Israel, the Occupied West Bank, and Gaza Strip, and Palestinian Authority Territories


اسرائيل والسلطة الفلسطينية Israel,  and Palestinian Authority
  
لحظة واحدة تمحو كل شيء:
التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين

محتويات التقرير :-
  • ملخص
  • التوصيات
    الفصل الثالث
  • التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين
  • الهجمات
  • هوامش الفصل الثالث
    الفصل الرابع
  • المعايير القانونية
  • الانتقام وأعمال الردع
  • هوامش الفصل الرابع
    الفصل الخامس
  • هياكل واستراتيجيات المنظمات المنفذة للعمليات
  • "كتائب شهداء الأقصى"
  • هوامش الفصل الخامس
    الفصل السابع
  • دور السلطة الفلسطينية
  • مدفوعات السلطة الفلسطينية للمسلحين
  • خلاصة
  • ملحق
  • هوامش الفصل السابع
    اقرأ ايضا
  • مركز العاصفة:
    دراسة حالة لانتهاكات حقوق الإنسان في منطقة الخليل
  • الأمم المتحدة: تقرير "معيب" عن الأحداث في جنين
  • لا بد من التحقيق في جرائم الحرب في جنين
  • الهجمات


    منذ استئناف الهجمات على المدنيين في الأول من يناير/كانون الثاني 2001 ارتفع عدد التفجيرات الانتحارية ارتفاعا مفاجئاً.

    وأصبحت هذه التفجيرات هي نوعية الهجمات التي يتوقعها المدنيون الإسرائيليون ويخشونها من جانب الجماعات الفلسطينية المسلحة. وقد شهد شهر مارس/آذار 2001 ثلاث هجمات أدت إلى مقتل خمسة وجرح 90 شخصا. وكانت هناك سلسة أخرى من التفجيرات الانتحارية وحادث سيارة مفخخة في النصف الثاني من مايو/أيار 2001، ثم غطى عليها حادث وقع في الأول من يونيو/حزيران 2001عندما فجر سعيد الحضري البالغ من العمر 22 عاما نفسه وسط حشد من المراهقين الإسرائيليين أمام نادٍ ليلي شهير في تل أبيب اسمه "دوليفنيريوم".

    وأدى حادث هذا الملهى، وهو أشد التفجيرات الانتحارية فتكاً منذ أكثر من أربعة أعوام، إلى مقتل 17 شخصا في الحال كلهم تقريبا من المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفييتي السابق، وإلى جرح ما بين 85 و90 آخرين. وارتفع عدد الوفيات إلى 21 في الأيام التالية. وذكر رئيس شرطة تل أبيب يوسي سيدبون أن القنبلة على الرغم من أنها لم تكن كبيرة فقد كانت محشوة بالمسامير ورولمان البلي. وفي البداية أعلنت حركة الجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن الحادث، ثم تراجعت عندما أعلنت حماس فيما بعد مسؤوليتها عنه.

    وأدان الرئيس عرفات الهجوم الذي جاء مع استئناف مسؤولي الأمن الإسرائيليين والفلسطينيين المحادثات الرسمية تحت رعاية الأمم المتحدة حول تطبيق توصيات تقرير لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق التي ترأسها السيناتور الأمريكي السابق جورج ميتشل. وكانت هذه هي المرة الأولى منذ اندلاع المصادمات التي يدعو فيها عرفات إلى وقف فوري غير مشروط لإطلاق النار، وذلك تحت تأثير ضغوط دولية شديدة.

    لكن التفجيرات الانتحارية استمرت في يوليو/تموز وأغسطس/آب وسبتمبر/أيلول. وكان أسوأها عندما دخل انتحاري مطعم "سبارو" المزدحم في منطقة مزدحمة عند تقاطع طريق يافا مع شارع كينغ جورج في القدس وفجر قنبلة محشوة بالمسامير والدبابيس والصواميل. وأدى الانفجار إلى هدم المطعم الذي كان مزدحما بالرواد في وقت الغداء، وأدى إلى مقتل 15 وجرح أكثر من 130. وقال أحد الشهود الذي يعمل في محل مجاور "لا أستطيع أن أجد كلمات تصف الرعب الذي عشناه. كانوا يحضرون الجرحى إلى متجرنا - أطفال ونساء يغطيهم الدم". وكان الجهاد الإسلامي أول من أعلن مسؤوليته، لكن حماس فيما بعد أعلنت مسؤوليتها قائلة إن الانتحاري هو عز الدين المصري البالغ من العمر 23 عاما.

    وقامت السلطة الفلسطينية باعتقال العديد من الأشخاص في أعقاب هذا الحادث، فاحتجزت شخصا زُعم أنه السائق وثلاثة من أعضاء حماس، ومن بينهم عبد الله البرغوثي الذي قالت إسرائيل إنه أرسل المصري. كما عزل الرئيس عرفات رئيس شرطة رام الله كمال الشيخ للسماح للشباب المسلحين بالاحتفال بالهجوم، وأمر بإغلاق معرض أقامه طلبة حماس في جامعة النجاح بعد ذلك بعدة أسابيع في نابلس احتفالا بالهجوم.

    ووجه الرئيس عرفات دعوة لإنهاء الهجمات حظيت بتغطية إعلامية كبيرة في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2001، وورد أن السلطة الفلسطينية ألقت القبض على عدد من الأشخاص وأغلقت عشرات من التنظيمات الخيرية والمؤسسات المشابهة التابعة للتنظيمات الإسلامية. ولكن في أعقاب هذه المبادرات وقعت ست هجمات انتحارية على المدنيين في الأسبوعين الأول والثاني من ديسمبر/كانون الأول أدت إلى مقتل 29 وجرح ما يقرب من 200 آخرين.

    وشهدت الأيام الأولى من ديسمبر/كانون الأول تفجيرات في القدس وحيفا أدت إلى مقتل 25 وجرح المئات. وفي ليلة السبت الأول من ديسمبر/كانون الأول 2001 فجر فلسطينيان نفسيهما ولم تفصل بينهما إلا بضع ثوان قرب صف من المقاهي المزدحمة في مركز بن يهودا للتسوق في القدس، مما أدى إلى مقتل عشرة أشخاص وإصابة أكثر من 170 آخرين. وبعد حوالي 20 دقيقة وعلى بعد مبنى واحد انفجرت سيارة مفخخة. وقال ميشيل هاروش، وهو سائح فرنسي، للصحفيين "وقعت على الأرض وكان أول ما رأيته نصف جسد إنسان ملقى عند قدمي". وقال شاهد آخر اسمه يوسي مزراحي "رأيت أشخاصاً بلا أذرع، وشخصا برزت أحشاؤه للخارج، وطفلا في العاشرة يلفظ أنفاسه الأخيرة. لا أصدق أن أحداً يمكن أن يفعل ذلك".

    ولم تكد تمر 12 ساعة حتى فجر شاب فلسطيني نفسه ظهر الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2001، في حافلة مزدحمة بمدينة حيفا، مما أدى إلى مقتل 15 شخصا وإصابة 30 آخرين. ووصف لي هوكستادر محرر صحيفة "واشنطن بوست" المشهد بقوله:
    في لحظة تحولت الحافلة إلى جحيم من الموت والدماء. تناثرت الجثث والأشلاء على المقاعد وفي الممرات، وكان الجرحي يترنحون في خروجهم من الباب أو يتعثرون في مرورهم من النوافذ المهشمة. لقد مزقت القنبلة الطلبة وكبار السن المتقاعدين، والعمال الفلبينيين والمهاجرين الروس، والجنود والمدنيين - أي عينة عشوائية من سكان الطبقة العاملة المتنوعة بالمدينة.

    وأعلنت حماس مسؤوليتها عن الهجوم، وقالت في منشور لها إن تفجيرات القدس وحيفا "انتقام طبيعي من جانب شعب يذبح ليل نهار وتداس كرامته بآلة الحرب التي يمتلكها العدو الصهيوني". وأعلن الجهاد الإسلامي مسؤوليته عن حادثين آخرين في خلال هذه الفترة.

    وبينما كان المسؤولون الفلسطينيون يشجبون الهجمات على المدنيين الإسرائيليين فقد حاولوا ضمنيا تبريرها بالإشارة إلى التأثير الاستفزازي لبعض الأحداث مثل القنبلة المفخخة الإسرائيلية التي أدت إلى مقتل خمسة صبية في خان يونس في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2001. فقال نبيل شعث وزير التخطيط والتعاون الدولي بالسلطة الفلسطينية "يجب أن يدرك الجميع أن الفظائع تؤدي إلى فظائع مماثلة"، وأضاف أن "هذه هي النتيجة الحتمية لتراكم الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد مدنيينا، وللإذلال والعذاب والاضطهاد المستمر بلا هوادة".

    وفي 21 ديسمبر/كانون الأول 2001 وبعد مصادمات مع قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية أدت إلى مقتل سبعة فلسطينيين وإصابة عشرات، أصدرت كتائب عز الدين القسام التابعة لحماس منشورا تعلن فيه أنها "ستعلق" الهجمات في "الأراضي المحتلة منذ 1948" أي إسرائيل. وكانت المعارك التي استخدمت فيها المسدسات والعصي قد اندلعت عندما حاولت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية القبض على عبد العزيز الرنتيسي أحد كبار قيادات حماس. وفي آخر الأمر وافق الرنتيسي على "شكل من أشكال الإقامة الجبرية" وعلى الامتناع عن إصدار التصريحات العامة. وقال عرفات لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية اليومية في 21 ديسمبر/كانون الأول إن الحصول على تصريح حماس "لم يكن سهلا، وإن الإعلان جاء بعد أن ضغطنا عليهم". وأدت حملة السلطة الفلسطينية إلى شهر، من 16 ديسمبر/كانون الأول حتى 17 يناير/كانون الثاني، بلا هجمات على المدنيين داخل إسرائيل.

    ولم تدم فترة الهدوء هذه بالنسبة للمدنيين الإسرائيليين، ففي 17 يناير/كانون الثاني 2002 وبعد ثلاثة أيام من اغتيال رائد الكرمي، أحد قيادات كتائب شهداء الأقصى المحليين، قتل أحمد حسونة البالغ من العمر 27 عاما ستة إسرائيليين وأصاب 30 آخرين عندما هاجم حفل "بات ميتسفاه" (احتفال ببلوغ صبية سن التكليف في الديانة اليهودية) في الخضيرة مستخدماً بندقية وعدداً من القنابل اليدوية. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى أيضا مسؤوليتها عن هجوم آخر مسلح في قلب القدس في 22 يناير/كانون الثاني، قتل فيه مدنيان من بينهما سيدة في الثامنة والسبعين وأصيب 14 شخصا آخرين.

    وفي 27 يناير/كانون الثاني 2002، قتلت وفاء إدريس البالغة من العمر 26 عاما والتي تقيم في مخيم الأمعري للاجئين رجلا عمره 81 عاما، وأصابت أكثر من 100 آخرين في مكان بوسط القدس. وكان هذا أول تفجير انتحاري تعلن كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عنه، وهو أيضا الأول الذي تنفذه امرأة. ويعكس تبني كتائب شهداء الأقصى لأسلوب التفجيرات الانتحارية والهجمات الموجهة ضد المدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل- ولو جزئياً- تزايد الخوف لدى حركة فتح من أنها بدأت تفقد السيطرة السياسية لصالح الجماعات الإسلامية التي تقوم بهذه الهجمات وخصوصا حماس. وقال أحد قيادات فتح في مخيم جنين للاجئين لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان": "عندما بدأت كتائب الأقصى عملياتها [الانتحارية] كان ذلك قرار كل الجهات، فقد كانت الزعماء السياسيون يخشون أن يفقدوا نفوذهم في الشارع وفي الجبهة [القوى الوطنية والإسلامية]. والسياسات الإسرائيلية تدفع باتجاه تحويل كل النفوذ [في الجماعات الفلسطينية المسلحة] من [الجناح] السياسي إلى العسكري".

    واستمر عدد الهجمات في التصاعد؛ ففي مارس/آذار 2002 أدى 12 تفجيرا انتحاريا ضد أهداف مدنية إلى مقتل حوالي 80 مدنيا وإصابة أكثر من 450 آخرين. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن خمس من هذه الهجمات، وأعلنت حماس مسؤوليتها عن ثلاث والجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن ثلاث والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن واحدة. وكان هجوم حماس على فندق "بارك" في مدينة ناتانيا أثناء عيد الفصح اليهودي أشد هذه الهجمات فتكا حيث أدى إلى مقتل 29 مدنيا، كثيرون منهم من كبار السن، وإصابة 100 آخرين.

    وقد بدأت هجمات مارس/آذار 2002 بعد السابعة مباشرة من مساء الثاني من مارس/آذار عندما فجر انتحاري نفسه في سيارة وسط حشد من المصلين المتشددين في أثناء خروجهم إلى الشارع في ضاحية "معاح شيريم" في القدس الغربية بعد أن أدوا الصلاة احتفالا بنهاية يوم السبت. وأدى الانفجار إلى مقتل 11 شخصا، منهم أربعة أطفال من أسرة واحدة بينهم طفلة رضيعة، وجرح أكثر من 50 آخرين. وذكرت مصادر أمنية فلسطينية أن الانتحاري اسمه محمد دراغمه، وهو شاب في السابعة عشرة من مخيم الدهيشة للاجئين قرب بيت لحم. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن الحادث.

    وفي مساء السبت التاسع من مارس/آذار 2002، دخل فؤاد حوراني، وهو شاب في العشرين من مخيم العروب لاجئين قرب مدينة الخليل، إلى مقهى "مومنت" وفجر قنبلة شديدة أدت إلى مقتل 11 شخصا وإصابة أكثر من 50 آخرين (انظر شهادات الضحايا فيما تقدم). وأعلن بيان صادر عن حماس المسؤولية عن هذا "الهجوم الشجاع... انتقاما من المذابح الإسرائيلية ضد شعبنا". وجاء تفجير مقهى "مومنت" بعد ساعتين من قيام فلسطينيين بفتح النار وإلقاء القنابل اليدوية على فندق يقع على ساحل البحر في مدينة ناتانيا، مما أدى إلى مقتل طفل وشخص آخر وإصابة أكثر من 30 آخرين. وقد قتل مرتكبا الحادث في تبادل إطلاق النار مع الشرطة الإسرائيلية، وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن الحادث.

    ووقع تفجير انتحاري آخر في 20 مارس/آذار 2002، في الحافلة رقم 283 قرب أم الفحم في منطقة طبريةـ مما أدى إلى مقتل أربعة جنود وثلاثة مدنيين. وكان 15 شخصا من المصابين، وعددهم الإجمالي 29، غير يهود، وإنما عرب فلسطينيون من مواطني إسرائيل. وكان منفذ العملية يدعى رأفت أبو دياك من مدينة جنين وعمره 24 عاما. وأعلنت حركة الجهاد الإسلامي مسؤوليتها عن الحادث، وكانت الحافلة رقم 283 قد تعرضت للهجوم مرتين من قبل من جانب الانتحاريين، مرة في العفولة في 5 مارس/آذار 2002، ومرة قرب برديس حنا في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 (انظر الملحق رقم 1).

    وفي اليوم التالي أي يوم 21 مارس/آذار 2002، أعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن تفجير انتحاري في سوق مزدحم بالمحال التجارية في القدس أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 60 شخصا آخر على الأقل. وأفادت الأنباء أن مصادر كتائب شهداء الأقصى أكدت المزاعم الإسرائيلية القائلة بأن منفذ العملية، وهو رجل شرطة سابق عمره 22 عاما، كان قد اعتقل ذات مرة من جانب قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، ولكن أفرج عنه أثناء الاجتياح الإسرائيلي لرام الله في وقت سابق من مارس/آذار.

    ووقع أشد التفجيرات الانتحارية الفلسطينية فتكاً يوم 27 مارس/آذار 2002، عندما فجر عبد الباسط عودة البالغ من العمر 25 عاما، وهو أحد أعضاء حماس من مدينة طولكرم، نفسه في فندق بمدينة ناتانيا بينما كان 250 شخصا يحتفلون بعيد الفصح اليهودي. وأدى الانفجار إلى مقتل ما لا يقل عن 19 إسرائيليا على الفور وإصابة عشرات آخرين، ثم ارتفع عدد القتلى فيما بعد إلى 29. وكانت كلارا روزنبرج، وهي من المصابين العديدين الذين أصيبوا بجروح بالغة في الانفجار (انظر ما تقدم) قد اختارت الاحتفال بهذه المناسبة في هذا الفندق خصيصا نظرا لوقوع حادث إطلاق نار في ناتانيا قبل ذلك بعدة أسابيع وكانت تريد مكانا آمنا. وأفادت الأنباء أن أسرا بكاملها كانت من بين القتلى والجرحى، ومنهم بعض الزوار الذين جاءوا من أماكن أخرى.

    وأكدت مصادر فلسطينية أن السلطة الفلسطينية كانت قد اعتقلت عودة في وقت سابق بناء على طلب إسرائيل، ولكن لمدة قصيرة فحسب.
    وحاول مرتكبو هجمات مارس/آذار عموما تبريرها بأنها انتقام من الانتهاكات الإسرائيلية أو باعتبارها أعمال مقاومة مشروعة. ففي 8 مارس/آذار مثلا قال محمود التيتي، وهو أحد قيادات كتائب شهداء الأقصى في مخيم بلاطة للاجئين الذي يقع على مقربة من نابلس، "بينما كانت [القوات الإسرائيلية] تهاجم مخيم بلاطة كانت جماعاتنا في بيت لحم تعد للانتقام". وقالت حماس وهي الجماعة الفلسطينية المعارضة الرئيسية إن هجماتها تهدف أيضا إلى عرقلة الخطوات نحو المفاوضات السياسية. وزعم بيان صادر عن حماس أن أحد أغراض الهجوم على فندق "بارك" في أثناء الاحتفال بعيد الفصح اليهودي هو إفشال المبادرات الدبلوماسية في اجتماع القمة العربية في بيروت. وقال أسامه حمدون الناطق باسم حماس في بيروت "إن قرارات القمة جاءت أدنى من مستوى تطلعات الشعب الفلسطيني وتضحياته".

    وقد أقرت السلطة الفلسطينية بأن "هذه العملية ضد المدنيين الإسرائيليين هي أساسا اعتداء على القمة العربية ومهمة [الممثل الأمريكي الخاص] زيني". وأضافت أن "القيادة تستنكر بشدة أي محاولة لتعريض المدنيين الفلسطينيين أو الإسرائيليين للخطر، وأنها لن تتهاون مع الأطراف التي تعلن مسؤوليتها وأنها سوف تتخذ تدابير حاسمة لتقديم أولئك المسؤولين للمحاكمة".

    وقد دأب الرئيس ياسر عرفات على إدانة هذه التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين. ففي أعقاب هجوم الثاني من مارس/آذار أصدرت السلطة الفلسطينية بيانا قالت فيه إنها "تدين بشدة وبلا مواربة أي عمليات تستهدف المدنيين سواء أكانوا إسرائيليين أو فلسطينيين، بما في ذلك العملية التي نفذت هذا المساء، السبت الموافق الثاني من مارس/آذار 2002 في قلب ضاحية مدنية في القدس". كما أدان عرفات هجوم 21 مارس/آذار الذي نفذته كتائب شهداء الأقصى ضد "المدنيين الإسرائيليين الأبرياء"، وقال "إننا سنتخذ التدابير المناسبة والفورية لوضع حد لهذه الهجمات".

    إلا أن ما يشبه التبريرات العلنية للتفجيرات جاء من عدد من الشخصيات المقربة إلى عرفات، خصوصا بعد أن بدأت كتائب شهداء الأقصى في تنفيذ التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين في أوائل عام 2002. فعلق أحمد عبد الرحمن، وهو أحد مستشاري عرفات وأمين سر السلطة الفلسطينية، على هجوم التاسع من مارس/آذار 2002 على مقهى "مومنت" بالقدس بقوله "هذا هو الرد الطبيعي من جانب المقاومة الفلسطينية على كل ما فعله الإسرائيليون في مخيمات اللاجئين وللمدنيين الفلسطينيين والنساء والأطفال... ويجب أن يتوقع الإسرائيليون مثل هذه العمليات متى قاموا بتصعيد اعتداءاتهم العسكرية على مدنيينا". وكتب مروان البرغوثي، الأمين العام لفتح في الضفة الغربية، في يناير/كانون الثاني2002 يقول إنه "وحركة فتح التي أنتمي إليها نعارض بشدة الهجمات واستهداف المدنيين داخل إسرائيل، جارتنا في المستقبل...". ولكن في أعقاب التفجير الانتحاري الذي نفذته كتائب شهداء الأقصى في 21 مارس/آذار في شارع مزدحم بالمحال التجارية في القدس والذي أدى إلى مقتل ثلاثة وإصابة 60 آخرين، علق مروان على الحادث للصحفيين بقوله "لقد لجأ شعبنا إلى المقاومة لأننا وصلنا إلى طريق مسدود. فكلما أحكم الإسرائيليون الحصار حولنا وأمعنوا في القتل، اشتد رد فعلنا".

    وعلى الرغم من الإدانات الملتبسة أحيانا من جانب قيادة السلطة الفلسطينية، فلم تتوقف التفجيرات الانتحارية من جانب كتائب شهداء الأقصى. فقبيل الساعة الثانية من مساء يوم 29 مارس/آذار فجرت فتاة عمرها 18 عاما، وهي من مخيم الدهيشة للاجئين الواقع على مشارف بيت لحم واسمها آيات محمد الأخرس، حزام متفجرات كانت ترتديه في سوبر ماركت في ضاحية "كريات هايوفل" بالقدس، وأدى الانفجار إلى مقتل اثنين وجرح أكثر من 20 آخرين. وأفادت الأنباء أن الفتاة كانت تحمل عبوة ناسفة أخرى في حقيبتها ولكنها لم تنفجر. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن العملية. وفي شريط فيديو كان قد سجل قبل العملية أدانت آيات الأخرس القادة العرب "لاكتفائهم بالتفرج بينما تحارب النساء الفلسطينيات الاحتلال الإسرائيلي".

    وفي أثناء "عملية السور الواقي" التي بدأت في نهاية مارس/آذار 2002، قامت القوات الإسرائيلية مرة أخرى باحتلال معظم "المنطقة أ" التي يسيطر عليها الفلسطينيون في الضفة الغربية، والتي تتضمن المناطق السكانية الفلسطينية الرئيسية باستثناء القدس الشرقية وحوالي 18% من إجمالي المنطقة. ولم تؤد العملية الإسرائيلية إلى إيقاف التفجيرات الانتحارية وإن تراجعت وتيرتها. ففي 30 مارس/آذار وقع تفجير انتحاري في التاسعة والنصف صباحا في مطعم في قلب تل أبيب أدى إلى إصابة نحو عشرين شخصا، توفي أحدهم فيما بعد. وذكرت كتائب شهداء الأقصى أن منفذ العملية هو مهند إبراهيم صلحات البالغ من العمر 23 عاما، وهو من قرية الفرح قرب نابلس. وفي أولى الهجمتين اللتين وقعتا في 31 مارس/آذار 2002 تسبب انتحاري في إصابة ثلاثة أشخاص بجروح خطيرة قرب مركز طبي تطوعي في "إرفات"، وهي إحدى مستوطنات "جوش إتزيون" الواقعة قرب بيت لحم. وذكرت كتائب شهداء الأقصى أن منفذ العملية هو جمال حميد من بيت لحم والبالغ من العمر 17 عاما. وفي اليوم نفسه أعلنت حماس مسؤوليتها عن هجوم وقع في حيفا قام به شادي أبو طوباسي البالغ من العمر 23 عاما، وهو من مخيم جنين للاجئين، مما أسفر عن مقتل 15 وإصابة أكثر من 30 آخرين عندما فجر نفسه في مطعم مزدحم بالمواطنين الإسرائيليين، من اليهود والعرب الفلسطينيين.

    وأدى أول تفجير انتحاري بعد انتهاء عملية الجيش الإسرائيلي، وهو الحادث الذي وقع في صالة للبلياردو في "ريشون ليتزيون" في السابع من مارس/آذار 2002، إلى مقتل 15 شخصا وإصابة 50 آخرين. وأصدرت السلطة الفلسطينية بيانا قالت فيه إنها "تدين فورا الهجوم العنيف على المدنيين الإسرائيليين"، وإنها "قررت اتخاذ تدابير فعالة ضد الضالعين في هذه العملية الخطيرة ومن يقفون وراءها. ولن نتهاون مع هذه الجماعات...". وفي خطاب بثه التليفزيون في اليوم التالي قال الرئيس عرفات "لقد أعطيت أوامري وتعليماتي لكل قوات الأمن الفلسطينية للتصدي لكل الهجمات الإرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين ومنعها من أي جانب فلسطيني أو أطراف فلسطينية". وردا على التقارير الأولية التي أفادت أن منفذ العملية يتبع حركة حماس وقد يكون من غزة، قامت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية باعتقال أكثر من 12 من أعضاء حماس غير القياديين في غزة. وفي الأيام التالية قامت القوات الإسرائيلية بقتل اثنين من ضباط الأمن الفلسطينيين في حلحول وألقت القبض على آخرين في أماكن أخرى بالضفة الغربية، ولكن يبدو أن هؤلاء المعتقلين لم يكونوا من المطلوبين للاشتباه في تورطهم في عملية "ريشون ليتزيون".

    وفي خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران 2002 نفذ أعضاء الجماعات الفلسطينية المسلحة تسع تفجيرات انتحارية وقاموا بمحاولات أخرى عديدة ولكنها أحبطت. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن خمسة من الهجمات التسع. وقد نفذ أول هذه العمليات جهاد التيتي، ابن أخي محمود التيتي أحد القيادات البارزة في كتائب شهداء الأقصى، وجاء هذا الحادث مباشرة في أعقاب اغتيال إسرائيل لمحمود التيتي في مخيم بلاطة. وذكر بيان صادر عن كتائب شهداء الأقصى أن الهجمات الانتحارية هي "سلاحها الوحيد لإنهاء الاحتلال". ووقعت محاولة لتنفيذ هجوم آخر بعد ذلك بيومين حيث أطلق حارس أمن إسرائيلي النار على سائق سيارة محملة بقنابل أنبوبية فأرداه قتيلاً، بينما كانت السيارة تسير مسرعة نحو ملهىً ليلي مزدحم في تل أبيب.

    وأعلنت حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مسؤوليتهما المشتركة عن هجوم وقع في 19 مايو/أيار في سوق مكشوف في مدينة ناتانيا. وتسبب منفذ العملية الذي كان يرتدي زي جندي في مقتل رجل كبير في السن وصبي مراهق وجرح العشرات. كما أعلنت حماس مسؤوليتها عن تفجيرين انتحاريين آخرين، منهما تفجير حافلة كانت في طريقها من مستوطنة "جيلو" الإسرائيلية يوم 18 يونيو/حزيران 2002، وأدى هذا الحادث إلى مقتل 19 شخصا وإصابة 74 آخرين على الأقل. وأعلنت كتائب شهداء الأقصى مسؤوليتها عن هجوم وقع في اليوم التالي في محطة للحافلات قرب التلة الفرنسية في القدس الشرقية.

    وفي 20 يونيو/حزيران، وردا على هذه الهجمات، شن الجيش الإسرائيلي "عملية الطريق الحازم" التي أعاد خلالها احتلال سبعة من المدن الفلسطينية الرئيسية الثماني في الضفة الغربية. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون "إن هذا ليس احتلالا، ولكننا سنبقى في المناطق الإسرائيلية للمدة التي تقتضيها الضرورة لتنفيذ عملياتنا الأساسية". وفي 20 أغسطس/آب قام جنود الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من بيت لحم وفقا لمفاوضات اشترطت قيام قوات الأمن الفلسطينية بمنع الأنشطة المسلحة هناك في المستقبل.

    الشهادة والمسؤولون الحكوميون ودور الإعلام

    حملت التصريحات العامة الصادرة عن المسؤولين رسائل مختلطة حول التفجيرات الانتحارية. فكثيرا ما أدان المسؤولون الفلسطينيون الهجمات الانتحارية على المدنيين، كما أشرنا آنفاً. لكن المسؤولين الفلسطينيين وغيرهم في المنطقة أدلوا أيضا بتصريحات تؤيد هذه الهجمات وتروج لها في بعض الأحيان. كما تقول السلطات الإسرائيلية ومنتقدو السلطة الفلسطينية الإسرائيليون إن الإعلام الفلسطيني يدعم التأييد الشعبي لهذه الهجمات.

    يتألف الإعلام في الأراضي المحتلة من التليفزيون المحلي والإذاعة المحلية، وكلاهما يعتمد على التمويل الخاص، إلى جانب التليفزيون والإذاعة اللذين تمولهما السلطة الفلسطينية، والقنوات الفضائية التي تبث من الدول المجاورة مثل "المنار" التابعة لحركة حزب الله اللبنانية. وهناك ثلاث صحف فلسطينية رئيسية، تنشر اثنتان منهما في الضفة الغربية وهما "الأيام" و"الحياة الجديدة"، والثالثة في القدس الشرقية وهي "القدس"، بعد حصولها على ترخيص من الرقابة العسكرية الإسرائيلية. كما يستطيع كثيرون من سكان الأراضي المحتلة مشاهدة التليفزيون الإسرائيلي والاستماع للإذاعة الإسرائيلية وقراءة الإعلام الإسرائيلي المطبوع بالعربية والعبرية. ومع تزايد القيود المفروضة بسبب حظر التجوال وتقييد الحركة تزايدت أهمية الإعلام، وخصوصا التليفزيون، باعتباره المصدر الأساسي للمعلومات العامة. وجدير بالذكر أن منافذ الإعلام الإقليمية العربية والفلسطينية تتابع عن كثب أحداث الصدامات الإسرائيلية-الفلسطينية، وتعكس درجة تغطيتها الإعلامية التأثير الهائل للصدامات على المجتمع الفلسطيني والعربي.

    ويقول النقاد الإسرائيليون وغيرهم إن الإعلام الفلسطيني يسهم في الهجمات الانتحارية على المدنيين من خلال التأكيد على فكرة الشهادة والإشادة بها بصورة غير مناسبة. فمفهوم الشهادة - أي التضحية بالنفس من أجل العقيدة والمبادئ التي يعتنقها الإنسان - ليس مقصوراً على المسلمين ولا على الدين. ولكن في سياق المصادمات الحالية، أصبح مصطلح "الشهيد" يطلق على كل الأفراد الذين قتلوا في الأحداث المتعلقة بما أصبح يعرف بـ"انتفاضة الأقصى"، ومنهم أولئك الذين نفذوا الهجمات الانتحارية.

    وقد بات من المألوف في الخطاب الفلسطيني أن تطلق عبارة "عملية استشهادية" أو "عملية فدائية" على أي هجوم تفجيري يُقتل فيه منفذ العملية؛ بينما يميل الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية إلى استخدام مصطلح "عملية انتحارية".

    ولا تمثل التغطية الإعلامية إلا جانباً من المناخ العام من الاحترام الاجتماعي الذي يحظى به من يفقدون حياتهم في الانتفاضة، والذي تعبر عنه الملصقات المعلقة في الشوارع والمنشورات ومواقع الإنترنت والجداريات والرايات والخطاب العام وحضور المسؤولين العموميين جنازات أولئك الأشخاص أو الحفلات التأبينية التي تقام لهم. وتكاد كل المجتمعات المشاركة في أي نضال مسلح تكرم من يموتون في سياق هذا النضال؛ لكن الخطأ هو المساواة بين الأفراد الذين سقطوا ضحايا للهجمات أو الذين قاموا بهجمات مشروعة في ظل القانون الإنساني الدولي وبين الأفراد الذين يموتون في أثناء ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.

    لذلك يجب على المسؤولين العموميين، مراعاةً للسلطة السياسية التي يجسدونها، ألا يضفوا أي مشروعية على الإطلاق على الهجمات على المدنيين. لكن القادة السياسيين قد أدلوا بتصريحات يبدو أنها تناصر الهجمات الموجهة ضد المدنيين سواء في داخل الأراضي المحتلة أو خارجها. وتتراوح هذه التصريحات بين الغموض والتأييد الصريح، ومن ثم فإنها تَجُبّ التصريحات الأخرى التي تدين الهجمات على المدنيين. فقد أثنى القادة السياسيون مثل الرئيس عرفات مرارا على "الشهداء" بدون التمييز بين من يروحون ضحية الهجمات أو في أثناء الهجوم على أهداف عسكرية ومن يفقدون حياتهم عمدا في سياق الهجوم المتعمد على المدنيين. وقد ورد أن ياسر عبد ربه، وزير الثقافة والإعلام بالسلطة الفلسطينية، دافع عن إطلاق مصطلح "شهيد" على منفذي التفجيرات الانتحارية، إذ قال "يمكن أن تسميه شهيدا، وتدين ما فعله سياسيا".

    كما أعرب مسؤولون آخرون عن تأييدهم للهجمات على المدنيين بصورة لا تحتمل اللبس، ففي 10 أبريل/نيسان 2002، وصف أمين عام مجلس السلطة الفلسطينية أحمد عبد الرحمن الهجوم الذي وقع في ذلك اليوم على حافلة في مدينة حيفا بأنه "استجابة طبيعية لما يحدث في المخيمات الفلسطينية". وبعد ستة أسابيع وصف عبد الرحمن التفجيرات الانتحارية بأنها "أعلى مستويات النضال الوطني بلا جدال"، وذلك في مقابلة مع قناة الجزيرة الفضائية التي يقع مقرها في قطر. كما أثنى مسؤولون آخرون على الجماعات المسلحة التي تنفذ الهجمات، لا الهجمات نفسها. ففي مارس/آذار 2002، وبعد تكرر هجمات كتائب شهداء الأقصى على المدنيين، ورد أن جبريل رجوب رئيس الأمن الوقائي في الضفة الغربية قال لصحيفة محلية "إن كتائب الأقصى هي أسمى ظاهرة في تاريخ فتح، لأنها استعادت للحركة شرفها ودعمت التشكيل السياسي والأمني للسلطة الفلسطينية".

    كما صدرت تصريحات معبرة عن الموافقة على الهجمات الانتحارية من جانب مسؤولين حكوميين في البلدان المجاورة. ففي 27 مارس/آذار وهو اليوم الانفجار الذي وقع في فندق "بارك"، قال الرئيس السوري بشار الأسد في كلمته أمام القمة العربية في بيروت:

    من ضمن حرب المصطلحات طرح مصطلح سمعناه اليوم في أحد الخطابات من قبل أحد الضيوف حول مصطلح ضرب المدنيين والأبرياء... ومع كل أسف، طرح سابق وكلنا سقطنا بهذا الفخ عن حسن نية.. وبدأنا نتجادل مسؤولين ومثقفين وصحفيين هل هذا يجوز أم لا يجوز... مصطلح ضرب المدنيين والأبرياء هو مصطلح صحيح.. لكن ليس في هذه الحالة... نحن الآن أمام حالة احتلال... ضرب المدنيين والأبرياء عندما يكون هناك دولتان متجاورتان... وهناك عمل عسكري بينهما شيء... وعندما يكون هناك احتلال فالموضوع شيء آخر.

    وفي مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط العربية التي تتخذ من لندن مقرا لها في يونيو/حزيران 2002 قال السفير السعودي بالمملكة المتحدة "أود أن أموت شهيدا على الرغم من أنني بلغت سنا لا يسمح لي بتنفيذ عملية استشهادية". مثل هذه التعليقات تمجد الأفراد الذين يلقون حتفهم في أثناء الاعتداء على المدنيين، وتسهم في القبول العام لهذه الهجمات، وفي سياق الهجمات الانتحارية المستمرة ضد المدنيين تضفي مشروعية علنية على جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. لذلك يجب على المسؤولين الحكوميين عدم الإدلاء بمثل هذه التصريحات - وعليهم ثني الآخرين عن الإدلاء بها.

    كما اقترنت التصريحات الاعتذارية الصادرة عن المسؤولين الحكوميين بتصريحات نارية تُبَث على القنوات التليفزيونية التي تعتمد على التمويل العام. وهناك العديد من نماذج التسجيلات من هذا النوع على القناة التليفزيونية الرسمية الخاصة بالسلطة الفلسطينية في عام 2001، خصوصا فيما تبثه من خطب الجمعة الأسبوعية. ومنها بث حي للشيخ إبراهيم المعدي الذي خطب في أحد مساجد غزة في 8 يونيو/حزيران 2001 ومرة أخرى في 3 أغسطس/آب 2001. ففي الخطبة الأولى قال "طوبى لهؤلاء الذين يلفون القنابل حول أجسادهم أو أجساد أبنائهم"، وفي الثانية دعا صراحة إلى القيام بتفجيرات في تل أبيب والخضيرة وعسقلان وغيرها من المدن الفلسطينية، فأضاف قائلا:

    لقد كشر اليهود عن أنيابهم، وقالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا. ولن يردعهم إلا لون دماء شعبهم العفن. لن يردعهم شيء إلا أن نفجر أنفسنا طواعية وعن طيب خاطر في وسطهم.

    وفي سياق الصراع العربي الإسرائيلي تمثل هذه التصريحات تحريضا على الجرائم ضد الإنسانية، وفي ظل القانون الإنساني الدولي تتحمل السلطة الفلسطينية مسؤولية ضمان عدم إذاعتها وعدم نشرها، وعليها تقديم من يقومون بها إلى المحكمة. كما أن السلطة الفلسطينية ملتزمة بمنع هذا اللون من التحريض بموجب المادة 12(1) من اتفاق غزة-أريحا المبرم عام 1994. ويلاحظ أن خطب الجمعة هذه تذاع على الهواء وعادة ما تكون في أحد المساجد الكبرى في غزة أو الضفة الغربية، الأمر الذي يوحي بأن القناة التي تبثها ليس لها إلا قدر محدود من السيطرة على الرسالة المتضمنة فيها. لكن السلطة الفلسطينية مسؤولة عن ضمان أن يدرك هؤلاء الذين يتحدثون على الهواء أنهم سيساءلون جنائيا إذا حرضوا على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب. كما تجب محاسبة من يخرقون هذه التحذيرات وتقديمهم إلى العدالة.

    وقد أخبر هاني المصري، وهو مسؤول بوزارة الإعلام التابعة للسلطة الفلسطينية وأحد أبرز منتقدي التفجيرات الانتحارية الموجهة ضد المدنيين، منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أن سياسات إعداد البرامج في القنوات التابعة للسلطة الفلسطينية تغيرت منذ ديسمبر/كانون الأول 2001، فقال "إن تغطية [التفجيرات الانتحارية] في قناة سي. إن. إن. أوسع من تغطية التليفزيون الفلسطيني"، وأضاف:

    لقد درج الصحفيون على أن يكونوا أكثر تأييدا للتفجيرات الانتحارية، بصورة تعكس الرأي العام، أما الآن فقد تبنوا موقفا مضادا لها بصورة أوضح. فالمحررون يحددون ما الذي يذاع ويعكسون خط السلطة الفلسطينية. وقبل 16 ديسمبر/كانون الأول [2001] كانت الرسالة مختلطة، أما الآن فيبدو أن السلطة الفلسطينية تحاول جاهدة من خلال التليفزيون. والصوت السائد هو أن المقاومة المسلحة يجب أن تقتصر على الأراضي المحتلة فحسب ضد قوات الاحتلال. لكن الناس هنا يشعرون بخيبة الأمل الشديد إزاء السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو وبعد عودة الاحتلال الإسرائيلي. والسلطة الفلسطينية ليس لها صوت مسموع في المساجد التي تعد أكثر أهمية من الإعلام... ولا يمكن أن نقول إن هناك حملة إعلامية ضد هذه الهجمات، ولكن هناك جدال ومناقشات نقدية كثيرة.

    ويتفق زياد أبو عمرو، وهو أحد النواب الفلسطينيين في غزة ومن أبرز منتقدي سياسات السلطة الفلسطينية، مع المصري في هذا الرأي:

    إن الجدل حول التفجيرات الانتحارية يتزايد، لكنه لا يزال إلى حد كبير يطغى عليه الإحساس باليأس من موقفنا. والمشكلة هي أن قلة من الناس هنا هي التي تشاهد التليفزيون الفلسطيني، فهم يشاهدون الجزيرة والمنار. أتريد أن تسمع التحريض؟ هذه هي القنوات التي تجده عليها.

    وجدير بالذكر أن المتابعة المنهجية اللازمة لتقييم مثل هذه الأحكام على الإعلام الفلسطيني تتجاوز نطاق بحث منظمة "مراقبة حقوق الإنسان". فكما يري غسان الخطيب مؤسس مركز القدس للإعلام والاتصال ومديره، فإن المصادر الأساسية للتشجيع الإعلامي على التفجيرات الانتحارية ليست تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، إذ قال في سياق حديثه عن الدعم الذي تقدمه دول الخليج لحماس "أنظر إلى الإعلام - إنه منبر مجاني لحماس. إن الجزيرة لا تلتزم بالقواعد المهنية على الإطلاق في تفضيلها لحماس على الفصائل الأخرى، كما أنها تروج لأي شيء ينتقد السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية".

    وقد اشتد الجدل الفلسطيني العام حول الهجمات الانتحارية على المدنيين منذ مارس/آذار 2002، ففي19 يونيو/حزيران 2002، مثلاً، نشرت 55 من الشخصيات العامة والمثقفين إعلانا على صفحة كاملة في الصحيفة الفلسطينية اليومية "القدس" في صورة "نداء عاجل لإيقاف التفجيرات الانتحارية". وأفادت الأنباء أن ساري نسيبة، رئيس جامعة القدس وممثل منظمة التحرير الفلسطينية عن القدس، هو الذي قام بتنظيم هذه المبادرة التي حظيت بترحيب الصحف الفلسطينية وأثارت انتقاداتها في آن معاً. وفي اليوم التالي رحب الرئيس عرفات بهذا النداء في مقابلة مع صحيفة "هآرتس" وكرر إدانته للهجمات على المدنيين. كما تم جمع أكثر من 400 توقيع آخر في الأيام التالية مما أثار النقد من جانب حماس وأدى إلى نداء مضاد يؤيد استخدام "كل وسائل" النضال المسلح، أيده حوالي 150 توقيعا. وتحدث بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية فيما بعد بصورة أكثر صراحة ضد التفجيرات الانتحارية؛ ففي 30 أغسطس/آب أدلى وزير الداخلية بالسلطة الفلسطينية عبد الرازق اليحيى بحديث في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الفلسطينية حظي بتغطية واسعة دعا فيه كل الجماعات المسلحة إلى إيقاف الهجمات الانتحارية لأنها "تتنافى مع التقاليد الفلسطينية ومع القانون الدولي وتضر بالشعب الفلسطيني".