك الذين رفضوا مخططاته، سواء تعلق الأمر ببناء منتزه وسط إسطنبول أو بتعديل الدستور للسماح برئاسة تنفيذية للبلاد.
في العام الماضي، استغل إردوغان وحزبُه "العدالة والتنمية" محاولة انقلاب ومئات الضحايا التي خلفتها لقمع الانقلابيين الذين يتهمهم بالشراكة مع الداعية الإسلامي المنفي فتح الله غولن، لكن أيضا مئات الآلاف ممن يعتبرهم أتباعه. وتحولت حالة الطوارئ المعلنة إلى فرصة لقمع كل من يراهم معارضين له، مُغلقا عددا من وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات الحقوقية. كما سجنت الحكومة، باسم ملاحقة "حزب العمال الكردستاني"، قادة وبرلمانيين في أهم حزب موال للأكراد في البرلمان وأقال عُمداته.
تلقّت حكومة إردوغان دعما واسعا من كل الأحزاب بعد محاولة الانقلاب، نظرا إلى ارتياح الجميع في تركيا بعد فشلها. لكن سابقة الاضطهاد والقضاء على استقلالية المحاكم والقانون تعني أن لا شيء صار يقف في طريق إردوغان وحملته القمعية. ربما كان من المتوقع حدوث ردود فعل حازمة في الوقت المناسب من القادة الأوروبيين، لكن مصالح أخرى من قبيل الحد من تدفق المهاجرين ومحاربة ما يسمى بـ "الدولة الإسلامية" (أو "داعش") منعتهم من ذلك.
شهدت مصر تحت حكم السيسي تطورات مماثلة. رحّب الكثير من المصريين غير الراضين عن الحكم القصير لـ "الإخوان المسلمون" بقيادة الرئيس محمد مرسي بالانقلاب العسكري الذي قاده السيسي في 2013. لكنه حكم البلاد حكما أكثر قمعا حتى من دكتاتورية حسني مبارك الطويلة، التي أطيح بها في الربيع العربي. فمثلا، أشرف السيسي على مقتل 817 متظاهرا من الإخوان على الأقل في يوم واحد في أغسطس/آب 2013 – وهو من أكبر المجازر المرتكبة ضد محتجين في الوقت المعاصر.
ظن كثير من المصريين أنه لن يُستهدف إلا الإخوان، لكن السيسي أغلق الفضاء السياسي بشكل جذري، حيث تم إيقاف المنظمات الحقوقية ووسائل الاعلام المستقلة والاحزاب السياسية المعارضة. كما سُجن عشرات الآلاف، بعد تعذيبهم في بعض الأحيان، بإجراءات قضائية هزيلة أو بدونها.
الجاذبية السطحية للرجل القوي
موجة الشعبوية المتزايدة باسم الاغلبية المفترضة جاءت بالتوازي مع ولع جديد بحكم الرجل القوي، وهو ما اتضح خاصة خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. اتّباعا لهذا المنطق، إذا كان كل ما يهم هو المصالح المعلنة للأغلبية، فلم لا نتّبع المُستبد الذي لا يبدي أي تردد في تأكيد رؤيته "التي تخدم الأغلبية" – ولو كانت في مصلحته الشخصية – وإخضاع أولئك الذين لا يتفقون معه.
لكن انسياقات اللحظة مع النزعة الشعبوية غالبا ما تُخفي الأخطار طويلة الأمد التي يأتي بها حكم الرجل القوي. فبوتين، مثلا، حكم روسيا واقتصادها آخذ بالتدهور ويعاني من فساد زبائني ضخم، وفشل في تنويع مواردها عندما ارتفعت أسعار النفط، مما تركها في موقف ضعيف عندما انخفضت فيما بعد. وخوفا من أن الغضب الشعبي كذاك الذي ظهر في شوارع موسكو وغيرها من كبرى المدن في أوائل 2011 قد يعود وينتشر، عمل بوتين على استباقه؛ فرض قيودا صارمة على حريتي التجمع والتعبير، وعقوبات غير مسبوقة على المعارضة على الانترنت، وشلّ منظمات المجتمع المدني.
عزز الكريملن استبداد بوتين وشعبيته بتحريك المشاعر القومية دعما لاحتلال روسيا شبه جزيرة القرم، مما جعل الاتحاد الأوروبي يفرض عليها عقوبات زادت التدهور الاقتصادي سوءا. في سوريا، جعل دعمُ بوتين للمجازر التي يرتكبها الأسد في حق المدنيين، بمشاركة الطائرات الروسية، رفع تلك العقوبات بعيد المنال. ولحد الآن، حاول خبراء الدعاية المهرة في الكريملن تبرير المصاعب الاقتصادية المتزايدة بضرورة مواجهة محاولات الغرب المفترضة لإضعاف روسيا. لكن مع تدهور الاقتصاد أكثر، صار من الصعب إقناع الشعب بتلك الفكرة.
اتبع الرئيس الصيني شي طريقا قمعيا مماثلا. عرفت الصين نموا اقتصاديا مميزا لكون قادة الصين السابقين حرروا الشعب اقتصاديا من نزوات الحزب الشيوعي، الذي أتى بـ "القفزة العظيمة إلى الأمام" و"الثورة الثقافية" الكارثيتين. لكن التحرير الاقتصادي لم يكن مرفقا بالإصلاحات السياسية، التي ماتت في المهد بعد سحق الحركة الديموقراطية في ساحة تيانانمن عام 1989. أخذت الحكومات اللاحقة قرارات اقتصادية تقودها رغبة الحزب في إبقاء النمو بأي ثمن لكي يخمد الاستياء الشعبي. ازدهر الفساد، اختلت المساواة الاجتماعية بشكل كبير، وتدهورت البيئة.
بدأ شي هو الآخر أكبر حملة قمعية منذ أيام تيانانمن، خوفا من أن يتعالى الغضب الشعبي مع تباطؤ النمو الاقتصادي، جاعلا حكومته أقل خضوعا للمحاسبة. ورغم أنه منح نفسه لائحة طويلة من صفات القيادة، يبدو هذا الرجل القوي خائفا أكثر فأكثر، حيث لا يستجيب لمطالب الشعب الصيني بهواء أنقى وغذاء أكثر أمنا ونظام قضائي عادل وحكومة قابلة للمساءلة.
طبعت توجهات مماثلة حكم مستبدين آخرين. أصبحت الثورة البوليفارية في فنزويلا، التي بدأها الرئيس الراحل هوغو تشافيز ويقودها حاليا خلفه نيكولاس مادورو، كارثة اقتصادية ضحيتها الشرائح الأسوأ حالا من المجتمع والتي تدعي الحكومة أنها تخدمها. كان جزاؤها التضخم والنقص الحاد في الغذاء والدواء، وأصبح البلد الذي يتمتع بأكبر احتياطات نفطية مؤكدة في حالة فقر مدقع. أطلقت الحكومة أيضا مداهمات عسكرية وأمنية في المناطق التي يكثر فيها المهاجرون والمناطق محدودة الدخل، مما أدى إلى مزاعم واسعة النطاق بوقوع انتهاكات، منها إعدامات دون محاكمة وإجلاءات وطرد من المساكن وتدمير المنازل تعسفا.
وأثناء ذلك، كلف الرئيس مادورو، الذي يتحكم بالقضاء، المخابرات باعتقال وإدانة السياسيين المعارضين والمنتقدين من الأشخاص العاديين، وضرب قدرة الأغلبية المعارضة في الجمعية العامة الوطنية على التشريع، واستخدم حلفاءه في السلطة الانتخابية لإعاقة استفتاء حول الإطاحة به.
هناك بالفعل تاريخ طويل من الحكام المستبدين الذين يحققون نتائج لأنفسهم لكن ليس لشعبهم. حتى الانظمة الاستبدادية التي قد تُعتبر أمثلة للنمو مثل إثيوبيا ورواندا، لدى معاينتها عن قرب، تظهر أنها تعاني بسبب حكوماتها. أجبرت الحكومة الاثيوبية المزارعين ومُربّي المواشي على الانتقال إلى أماكن لا تستفيد من الخدمات الأساسية لفسح المجال أمام مشاريع زراعية عملاقة. اعتقلت الحكومة الرواندية الباعة المتجولين والمتسولين وأوسعتهم ضربا في مراكز اعتقال عفنة باسم نظافة الشوارع. آسيا الوسطى مليئة بالحكام الأقوياء التي تعيش بلدانهم الركود تحت حكم شبه-سوفييتي. حتى البلدان الحيوية نسبيا في جنوب شرق آسيا ترى اليوم تقدمها الاقتصادي في خطر بسبب الحكم الخانق للحكام العسكريين التايلنديين وحكومة رئيس الوزراء الماليزي نجيب رزاق الغارقة في الفساد.
المجموعات الحقوقية والمحكمة الجنائية الدولية تتعرض للهجوم
في أفريقيا، تأتي معظم الهجمات على الضمانات الحقوقية من حكام أقوياء يرفضون تسليم السلطة سلميا ويواجهون الانتقادات بالعنف والتشريع. أقدم عدد مقلق من القادة الأفريقيين على إزالة أو تمديد الحد الأقصى لفترات حكمهم – وهو ما يطلق عليه مصطلح الانقلاب الدستوري – بينما شن آخرون حملات قمعية عنيفة لإسكات المعارضة والاحتجاجات الشعبية على الانتخابات غير العادلة أو المشكوك في نزاهتها. عدّل كل من تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو في غينيا الاستوائية ويويري موسفيني في أوغندا وروبرت موغابي في زيمبابوي – وكلهم قضوا أكثر من 30 عاما في الحكم – دساتير دُولهم للبقاء في مناصبهم.
في الأعوام الأخيرة، حققت موجة الرؤساء الذين أرادوا الحكم ولايات إضافية مبتغاها عن طريق سحق المعارضة، كما الشأن في رواندا، أو بقمع الاحتجاجات بالعنف، كما في بوروندي والكونغو الديموقراطية. استخدمت العديد من تلك الحكومات وسائل مماثلة لقمع منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام المستقلة، وتقييد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت، وإسكات المعارضة السياسية. إستهدفت الهجمات ضد منظمات المجتمع المدني تمويلها خاصة؛ كانت إثيوبيا رائدة في استخدام هذا التكتيك، حيث تطلب حكومات المساعدات والتجارة والاستثمارات الخارجية، لكنها تغير رأيها فجأة عندما يتعلق الأمر بمنظمات حقوقية تبحث عن مساهمات من الخارج.
وغالبا ما يتقاطع رفض الحكام الاقوياء التخلي عن الحكم مع خوفهم من المتابعات القضائية بتُهم جرائم ارتكبوها خلال ولاياتهم. رئيس بوروندي بيير نكورونزيزا كان أول من أعلن نيته الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية لأن الاضطهاد العنيف الذي مارسه خلال حكمه يجعله هدفا رئيسيا للمتابعة القضائية. والتحق به بفترة وجيزة رئيس غامبيا يحيى جامع، وهو دكتاتور مشهور بوحشيته، رغم أنّه أُزيح من منصبه بعدها بقليل، حيث قال خلفه المُنتخب أداما بارو إنه سيلغي قرار الانسحاب من المحكمة. كانت جنوب أفريقيا منذ زمن رائدة في حقوق الانسان والعدالة، لكن الرئيس جاكوب زوما بدأ عملية الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية بينما تلاحقه اتهامات بالفساد، ورفض داخلي محرج لقراره الاستخفاف بإحدى قرارات المحكمة والسماح لرئيس السودان عمر البشير بمغادرة البلاد بدل مواجهة تهم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية. الرئيس الكيني أوهورو كينييتا، الذي أُسقطت عنه التهم بسبب الضغوط التي تعرض إليها الشهود وعرقلة حكومته للتحقيقات، شجع الاتحاد الافريقي على مهاجمة المحكمة.
كون تلك القلة من القادة الأفارقة لا يتحدثون باسم كل الأفارقة تبين على لسان المنظمات الحقوقية، التي أكدت دعمها للمحكمة من كل أنحاء القارة. ومن الدول التي دعمتها أيضا نيجيريا وتنزانيا والسنغال وغانا. هؤلاء الأفارقة أدركوا أن المحكمة التي تقودها مدعية عامة أفريقية تحاول إنهاء الإفلات من العقاب المتسبب في الكثير من المعاناة، ليست عدوة للقارة كما يدعي البعض.
ما يخلق صعوبات للمحكمة الجنائية الدولية، التي ركزت طوال 2015 على ضحايا أفارقة فقط، عدمُ انضمام بلدان كبرى إليها كالولايات المتحدة والصين وروسيا. وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مازالت لم تحقق في عدد من القضايا غير الأفريقية التي كانت قد فتحتها، كتلك المتعلقة بمسؤولين أمريكيين اتُّهموا بالتعذيب في أفغانستان دون أن يدانوا، أو مسؤولين إسرائيليين لتوطينهم إسرائيليين في الضفة الغربية المحتلة.
إذا كان رافضو المحكمة يريدون قضاء عادلا حقّا، عليهم قيادة الجهود لتشجيع استكمال التحقيقات، أو الضغط على روسيا والصين للكف عن استخدام حق النقض في مجلس الأمن لرفض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في الفظاعات المرتكبة في سوريا. ويبيّن صمتُهم حيال هذه الجهود لتحقيق عدالة شاملة اهتماماتهم الحقيقية – إضعاف احتمال تحقيق العدالة في بلدانهم. كون عدد من دول أفريقيا يريدون استبدال المحكمة الجنائية الدولية بأخرى أفريقية تعفي الرؤساء وغيرهم من كبار المسؤولين أثناء ولاياتهم خير دليل على ذلك.
لم تأت كل الهجمات على المحكمة الجنائية الدولية من أفريقيا، لكن كانت مصلحتها المشتركة الإفلات من العقاب. لم تكن روسيا قد انضمت إلى المحكمة لكنها جمّدت توقيعها، وهي خطوة ذات أهمية رمزية لا عملية – بعدما فتح الادعاء في المحكمة الدولية تحقيقا في جرائم مفترضة ارتُكبت خلال النزاع الجورجي-الروسي في 2008 وجعلت الوضع في أوكرانيا تحت المجهر. رفض الرئيس الفلبيني دوتيرتي المحكمة على أنها "عديمة الجدوى" بعدما قال ادعاؤها إن تشجيع دوتيرتي للإعدامات بدون محاكمة قد يكون من اختصاصها.
المحكمة الجنائية الدولية، بعملها على تحقيق العدالة في أبشع الجرائم في العالم عندما تخفق في ذلك محاكم البلدان، ستصطدم لا محالة بمصالح سياسية قوية رافضة للمساءلة. وبالمقابل، فهي في حاجة إلى مساعدة مقابلة سياسية وعملية من أنصارها لتنجح.
الهجمات على المدنيين في سوريا
قد تمثل سوريا أخطر تهديد لمعايير حقوق الإنسان. ما من قاعدة أهم في وقت الحرب من منع مهاجمة المدنيين. لكن استراتيجية الأسد العسكرية كانت إطلاق النار عمدا أو عشوائيا على المدنيين الذين يعيشون في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، وأيضا ضد البنى التحتية المدنية كالمستشفيات.
جلب الأسد الخراب إلى مناطق واسعة من المدن السورية بواسطة غارات جوية مدمرة، شملت استخدام "البراميل المتفجرة" والذخائر العنقودية والقصف المدفعي والأسلحة الكيميائية في بعض الأحيان، وذلك بهدف إخلائها من سكانها وجعل سيطرة قوات المعارضة عليها أمرا صعبا. عزز الأسد تلك الاستراتيجية بحصارات قاتلة تهدف إلى تجويع السكان المدنيين لدفعهم إلى الاستسلام.
منذ سبتمبر/أيلول 2015، وبالرغم من جرائم الحرب الصارخة هذه، تلقى الأسد دعم القوات الروسية التي عززت قدراته القتالية بشكل كبير لكن دون تغيير استراتيجيته. وتبدو الاستراتيجية شبيهة بتلك التي استخدمها الكريملن لتدمير العاصمة الشيشانية غروزني في 1999 و2000 لسحق التمرد المسلح.
جرائم الحرب هذه ضد المدنيين، والتي ترتكب دونما تحركات لملاحقة مرتكبيها أمام العدالة، هي السبب الرئيسي الذي جعل عددا هائلا من السوريين ينزحون. فنصفُهم أُجبر على مغادرة دياره بينما فرّ حوالي 4.8 مليون إلى البلدان المجاورة، خاصة لبنان وتركيا والأردن، وتابع حوالي مليون منهم طريقهم إلى أوروبا. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بسوريا، يبقى الغرب مركزا على داعش. تنظيم داعش مسؤول عن فظاعات لا توصف، ويمثل تهديدا يذهب أبعد بكثير من ملاذه في سوريا والعراق، لكن حصيلته من المدنيين في سوريا لا تقارن بحصيلة الأسد. تقول مصادر محلية إن قوات الأسد وحلفاءه مسؤولة عن حوالي 90 بالمئة من القتلى المدنيين السوريين.
ولأن بقاء الأسد سياسيا اليوم يعتمد على الدعم العسكري الروسي، فإن لبوتين سلطة كبيرة على سلوكه. لكن ليس هناك من دليل على أن الكريملن استغل تلك السلطة لوقف تقتيل المدنيين. بل بالعكس، شاركت فيه القاذفات الروسية باستمرار، كما الحال في مأساة حلب.
ومع ذلك، بقيت إدارة أوباما مترددة بشكل مخيب للآمال في الضغط على روسيا لاستخدام تلك السلطة، مركزة بدل ذلك على روسيا كشريك في محادثات السلام – رغم أن تلك المحادثات امتدت إلى ما لا نهاية دون حقيق نتيجة تذكر، بينما تستمر الهجمات على المدنيين مما يجعل احتمال توصل قوات المعارضة السورية إلى اتفاق مع الحكومة أبعد.
ويبدو من خلال خطاب حملة الرئيس المنتخب ترامب أنه مصمم على التركيز أكثر على داعش، بل يقترح ضم جهوده إلى جهود بوتين والأسد لهذا الغرض، متجاهلا بوضوح أنهما لم يفعلا إلا القليل لمواجهة داعش، وأن المجازر التي يرتكبانها تصب في مصلحة داعش وجهود التنظيم لتجنيد أعضاء جدد. وحتى إذا تم دحر داعش عسكريا في النهاية، فإن تلك الفظاعات قد تسهل ولادة جماعات متطرفة جديدة، كما ساعدت فظاعات مماثلة على ولادة داعش من أنقاض القاعدة في العراق.
الحاجة إلى إعادة التأكيد على قيم حقوق الإنسان
ما نحتاج إليه لمواجهة هذا الهجوم على حقوق الإنسان حول العالم هو إعادة التأكيد على القيم الأساسية التي ترتكز عليها هذه الحقوق، والدفاع عنها بحزم.
هناك أدوار مهمة يمكن للكثيرين الاضطلاع بها. منظمات المجتمع المدني، خاصة تلك التي تناضل من أجل الحفاظ على الحقوق، عليها الدفاع عن الفضاءات المدنية أينما تعرضت للتهديد، وبناء تحالفات بين مختلف الفئات تأكيدا على المصلحة المشتركة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وجسر الهوة بين الشمال والجنوب لتضافر الجهود ضد المستبدين الذين يتعلمون من بعضهم البعض، كما يبدو بوضوح.
على وسائل الإعلام المساعدة على تسليط الضوء على هذه الميولات الخطيرة، وإثراء تغطياتها للخطابات والتصرفات الحالية بتحليلات لعواقبها المحتملة على المدى الطويل. كما عليها أن تبذل مجهودا خاصا لفضح ودحض الدعايات الكاذبة و"الأخبار الزائفة" التي تروّج لها بعض الجهات.
على الحكومات التي تعلن التزامها بالدفاع عن حقوق الإنسان أن تدافع باستمرار عن المبادئ الأساسية لتلك الحقوق. ومن بينها ديموقراطيات أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا التي تصوت إيجابا على المبادرات التي تتخذها دول أخرى في الأمم المتحدة، لكنها نادرا ما تأخذ زمام المبادرة، سواء لدى الأم المتحدة أو في علاقاتها المباشرة مع دول أخرى.
وتبقى المسؤولية مسؤولية الشعوب. الديماغوجيون يتاجرون في الكلام ويحشدون الدعم بالتلاعب بالتفسيرات الخاطئة والحلول الكاذبة لمشكلات حقيقية. ويبقى أفضل حل هو مطالبة الشعوب بسياسة مبنية على الحقيقة والقيم التي بنيت عليها الديموقراطية التي تحترم الحقوق. ينجح الشعبويون في غياب المعارضة. ليس هناك من وسيلة أفضل من رد فعل شعبي قوي باستخدام كل الوسائل المتاحة من مجتمع مدني وأحزاب سياسية وإعلام تقليدي ووسائط اجتماعية للدفاع عن القيم التي مازال الكثيرون يقدّسونها بالرغم من المصاعب التي تمرّ بها.
لا تصبح الأكاذيب حقيقة فقط لأن جيشا من المخادعين على الانترنت أو الاتباع السياسيين ينشرونها. قبول الأكاذيب كحقائق ليست نتيجة حتميا. فللحقائق قوتها، وهو ما يجعل المستبدين يبذلون كل تلك الجهود لفرض الرقابة على من يكشف الحقائق المزعجة، خاصة فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.
القيم هشة. وكون قيم حقوق الإنسان تعتمد بشكل كبير على التعاطف مع الآخرين، والاعتراف بأهمية معاملتهم كما نريد أن نُعامل نحن، يجعلها ضعيفة أمام دعوات الديماغوجيين الإقصائية. تحتاج ثقافة احترام حقوق الإنسان في مجتمع ما إلى العناية المستمرة، كي لا تجرف مخاوفُ اللحظة الحكمة التي أنشأت الحكم الديموقراطي.