Israel, the Occupied West Bank, and Gaza Strip, and Palestinian Authority Territories


اسرائيل والسلطة الفلسطينية Israel,  and Palestinian Authority
  
لحظة واحدة تمحو كل شيء:
التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين

محتويات التقرير :-
  • ملخص
  • التوصيات
    الفصل الثالث
  • التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين
  • الهجمات
  • هوامش الفصل الثالث
    الفصل الرابع
  • المعايير القانونية
  • الانتقام وأعمال الردع
  • هوامش الفصل الرابع
    الفصل الخامس
  • هياكل واستراتيجيات المنظمات المنفذة للعمليات
  • "كتائب شهداء الأقصى"
  • هوامش الفصل الخامس
    الفصل السابع
  • دور السلطة الفلسطينية
  • مدفوعات السلطة الفلسطينية للمسلحين
  • خلاصة
  • ملحق
  • هوامش الفصل السابع
    اقرأ ايضا
  • مركز العاصفة:
    دراسة حالة لانتهاكات حقوق الإنسان في منطقة الخليل
  • الأمم المتحدة: تقرير "معيب" عن الأحداث في جنين
  • لا بد من التحقيق في جرائم الحرب في جنين
  • 3. التفجيرات الانتحارية ضد المدنيين


    مقدمة

    "حياتك كلها تنمحي في لحظة"، هذا هو ما قاله موتي مزراتشي الذي أصيب إصابة قد تودي بحياته في انفجار بمقهى بالقدس في التاسع من مارس/آذار 2002، عندما أصابته شظية كادت أن تخترق الشريان الأورطى، وكادت يده اليسرى تبتر عن جسمه، كما أصيب بجرح كبير في الرأس من الشظايا المتناثرة.
      في لحظة خاطفة يتغير كل شيء تغيرا جذريا، وكأن حياتك انمحت - كل ما فعلته حتى سن الحادية والثلاثين تبدد مع الهباء. كنت امتاز بالحيوية والنشاط وكنت ألعب كرة القدم مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا وكنت عضوا في عدد من الفرق وكنت أرقص... 1
    أما الآن فقد أصبحت يد موتى مزراتشي مثبتتة إلى ذراعه بمسامير، وأصبحت حياته مليئة بالألم الشديد المتواصل، وتحولت إلى زيارات متكررة إلى المستشفى.
    فقد كانت القنبلة القوية التي انفجرت في مقهى "مومنت" في حي "رهافيا" الراقي في القدس محشوة بمسامير وقطع معدنية صغيرة، فقتلت أحد عشر مدنيا وجرحت أكثر من خمسين آخرين. 2

    وكان انفجار مقهى "مومنت" واحدا من 48 تفجيراً انتحارياً نفذتها الجماعات الفلسطينية المسلحة ضد المدنيين الإسرائيليين فيما بين الأول من يناير/كانون الثاني 2001 و31 أغسطس/آب 2002. 3 كما نفذت الجماعات المسلحة هجمات انتحارية موجهة ضد أهداف عسكرية إسرائيلية أيضا، إلا أن هذا التقرير لا يتناول هذه الهجمات. وتمثل الهجمات الثماني والأربعون على المدنيين جرائم جسيمة، من بينها جرائم ضد الإنسانية. وقد نفذت 38 من هذه الهجمات الانتحارية في إسرائيل، بما فيها القدس الغربية، بينما نفذت عشر هجمات في الضفة الغربية وغزة، بما في ذلك القدس الشرقية.

    ومع اندلاع الصدامات الإسرائيلية-الفلسطينية في سبتمبر/أيلول 2000، كانت الهجمات المسلحة على المدنيين الإسرائيليين في البداية تأخذ شكل إطلاق النار في الطرق وفي المناطق المكدسة بالمباني مثل مستوطنة "جيلو" الواقعة على الأطراف الجنوبية للقدس. ونُفذت العديد من الهجمات التفجيرية الانتحارية الفلسطينية ضد أهداف عسكرية خلال الأشهر الثلاثة التالية، وكان من بينها تفجير عدد من السيارات المفخخة التي أدت لمقتل أربعة مدنيين إسرائيليين وجرح العشرات في نوفمبر/تشرين الثاني 2000. وأعلنت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين مسؤوليتها عن الانفجار الأول الذي وقع بالقرب من سوق "ماهاني يهودا" الشعبي في القدس وأسفر عن مقتل شخصين وجرح أحد عشر آخرين. 4 وبعد عدة أسابيع، وتحديداً في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، انفجرت سيارة ملغومة معبأة بمتفجرات محشوة بالمسامير فقتلت شخصين وجرحت أكثر من 50 آخرين، منهم ثلاثة أصيبوا بجراح خطيرة، وذلك في مدينة الخضيرة في شمالي إسرائيل. 5

    ثم وقعت أول عملية تفجير انتحارية ضد المدنيين بعد استئناف المصادمات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في سبتمبر/أيلول 2000 في محطة للحافلات في مدينة ناتانيا، وذلك في الأول من يناير/كانون الثاني 2001. وأعلنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" مسؤوليتها عن الهجوم الذي أدى إلى إصابة 20 شخصا. وسرعان ما تصاعدت وتيرة الهجمات الانتحارية ضد المدنيين وشدتها، وتبنت هذا التكتيك قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بحيث أصبحت هذه الهجمات ملمحا أساسيا في الصدامات الفلسطينية-الإسرائيلية الحالية. 6

    وأعلنت أربع جماعات مسؤوليتها عن الهجمات الانتحارية الثماني والأربعين التي استهدفت المدنيين. فقد أعلنت الجماعتان الإسلاميتان حماس والجهاد، اللتان تعارضان ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية، مسؤوليتهما عن تنفيذ 18 هجمة لحماس و12 هجمة للجهاد. أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي جماعة علمانية تنتقد وتعارض منذ وقت طويل عرفات وحركة فتح التي يتزعمها، فقالت إنها نفذت ثلاث هجمات. بينما أعلنت كتائب شهداء الأقصى، التي ترتبط بصلات وثيقة بفتح، مسؤوليتها عن 13هجمة، من بينها عدد من أشد الهجمات دماراً حيث الخسائر المدنية التي خلفتها. وهناك ثلاث من هذه الهجمات أعلنت أكثر من جماعة مسؤوليتها عنها، ولا تتوفر أي معلومات عن اثنتين من الهجمات. كما قامت هذه الجماعات كلها بهجمات أخرى على المدنيين الإسرائيليين، منها إطلاق النار في الطرق في الأراضي المحتلة، وحوادث إطلاق النار الواسعة النطاق، مثل الهجوم الذي وقع على عدد من المدعوين في حفل "بات ميتسفاه" (احتفال ببلوغ صبية سن التكليف الديني في اليهودية) في مدينة الخضيرة في 18 يناير/كانون الثاني 2002، الذي قتل فيه ستة مدنيين وأصيب أكثر من 30 آخرين.
    وتأرجحت وتيرة الهجمات ارتفاعا وانخفاضا مما يشير إلى أن المسؤولين عنها يستطيعون ممارسة قدر من السيطرة عليها ولو إلى حد ما. وجاء تنفيذ بعض الهجمات بعد اغتيال إسرائيل لأبرز قيادات الجماعات الفلسطينية السياسية والمسلحة، ويبدو أن توقيت البعض الآخر منها اختير لتعطيل المفاوضات السياسية الفعلية أو المحتملة على المستوى الداخلي أو الدولي.

    وفي البداية كانت حماس والجهاد الإسلامي فقط هما اللتان تنفذان الهجمات الانتحارية، التي وصلت إلى ذروتها في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني وأوائل ديسمبر/كانون الأول 2001، وذلك قبل التزام كل الفصائل بهدنة لمدة شهر. وبدءا من منتصف يناير/كانون الثاني 2002، قامت كتاب شهداء الأقصى أيضا بتنفيذ هجمات انتحارية ضد المدنيين، كما سارت على نفس النهج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ فبراير/شباط 2002. وكان دخول كتائب شهداء الأقصى في هذا المعترك مؤذناً بحدوث تصعيد كبير في وتيرة الهجمات؛ ويعد شهر مارس/آذار 2002 الشهر الذي أريقت فيه أكثر الدماء حتى اليوم، حيث أسفرت الهجمات الانتحارية الفلسطينية عن مقتل 80 مدنيا إسرائيليا على الأقل وجرح أو تشويه 420 آخرين.

    وقبل اندلاع المصادمات في أواخر سبتمبر/أيلول 2000، كان التأييد الشعبي الفلسطيني للهجمات المسلحة 8 على الأهداف الإسرائيلية يتراوح بين 21% وهي نسبة منخفضة في مارس/آذار 1996 وبين أكثر من 40% في أوقات عديدة في الفترة من 1997 إلى 2000. ومع انهيار محادثات كامب ديفيد في يوليو/تموز 2000، تزايد التأييد للأعمال المسلحة. وبعد عام من ذلك التاريخ، أي بعد تسعة أشهر من بدء المصادمات الحالية، وجد الباحثون الفلسطينيون أن 92% من الفلسطينيين يؤيدون المجابهات المسلحة مع القوات الإسرائيلية، وأن 58% يؤيدون الهجمات ضد المدنيين داخل إسرائيل. 9 ثم وجد نفس هؤلاء الباحثين في استطلاع أجروه في مايو/أيار 2002 أن تأييد الهجمات ضد المدنيين في إسرائيل قد تراجع، ولكن إلى نسبة 52% فقط.10 ومنذ مايو/أيار 2002 تصاعد الجدل بين الفلسطينيين حول استخدام الهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، بما في ذلك التأثير التراكمي لهذه الهجمات على المجتمع الفلسطيني (انظر ما يلي).

    استخدام الهجمات الانتحارية ضد المدنيين فيما سبق

    ليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الجماعات الفلسطينية المسلحة التفجيرات الانتحارية لاستهداف المدنيين الإسرائيليين، على الرغم من وصول الموجة الحالية من الهجمات إلى مدى وحِدَّة غير مسبوقة. ففيما بين سبتمبر/أيلول 1993 واندلاع المصادمات الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أواخر سبتمبر/أيلول 2000، نفذت الجماعات الفلسطينية 14 هجمة تفجيرية انتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، معظمها في 1996-1997، مما أدى إلى مقتل أكثر من 120 شخصا وجرح أكثر من 550 آخرين. 11 وقالت حماس إنها قامت بمعظم الهجمات، بينما أعلن الجهاد الإسلامي مسؤوليته عن الهجمات الأخرى.

    وقد ردت السلطة الفلسطينية باعتقال مئات من أعضاء حماس والجهاد الإسلامي ومن مؤيدي الجماعتين، ولكنها لم توجه إلى المحتجزين أي اتهام ولم تقدمهم للمحاكمة فيما يتعلق بالتفجيرات. وفي أعقاب هذه الاعتقالات توقفت التفجيرات. إلا أن الكثيرين من المعتقلين أطلق سراحهم من حجز السلطة الفلسطينية فور استئناف الصدامات بين الفلسطينيين والإسرائيليين في سبتمبر/أيلول 2000. وسواء أكانت هذه مصادفة أم لا، فإن الجولة الجديدة من التفجيرات الانتحارية بدأت في غضون عدة أشهر تحت إشراف حماس والجهاد الإسلامي مرة ثانية.
    ويلاحظ أن جماعات أخرى عديدة حول العالم استخدمت التفجيرات الانتحارية أيضا في محاولة لتحقيق أهدافها السياسية،12 ومن بينها جماعات شرق أوسطية مثل حزب الله في لبنان التي هاجمت أيضاً أهدافا عسكرية إسرائيلية وجيش لبنان الجنوبي السابق الذي كان تابعاً لإسرائيل. لكن الجماعة التي قد تكون قد استخدمت التفجيرات الانتحارية أكثر من غيرها هي جماعة التاميل الانفصالية في سريلانكا المعروفة باسم نمور تحرير إيلام التاميل والمشهورة باسم "نمور التاميل".13 فقد نفذ نمور التاميل العديد من التفجيرات في أثناء الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ضد أهداف عسكرية ومدنية، تضمنت مسؤولين وسياسيين كباراً بالحكومة السريلانكية.

    الحجج التي تساق لتبرير الهجمات التفجيرية الانتحارية

    كان فتحي عبد العزيز الشقاقي، وهو أحد مؤسسي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في طليعة من دعوا الفلسطينيين صراحة إلى استخدام أساليب التفجيرات الانتحارية ضد الإسرائيليين، ففي عام 1988 دعا الشقاقي علنا إلى استراتيجية "الشهادة" الاستثنائية التي تعني قيام أعضاء الجماعات الفلسطينية المسلحة باختراق "أرض العدو"، أي إسرائيل، وتفجير العبوات الناسفة بحيث لا يستطيع الإسرائيليون منعها، وكان مما قاله الشقاقي:
      كل هذه النتائج يمكن تحقيقها عن طريق عملية التفجير التي تحمل المجاهد على ألا يفتر عزمه أو يهرب وعلى أن ينفذ تفجيرا ناجحا في سبيل الدين والجهاد ونسف الروح المعنوية للعدو وبث الرعب بين الناس. 14
    وحث يحيى عياش، "مهندس" التفجيرات في حركة حماس، قيادة الحركة في أوائل التسعينيات على استخدام "القنابل البشرية" كوسيلة "لجعل الاحتلال أبهظ تكلفة من حيث الأرواح وغير محتمل إلى حد بعيد". 15 وفي الخامس من يناير/كانون الثاني 1996 قتل عياش على أيدي القوات الإسرائيلية، وزعمت حماس آنئذ أن ثلاثاً من الهجمات التفجيرية الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين في أواخر فبراير/شباط وأوائل مارس/آذار 1996 تمت انتقاما لمقتل عياش. 16

    واعترفت قيادات الجماعات التي ارتكبت التفجيرات الانتحارية اعترافا علنيا بأنها تؤيد التفجيرات لأن هذه الهجمات قادرة على إحداث عدد كبير من الإصبات والوفيات. إلا أن هذه التفجيرات تطول المدنيين والأهداف العسكرية على حد سواء، الأمر الذي يعد خرقا جسيما لالتزامات هذه القيادات بموجب القانون الإنساني الدولي. وقال أحد كبار قيادات حماس "أهم شيء هو ضمان التأثير على عدد كبير من أفراد العدو، فباستخدام حزام المتفجرات أو حقيبة المتفجرات يستطيع الاستشهادي السيطرة على مجال الرؤية والموقع والتوقيت".17 وهذه الأسلحة تعتمد على مواد يسهل الحصول عليها وتعد نسبيا غير باهظة التكلفة في إنتاجها.
    كما سعت التنظيمات التي تنفذ العمليات إلى استخدام التفجيرات للدعاية لقضيتها، ولاجتذاب متطوعين جدد للمهام الانتحارية، ولبث القلق والرعب في نفوس الإسرائيليين. وكثيرا ما كانت التنظيمات التي ترعى هذه العمليات تجعل المفجرين يسجلون شهاداتهم على الفيديو قبل إرسالهم في مهامهم الانتحارية لتوزيعها والترويج لها بعد ذلك من خلال الإعلام. وسعى منظمو العمليات إلى تصوير المفجرين على أنهم "شهداء" - أي أبطال مستعدون لأعلى درجات التضحية دفاعا عن قومهم. وعلى نفس هذا المنوال سعوا إلى تعويض أسر الشهداء بتقديم بعض الدعم المادي لهم (انظر الفصل السادس عن بنية التنظيمات المنفذة للتفجيرات واستراتيجياتها). وبهذه الطريقة كان المسؤولون عن التفجيرات يهدفون إلى إحاطة المفجرين بهالة مبهرة واستغلال أفعالهم حتى بعد موتهم. وفي الواقع أن الدافع الذي كان يحرك الكثيرين من الانتحاريين هو الشعور بقيمة التضحية بالنفس. لكن استهدافهم المدنيين، الذي كثيراً ما كان يتم بوسائل غادرة، يجعلهم هم ورعاتهم مجرمين. وأدت أفعالهم وضربهم عرض الحائط بحقوق الإنسان الأساسية إلى تشويه وتقويض النضال من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني بوجه عام.

    وقد استشهد بعض الانتحاريين بالإسلام لتبرير أفعالهم، خصوصا أولئك الذين ترعاهم حماس أو الجهاد الإسلامي. كما استشهدت المنظمتان بالعلماء المسلمين تحقيقا لنفس الغاية، وبالنصوص الدينية المرجعية من خلال أقوال العلماء. إلا أن بعض رجال الدين المسلمين البارزين رفضوا هذا الاحتجاج بالدين لترويج أهداف سياسية قومية. ويتمثل الهدف المعلن لحماس والجهاد الإسلامي في إقامة دولة فلسطينية إسلامية لا تضم الضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، ولكن كل المنطقة التي بسطت إسرائيل سيادتها عليها منذ عام 1948. كما تدعو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى دولة فلسطينية تشمل إسرائيل، وإن لم تكن دولة إسلامية. وعلى العكس من ذلك نجد أن الأجندة الوطنية لكتائب شهداء الأقصى تدعو إلى إقامة حكم فلسطيني في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحرير هذه المناطق من الاحتلال العسكري الإسرائيلي.

    الضحايا

    من العوامل التي تجعل التفجيرات الانتحارية شديدة الترويع الإحساس بعدم إمكانية الاحتماء منها. فالمفجرون الانتحاريون يستهدفون مراكز التسوق والمقاهي والمطاعم الشعبية والأحياء الهادئة للمدنيين الملتزمين والحافلات العامة، أي أن هدفهم هو جوانب الحياة اليومية العادية.
    وكان موتي مزراتشي، الذي سبقت الإشارة إليه، من المترددين على مقهى "مومنت" وكان قد اتفق في التاسع من مارس/آذار مع أصدقائه على مقابلتهم في هذا المقهى الراقي كما كان يحدث في كثير من الليالي. وبسبب الازدحام في المقهى رفض صاحبها دخولهم في البداية فانتظر مزراتشي وصديقه بالخارج حتى يأتي دورهما. وقال مزراتشي لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان":
      في وقت ما ابتعد صاحب المقهى، فقلت "سأدخل لأرى أصدقائي وأحييهم فحسب"، ثم دخلت وسرت ثلاث أو أربع خطوات وما هو إلا أن وقع انفجار، فسقطت على الأرض. وبعد بضع ثوان أفقت، وكان كل شيء حولي ممزقا، والدماء والأشلاء والناس في كل مكان، والماء ينبجس من السقف ربما من انفجار إحدى المواسير. كانت يدي اليسري قد انفصلت عن ذراعي من فوق الرسغ مباشرة، ولكنها ظلت معلقة بالذراع ببعض اللحم فقط. فاستجمعت شتات نفسي لأطلب العون، وكنت أنزف بغزارة، وأدركت أنني بحاجة لمساعدة شخص ما لإيقاف النزيف، فأمسكت يدي اليسري بيدي اليمني، لكنني انزلقت بسبب الأشياء المتناثرة على الأرض.
    وكان دانيال ترجمان، وهو أحد رواد المقهى ويبلغ من العمر 26 عاما، له صديقان بالداخل في ذلك الوقت، وتمكن هو واثنان آخران من إقناع الحارس بإدخالهم حيث كان الزحام شديدا إلى حد جعل ترجمان وأحد الصديقين يخرجان ثانية حيث التقيا بفتاة يعرفانها.
      تبادلنا التحية وقدمتني إلى صديقتها،... وفي هذه اللحظة خرج صديقي وقبل أن نتمكن من تبادل حتى كلمة واحدة انفجر كل شيء. وأطاح بنا الانفجار مسافة 20 مترا عبر الطريق، فسقطنا في الشارع، وفقدت وعيي ثم أفقت بعد بضع دقائق. كان هناك صراخ وسيارات إسعاف، وشعرت بأن ذراعي ليس مثبتا في جسدي، فقد كان بالكاد متصلا بكتفي. وجاء الصديق الذي دعاني ذلك المساء ليبحث عني، فرأى على الفور أن ذراعي في حالة يرثى لها. كما كانت إحدى عيني مغلقة لأنها امتلأت بالمعدن، فسألني ما ألم بعينه، فلم أرد أن أخبره أن عينه خرجت من محجرها ولا تزال متصلة ببضعة أربطة قليلة فحسب. إنني أشعر بالغثيان كلما تذكرت ذلك.
    وكانت الفوضى بالغة، وبدأ الأشخاص الذين لم يصابوا إصابات شديدة يستقلون سياراتهم ويبتعدون بأسرع ما في وسعهم. ورأيت أنني يجب أن ابتعد وإلا داستني السيارات. فأمسكت يدي اليسرى مستعينا بسترتي، وبدأت أشق طريقي نحو سيارات الإسعاف. كنت أرى بعين واحدة فقط ولم أكن أر جيدا فظللت أسير نحو الأضواء الحمراء.

    ومن الإصابات التي تعرض لها ترجمان فقد القدرة على استعمال أحد ذراعيه وتمزق طبلتي الأذن وإصابة القرنية بخدوش. وقد بدأ يتعافى من شلل مؤقت في نصف جسده الأسفل نجم عن نزيف بالعمود الفقري، ويأمل الآن في استرداد قدرته على استعمال رجليه.
      أصدقائي الذي خرجوا معي في تلك الليلة، منهم واحد أصيب بخدش في القرنية ولا تزال مليئة بالشظايا حتى الآن، وذراعه مربوطة برباط ضاغط لأنها تعرضت لحرق شديد. وهو يعاني الآن أكثر مني. أما جاري فقد نجا دون أن يصاب بخدش، أما صديقا صديقي فأحدهما أصيب بعدد كبير من الصواميل اخترقت أسفل الظهر، وتعرض لحرق شديد في الجنب الأيسر، أما الشخص الآخر فقد قتل. أما الفتاة التي تحدثت معها خارج المقهى فكانت قد دخلت الحمام وقت الانفجار فنجت منه. أما صديقتها التي عرفتني عليها فماتت.
      وكانت إرفات رافيد البالغة من العمر 20 عاما تجلس على البار في مقهى "مومنت" منذ ساعتين ونصف الساعة عندما حدث الانفجار الذي أدى إلى تهشم عظمة فخذها وإصابة رأسها. وبعد أن استردت وعيها ظلت غير قادرة على الكلام لمدة أسبوع، ثم بدأت الآن تسير بصعوبة بالاستعانة بعكازين، وأصبح جسدها مغطى بالندبات، ولم تعد تبتسم:
      كنا في مقهى "مومنت" جالسين على البار ساعتين ونصف الساعة. وفجأة سمعت انفجارا هائلا فغبت عن الوعي في الحال. ولا بد أنني غبت عن الوعي من الألم لأن عظمة ساقي تهشمت وتحولت إلى شظايا، وانقطع أحد الشرايين الرئيسية. وأصبت بإصابة خطيرة في الرأس ونزيف في المخ وظللت غائبة عن الوعي ثلاثة أيام...
      وعندما أفقت أدركت على الفور ما حدث. ولم أستطع عندئذ الكلام مطلقا، وبقيت عاجزة عن الكلام أسبوعا كاملا لأن إصابة رأسي كانت في مقدم المخ. وقضيت ثلاثة أشهر في المستشفى، وكان أخشى ما أخشاه أن يبتروا رجلي - فقد كان هناك كثيرون في المستشفى بأطراف مبتورة. لكنهم طمأنوني، وأجروا عملية زراعة شريان، وقالوا لي حتى لو تعرض للتلوث الجرثومي فيما بعد فسيكون هناك متسع من الوقت لإجراء جراحة أخرى. وقد أجريت لي عشر عمليات جراحية منذ الهجوم. كما أصابني مسمار واستقر على بعد بضعة ملليمترات من القلب. لذلك أفكر ما الذي كان سيحدث لو كان المسمار أكبر بملليمتر واحد؟
    كما أصيبت صديقتي التي كانت معي، فخرجت أحشاؤها؛ ولم نعد نتحدث كما كنا نفعل، لأن الحديث يعيد إلينا ذكريات أليمة. أما الفتاة التي كانت تجلس بجانبي من الناحية الأخرى، ولم أكن أعرفها، فماتت. ولم يعد أصدقائي يخرجون كما كنا نفعل. فعندما حدث لي ما حدث أدركوا أنه يمكن أن يحدث لهم أيضا. كانت مخاوفي كثيرة في البداية، وما زلت حتى الآن لا أشاهد الأخبار وعندما أسمع عن هجوم يعتصر الألم قلبي، لأنني أعرف كيف يكون الحادث فقد كابدته بنفسي.

    وكثيرا ما يكون العديد من أفراد الأسرة الواحدة ضحايا لهجمة من الهجمات، مثل أوليسيا سوروكين التي هاجرت من روسيا إلى إسرائيل في عام 2000 مع زوجها وطفلها، و لكن مشاعر النشوة لديها عن الفرص المتاحة لها في إسرائيل تبددت في يوم 18 مايو/أيار 2001 عندما ضرب أحد الانتحاريين مركزا للتسوق في مدينة ناتانيا:
      كان عيد ميلادي في يوم 11 مايو/أيار، فذهبنا إلى مركز التسوق لشراء هدية لي، أنا [وزوجي] وابني ساشا البالغ من العمر ستة أعوام وصديقتي جوليا [تريتيكوف] وهي صديقة أخي. وكنت قد ذهبت إلى هذا المركز مرة واحدة فقط قبل ذلك، وكان الوقت قبل الظهر، وكنا عند المدخل عندما سمعت "انفجارا" شديدا، ولا أذكر إلا أنني فتحي عيني بعد ذلك وأنا نصف واعية، فرأيت أحد الأطباء يفحصني وينظر إلي بعينين واسعتين يملأهما الخوف. هذا ما يحدث في الهجمات الإرهابية - الناس يصابون بالصدمة، ويتساقطون جرحى في كل مكان. رأيت العظام تبرز من قدمي، ولم أستطع سماع أي شيء، فقد ثقب الانفجار طبلة أذني. عندما أتذكر هذه اللحظات لا يسعني إلا البكاء.
    أما زوج سوروكين وصديقتها فقد قتلا في الحادث، وأصيب ابنها بكسر في الفك، وأصيبت هي بكسر في رجلها وفكها، وبحروق تركت ندوبا في ذراعها اليمنى وثديها ووجهها. "لم أستطع النظر في المرآة لفترة طويلة، وقد أجريت لي عدة جراحات في الوجه، ولم أعد أخرج لأنني لا ينبغي أن أتعرض للشمس، ولأنني أشعر بالحرج". وقالت سوروكين لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان":

    ماذا يمكن أن أقول. أشعر بفراغ في داخلي. أصبحت أرملة وأنا في السادسة والعشرين، لدي مال من وزارة الدفاع وشقة، ولكني أريد أن أرد كل شيء وأسترد زوجي. لم أعد أشعر بالسعادة ولم أعد أضحك مع ابني. كنا على علاقة طيبة أنا وزوجي، وكنا نتطلع لتحقيق أحلامنا، عندما التقينا كنت في السابعة عشرة وكان هو في الخامسة والعشرين. عندما أحاول أن أتذكر الحياة التي كنت أعيشها لا أصدق أن كل ذلك قد حدث. ربما أكون نائمة وأحلم. ربما لم يحدث ما حدث. الآن علي أن أواجه الحياة وحدي. أعرف أنني ما زلت صغيرة، ولا يزال في العمر بقية، لكن ذهني مشغول تماما.

    وعندما لا يتأثر عدد من أفراد الأسرة الواحدة مباشرة، فقد تمر الأسرة كلها بظروف مأساوية، كما في حالة كلارا روزنبرج البالغة من العمر 76 عاما أصيبت بشظية في أثناء هجوم على فندق "بارك" في مدينة ناتانيا في أثناء الاحتفال بعيد الفصح اليهودي في 29 مارس/آذار 2002. وقتلت صديقتها التي كانت بصحبتها، وأدت الشظية التي أصيبت بها إلى قطع الحبل الشوكي فأصبحت طريحة الفراش، كما أدى الانفجار إلى نزيف بالرئة وانفجار طبلتي الأذن. وعندما رأتها منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" في المستشفى كانت لا تكاد تستطيع التخاطب مع أحد على الإطلاق، ومستغرقة في عالمها الخاص. وتصف ابنتها تأثير الحادث على الأسرة بقولها:
      عندما دخلت المستشفى في البداية كنا معها في المستشفى ليل نهار، وهذا شيء لا تسمع عنه فيما يتعلق بالهجمات الإرهابية. أن أسرة الضحية تصبح كلها مكرسة تماما لرعاية المصاب. فقد تأثرنا جميعا بما حدث، أخي وأطفالي وبنات أخي وأبناؤه، وأنا. كانت أول مستشفى نقلت إليها تقع في الخضيرة إلى الشمال على مسيرة ساعات من موقع سكننا. وفي مرحلة مبكرة تدهورت حالتها النفسية فنقلت إلى مستشفى للعلاج النفسي... والآن هي في مرحلة إعادة التأهيل [في القدس]، لكنها لا تزال غير قادرة على التخاطب إلى حد كبير مع زائريها، ولا تقرأ ولا تشاهد التليفزيون... أما أطفالي فكانوا في أشد الحاجة للعون ولكن من الصعب عليهم التأقلم مع الموقف، فليس من السهل مساعدتها. إنها لا تشكرهم، ولا تكاد تتعرف عليهم. لقد انتهت حياتها السابقة وأصبحت لا تريد حياتها الحالية. إن الوضع مؤلم للغاية، لو كنا نستطيع أن نساعدها على أن تجد شيئا يعطي لحياتها معنى.
    وكانت كلارا روزنبرج قد نجت من السجن بعد ثلاث سنوات ونصف السنة في أوشفيتز، ثم تفرق شمل أفراد الأسرة الذين نجوا من تلك التجربة، وجاءت روزنبرج إلى إسرائيل في عام 1947 كلاجئة حرب. وحكت ابنتها لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" عن حياة روزنبرج وعن التغيير الذي ألم بها.

    كانت تشارك في كل أنشطة كبار السن... والآن أصبحت عالة على الآخرين تماما... فليس لديها القدرة على التعامل مع ما حدث - كان يكفيها عقابا ما كانت عليه حياتها بكل ما فيها من مآسٍ. إنها لا تستطيع القعود لأنها أصيبت بالشلل بدءا من الإبط وحتى الأطراف السفلية، وعضلات صدرها لا تعمل. ومن اللحظة الأولى التي تكلمت فيها بعد الهجوم قالت "لقد حدث لي ما لم أكن أتمنى أن يحدث لي أبدا وهو أن أصبح عبئا على الآخرين". إنها لن تستطيع العودة للبيت أبدا، ولن تستطيع أن تعيش في غرفتها... في الأسبوع الماضي كانت تحاول أن تقرب الكوب من شفتيها بدون أن تسكبه. من الاستقلالية الكاملة إلى هذه الحالة.

    إن الانتحاريين باستهدافهم الأماكن العامة يؤثرون على كل قطاعات المجتمع الإسرائيلي، لا اليهود الإسرائيليين فحسب. فمثلا نجد لين جين مو، وهو عامل بناء صيني جاء إلى إسرائيل بتأشيرة دخول سليمة، وهو مسؤول عن إعالة أسرة في بلده بدخله المتواضع. وفي 12 أبريل/نيسان 2002 كان يستقل حافلة مع ثلاثة أصدقاء من سوق ماهاني يهودا في الهواء الطلق في القدس عندما فجر أحد الانتحاريين الحافلة. وكان بن تسيون مالتاباشي، وهو رجل عمره 65 عاما بترت ساقه من جراء الحادث، موجودا فيصف ما حدث بقوله:

    هناك عدة حافلات تأتي إلى هذه المحطة وأرقامها 27 و13 و11 و39 وغيرها. رأيت [حافلتي] فقلت لنفسي "عظيم، سأصل إلى البيت سريعا"، وكان هناك طابور للصعود لحافلة. فوقفت في الصف، وكان الناس بالعشرات، والجميع عائدون إلى بيوتهم لأن اليوم يوم سبت. فصعد واحد ثم آخر ثم آخر ثم حدث الانفجار، وكأن سقف بيت بأكمله سقط على رأسي.

    فقد لين ذراعه اليسرى وساقه اليسرى التي بترت بسبب الحروق الشديدة التي أصابتها. وكان اثنان آخران من أصدقائه قد سبقاه إلى الصعود إلى الحافلة، فقتلا ضمن الستة الذي قتلوا في الحادث.
    أما سابرينا بلهادف وهي مواطنة فرنسية تدرس في إسرائيل في إطار برنامج للمنح الدراسية الخارجية، فكانت تزور القدس مع أصدقائها لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2001 عندما فجر فلسطينيان نفسيهما ولم يفصل بين الانفجارين إلا لحظات معدودة قرب صف من المقاهي المزدحمة في مركز بن يهودا للتسوق في القدس، مما أدى لمقتل عشرة أشخاص وإصابة أكثر من 170 آخرين.
    لم أفهم ما حدث. كان الجميع يصرخون، ويقولون "اجروا، اجروا، ربما يكون هناك انتحاري آخر هنا"، ولكني لم أقو على ذلك. كان الاضطراب شديدا والفوضى شديدة، والكراسي والموائد متناثرة في كل مكان، والجميع يبكون. ورأيت شخصا مغشيا عليه في أحد المقاعد ورأسه ينضح بالدم، وأظنه كان ميتا، وكان الجميع مخضبين بالدماء.

    أما إيفا كريف صديقة بلهادف، وهي أيضا طالبة فرنسية تدرس في إطار برنامج المنح الخارجية، فنجت من التفجيرين الانتحاريين داخل المقهى، لكنها أصيبت في انفجار سيارة مفخخة عندما حاولت الفرار من المكان؛ "بعد بضع دقائق من دخول سابرينا المقهى حدث انفجار، وكان كالزلزال، ولم تكن الضوضاء شديدة جدا، لكن الدمار هو الذي كان شديدا. وانتابني الذهول. ونسيت أمر أصدقائي. ولم أفهم ما حدث على الإطلاق". وسارت كريف مع صديقة أخرى أصيبت بجرح في رأسها إلى سيارة إسعاف، والتقت بصديقة ثالثة اقترحت عليها العودة إلى بيت الطالبات.
    قررنا السير في شارع جانبي اسمه هاراف كوك. وأثناء سيرنا فيه انفجرت سيارة مفخخة في ساحة انتظار على الجانب، فأصبت في رجلي، لم يكن ما أصابني شظية ولكن شيئاً آخر متطايراً، وكذلك أصبت في عيني اليسرى. كما شاط شعري أيضا إلى حد كبير، ولكني لم ألحظ ذلك إلا فيما بعد. كان كل شيء ساخنا، شديد الحرارة.

    وفقدت كريف الإبصار بعينها اليسرى إلى الأبد، وقالت لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان" "إنني أشعر الآن بخوف بالغ"؛ وأردفت قائلةً:
      بدأ الخوف ينتابني وأنا في المستشفى فكلما سمعت باب ينصفق أو ضوضاء انتابني الذعر؛ ثم بدأت أعود إلى الحياة ببطء، لكن التجربة كانت قاسية. أصبحت أخشى ركوب الحافلات والخروج إلى الشارع. وعندما أسمع عن الهجمات كل بضعة أيام في الأخبار... تعاودني الذكريات. لو تعرضت لهجوم وبدأت تتعافى ولم يحدث هجوم آخر لاختلف الأمر، لكن الهجمات تظل تتواصل.
    وقالت كريف إنها كانت فيما مضى متحيرة هل تبقى في إسرائيل أو تعود إلى فرنسا، "ولكن منذ إصابتي اتضح لي أنني يجب أن أبقى هنا، لا أدري لماذا، ولكن بسبب ما حدث أصبح هذا مكاني أكثر من أي وقت مضى".

    كما كان العرب الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية من بين ضحايا التفجيرات. ومن هؤلاء حسام أبو حسين الذي أخذ ابنته البالغة من العمر 16 شهرا ليقضي اليوم بالخارج في الخضيرة يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2000.
    عندما وصلنا بدأت تطلب مني أن أشتري لها بيتزا. إنها تحب أكل البيتزا بالكاتشاب على سبيل المرح أكثر من النكهة نفسها. فأخذتها إلى محل للبيتزا أعرف أصحابه... وجلست في المطعم وابنتي بين ذراعي، وفجأة وجدت نفسي في مكان والطفلة في مكان آخر، فظننت أن اسطوانة غاز قد انفجرت، وامتلأ المكان بدخان أسود، وشعرت بطعم كريه في فمي، دخان كثيف ورائحة لحم محترق في فمي لم أدر ما هو. أتذكر الآن كل شيء لأنني لم يغش علي. رأيت شخصا بلا رجلين، فقد كانت رجلاه قد احترقتا. ونسيت أن ابنتي كانت معي وفجأة تذكرت. أريد أن أعثر عليها، لكنها كانت داخل كرة من اللهب. ثم جرى حسام أبو حسين إلى الشارع. أدركت أنه كان هجوما إرهابيا وكنت خائفا، خائفا لأنني عربي وقد يظن أحد أنني الفاعل، فقفزت إلى عربة إسعاف وغطيت فم ابنتي بيدي حتى لا تصرخ وتجذب الانتباه إلينا، وأخذت أقول للسائق "انطلق الآن، انطلق، انطلق". وفيما بعد تبينت أنني جريت 100 متر وفي ظهري مسمار معدني، ويبدو أنه دخل في ظهري عندما انفجرت الحافلة، وربما كان جزءا منها.

    وأصيب حسام أبو حسين وابنته بحروق شديدة في هذا الهجوم الذي أدى لمقتل اثنين وجرح 50 شخصا. ويقول أبو حسين إن شعر ابنته الآن لا ينمو نموا طبيعيا، وأن ترقيع الجلد الذي أجري لها لمعالجة الحروق أحدث ندبات واسعة في عنقها وظهرها ويدها اليسرى، التي وصفها بأنها أصبحت "كيد امرأة عجوز في الثمانين". كما تأثر الاثنان من الناحية النفسية، فقال أبو حسين "أصبحت أعاني من الكوابيس، وأجدني أستيقظ من النوم وأنا أتصبب عرقا، مهما كان التكييف شديدا، وابنتي تستيقظ في جوف الليل وهي تصرخ قائلة "لا، لا، لا".
    وقال أبو حسين لمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان": كيف أتعامل مع هذا بوصفي فلسطينيا؟ ليس الأمر سهلا. إنهم [في الضفة الغربية وغزة] يعانون - أكثر من غيرهم. ولكن عندما يؤذيك أحد فإنك تغضب. لا يهم إن كان أمك أو أباك أو ابن عمك أو أخاك. عندما يحاول أحد قتلك فإنك لا "تفهمهم". ولا تعنيك مشكلتهم في تلك اللحظة، وأسبابهم ومعاناتهم. مادام الدمار بعيدا عني، سأحاول أن أفهم؛ ولكن عندما يطول جسمي وطفلتي، فإنني أغضب. هذا هو رد فعلي المباشر. إن الله وحده هو الذي يحيي ويميت. ليس هذا هو السبيل للعمل على كلا الجانبين. العنف لا يفيد أبدا، إذا ضربتك فسوف تضربني وهكذا بلا نهاية. ولن يحل ذلك شيئا. 36