Iraq and Iraqi Kurdistan



العراق

  
عدوان الحكومة العراقية على عرب الأهوار
دراسة للإحاطة
أعدتها منظمة هيومن رايتس ووتش
يناير/كانون الثاني 2003

ملخص

تتضمن دراسة الإحاطة الحالية تفاصيل الحملة المستمرة التي شنتها الحكومة البعثية العراقية على طائفة "المعدان" أو من يُسمون بعرب الأهوار، وهم الشريحة السكانية التي يتكون معظمها من الشيعة وتقيم في الأهوار، أي أراضي المستنقعات في جنوب العراق عند التقاء نهري دجلة والفرات. وكان عدد هؤلاء يبلغ نحو 250 ألف نسمة منذ عهدٍ قريب، أي في عام 1991، ولكن المعتقد أن عددهم قد تضاءل الآن فلم يعد المقيمون منهم في أرض أجدادهم يصل إلى 40 ألفاً، حيث تعرض الكثيرون منهم للاعتقال أو "الإخفاء" أو الإعدام، وغدا أغلبهم من اللاجئين في الخارج، أو النازحين داخل العراق، نتيجة الاضطهاد العراقي. ومعنى هذا هو الاستئصال المتواصل لسكان الأهوار العرب وثقافتهم، وهم الذين لم يبرحوا منطقة الأهوار المذكورة بل ظلوا مقيمين فيها لما يزيد عن 5000 عام.

وقع عدوان الحكومة العراقية على عرب الأهوار في إطار قمعها للسكان الشيعة في البلد بصفة عامة. ولقد بلغ ذلك القمع من القسوة والوحشية ما بلغه قمع الأكراد في الشمال، والتمييز ضد الشيعة في العراق، الذين يمثلون ما يتراوح بين 60 و65 في المائة، وفق التقديرات المتاحة، من سكان البلد، ذو جذور ضاربة في أعماق التاريخ السياسي للبلد
المحتويات :
  • ملخص
  • "خطة العمل" الحكومية
  • تقاعس الأمم المتحدة عن اتخاذ أي إجراء
  • النزوح بأعداد هائلة
  • الهوامش
    البيان الصحفي
    العراق: القضاء على عرب الأهوار
    ايضا
    بيان منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" بشأن العراق
  • وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد نشرت في ديسمبر/كانون الأول 2002 دراسة في السياسات عنوانها "العدالة للعراق"، تتضمن تفاصيل بعض الجرائم الخطيرة المرتكبة في العراق في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين (1)، ودعت فيها إلى إنشاء محكمة دولية لإقامة العدالة بإحالة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، إلى المحاكمة. ودراسة الإحاطة الحالية تركز على جريمةٍ من مثل تلك الجرائم.

    فعلى مدى أكثر من عقدين من الزمان، تعرض سكان العراق من الشيعة، الذين يمثلون معاً ما لا يقل عن 60 في المائة من سكان العراق، لحملةٍ اضطهاد ضاريةٍ من جانب الحكومة، إذ تخشى السلطات أن تسعى الشيعة في العراق إلى أن تحذو حذو الشيعة في إيران.

    ولم تكد حرب الخليج تضع أوزارها عام 1991 حتى بدأت الحكومة تختص عرب الأهوار بالعدوان المباشر عليهم؛ فوقعت حالات الاعتقال الجماعية، وحالات "الإخفاء" القسرية للأفراد، والتعذيب، وإعدام المعارضين السياسيين، وصاحب هذه الحملات تجفيف للأهوار، الأمر الذي جلب الكوارث على البيئة الطبيعية، إلى جانب ما دأبت عليه الحكومة من الترحيل القسري المنظم والواسع النطاق لجانب من السكان المحليين.

    أما القمع الذي يتعرض له عرب الأهوار منذ 1988 فقد كانت وراءه عدة عوامل مجتمعة، فبالإضافة إلى كونهم من الشيعة، فإن السلطات العراقية تستهدفهم لأن البقاع النائية في الأهوار تمثل ملجاً يأوي إليه المعارضون السياسيون للنظام، ولأن عرب الأهوار أنفسهم شاركوا عام 1991 في التمرد على حكومة بغداد؛ كما أن الأهوار تزخر بثروات طائلة، إذ اتضح اليوم أن بالمنطقة أكبر ترسيبات نفطية في البلد.

    وقد ظلت الأهوار - جغرافياً وإدارياً - تتمتع بالعزلة النسبية عن سيطرة الحكومة المركزية حتى نهاية الحرب العراقية الإيرانية في الفترة من 1980-1988. ولكن خطة إعادة التوطين القسري وحملة مكافحة التمرد الوحشية اللتين شرعت فيهما الحكومة في مطلع التسعينيات، دفعت المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالعراق إلى الإعراب عن قلقه في عام 1992، مباشرة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولم يتخذ مجلس الأمن أي إجراء، بل ترك الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة وفرنسا تفرض حظراً على الطيران في منطقة محددة في جنوبي العراق، بيد أن ذلك لم يحل دون قيام قوات الحكومة العراقية بعمليات برية، تساندها الطائرات المروحية، على امتداد السنوات القليلة التالية. ولما ازدادت الأدلة على انتشار الدمار والمعاناة البشرية، قام المقرر الخاص للأمم المتحدة بحثِّ الأمم المتحدة على إرسال مراقبين ميدانيين لحقوق الإنسان، وهو الطلب الذي ظل يكرره كل سنة حتى استقالته في عام 1999. وأصدرت كل من لجنة حقوق الإنسان والجمعية العامة قرارات تؤيد فيها توصيته وتطلب من الأمين العام للأمم المتحدة التصريح بالتمويل اللازم لهذا العمل، ولكن ذلك لم يحدث قط؛ وغني عن الذكر أن العراق تجاهل الأمم المتحدة.

    وتعتقد منظمة هيومن رايتس ووتش أن عدداً كبيراً من الأعمال التي تقوم بها الحكومة العراقية في قمعها المنهجي لعرب الأهوار تمثل جريمةً ضد الإنسانية. وكانت الجرائم ترتكب في إطار العدوان الواسع النطاق والمنهجي على السكان المدنيين من عرب الأهوار خلال عقد التسعينيات (2). وكان العدوان يتضمن ارتكاب عدد من الأعمال تنفيذاً للسياسات الحكومية، والجرائم التي تنطوي عليها هذه الأعمال تتضمن ما يلي:
  • قتل الآلاف من المدنيين العزل في أعقاب الانتفاضة الفاشلة في مارس/آذار 1991، وذلك من خلال الإعدام الفوري، والقصف بالطائرات والمدافع دون تمييز للمناطق السكنية في الندن والقرى المجاورة للبصرة والناصرية والعمارة وفي شتى أرجاء منطقة الأهوار؛
  • نقل السكان قسراً - أي الطرد القسري لجانب من سكان الأهوار العرب من قراهم الأصلية إلى مستوطنات في الأراضي الجافة على مشارف الأهوار، وعلى امتداد الطرق العامة الكبرى، تسهيلاً لسيطرة الحكومة عليها؛
  • الحبس التعسفي والطويل الأمد للآلاف الذين اعتقلوا أثناء القصف العسكري للمناطق السكنية في الأهوار، وفي أعقابه، وكان من بينهم مدنيون وآخرون اشتُبه في قيامهم بأنشطةٍ مناهضةٍ للحكومة؛
  • تعذيب المعتقلين من عرب الأهوار الذين احتجزتهم الحكومة، ابتغاء انتزاع المعلومات منهم، وعقاباً لهم، وباعتبار التعذيب من وسائل إلقاء الرعب في قلوب السكان المحليين.
  • "الإخفاء" القسري للكثيرين من عرب الأهوار الذين قُبض عليهم في التسعينيات، ولا يزال مصيرهم ومكان وجودهم في طي المجهول حتى اليوم؛
  • اضطهاد عرب الأهوار من خلال حرمانهم عمداً وبقسوة من حقوقهم الأساسية على أساس هويتهم الدينية والسياسية باعتبارهم مجموعة متكاملة.

    وتدعو منظمة هيومن رايتس ووتش حكومة العراق إلى أن تقوم على الفور بإطلاق سراح عرب الأهوار الذين مازالوا محتجزين؛ وإيضاح مصير ومكان وجود الذين "اختفوا" في أعقاب القبض عليهم؛ ودفع التعويضات إلى ضحايا وأسر الذين اعتُقلوا اعتقالاً تعسفياً، وتعرضوا للتعذيب، أو "الإخفاء" أو الإعدام. ولابد من إحالة مرتكبي جرائم بحق عرب الأهوار إلى العدالة.

    مقدمة: قمع الشيعة

    وقع عدوان الحكومة العراقية على عرب الأهوار في إطار قمعها للسكان الشيعة في البلد بصفة عامة. ولقد بلغ ذلك القمع من القسوة والوحشية ما بلغه قمع الأكراد في الشمال، والتمييز ضد الشيعة في العراق، الذين يمثلون ما يتراوح بين 60 و65 في المائة، وفق التقديرات المتاحة، من سكان البلد، ذو جذور ضاربة في أعماق التاريخ السياسي للبلد.

    ولقد أصبح مصير الشيعة محتوماً، باعتبارهم هدفاً للقمع الحكومي، منذ الثورة الإسلامية التي وقعت في إيران في فبراير/شباط 1979، إذ اعترت الحكومة العراقية المخاوف من أن تدفع الثورة الإيرانية سكان العراق من الشيعة إلى الثورة، فحفزها ذلك إلى المبادرة بشنّ حملة القمع، فقامت في أواخر عام 1979 وأوائل 1980 باعتقال الآلاف في شتى البلدان والمدن في وسط العراق وجنوبها، وكان ذلك، فيما يبدو، للاشتباه في مؤازرتهم للثورة الإسلامية أو وفي إقامة صلات مع النظام الجديد في إيران. ومنذ ذلك الحين تعرض الكثيرون من هؤلاء "للاختفاء" في الحجز ولا يزال مصيرهم مجهولاً، ومات غيرهم تحت وطأة التعذيب أو أُعدموا.

    وسرعان ما أعقبت حملة الاعتقالات المذكورة حملة أشد طموحاً، وهي حملة الطرد القسري لآلاف الشيعة وترحيلهم إلى إيران، وكان التبرير الرسمي لذلك هو "التبعيّة"، أي أنهم من أصول إيرانية. وقد طُرد أكثر من نصف مليون من الشيعة، على الأقل، بصورة منهجية على امتداد الثمانينيات، وكانت بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال والمسنين. وأما رب كل أسرة من هذه الأسر فقد اعتُقل إلى جانب أقاربه من الذكور الشباب، ووُضع الجميع في الحبس إلى أجل غير مسمى ودون تهمة، ولا يزال معظمهم مجهول المصير حتى اليوم. وقد اقترنت هذه الإجراءات بإصدار تشريعات تمييزية ضد الشيعة، وإصدار تشريع يقضي بالحكم بالإعدام، بأثر رجعي، على أعضاء جماعة معارضة شيعية اسمها "جماعة الدعوة الإسلامية"، والإعدام في الحبس والاغتيال المتعمد لكبار الزعماء والعلماء الدينيين.

    وبدأت حملة قمعية أخرى في أعقاب الانتفاضة الفاشلة في مارس/آذار 1991 في جنوبي العراق، بعد هزيمة العراق في حرب الخليج. وكان المدنيون في شتى أرجاء البلاد، وكذلك أفراد بعض قوات المعارضة المسلحة، قد شاركوا في أنشطةٍ مناهضةٍ للحكومة على نطاقٍ واسعٍ، فقامت السلطات العراقية بالقبض على آلاف الأشخاص الذين اشتُبه في مشاركتهم في التمرد الذي استمر ثلاثة أسابيع، في العديد من المدن والقرى في سائر أنحاء جنوبي العراق. وعلى نحو ما ذكرت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرٍ لها صدر عام 1992، فقد "قامت القوات الموالية للحكومة، في محاولتها استعادة المدن [من أيدي الثوار] وبعد تدعيم سيطرتها عليها، بقتل الآلاف من المدنيين العزل، بإطلاق النار دون تمييز في المناطق السكنية، وإعدام الشباب في الشوارع والمنازل والمستشفيات؛ واعتقال المشتبه فيهم، وخصوصاً من بين الشبان، أثناء تفتيش المنازل، واعتقالهم دون اتهام، أو إطلاق النار عليهم جملةً، واستخدام الطائرات المروحية في الهجوم على المدنيين العزل أثناء فرارهم من المدن". (3) ولا يزال مصير ومكان وجود الذين "اختفوا" في الحبس مجهولين حتى الآن.

    وتعرض عشرات الآلاف من الفارّين من الجيش، والمعارضين السياسيين، وغيرهم ممن حاولوا الاحتماء بالأهوار في الجنوب، للمتابعة الدائبة والملاحقة الشديدة من جانب قوات الأمن وقوات الجيش في أعقاب قمع الحكومة العراقية للانتفاضة (4). واستمرت دون هوادة في الشهور التالية عمليات القبض التعسفي واحتجاز المشتبه فيهم إلى أجل غير مسمى، وأحداث القتل. كما شنّت الحكومة هجوماً غير مسبوق على عقائد الشيعة وثقافتهم، فقامت السلطات بتدمير وتدنيس المزارات والأماكن المقدسة، وهدم المكتبات، والمساجد، ومراكز التعليم الديني (الحُسينيّات). وقد أجبر إغلاق مراكز التعليم الشيعية طلابها على طلب العلم في الجامعات والمعاهد الأخرى في العراق حيث يجري تدريس المذهب السنّي لا المذهب الشيعي؛ وفرضت القيود على الشعائر والطقوس الدينية الشيعية، وتعرضت المطبوعات الشيعية للرقابة الصارمة، وفرض الحظر على المواد الإذاعية الدينية.

    وشهد النصف الأخير من عقد التسعينيات وقوع اغتيالات متعمدة لما لا يقل عن ثلاثة من كبار الزعماء والعلماء الدينيين ممن يتمتعون بكثرة الأتباع من الشيعة في مدينتي كربلاء والنجف، وغيرهما. وكانت خطب الجمعة التي يلقيها هؤلاء العلماء والزعماء يؤمها خلق كثير، وكانت أحياناً ما تتضمن انتقادات مُقَنَّعة لسياسات الحكومة وقمعها؛ إذ قام مسلحون مجهولون بقتل ثلاثة من الزعماء الدينيين في ظروف مريبة في كربلاء والنجف ما بين إبريل/نيسان 1998 وفبراير/شباط 1999، كما وقعت محاولتان أخريان على الأقل لاغتيال أشخاصٍ آخرين (5). وكان من أبرز الضحايا آية الله محمد صادق الصدر، الذي قُتل بطلقات نارية هو وابناه في النجف في فبراير/شباط 1999. وبالرغم من أن الحكومة أعلنت - بصدد هذه الحادثة وحادثة أخرى - أنها اعتقلت القتلة المزعومين وحاكمتهم وأعدمتهم، فإن الكثيرين من العراقيين يرون أن الحكومة هي التي أمرت بهذا القتل (6).
    وأدى اغتيال آية الله الصدر إلى اندلاع سلسلة من المظاهرات في عدة بلدان ومدن في جنوبي العراق، بلغت ذروتها في المصادمات المسلحة بين قوات الأمن الحكومية ونشطاء المعارضة، وخصوصاً في مدينة البصرة، في منتصف مارس/آذار 1999. واستخدمت الحكومة العنف في قمع المظاهرات التي جرت في الناصرية وغيرها من المدن، وألقت القبض على المئات. وقامت منظمة هيومن رايتس ووتش، أثناء بعثة إلى سوريا والأردن في مارس/آذار وإبريل/نيسان 2000، بإجراء مقابلات شخصية مع العشرات من الشيعة الذين فروا من العراق في الأسابيع والشهور السابقة. وكان الكثيرون منهم قد شاركوا في أحداث النجف وكربلاء المذكورة وغيرهما من المدن. وقد تحدثوا عن حملة إرهاب حكومية، تتضمن إطلاق النار على المدنيين العزل، وانتشار الاعتقالات، وتفتيش المنازل بحثاً عن المشتبه فيهم، وتعذيب أقارب المشتبه فيهم وسوء معاملتهم لإرغامهم على الإفضاء بمكان وجود من تطلبهم السلطات.

    ويختلف عرب الأهوار عن غيرهم الشيعة في أنهم يتعرضون أيضاً لكارثةٍ بيئية من تدبير الحكومة، فعلى الرغم من أن مسؤولي التخطيط في الحكومة قد وضعوا الخطط والمشروعات اللازمة لتجفيف الأهوار لأغراض اقتصادية منذ أواخر الخمسينيات، على الأقل، فإن جهود التجفيف - بتصريف المياه بها - لم تبدأ بصورة منتظمة إلا في أعقاب الانتفاضة الفاشلة ضد الحكومة في عام 1991، وهو ما سوف نورد تفاصيله هنا، وكان الدافع الأول لها سياسي لا اقتصادي. فقامت السلطات، اعتباراً من عام 1991، وبغية تيسير دخول القوات المسلحة إلى المنطقة، بإنشاء سلسلة من الخزانات والسدود والقنوات التي تستهدف منع مياه دجلة والفرات من التدفق إلى الأهوار. ولم يكد ينقضي عقد واحد حتى ظهرت النتيجة، وهي تدمير أضخم نظام بيئي للمسطحات المائية في الشرق الأوسط. وكشفت دراسة بيئية قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2001، استناداً إلى صور لم تسبق رؤيتها بالأقمار الصناعية، مدى الخراب الذي حل بمنطقة الأهوار المذكورة (7). وكانت الصور التي التقطتها الإدارة الوطنية للطيران والفضاء (ناسا) بالولايات المتحدة في عام 1992 و2000 تؤكد تدمير ما يقرب من 90 في المائة من الأهوار، وهو ما وصف بأنه "من أسوأ الكوارث البيئية في العالم" (8). ويعزو علماء برنامج الأمم المتحدة للبيئة تجفيف الأهوار، إلى حد ما، إلى إقامة الخزانات الكثيرة على نهري دجلة والفرات، في أعالي النهرين (حيث يمران بالعراق وإيران وتركيا) وهو العمل الذي بدأ في الخمسينيات ولا يزال مستمراً. ولكن برنامج الأمم المتحدة للبيئة قد انتهى إلى أن "ازدياد معدل وسرعة اختفاء الأهوار ... يرجع في المقام الأول إلى عمليات الصرف الكبيرة التي جرت في أعقاب القلاقل المدنية التي نشبت بعد حرب الخليج الثانية في عام 1991"، وإلى أن "تحليل صور الأقمار الاصطناعية يبين أن النظام البيئي للأهوار قد انهار بحلول عام 2000" (9).

    الأهوار

    كانت الأهوار قبل تدميرها تغطي مساحة تصل إلى 20 ألف كيلو متر مربع، حول التقاء نهري دجلة والفرات في جنوبي العراق. ومن الناحية الإدارية تقع الأهوار في ثلاث من محافظات العراق الثماني عشرة - ميسان (أصلاً العمارة) وذي قار (أصلاً الناصرية) والبصرة. ومن الناحية الجغرافية يشمل قلب الأهوار ثلاث مناطق رئيسية هي (أ) أهوار الحمار، الواقعة جنوب نهر الفرات بين الناصرية والبصرة، و(ب) الأهوار الوسطى، الواقعة بين نهري دجلة والفرات في منطقة على شكل مثلث تحده الناصرية، والقُرنة، وقلعة صالح، إلى جانب قسم شمالها حول مدينة العمارة (المشهورة باسم أهوار العمارة) و(ج) أهوار الهويزة، الواقعة شرقي نهر دجلة والممتدة داخل إيران (حيث تُعرف باسم أهوار العظيم). وكانت هذه المسطحات المائية تشكل معاً سلسلة من المستنقعات والبحيرات الدائمة والمتداخلة، والتي تبلغ مساحتها نحواً من 8800 كيلو متر مربع، وقد تتسع المساحة فتصل إلى نحو 20 ألف كيلو متر عندما تغمر المياه في موسم الفيضان مساحات شاسعة من الأراضي الجافة أو الصحراوية (10). وتُعتبر منطقة الأهوار أيضاً من أغنى مناطق البلاد في الرواسب النفطية، إذ تُقدر احتياطات النفط المؤكدة في العراق بمقدار 112 مليار برميل، أي أنها تأتي في المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية، وتقع احتياطيات العراق الرئيسية في المناطق الجنوبية (11). وأما الاحتياطيات الموجودة في الأهوار، فيوجد أكبرها في حقول مجنون، حيث توجد احتياطيات تصل إلى ما بين 10 و30 مليار برميل، وغرب القرنة، إذ تصل الاحتياطيات إلى 15 مليار برميل (12).

    وكان يقيم في الأهوار ذات يوم مئات الآلاف من السكان، وهم من يُطلق عليهم اسم "المعدان"، وقد احتفظوا بأسلوب حياتهم الفريد لما يربو على 5000 سنة، ويتكون شعب المعدان من عدد من شتى قبائل الشيعة، من بينهم بنو أسد، وبنو تميم، وأبو الحسن، وأبو محمد، وبنو لام (13). وتتفاوت تقديرات عدد السكان بصفةٍ أساسيةٍ بسبب ندرة البيانات الحكومية الرسمية، والصعوبة النسبية في الوصول إلى تلك المنطقة، مما أدى إلى تجاهل بعض قطاعات شعب المعدان في تعدادات السكان (14). وقد انتهت إحدى الدراسات الأنثروبولوجية إلى تقدير عددهم بنحو 400 ألف نسمة في الخمسينيات (15). وأدت الهجرة لدوافع اقتصادية ما بين الستينيات والثمانينيات إلى تخفيض عدد السكان إلى ما يقدر بنحو 250 ألف نسمة في عام 1991. وفي عام 1993 قدرت منظمة هيومن رايتس ووتش عدد السكان الريفيين للأهوار بنحو 200 ألف نسمة، وهو رقم يأخذ في حسابه الأعداد الكبيرة من الفارين من الجيش والمعارضين السياسيين الذين سعوا للاحتماء بالمنطقة بعد عام 1991 (16). ومن المحتمل أن عدد من بقي اليوم من السكان الأصليين لا يزيد عن 20 ألف نسمة بعد أن فر الباقون أو هاجروا إلى إيران وغيرها، كما تشير التقديرات إلى أن مائة ألف على الأقل قد أصبحوا من النازحين داخلياً في العراق (17).

    ولم يكن قد طرأ تغيير يُذكر حتى الخمسينيات من القرن العشرين على أسلوب عيش الكفاف التقليدي لشعب المعدان، وكان اقتصاده التقليدي الذي يتسم بالاكتفاء الذاتي يدور حول بيئتهم المائية، ويعتمد على الأعمال التقليدية مثل صيد الأسماك والزراعة وتربية الجاموس وجمع البوص (الذي أدى إلى نشأة صناعة المنتجات اليدوية من الخيزران)؛ وكانت الهجرة إلى المراكز الحضرية، سواء كان ذلك طلباً للعمل الدائم أو الموسمي، هي السبب الأول لانخفاض عدد السكان الأصليين حتى أواخر الثمانينيات، وعندها بدأت السياسات الحكومية المستهدفة لعرب الأهوار - والتي تتناولها هذه الدراسة - فزادت زيادة كبيرة في معدلات نقص السكان.

    "كانت الحياة في الأهوار بالغة المشقة، وعندما ازداد ازدهار العراق بصورة مطردة في الستينيات والسبعينيات بل وفي الثمانينيات، كان نقص المرافق العامة وقسوة البيئة من العوامل التي شجعت الكثيرين من سكان الأهوار، وخصوصاً من بين شباب المتعلمين، على الرحيل إلى المدن" (18). وأصبحت الأنشطة الاقتصادية في المدن تمثل المصدر الرئيسي للدخل لكثير من الأسر، وذلك على الرغم من الأهوار نفسها ظلت، إدارياً وجغرافياً، تعاني من العزلة النسبية. بل إنه حتى في مطلع السبعينيات فإن تدخل الدولة العراقية - في صورة الخدمات التعليمية والصحية وكذلك الوجود الدائم لموظفي إنفاذ القانون والموظفين الإداريين - لم يكن قد وصل إلا إلى مشارف الأهوار وأطرافها الخارجية التي يسهل الوصول إليها (19). ولم يحدث إلا في أثناء الحرب الإيرانية - العراقية وبعدها أن شرعت الحكومة العراقية في وضع الخطط اللازمة للتدخل العسكري المباشر في المنطقة.

  •