النتائج والتوصيات
.Iالتكامل الإيجابي في الدراسة الأولية للقضايا
"المحكمة الجنائية الدولية" هي محكمة الملاذ الأخير.
بموجب مبدأ "التكامل"، لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنظر إلا في القضايا التي لم تتولاها السلطات الوطنية، التي ينص القانون الدولي على مسؤوليتها الأساسية عن ضمان المحاسبة على الجرائم المنطوية على فظائع.
على المدى البعيد، يعد دعم وتعزيز المداولات القضائية الوطنية مسألة لا غنى عنها على مسار مكافحة الإفلات من العقاب على أخطر الجرائم، وهو أمر أساسي في الوفاء بآمال تحسّن واتساع رقعة تأثير المحكمة الجنائية الدولية. عندما تكون الدول مهتمة بتجنب تدخل المحكمة الجنائية الدولية، بإمكانها تجنبه عن طريق تنظيم مداولات قضائية وطنية حقيقية. من ثم، فإن لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية قدرة تأثير كبيرة على السلطات الوطنية في الدول التي يُبحث فتح تحقيقات فيها، وهي المرحلة التي تُدعى "الدراسة الأولية" للقضايا.
أقر مكتب الادعاء بالمحكمة بهذه الفرصة. ففي السياسات والممارسات يلتزم مكتب الادعاء – كلما أمكن – بتشجيع المداولات القضائية الوطنية في الجرائم الخاضعة لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية أثناء مرحلة الدراسة الأولية. هذا الأمر يجعل من مكتب الادعاء طرفا محتملا مهما وفاعلا فيما أصبح معروفا بمسمى "التكامل الإيجابي"، وهو مجموعة جهود الشركاء الدوليين والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني الرامية إلى مساعدة السلطات الوطنية في تنفيذ ملاحقات قضائية فعالة في الجرائم الدولية. تشمل هذه الجهود المساعدات التشريعية وبناء القدرات والمناصرة والحوار السياسي لمواجهة تعطيل الملاحقات القضائية.
في حين أن الإشارات الأولى إلى التكامل الإيجابي جاءت بالأساس بفضل دور المحكمة (انظر المرفق 1 في النسخة الإنغليزية)، فقد تطور المصطلح بعدئذ، لا سيما قبل وبعد مؤتمر استعراض المحكمة الجنائية الدولية عام 2010 في كامبالا، أوغندا. لكن كان الحفاظ على قوة الزخم مسألة صعبة منذ مؤتمر كامبالا، ومع ذلك اكتسب المصطلح مزيدا من الاعتراف وأصبح يشتمل على مبادرات أطلقها عدد من الفاعلين، على مسار التشجيع على الملاحقات القضائية الوطنية في الجرائم الدولية.
ثمة حاجة إلى هذه الجهود، لأن الملاحقات القضائية المحلية على الجرائم الدولية عادة ما تواجه معوقات كبيرة. فالإرادة السياسية لدى السلطات الوطنية فيما يخص دعم التحقيقات المستقلة مسألة ضرورية، لكنها عادة ما تكون غائبة أو لا فائدة حقيقية منها، نظرا لأن تلك الملاحقات يُرجح أن تتداخل مع المصالح المحلية وحتى الدولية المُعارضة للمحاسبة. كما تتطلب الملاحقات القضائية للفظائع الجماعية خبرات متخصصة وقدرا كبيرا من الدعم، بما يشمل حماية الشهود. وعادة ما تكون الدول غير مجهزة بالقدر الكافي لمواجهة هذه التحديات.
التزام مكتب الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية بدعم التكامل الإيجابي في مرحلة الدراسة الأولية كجزء من هذه المسألة الأوسع يمكن أن يؤدي إلى تحسن ملحوظ على مسار إعمال حقوق الضحايا في العدالة على جرائم حقوق الإنسان، وتعظيم أثر المحكمة الجنائية الدولية على جهود التقاضي الوطنية. إلا أنه يواجه تحديات كبيرة وصعبة فيما يخص ترجمة هذه الالتزامات المتصلة بالسياسات إلى ممارسات عملية ناجحة.
يستكشف هذا التقرير إلى أي مدى يمكن في الواقع لمكتب الادعاء تحقيق هذا الالتزام، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كانت التحديات المحلية أكبر من قدرة التزام المحكمة الجنائية الدولية بالتكامل الإيجابي على مواجهتها.
وكما نناقش أدناه، قد يكون هناك أثر ناتج عن التكامل الإيجابي ببساطة عن طريق تواصل مكتب الادعاء بالمحكمة مع السلطات الوطنية أثناء إجراء المكتب أعمال الدراسة الأولية للقضايا. لكن للمضي قدما نحو تأثير أكبر، يحتاج مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية – مثله كالفاعلين الآخرين في مسألة التكامل – إلى استراتيجيات للتعامل مع مسألتي "عدم الرغبة" و"عدم القدرة". وتشمل ما يلي:
- تركيز النقاش العام في الإعلام والمجتمع المدني على الحاجة إلى المحاسبة.
- أن يكون المكتب مصدرا للضغط المستمر على السلطات المحلية لتُظهر ما تحقق من نتائج في المداولات القضائية المحلية.
- تسليط أنظار الشركاء الدوليين على أهمية ضمّ المحاسبة إلى الحوار السياسي مع السلطات المحلية.
- إتاحة المعلومات المشتقة من تحليلات مكتب ادعاء المحكمة لصالح نشطاء حقوق الإنسان، ما يعزز أنشطة المناصرة المتصلة بالعدالة.
- تحديد نقاط الضعف في العمليات القضائية والقانونية المحلية، من أجل الدفع بزيادة جهود السلطات الحكومية وزيادة دعم الشركاء الدوليين، عند الانطباق.[1]
الكثير من المذكور هو استراتيجيات تمت مشاركتها مع فاعلين آخرين معنيين بمسألة التكامل، لكن من بين هؤلاء الفاعلين، يتبوأ مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية مكانة فريدة من نوعها. فكما سلف الذكر، تنبع قدرته على التأثير على السلطات الوطنية من أنه، على النقيض من المانحين الدوليين والفاعلين بالمجتمع المدني، له سلطة فتح تحقيق إذا لم تحقق السلطات الوطنية. لكن بموجب الإطار القانوني للمحكمة، من الممكن دفع اختصاص مكتب ادعاء المحكمة حتى إذا بدا أن ثمة نشاط وطني حول موضوع الاختصاص، بغض النظر عمّا إذا أثمر هذا في النهاية عن مداولات وتحقيقات محلية فعالة أم لا.
هذه القدرة الفريدة من نوعها على التأثير تأتي إذن مصحوبة بقيد فريد من نوعه أيضا: على مكتب ادعاء المحكمة أن يحقق التوازن بين فتح المجال أمام السلطات الوطنية، فيما هو يمضي قدما – ويُعرف أنه يمضي قدما – في تلبية التزامه إذا ما لم تفعل السلطات المحلية ما عليها. حيثما لا يسفر التأخر عن تحرك المحكمة الجنائية الدولية عن إحقاق العدالة بشكل حقيقي وطنيا، بل يتيح مساحة للسلطات الوطنية لعرقلة أعمال المحكمة الجنائية الدولية، يتعرض تأثير مكتب ادعاء المحكمة على السلطات الوطنية للتقويض، وحينئذ يخاطر مكتب ادعاء المحكمة بشرعنة الإفلات من العقاب في نظر الشركاء الأساسيين في جهود التكامل.
II. تطور مسلك مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية
شهد مسلك مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية تغيرات كبيرة منذ صدور تقرير هيومن رايتس ووتش في 2011 بعنوان "تصحيح المسار". سلط التقرير الضوء على المقاربات غير المتسقة بين مختلف المواقف، والإعلانات السريعة عن عمليات الدراسة الأولية الجديدة، وغياب آلية واضحة لتبليغ الرأي العام بالتقدم المحرز في تلك الدراسات لتعزيز المساندة العامة المبدئية.[2]
منذئذ، مرّ مكتب ادعاء المحكمة بعدد من التحولات الهامة في نهجه إزاء التكامل الإيجابي والدراسة الأولية. نناقش هذه التحولات في المرفق I (في النسخة الإنغليزية). ومن بينها اتخاذ موقف أقوى إزاء التكامل الإيجابي، والسعي إلى إشراك السلطات المحلية فقط في حال وجود مداولات قضائية محلية ذات صلة بالفعل، أو حيث صرّحت السلطات الوطنية بالتزامها بفتح هذه المداولات.
وتشمل هذه التغييرات أيضا الممارسة الحالية القاضية بإرجاء مبادرات معينة للتكامل الإيجابي إلى حين تيقن مكتب ادعاء المحكمة من أن القضايا المحتملة تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ما يعزز من قدرته على التواصل مع الحكومات على أرضية أصلب. كما أصبح مكتب ادعاء المحكمة يحتاط أكثر فيما يخص التماس التغطية الإعلامية لدراساته الأولية، مع تقديم معلومات أقوى في الوقت نفسه حول كل دراسة، وإتاحتها في المجال العام عبر تقاريره السنوية. وأخيرا، فلقد عزز المكتب – وإن كان بشكل لا يزال محدودا جدا – من أعداد العاملين المكلفين بتنفيذ الدراسات الأولية.
III. النتائج الأساسية بشأن كولومبيا وجورجيا وغينيا والمملكة المتحدة
يسعى هذا التقرير إلى أن يكون امتدادا لتقريرنا الصادر عام 2011 والذي يقيّم أثر مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية على منظومات العدالة الوطنية، عن طريق تقديم دراسات حالة حول المداولات الوطنية في 4 دول خاضعة – أو كانت خاضعة – لدراسات أولية من مكتب ادعاء المحكمة، وهي: كولومبيا وجورجيا وغينيا والمملكة المتحدة.[3] يتناول التقرير ممارسات مكتب ادعاء المحكمة قبل وبعد اعتماده في 2013 سياسة رسمية بشأن الدراسات الأولية. يسعى التقرير إلى تحديد مجالات إذا شهدت تحولات أكبر في الممارسات – لا سيما طريقة التواصل مع السلطات المحلية ومع الشركاء الاستراتيجيين الأساسيين من الشركاء الدوليين والمجتمع المدني، والإعلام – يمكن أن تعزز تأثير مكتب ادعاء المحكمة من الآن فصاعدا.
تعتمد بحوثنا على مقابلات مع طيف عريض من المعنيين في كل دولة مشمولة بدراسة حالة، بما يشمل مسؤولين حكوميين في وزارات الخارجية والعدل والدفاع، وسلطات التحقيق والتقاضي الوطنية، وقضاة ونشطاء بالمجتمع المدني، وصحفيين، وممثلين عن بعثات دبلوماسية ومندوبين بهيئات بالأمم المتحدة. تم اختيار دراسات الحالة الأربع بناء على تقدير هيومن رايتس ووتش بأن في كل موقف من المواقف توجد جوانب بعينها من نظم العدالة الوطنية – أو كانت قائمة – مُتوقع أن يكون لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بعض التأثير عليها؛ تم الاختيار أيضا مراعاة للتنوع الجغرافي، وانطلاقا من خبرات وبحوث هيومن رايتس ووتش القائمة حول الدول، وأيضا بناء على القدرة العملية على تنفيذ البحوث بالنظر إلى الموارد المتوفرة والعاملين المتوفرين.
يختلف تواصل مكتب الادعاء مع السلطات الوطنية في الدول الأربع فيما يخص العدالة المحلية. يظهر من بحوثنا أن تواصل مكتب ادعاء المحكمة كان كبيرا ومهما في غينيا، يليها أهمية كولومبيا، مع تأثير محدود جدا في جورجيا. وفي المملكة المتحدة، لم ينتهج مكتب ادعاء المحكمة مقاربة نشطة لتحقيق التكامل الإيجابي على امتداد الفترة الزمنية التي تغطيها بحوثنا.[4]
نتائج المداولات الوطنية حتى الآن تسلط الضوء على نقطة أساسية ذكرناها أعلاه: لابد أن تبقى التوقعات إزاء تأثير مكتب ادعاء المحكمة واقعية. فلقد بدأت السلطات تحقيقات في الدول الأربع. لكن تبقى الملاحقات القضائية محدودة أكثر.
وقت إعداد هذا التقرير، لم تكن التحقيقات في غينيا بشأن مذبحة الاستاد في 28 سبتمبر/أيلول 2009 قد أسفرت عن محاكمات، رغم أن قضاة التحقيق قاموا في ديسمبر/كانون الأول 2017 – إثرإتمام التحقيقات – بإحالة القضية إلى المحاكمة. تخلت السلطات الجورجية عن تحقيقاتها في الجرائم المُرتكبة في النزاع المسلح عام 2008 مع روسيا في منطقة جنوب أوسيتيا، ما أدى إلى فتح تحقيق بالمحكمة الجنائية الدولية في يناير/كانون الثاني 2016. وفي المملكة المتحدة، حيث تتعلق الدراسة الأولية بادعاءات انتهاكات ارتكبها عناصر بالقوات المسلحة البريطانية في العراق، فإن تشكيل هيئة تحقيق خاصة للبحث في الادعاءات، وهي "فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق" – وحل محله الآن هيئة "التحقيقات المحالة للشرطة العسكرية" – لم يؤد إلى أية ملاحقات قضائية. في كولومبيا، طرأ عدد ليس بالهيّن من الإدانات لأشخاص متهمين بالقتل "الإيجابي بالخطأ"، أي قضايا قتل غير قانوني بلّغ عنها عناصر من الجيش رسميا بصفتها أعمال قتل قانوني أثناء القتال، مع عدم تحقق تقدم يُذكر في الملاحقة القضائية لكبار المسؤولين.[5]
يظهر من دراسات الحالة أنه من المهم عدم المبالغة في تقدير فرص النجاح. فنظرا للمعوقات المستمرة والعنيدة العديدة القائمة على مسار إتمام الملاحقات القضائية على الجرائم الأخطر أمام المحاكم الوطنية، ستسفر العديد من الدراسات الأولية عن الحاجة إلى فتح تحقيقات من قبل المحكمة الجنائية الدولية. هناك عوامل موضوعية – مثل عملية السلام في كولومبيا وطبيعة النزاع العابر للحدود بين جورجيا وروسيا – تفرض قيودا كبيرة على ما يمكن للدراسة الأولية لمكتب ادعاء المحكمة إنجازه فيما يتعلق بالعدالة الوطنية. بالفعل، دأب مكتب ادعاء المحكمة على تعديل وتكييف نهجه إزاء التكامل الإيجابي على مرّ الزمن، معتبرا التكامل الإيجابي استراتيجية يمكنه اعتمادها فقط في حال توفر شروط معينة.
ومع ذلك، فقد توصلت بحوثنا إلى أنه في كل موقف توجد بعض الخطوات الإيجابية التي تُعزى جزئيا على الأقل إلى تدخل مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية.
طرأ تقدم ملحوظ في غينيا تحديدا، حيث انخرط مكتب ادعاء المحكمة بشكل أقوى مقارنة بأوضاع أخرى، وحيث بدا أن مكتب ادعاء المحكمة – على مر الزمن – كنقطة ضغط خارجية، قد أسهم في إحراز تقدم من قبل المسؤولين الوطنيين، مع التقدم على مسار مشاركة فاعلين دوليين أساسيين آخرين في ملف العدالة.
في كولومبيا، ذكر أشخاص تمت مقابلتهم أثناء إعداد التقرير أن مكتب ادعاء المحكمة كان من بين عدة فاعلين هامين فيما يخص الحفاظ على ضرورة المحاسبة في القضايا المطروحة على الأجندة. كما عمل مكتب ادعاء المحكمة بفعالية على مواجهة مقترح تشريعي واحد على الأقل كان من شأنه تقويض الملاحقات القضائية المطروحة، وكان المكتب من عوامل تطوير استراتيجيات التقاضي ذات الصلة. كانت النقطة الأخيرة مهمة في التصدي لعدة معوقات على مسار الملاحقة القضائية. وكان انخراط مكتب ادعاء المحكمة أيضا من العوامل التي سرّعت عجلة التقدم في القضايا بحق المدعى عليهم من الرتب المنخفضة والمتوسطة، لكن لم تثبت فعاليته بعد في التصدي للعائق الرئيسي الذي يحول دون مقاضاة كبار المسؤولين، في ظل غياب إرادة سياسية قوية لدعم هذه الملاحقات القضائية. وكانت بعض العوامل خارج قدرة مكتب ادعاء المحكمة على التأثير، وأهمها عملية سلام هافانا. لكن انتهاج مقاربة أكثر تصميما مع الحكومة – بما يشمل الاستعانة بالإعلام – وتحالفات أكثر فعالية مع شركاء دوليين، ربما كانت لتحسن تأثير مكتب ادعاء المحكمة.
في جورجيا، كان نهج مكتب ادعاء المحكمة أقل استنادا إلى التدخل. فقد عمل المكتب على نطاق واسع مع السلطات المحلية كجزء من تقييم السلطات للملاحقات القضائية المحلية ولتفادي التلاعب باختصاص محكمة الجنايات الدولية، بدلا من أن يسعى المكتب إلى التشجيع على هذه التدابير بحد ذاتها.
فيما يبدو أن وجود الدراسة الأولية وتواصل مكتب ادعاء المحكمة المنتظم مع السلطات في جورجيا هو نتيجة قدر من أنشطة التحقيق، في نهاية المطاف لم يكن هذا كافيا لدعم المداولات الوطنية الفعالة، ما أدى إلى قرار المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق. هناك عدة عوامل حدّت من تأثير مكتب ادعاء المحكمة على صعيد جهود المحاسبة الوطنية، فجزء من السبب يعود إلى الإرادة السياسية المحدودة جدا من جهة الحكومة فيما يخص المحاسبة الوطنية. لكن تعزيز الانخراط بين مكتب ادعاء المحكمة والفاعلين الآخرين – بما يشمل الإعلام والمجتمع المدني والشركاء الدوليين – ربما كان ليسرّع عملية تقدير مكتب ادعاء المحكمة لاختصاصه، وكان ليؤدي إلى قرار أبكر فيما يخص السعي إلى فتح تحقيقات.
في المملكة المتحدة، أعاد مكتب ادعاء المحكمة فتح دراسته الأولية أثناء مرحلة شهدت حراكا واهتماما كبيرا بالادعاءات الأوسع بارتكاب القوات البريطانية انتهاكات في العراق. فأثناء فترة إجراء بحوث لتقريرنا، كان مكتب ادعاء المحكمة لم ينتهج بعد نهجا نشطا في السعي إلى تحقيق التكامل. ليس من المدهش إذن – وعلى خلفية التطورات الخاصة بأعمال المحاسبة – أن تشير بحوثنا إلى أن تدخل المحكمة الجنائية الدولية إلى الحين لم يؤد في حد ذاته إلى فتح مداولات وطنية أو التأثير عليها بشكل فعال. إنما وبقدر ما طرأ تقدم في التحقيقات الجنائية، فالأمر يُعزى جُلّه إلى أعمال التقاضي المحلية التي سبقت دراسة المحكمة الجنائية الدولية للادعاءات. في الوقت نفسه، ومع إخضاع جهود التقاضي المحلية القائمة لمستوى إضافي من التدقيق، فربما أثنت دراسة مدعية المحكمة الجنائية الدولية السلطات البريطانية عن إيقاف التحقيقات في الانتهاكات المحتملة للقوات المسلحة البريطانية في العراق، رغم الضغوط المفروضة عليها للسير في هذا الاتجاه.
العوامل الخاصة بالسياق القائم
يتضح من دراسات الحالة أن السياق سيؤثر على احتمال نجاح أنشطة التكامل الإيجابي التي يبذلها مكتب ادعاء المحكمة. وتُظهر بحوثنا وجود 4 عوامل خاصة بالسياق، تعد ذات أهمية خاصة.
أولا، وهذا هو العامل الأهم، فإن نطاق المعارضة للمحاسبة من قبل أصحاب المصالح النافذين في الدولة يمكنهم التضييق على تأثير مكتب ادعاء المحكمة. غياب الدعم السياسي الكامل للمحاسبة – بغض النظر عن النوايا المعلنة من الحكومات – كان أمرا وجدناه في جميع دراسات الحالة. في المملكة المتحدة بدا أن هناك توجه عام إلى تفضيل محاسبة السياسيين على قراراتهم بالذهاب إلى الحرب في العراق ومسؤوليتهم عما حدث بعدها – وهي مسألة لا تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية – لكن دون وجود التوجه نفسه بالضرورة إزاء المسؤولين العسكريين والجنود.
لكن يختلف المشهد الذي يفرض شروطه على الإرادة السياسية للملاحقات القضائية من حالة إلى أخرى.[6] في الدول الأربع جميعها، فإن بعض أو كل الجناة المزعومين هم حاليا – أو كانوا – مسؤولين حكوميين خلال مراحل معينة أثناء ارتكاب الانتهاكات المزعومة، أو أثناء الدراسة الأولية، وحين تغيرت الحكومات، لم تعتبر الحكومات الجديدة بالضرورة أن ملاحقة المسؤولين الحكوميين السابقين تصب في مصلحتها السياسية.
وكان تأثير القوات المسلحة في كل من هذه الدول كبيرا. في كولومبيا، كانت عملية السلام عاملا حاسما في تشكيل ردود فعل الحكومة بأشكال أسهمت في السير نحو العدالة وفي الانتكاس عنها في الوقت نفسه، مع تأثير العلاقة بين جورجيا وروسيا في أعقاب نزاع 2008 والسياق الأمني الإقليمي على القرارات الخاصة بالملاحقة القضائية في ظل حكومتين متعاقبتين في جورجيا.
ثانيا، حيثما كان مجال الجرائم المرتكبة محدودا أكثر – كما في غينيا حيث توجد ادعاءات بواقعة مروعة وإن كانت مقتصرة على إطار زمني ضيق – تمكن مكتب ادعاء المحكمة من تحديد مرجعيات محددة مع السلطات القائمة بالملاحقة القضائية، والتي قامت بدورها في المساعدة على الدفع نحو التقدم التراكمي. في كولومبيا، أشار مكتب ادعاء المحكمة إلى أنه كان من الأصعب استخدام هذا النهج نظرا لاتساع رقعة الجرائم محل النظر جغرافيا وزمنيا.
ثالثا، حيثما كان طلب الرأي العام واهتمامه بالمحاسبة كبيرا، فإن ذلك يفتح المجال أمام قدرة مكتب ادعاء المحكمة على تكثيف أعمال المناصرة مع فاعلين محليين هامين، بما يشمل ممثلي المجتمع المدني، والعكس صحيح، وأيضا يفتح المجال للاستفادة من الإعلام كنقطة للضغط على الحكومات. في غينيا، شاركت جمعيات ومنظمات الضحايا كشركاء مدنيين في التحقيقات الوطنية، وساعدت المراسلات والتعاملات بين مكتب ادعاء المحكمة وهذه الجمعيات والمنظمات المكتب في تقديره للتقدم المحرز في التحقيقات الوطنية. في كولومبيا أيضا، اعتمدت منظمات المجتمع المدني المحلية على تغطية مكتب ادعاء المحكمة وتقاريره حول الجرائم المرتكبة وحالة الملاحقات القضائية الوطنية، في أعمال المناصرة الخاصة بها، وأدت تصريحات وبيانات مكتب ادعاء المحكمة إلى تغطيات إعلامية موسعة. في المملكة المتحدة، أدى العداء للادعاءات بحق عناصر القوات المسلحة والمحامين الذين قدموا هذه الادعاءات إلى تعقيد مشهد المحاسبة.
رابعا، يُرجح أن تكتسب جهود مكتب ادعاء المحكمة نجاحا أكبر عندما يطالب شركاء دوليون آخرون بدورهم بالمحاسبة. في غينيا وكولومبيا، كان مكتب ادعاء المحكمة واحدا من عدة فاعلين دوليين معنيين بالعدالة، بينما في جورجيا توصلنا إلى أدلة قليلة على اعتبار الشركاء المحتملين الآخرين – بما يشمل البعثات الدبلوماسية والمنظمات الإقليمية وهيئات الأمم المتحدة – أن الانخراط مع السلطات المحلية بشأن أهمية المحاسبة في القضايا ذات الصلة مسألة تتمتع بالأولوية.
من غير المرجح أن يتمكن مكتب ادعاء المحكمة وحده من تغيير الديناميات السياسية وتبديلها تبديلا جذريا. وفي حين ربما يصادفه نجاح أكبر في التأثير على فاعلين آخرين غير الحكومة – في صفوف المجتمع المدني وفي المجتمع الدولي – للانضمام إلى جهوده للضغط على الحكومات من أجل جعل العدالة أولوية أساسية، فحتى هذا الجهد غير مؤكد النتائج (انظر مناقشة التحالفات الاستراتيجية أدناه). يُوحي هذا بأن نهج مكتب ادعاء المحكمة الحالي – القاضي بترك الأمر للمداولات الوطنية في حال كانت هناك نية مُعلنة من الحكومة على الأقل بهذا، مع التقييم التقدير الحريص لما إذا كان عليه يشجع هذه المداولات وكيف يشجعها بناء على تقديره لاحتمالية وجود مداولات حقيقية وفعالة – يقرّ بالقدر السليم بوجود بعض القيود التي لا مهرب منها.
نتيجة للمذكور، كان نهج مكتب ادعاء المحكمة مختلفا من وضع آخر، ويرجح أن يستمر على هذه الشاكلة. في أحد الأوضاع، قد يترك مكتب الادعاء الأمر للسلطات الوطنية لوقت أطول لأنه يعتبر أن ثمة مداولات جدية سوف تظهر، وفي حالات أخرى قد لا يتيح المساحة نفسها للسلطات الوطنية.
لتحقيق التوازن السليم بين هذا التوجه وذاك، لا بد أن يكون لاستراتيجيات مكتب ادعاء المحكمة الخاصة بالتكامل أساس متين قائم على تقدير عميق للسياق القائم. على مكتب ادعاء المحكمة أن يتمكن من فهم المشهد السياسي المحلي – وعند الاقتضاء – الإقليمي، وأن يتواصل مع الحكومة وسلطات التقاضي والمجتمع المدني والإعلام الوطني والدولي.
تُظهر بحوثنا في غينيا أن كثرة زيارات مكتب ادعاء المحكمة للدولة تساعد في تفسير كيف تمكن المكتب، على مدار عدة سنوات شهدت جمودا في التحقيقات أحيانا، من إدارة الموقف بشكل أسهم في تحقيق التقدم التراكمي. يحتاج بناء هذا الفهم العميق للوضع إلى الكثير من الموارد – موارد بشرية من العاملين في مكتب ادعاء المحكمة، وموارد لسفر البعثات.
كما توجد مخاطر حقيقية تتعلق بالمصداقية لدى اختلاف التعامل من وضع إلى آخر.[7] يمكن للشفافية – التي نناقشها أدناه – أن تساعد في تخفيف هذه المخاطر.
د. النتائج والتوصيات
في حين يجب أن تكون التوقعات إزاء تأثير مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية واقعية، فدراسات الحالة الأربع في هذا التقرير تضم أيضا دروسا مستفادة فيما يخص تعزيز مقاربات التكامل الخاصة بمكتب ادعاء المحكمة، من أجل تعزيز تأثيره في المستقبل.
1. على مكتب ادعاء المحكمة الاستفادة أكثر من قدرته الفريدة على تحفيز الإرادة السياسية وتعزيزها
في مختلف دراسات الحالة، كانت المعوقات التي تحول دون مزيد من التقدم في الملاحقات القضائية الوطنية هي غياب الإرادة السياسية لدى المسؤولين لدعم القضايا القائمة. في حين تدخل مكتب ادعاء المحكمة للتصدي لمسألة تحديات القدرات تدخلا ناجحا (من تشجيع على تطوير استراتيجيات التقاضي في كولومبيا، إلى تشجيع فريق خبراء سيادة القانون/العنف الجنسي في النزاعات بمكتب الأمم المتحدة للممثلين الخاصين المعنيين بالعنف الجنسي في النزاع في غينيا).
يُظهر هذا أن بإمكان مكتب ادعاء المحكمة اتخاذ موقع جيد يمكّنه من التوسط في تدفق المساعدات، وأيضا لحشد وتعزيز الإرادة السياسية؛ وهو الأمر الذي يُرجح أن يكون شقا أهم من استراتيجيته الخاصة بتشجيع المداولات القضائية الوطنية.
وحين يتعلق الأمر بتحفيز الإرادة السياسية، يبدو أن قدرة مكتب ادعاء المحكمة على التأثير على السلطات الوطنية تعتمد على مستوى اهتمام هذه السلطات باحتمال أن تفتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا. يبدو أن تأثير مكتب ادعاء المحكمة الأكبر كان في غينيا، حيث أشار من أجريت معهم المقابلات إلى أن الرئيس كان مهتما بوجود تصور عن قدرة الدولة على إجراء التحقيقات، سواء كجزء من مرحلتها الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، أو بسبب الانتقادات القوية التي يوجهها بعض الزعماء الأفارقة إلى المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما في شرق أفريقيا.
بالمقارنة، في كل من كولومبيا وجورجيا والمملكة المتحدة، أشار من أجريت معهم المقابلات إلى قلق محدود من جهة السلطات الوطنية إزاء احتمال فتح المحكمة الجنائية الدولية أي تحقيق. في كولومبيا، لم نجد أي أدلة أو وجدنا أدلة قليلة على أن سلطات التقاضي (مقارنة بالجيش) تعتقد أن المحكمة الجنائية الدولية ستفتح يوما ما تحقيقا. في المملكة المتحدة وصف من أجريت معهم المقابلات ثقة كبيرة من جهة السلطات البريطانية بأنه من غير المحتمل أن تفتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا رسميا. وفي جورجيا، كفت الحكومات المتعاقبة ببساطة عن القلق إزاء تدخل المحكمة الجنائية الدولية حالما أصبح واضحا أنه لا يمكن استغلال تحقيقات المحكمة بأي شكل (سواء لفتح ملاحقات قضائية على الانتهاكات الروسية المزعومة، أو بحق المسؤولين الجورجيين السابقين ما إن وصلت المعارضة إلى السلطة).
يُظهر هذا أن أكثر نهج مثمر من مكتب ادعاء المحكمة إزاء السلطات الوطنية فيما يتعلق بتشجيع الملاحقات الوطنية هو "سيف داموكليس"، أي أن يكون مكتب ادعاء المحكمة بمثابة تهديد ومصدر للضغط القوي.[8] وحيث لا تهتم السلطات ببساطة باحتمال تدخل المحكمة الجنائية الدولية، يصبح صعبا على مكتب ادعاء المحكمة تغيير رؤيتها. لكن حين ينبع نقص الاهتمام من الاعتقاد بأن تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية لا تزيد عن كونها احتمال بعيد، يبدو أن على مكتب ادعاء المحكمة بذل قصارى جهده لتغيير هذه القناعات.
ممارسات مكتب ادعاء المحكمة الحالية تؤهله جيدا للقيام بهذا. في الماضي، ربما كانت التهديدات بتدخل المحكمة الجنائية الدولية تبدو وكأنها تهديدات جوفاء. لكن الآن، وكما نناقش في المرفق I (في النسخة الإنغليزية)، فإن زيادة تقارير مكتب الادعاء العلنية حول الدراسات الأولية وقراره باللجوء إلى استراتيجيات نشطة لتشجيع الملاحقات الوطنية إلى حين التيقن من نطاق اختصاص المحكمة، هي أمور تعزز مصداقية احتمال تدخل المحكمة الجنائية الدولية. كما أن تحديد مكتب ادعاء المحكمة لقضايا محتملة وإعلانه إياها للسلطات الوطنية والرأي العام عبر تقاريره، يوضح أيضا نية المكتب المضي قدما في التحقيق إذا لم تفعل السلطات.[9]
لكن لتعزيز الضغط، على مكتب ادعاء المحكمة أحيانا انتهاج مقاربة المواجهة إزاء السلطات. هذا مهم للغاية نظرا لإمكانية إقبال السلطات الوطنية على التلاعب بإطار العمل القانوني للمحكمة واستغلالها إياه.
فيما يخص التحقيقات التي يفتحها الادعاء من تلقاء نفسه بموجب المادة 15، على مكتب ادعاء المحكمة إقناع قضاة المحكمة بغياب مداولات قانونية وطنية تقضي بعدم مقبولية القضايا المحتملة.[10] جهود مكتب ادعاء المحكمة بهدف تحفيز المداولات القانونية الوطنية يمكن أن تؤدي إلى نشاط محلي يصعّب أكثر على مكتب الادعاء تلبية مقتضيات هذا العبء. حين يؤدي هذا النشاط إلى مداولات قانونية وطنية حقيقية، فهذا أمر إيجابي. لكن ثمة خطر مماثل في إنتاج السلطات المحلية لقدر ما من النشاط – مثل فتح ملفات قضايا واتخاذ خطوات تحقيق محدودة – للحيلولة دون تدخل المحكمة الجنائية الدولية، لكن أيضا دون المتابعة بجدية في الملاحقات القضائية الوطنية. مسؤولية القضاة الخاصة بالنظر في مقبولية القضايا المحتملة تعني أن هناك طيف عريض من أنشطة التحقيق الوطنية التي قد تؤدي إلى عدم مقبولية تدخل المحكمة الجنائية الدولية.[11]
في هذا السيناريو، يمكن للسلطات الوطنية التلاعب بمرحلة الدراسة الأولية، فتطيل من أمدها وتعلّق الموقف: يكون النشاط المحلي وفيرا إلى حد ضمان أن يجد قضاة المحكمة الجنائية الدولية أعمال مكتب الادعاء مقبولة، لكن هذا النشاط يكون محدودا بشكل يؤدي إلى إغلاق الدراسة الأولية نظرا لوجود مداولات قانونية وطنية حقيقية. قد تكون النتيجة هي تأخير تدخل المحكمة الجنائية الدولية المطلوب بشكل حقيقي، مع زيادة التحديات التي تواجه التحقيق إذا بدأ بعد ارتكاب الجرائم بفترة طويلة، وعرقلة حصول الضحايا على العدالة. دراسة حالة جورجيا تؤشر على وجود هذا الخطر.
على مكتب ادعاء المحكمة أن يتحرى الحرص في تحديد متى يكون الخيار الصحيح بترك الأمر للسلطات الوطنية والبدء في استخدام استراتيجيات التكامل الإيجابي، ومتى يكون هذا القرار سببا في تأخير تدخل المحكمة دون وجود فرصة معقولة لإحقاق العدالة وطنيا. الاختيار السليم هنا وتجنب استخدام السلطات الوطنية المختلفة للمحكمة وتلاعبها بها، ربما يكون هو التحدي الأكبر الذي يواجه مكتب ادعاء المحكمة.
خطوات لتحسين موقف مكتب ادعاء المحكمة
يمكن لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية اتخاذ بعض الخطوات لتحسين موقفه أمام السلطات الوطنية.
أولا، عليه أن يحسّن ويقوّي أنشطته العلنية وغير العلنية. في كولومبيا، أشار مسؤولون حكوميون سابقون وحاليون إلى أن طريقة تدخل مكتب الادعاء لم تقنعهم بأن ثمة احتمال جاد لفتح تحقيق، حتى إذا لم يتم إحراز تقدم على صعيد المداولات القضائية الوطنية.
ثانيا، على مكتب ادعاء المحكمة أن يكون قادرا على التثبت من المعلومات المقدمة إليه من السلطات الحكومية. ومن بين الخطوات الأخرى التي يتخذها مكتب الادعاء للتثبت من صحة المعلومات باللجوء إلى السلطات مباشرة، يمكن للمكتب الاستفادة من مصادر معلومات بديلة. يمكن لمكتب ادعاء المحكمة مساعدة جهود المجتمع المدني الخاصة بتحصيل المعلومات، عن طريق تعريف الحكومات بأهمية الشفافية والتشديد على هذه النقطة.
ثالثا، على مكتب ادعاء المحكمة أيضا أن يبحث في إعلان معايير ينبغي للسلطات الوطنية تلبيتها في حالات أكثر.[12] من بين هذه الحالات الأربع هنا، قام مكتب ادعاء المحكمة في حالة غينيا فقط بالإعلان عن خطوات محددة، مطلوبة في التحقيق الوطني. في حين قد يؤدي نطاق الجرائم والمداولات الوطنية ذات الصلة في حالات أخرى إلى الحد من قدرة مكتب ادعاء المحكمة على تكرار نموذج تعامله في غينيا، فإن استخدام معايير مرجعية قد حثّ السلطات الوطنية على اتخاذ خطوات. كما أن المعايير المرجعية تسمح لمكتب ادعاء المحكمة بتحديد متى لا يتم اتخاذ الخطوات التي نصح بها، وأين، وربما تمكنه من تحديد متى ينتهي أوان الإرجاء إلى حين إتمام المداولات الوطنية في القضية.
وأخيرا، فإن الإعلان على الملأ عن هذه المعايير المرجعية يعني التشديد على جدية مكتب ادعاء المحكمة في اهتمامه بالتكامل الإيجابي. بشكل أعم، فإن الشفافية في تحليل مكتب ادعاء المحكمة للمداولات المحلية مسألة أساسية. حيثما يتواصل مكتب ادعاء المحكمة مع السلطات الوطنية بشكل قوي – ويُرى بهذه الصفة – في تشجيعها على إتمام المداولات الوطنية، فإن الفاعلين الآخرين، لا سيما في المجتمع المدني والمانحين الدوليين للدولة، يمكنهم تكملة جهوده فيما يخص جعل الحكومة في موضع المساءلة بشأن اتخاذها لخطوات إضافية.
كما نشير أدناه، فربما لا يكون من الممكن دائما تحفيز هذه التحالفات الاستراتيجية. لكن في غياب هذه الشفافية، فقد تبدو مدد الدراسة الأولية المطولة في نظر المجتمع المدني المحلي والأطراف الأساسية الأخرى مجرد تكتيك ينتهجه مكتب ادعاء المحكمة للمراوغة، ما يقوض قابلية هؤلاء الفاعلين للتصرف كشركاء استراتيجيين.
2. التعجيل بالتحليل لبدء أنشطة التكامل مبكرا
كان من التغيرات المهمة في ممارسات مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية إرجاء التشجيع النشط بشكل عام للمداولات الوطنية حتى المرحلة 3 من التحليل، أي إلى حين توصله إلى قرار بأن هناك قضايا محتملة إذا غابت عنها المداولات الوطنية، فمن الممكن أن تخضع لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية وأن تفتح فيها المحكمة ملاحقات قضائية. من بين دراسات الحالة المشمولة بالتقرير، ظهر هذا النهج الجديد في حالة المملكة المتحدة فحسب، رغم أن هناك جوانب من هذا النهج – تحديدا في التعامل مع السلطات الوطنية فيما يخص المداولات الخاصة تحديدا بالقضايا التي تم التعرف عليها – تم استخدامها أيضا في دراسات الحالة الثلاث الأخرى.
هذا تحول إيجابي، ويبدو أنه مدفوع بالرغبة في الوضوح كما تظهر في سوابق عمل المحكمة، فيما يخص تحديد المقبولية في مرحلة الدراسة للقضايا المحتملة. وهذا يعزز مصداقية مكتب ادعاء المحكمة فيما يخص ضغطه على السلطات الوطنية، نظرا لأنها ستعرف أن بإمكان مكتب ادعاء المحكمة التصرف إذا لم تتخذ السلطات الوطنية ما يكفي من إجراءات. وهنا أيضا يتجنب مكتب ادعاء المحكمة الإدلاء بتصريحات علنية تتجاوز طبيعة تحليله، وهو ما قد يقوض من مصداقية تحليله ويقلل من قدرته على التأثير. كما يسمح هذا لمكتب ادعاء المحكمة بالتواصل مع السلطات الوطنية بشأن قضايا محددة وضع يده عليها، وهو الأمر – كما نلاحظ من تجارب مكتب الادعاء وكما نشير في المرفق I – الذي عزز من مستوى التواصل المُتاح للمكتب مع السلطات.[13]
تُظهر بحوثنا أن تكلفة فرصة إرجاء جهود التكامل الإيجابي حتى المرحلة 3 قد تكون أقل من المتوقع. هذا لأن فتح الدراسة الأولية والأنشطة الضرورية لإجراء ذلك الفحص – وهو الأمر المتمايز عن استراتيجيات بعينها لتشجيع المداولات القضائية الوطنية – هي أمور قد يكون لها تأثيرها في حد ذاتها.
في غينيا، أدى فتح الدراسة الأولية في غضون أسابيع إلى بدء تحقيق وطني. في كولومبيا وجورجيا والمملكة المتحدة، وبينما كانت قد بدأت بالفعل تحقيقات وطنية قبل فتح الدراسة الأولية (أو في حالة المملكة المتحدة، قبل إعادة فتح الدراسة الأولية: لم تكن هناك آثار واضحة للدراسة الأولية الأولى على الإجراءات القضائية الوطنية) فقد أشار المعلقون إلى أن قيام مكتب الادعاء برصد المداولات الوطنية وطلب معلومات حولها أسهم في ممارسة بعض الضغط على السلطات الوطنية حتى تتصرف، بما يشمل – في بعض الدول – إبقاء المحاسبة على أجندة الحكومة والمجتمع المدني والشركاء الدوليين.
لكن في الوقت نفسه، فإن ترك النهج النشط في التعامل مع القضية لإفساح المجال أمام التكامل الإيجابي لمدة طويلة للغاية، قد يكون له ثمنه الباهظ.
الخسائر جراء ترك النهج النشط مع اختيار التكامل الإيجابي
لا تنص النصوص القانونية للمحكمة الجنائية الدولية على أي إطار زمني لاتخاذ القرارات الخاصة بالدراسة الأولية. يمكن لغياب الأطر الزمنية إتاحة المرونة لصالح مكتب ادعاء المحكمة، عندما يصل إلى مرحلة تنفيذ التحليل، وكذلك فيما يخص تنفيذ التزامه انطلاقا من السياسات بتشجيع المداولات القضائية الوطنية. فالزمن المطلوب لتحفيز المداولات القضائية الوطنية يُرجح أن يتباين كثيرا من حالة لأخرى حسب السياق.[14] لكن دراسة حالة كولومبيا (ودراسة حالة جورجيا إلى حد ما) تُظهر أنه مع مرور الزمن واستمرار مكتب ادعاء المحكمة في عدم التحرك، قد يقل تدريجيا اهتمام السلطات الوطنية باحتمالات تدخل المحكمة الجنائية الدولية.
كما أن إبقاء الوضع قيد التحليل لسنوات عديدة سبق أن قوّض مصداقية مكتب ادعاء المحكمة في نظر بعض المجتمعات المتضررة. ويظهر هذا جليا في دراسات حالة كولومبيا وغينيا وجورجيا. إن قدرة مكتب ادعاء المحكمة على التأثير على السلطات الوطنية تتزايد عبر التحالفات مع منظمات المجتمع المدني، وهي التحالفات التي قد تتقوض عندما تفقد منظمات المجتمع المدني الثقة في إدارة مكتب ادعاء المحكمة للقضية.
نظرا للمزايا الواضحة – بخلاف التحفظات المذكورة – لإرجاء أنشطة التكامل الإيجابي حتى المرحلة 3، فإننا نوصي بأن يسعى مكتب ادعاء المحكمة إلى المضي بأسرع ما يمكنه في المرحلة 2. يحد هذا من التأخير في التواصل مع السلطات الوطنية، مع الاحتفاظ بمزايا قدرة المكتب على التواصل مع هذه السلطات بشأن قضايا بعينها، مع علم السلطات بأن الأمر قد يصل إلى مستوى تحرك المحكمة الجنائية الدولية إذا لم تتم مداولات قضائية وطنية.
ولعمل هذا، على مكتب ادعاء المحكمة إعادة النظر في نهجه الخاص بتعيين العاملين. فقد يكون من المهم القيام مبكرا بتكريس موارد أكبر لدراسة أولية بعينها من أجل تحليل المراسلات والتثبت منها، ثم بعد هذا نقل العاملين إلى تقييم المقبولية، وحيثما كان هذا مناسبا، التحول إلى التشجيع على التكامل في المرحلة 3.
3. الأهمية البالغة للتحالفات الاستراتيجية
سعينا في كل من دراسات الحالة إلى فهم طبيعة انخراط مكتب ادعاء المحكمة مع الفاعلين الآخرين الذين يمكنهم لعب دور في التكامل الإيجابي. من هؤلاء ممثلو المانحين الدوليين لدولة ما، أو هيئات الأمم المتحدة، الذين يمكنهم عبر الحوار السياسي أو بناء القدرات دعم الجهود القضائية، ونشطاء المجتمع المدني المعنيين بأعمال المناصرة وبناء القدرات الحكومية الخاصة بالعدالة.
كما هو متوقع، تبيّن أن مكتب ادعاء المحكمة لديه نفوذ أكبر عندما يعزز آخرون جهوده، أو عندما أسهمت جهوده في تعزيز أثر أنشطة الغير. وهنا، من جديد، نجد أن غينيا هي النموذج الأبرز. فقد تحالف مكتب ادعاء المحكمة استراتيجيا مع مكتب الأمم المتحدة للممثل الخاص المعني بالعنف الجنسي، ومع جمعيات الضحايا، وعززوا جهود بعضهم البعض فيما يخص العدالة على مذبحة الاستاد في سبتمبر/أيلول 2009. لكن في جورجيا، على النقيض، كانت شراكات مكتب ادعاء المحكمة من هذا النوع جد قليلة.
لا يمكن أن نتوقع أن يقوم مكتب ادعاء المحكمة وحده بتحويل طبيعة مشهد المحاسبة القضائية الوطنية. وتحديدا في ظل وجود مصالح سياسية قوية ضد إحقاق العدالة، يحتاج مكتب ادعاء المحكمة إلى دعم شركاء مؤثرين آخرين للتحفيز على تهيئة الإرادة السياسية لإحقاق العدالة.
إلا أن بحوثنا لم تصل إلى نتائج قاطعة فيما يخص قدرة مكتب ادعاء المحكمة على تحفيز الغير على التحرك. في غينيا، حدث تحرك بعض الفاعلين بمعزل عن أي جهود لمكتب ادعاء المحكمة، وفي حالات أخرى كان لجهود مكتب ادعاء المحكمة بهدف الضغط لإحراز تقدم في التحقيقات ذات أثر محدود. وتحديدا، كان تركيز المانحين أكبر بكثير على القضايا والاعتبارات الأمنية، رغم تواصل مكتب ادعاء المحكمة معهم. في كولومبيا، كان مكتب ادعاء المحكمة فاعلا من بين عدة فاعلين معنيين بالعدالة، لكن لا يبدو أن أنشطة هؤلاء الفاعلين الآخرين كانت بتحفيز من مكتب ادعاء المحكمة. في جورجيا، بذل مكتب ادعاء المحكمة جهودا محدودة لإثارة اهتمام الشركاء الدوليين، لكن يبدو أن هؤلاء الشركاء كانوا مهتمين أكثر بالأمن الإقليمي في أعقاب النزاع، ووغير مهتمين بإعلاء أولوية العدالة.
والأمر نفسه ينسحب بنفس الدرجة على منظمات المجتمع المدني، كما الشركاء الدوليين. فالمنظمات المحلية في دراسات الحالة الأربع جميعها – وإن كان هذا بدرجات متفاوتة – نظرت إلى نهج مكتب ادعاء المحكمة بعين ناقدة. في الأغلب، نزعت منظمات المجتمع المدني إلى رؤية أنشطة مكتب ادعاء المحكمة بصفتها تؤخر العدالة، وقد أحست أن العدالة تتحقق بأفضل شكل إذا فتحت المحكمة الجنائية الدولية محاكمات. أي رأت أن مكتب ادعاء المحكمة، عندما يمنح السلطات مساحة للحركة ويرجأ نشاط المحكمة الجنائية الدولية، فقد يؤخر تحقيق العدالة أكثر.
قد يؤدي هذا إلى تقليل استعداد المنظمات المحلية لرؤية مكتب ادعاء المحكمة بصفته حليف في أعمال المناصرة التي تبذلها مع السلطات الوطنية. في غينيا، ورغم بعض التقدم الإيجابي في التحقيقات، كانت بعض منظمات المجتمع المدني ناقدة للغاية لدور مكتب ادعاء المحكمة، وإن كانت بعض المنظمات الأخرى داعمة لنشاطه. وحدث هذا في كولومبيا، حيث يعم خوف دائم من أن مكتب ادعاء المحكمة سيقفل التحقيقات ببساطة ويدير ظهره.[15]
على مكتب ادعاء المحكمة أن يزيد تواصله مع الشركاء المحتملين ودعمه إياهم لتشجيعهم على تعزيز جهوده. الحاجة إلى احترام السرّية تفرض قيودا حقيقية على المعلومات التي يمكن لمكتب ادعاء المحكمة مشاركتها مع الغير. لكن ضمن هذه القيود، أشار نشطاء المجتمع المدني إلى الرغبة في معلومات أكثر حول تحليلات مكتب ادعاء المحكمة، كونها قد تسهم في زيادة أنشطة مناصرة منظمات المجتمع المدني المحلية إزاء العدالة الوطنية.
في جورجيا، كانت قدرة منظمات المجتمع المدني على الاطلاع على تفاصيل التحقيقات محدودة. وربما كان بإمكان مكتب ادعاء المحكمة المساعدة في ردم الهوة بين المجتمع المدني والحكومة إذا ضغط على المسؤولين الحكوميين لإتاحة معلومات أكثر حول التحقيقات، ومن ثم يساعد المجتمع المدني على أن يصبح شريكا استراتيجيا أقوى في تقدير التقدم المحرز – أو عدم حدوث تقدم – في التحقيقات.
في المملكة المتحدة، كان تواصل مكتب ادعاء المحكمة محدودا مع المجتمع المدني، إذ لم يتجاوز التواصل مع المنظمتين اللتين قدمتا إليه مراسلات بموجب المادة 15، وهي المراسلات التي أدت إلى فتح الدراسة.
على ضوء الحدود المفروضة على ما يمكن للتواصل مع الشركاء إنجازه، ومع أخذ محدودية موارد مكتب ادعاء المحكمة في الاعتبار، فعلى المانحين الدوليين أيضا المبادرة بأنشطة لدعم التكامل الإيجابي، حسبما تتطلب مختلف الحالات الخاضعة للتحليل. يمكن أن يتيح هذا لمكتب ادعاء المحكمة جهدا تكميليا مباشرا من طرف الشركاء المحتملين، وهو الأمر الذي لا يبدو روتينيا حتى الآن.
في جورجيا، على سبيل المثال، أعد "الاتحاد الأوروبي" بندا في الميزانية لدعم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، لكن فقط بعد فتحها تحقيق. إننا نقرّ بأن الميزانيات تتحدد عادة قبل فترة طويلة من مواقيت إنفاقها، وقد يكون من الصعب التفاعل فورا مع فتح دراسة أولية. لكن يمكن لاستخدام بنود الميزانية المُعدة للإنفاق الطارئ أن يسد الفجوة إلى حين التمكّن من وضع بند في الميزانية لدعم الدراسة الأولية. كما أن انتهاج المانحين الدوليين سياسة عامة مفادها دعم مبادرات التكامل ذات المصداقية حيثما وقعت جرائم دولية – بغض النظر عن فتح دراسة أولية أم لا – قد يساعد في ضمان توفّر حلفاء استراتيجيين عندما يتحرك مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية.
لكن من الأهمية بمكان أن يحافظ مكتب ادعاء المحكمة على علاقات قوية مع جملة من الفاعلين أثناء الدراسات الأولية المختلفة، بغض النظر عن المزايا المحتملة من جهود القضاء الوطني. فهذا مطلوب في فحص المعلومات المقدمة من المصادر الحكومية، فيما يتعلق بدعم تحليل مكتب ادعاء المحكمة. كما أنه ضروري لشفافية المحكمة كعنصر من عناصر الإدارة القويمة للعدالة، فيما يتعلق بالضحايا وممثلي المجتمع المدني، والرأي العام، والدول أطراف المحكمة الجنائية الدولية. وعندما يصبح ضروريا للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيقها، كما كان الحال في جورجيا، فإن هذه العلاقات، لا سيما مع المجتمع المدني، لا غنى عنها لدعم نشاط المحكمة.
4. زيادة الشفافية أمر أساسي
على امتداد طرحنا لهذه النتائج، سلّطنا الضوء على المَواطن حيث زيادة شفافية تحليلات وأنشطة مكتب ادعاء المحكمة أثناء مرحلة الدراسة الأولية – لا سيما باستخدام وسائط الإعلام الفعالة ذات الصلة – يمكن أن تحسّن التكامل الإيجابي.
يشمل هذا:
- الأنشطة الإعلامية الرامية إلى تحفيز اهتمام الرأي العام والمجتمع المدني والمانحين الدوليين بالمحاسبة، من أجل توفير ظروف مواتية لتحقيق العدالة والحفاظ عليها، وحشد تحالفات استراتيجية لتعزيز جهود مكتب ادعاء المحكمة والحفاظ على هذه التحالفات.
- الأنشطة الإعلامية كمصدر للضغط على السلطات الوطنية، بما يشمل الإعلان عن معايير مرجعية لخطوات التحقيق والملاحقة القضائية، من أجل التأكيد بشكل أكثر مصداقية على قدرة مكتب ادعاء المحكمة على التأثير على سير العدالة.
- الأنشطة الإعلامية التي تمدّ الحلفاء الاستراتيجيين بالمعلومات إزاء وضعية المداولات القضائية المحلية، ما قد يعزز أنشطة المناصرة الخاصة بهؤلاء الحلفاء أمام الحكومة ويؤدي إلى وصول معلومات إلى مكتب ادعاء المحكمة تثبت صحة المعلومات الخاصة بتقدم المداولات القضائية المحلية أو تفنّدها.
النقطة الأخيرة قد تكون ذات أهمية قصوى لتمكين مكتب ادعاء المحكمة من تكييف وتغيير استراتيجياته، أي إما أن يسعى إلى زيادة الضغط أو أن يقرّ في قناعته أن المداولات الوطنية أصبحت غير مرجحة ما يعني ضرورة أن يسعى المكتب إلى فتح تحقيقه الخاص، ومن ثم يتجنب نجاح السلطات الوطنية في تعطيل العدالة.
كما يجب تكييف جهود مكتب ادعاء المحكمة الخاصة بالتكامل الإيجابي بحسب السياق، ما يؤدي إلى تصورات بعدم اتساق التعامل في مختلف المواقف، وهو ما قد يقوّض مصداقية مكتب ادعاء المحكمة، وقدرته على التأثير على السلطات الوطنية، ويقوّض التحالفات مع الشركاء الاستراتيجيين. كما أوضحنا أعلاه، فإن الشفافية في الدراسات الأولية التي يجريها مكتب الادعاء يمكن أن تساعد في تفسير عملية صناعة القرار بالمكتب بشكل يخفف من هذه المخاطر.
وأخيرا، فإن للشفافية قيمة في حد ذاتها بمعزل عن أثرها على العدالة الوطنية، من حيث كونها مكونا أساسيا من مكونات الإدارة القويمة للعدالة، ومن مقومات بقاء المحكمة في موضع المساءلة أمام الفاعلين الأساسيين، ومنهم الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، والسلطات الوطنية في الحالات الخاضعة للدراسة الأولية، والدول الأطراف بالمحكمة، بشكل أعم.
رغم زيادة التقارير بشكل عام منذ 2011، بما يشمل التقارير السنوية بشأن الدراسات الأولية والتقارير الخاصة بحالات بعينها مع انتقال الدراسة الأولية من مرحلة إلى أخرى، فإن نهج مكتب ادعاء المحكمة الخاص بالنشاط الإعلامي يبقى نهجا حذرا. رغم أن غينيا استثناء واضح للقاعدة المذكورة – حيث استخدم المكتب بفعالية الإعلام المحلي أثناء زياراته مع رده على بعض طلبات وأسئلة الإعلام المرسلة إلى لاهاي – ففي دراسات الحالة الثلاث الأخرى كان تواصل مكتب الادعاء محدودا مع الإعلام المحلي. في جورجيا، كان تواصل المكتب مقتصرا على الإعلام الدولي، الذي ربما كان يقدم فرصا أكبر من تلك التي يتيحها الإعلام المحلي.
على مكتب ادعاء المحكمة وضع استراتيجيات تواصل واضحة لكل موقف من المواقف الخاضعة للتحليل.[16] وهناك عنصران مهمان للغاية في الاستراتيجيات الفعالة من هذا النوع.
أولا، يجب أن تهدف الأنشطة الإعلامية لمكتب ادعاء المحكمة إلى تبسيط تحليله وجعله واضحا قدر الإمكان. إذ أن الإبهام البناء في بيانات مكتب ادعاء المحكمة – وهو إبهام تبرره مقتضيات شرح الموقف برمته – قد أضعف من أثره، ولم يعزز الشفافية كثيرا. وفيما يتعلق بالتقارير السنوية الصادرة عن مكتب الادعاء والخاصة بالدراسات الأولية، وجدنا أثرا إيجابيا أكبر لهذه التقارير، يفوق توقعاتنا. إذ أشار عدد من الفاعلين إلى فائدة هذه التقارير على صلة بتعزيز أنشطة المناصرة التي يقودونها. لكن هذه التقارير تلعب دورا مختلفا وهاما؛ فهي نقطة ضبط مفروضة على أعمال تقييم مكتب الادعاء، إذ تتيح الشفافية بشكل منتظم.
على مكتب ادعاء المحكمة الاستمرار في جهوده الرامية إلى تحسين صياغة التقارير، بما يشمل وضع استراتيجيات تواصل بشأن إصدار التقارير السنوية الخاصة بكل موقف يخضع للدراسة الأولية، لضمان وصول النتائج إلى السلطات ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام في الدول المشمولة بالتقرير. في حين تشير ملاحظاتنا غير الرسمية إلى أن هذه التقارير تلاقي اهتماما إعلاميا متزايدا على مدار السنوات الأخيرة، فما زال بالإمكان تحقيق المزيد على هذا المسار.
كما أن على مكتب ادعاء المحكمة النظر في إضفاء الطابع الرسمي على تعاملاته مع مصادر المراسلات. قد يشمل هذا مثلا إمدادهم بمعلومات عن طبيعة الردود التي يتلقاها المكتب من الأجهزة الحكومية المعنية، وتعريفهم بالمعلومات التي يحتاج إليها المكتب في مراحل التحليل التالية.
ثانيا، هناك مواقف بعينها حيث يوجد مشهد إعلامي معقد للغاية. في هذه الحالات، على مكتب ادعاء المحكمة أن يتحصل على معرفة عميقة وكذلك قدرة أكبر على التواصل مع فاعلين مهمين بالإعلام، من أجل تيسير الاستخدام المثمر للنشاط الإعلامي. في المملكة المتحدة وكولومبيا، لم تكن التغطية الإعلامية لنشاط المحكمة الجنائية الدولية مثمرة بالضرورة، عندما تعلق الأمر بالعدالة الوطنية؛ وهذه النقطة صحيحة في المملكة المتحدة تحديدا، حيث كانت تغطية ادعاءات الانتهاكات جزءا من مشهد سياسي مشحون. لكن من خبراتنا بهذه النقطة، نرى أن ثمة فرصة لمكتب ادعاء المحكمة على مسار التواصل بشكل أكثر فعالية مع الإعلام في الدولتين.
كما أن على الحكومات النظر في أمر توفير نسخ مُعلنة من التقارير التي ترفعها إلى مكتب ادعاء المحكمة. إذا كانت الحكومات مستعدة لهذا، فسوف تبدد المخاوف إزاء السرية فيما يتعلق بقرارات الشفافية.
إننا نرى أن تنفيذ هذه التوصيات سيعزز تأثير مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية على سير العدالة الوطنية. لكن هذا يعتمد على مدى توفر موارد أكثر؛ موارد مكتب ادعاء المحكمة المخصصة لعمليات الدراسة الأولية محدودة جدا.
في الوقت نفسه، يظهر من دراسات الحالة التي يستعرضها التقرير أنه من المهم عدم المبالغة في تقدير فرص النجاح واحتمالاته. فمن المرجح أن أغلب الدراسات الأولية التي تتجاوز مرحلة نظر مكتب ادعاء المحكمة فيها، حيث يتقرر أن هناك قضايا محتملة يمكن لمحكمة الجنايات الدولية أن تمارس عليها اختصاصاتها، تؤدي إلى تحقيقات رسمية من المحكمة الجنائية الدولية؛ يأتي ذلك نتيجة للمعوقات العنيدة والدائمة التي تواجه جهود العدالة الوطنية، لا سيما فيما يخص محاسبة الجناة رفيعي المستوى. يمثل هذا تحديا كبيرا للمحكمة الجنائية الدولية، التي تواجه أزمة قدرات حقيقية؛ فالطلب على تحرك المحكمة الجنائية الدولية مستمر في التزايد، بما يتجاوز بكثير الموارد المُتاحة لها.
المنهجية
يبني هذا التقرير على تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في 2011 بعنوان "تصحيح المسار: توصيات للادعاء من أجل نهج أكثر فعالية لـ ̕الأوضاع الخاضعة للتحليل̔".[17]
يستند التقرير إلى بحوث أجريت من سبتمبر/أيلول 2015 إلى ديسمبر/كانون الأول 2017، واشتملت بالأساس على مقابلات مع بعض المعنيين الرئيسيين الذين لديهم معرفة بأنشطة مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بالدراسة الأولية في كل من الدول الأربع المشمولة بدراسات الحالة: كولومبيا، جورجيا، غينيا، والمملكة المتحدة. هؤلاء المعنيون بينهم مسؤولون حكوميون في وزارات الخارجية والعدل والدفاع، أعضاء هيئات التحقيق والادعاء الوطنية، قضاة، أعضاء بمنظمات المجتمع المدني، صحفيين، وممثلين للبعثات الدبلوماسية وفي هيئات الأمم المتحدة. نصف أدناه هذه المقابلات والخطوات البحثية المتصلة بكل دراسة حالة على حدة.
كما نفذت هيومن رايتس ووتش 12 مقابلة وجها لوجه وهاتفيا مع عاملين بمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية. قدمت هيومن رايتس ووتش لمكتب الادعاء مسودة التقرير ليدلي عليها بالتعليقات والتصحيحات إن وجدت، وهي التعليقات والتصحيحات التي يراعيها التقرير النهائي المنشور.
كما فحصت هيومن رايتس ووتش سوابق أحكام المحكمة الجنائية الدولية، تصريحاتها، بياناتها الخاصة بالسياسات، بياناتها الصحفية، وتقاريرها حول أنشطة الدراسة الأولية الصادرة عن مكتب الادعاء. اعتمدنا على رصدنا المستمر للتطورات المؤسسية في المحكمة الجنائية الدولية وفي ممارساتها في مختلف المواقف الخاضعة للتحليل.
أجرينا استعراضا محدودا للمنشورات السابقة حول أنشطة التكامل الإيجابي لمكتب ادعاء المحكمة أثناء مرحلة الدراسة الأولية. وتم استعراض ما نشرته الصحافة والتغطيات الإعلامية بشأن أنشطة الدراسة الأولية لمكتب ادعاء المحكمة في كل من كولومبيا وغينيا والمملكة المتحدة، باستخدام موقع "فاكتيفا" ومحرك البحث "غوغل"، فضلا عن البحث على مواقع إعلامية في غينيا. وفي جورجيا، كان عدد المصادر التي غطت أنشطة مكتب ادعاء المحكمة جد قليل، لذا فلم نجر استعراضا للتغطية الإعلامية. وكلما أمكن، تم أيضا استخدام المصادر الثانوية مثل تقارير المنظمات غير الحكومية ومقالات الصحف في التثبت من المعلومات التي حصلنا عليها أثناء المقابلات.
تم اختيار دراسات الحالة الأربع من بين الملفات الخاضعة للدراسة الأولية أمام المحكمة الجنائية الدولية بناء على عدة معايير. (انتقل الوضع في جورجيا من الدراسة الأولية إلى التحقيق بعد بدء هذا المشروع بقليل). اشتملت المعايير على: تقييم هيومن رايتس ووتش في كل موقف لوجود قدر ما من العدالة الوطنية أو أنه كان موجودا، بحيث من المتوقع أن يكون لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بعض التأثير؛ التنوع الجغرافي؛ وجود خبرات وبحوث لـ هيومن رايتس ووتش في الدولة المختارة، سواء حول الانتهاكات الحقوقية ذات الصلة أو حول حالة المداولات القضائية الوطنية؛ وإمكانية إجرائنا البحوث في ظل اعتبارات الموارد والعاملين.
قدمنا بعض الأوصاف العامة لمن أجرينا معهم المقابلات على امتداد التقرير، بدلا من ذكر أسمائهم. أعرب بعض من أجريت معهم مقابلات عن الرغبة في عدم كشف هويتهم نظرا لحساسية القضايا الخاضعة للنقاش، فيما كان السبب في حالات أخرى احتمال زيادة الخطر المعرضين له إذا كشفت الأسماء. وفي بعض الحالات، تم حجب مكان عقد المقابلة لحماية هوية المصدر.
أخبر جميع المشاركين بالغرض من المقابلة وطبيعتها الطوعية وكيف سيتم استخدام المعلومات. دامت المقابلات عموما بين ساعة وساعتين. لم يحصل من أجريت معهم المقابلات على أي تعويض مقابل المشاركة في المقابلات، لكن تم تعويض بعض من أجريت معهم المقابلات في غينيا عن تكاليف الانتقال إلى مكان المقابلة ومنه.
كولومبيا
يستند الفصل الخاص بكولومبيا بالأساس إلى معلومات جُمعت أثناء رحلات بحثية إلى بوغوتا وميديين من قبل هيومن رايتس ووتش في يونيو/حزيران، أغسطس/آب، وسبتمبر/أيلول 2016. في بوغوتا، قابل باحثو هيومن رايتس ووتش 36 شخصا، بينهم مسؤولون حكوميون حاليون وسابقون في وزارتيّ العدل والدفاع والنيابة العامة، وقضاة حاليون وسابقون في المحكمة الدستورية والمحكمة العليا، وممثلون عن المجتمع المدني الكولومبي. أجريت مقابلات إضافية وجها لوجه عبر الهاتف من يونيو/حزيران إلى ديسمبر/كانون الأول 2016، بما يشمل مقابلات مع عاملين بمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. أجريت أغلب المقابلات بالإسبانية. كما أتيح لـ هيومن رايتس ووتش الاطلاع على مذكرتين غير علنيتين تتضمنان آراء مكتب الادعاء إزاء التعاون بين مكتب النائب العام الوطني ومكتب ادعاء المحكمة، واتساق التشريعات الكولومبية مع نظام روما الأساسي.
جورجيا
يستند فصل جورجيا من التقرير بالأساس إلى معلومات جمعتها هيومن رايتس ووتش أثناء رحلة بحثية إلى تبليسي في ديسمبر/كانون الأول 2015. في تبليسي، قابل باحثو هيومن رايتس ووتش 18 شخصا بينهم مسؤولون حكوميون حاليون وسابقون بوزارات العدل والدفاع، وممثلون عن المجتمع المدني ودبلوماسيون وصحفيون ومسؤولون بجهات مانحة. أجريت مقابلات إضافية وجها لوجه وعبر الهاتف والبريد الإلكتروني بين ديسمبر/كانون الأول 2015 وسبتمبر/أيلول 2016، منها مقابلات مع عاملين بمكتب ادعاء المحكمة. أجريت المقابلات بالإنغليزية.
غينيا
يستند هذا الفصل إلى بحوث أجريت بين يونيو/حزيران 2012 ويونيو/حزيران 2016. أجريت رحلات بحثية إلى كوناكري في غينيا في يونيو/حزيران 2012 ومارس/آذار 2016. أجريت الرحلة البحثية الأولى لإعداد تقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2012 بعنوان، "انتظار العدالة: المحاسبة في محاكم غينيا على مذبحة 8 سبتمبر/أيلول 2009 بالاستاد وأعمال اغتصاب وانتهاكات أخرى".
أجرى باحثو هيومن رايتس ووتش مقابلات مع نحو 25 شخصا أثناء رحلة 2012 البحثية و35 مقابلة أثناء رحلة 2016 البحثية. أجريت مقابلات فردية وجماعية. كان ممن أجريت معهم مقابلات أثناء الرحلتين مسؤولون وعاملون بوزارة العدل، بالإضافة إلى قضاة ومدعين ومحامين وعاملين بالدعم القانوني وممثلين عن شركاء دوليين، بينهم مانحون حكوميون وغير حكوميين ومسؤولون بالأمم المتحدة، وتم إجراء مقابلات مع عاملين بالمنظمات غير الحكومية الغينية والدولية، صحفيين ومحليين، وضحايا انتهاكات.
ومن يوليو/تموز إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2012 ونوفمبر/تشرين الثاني 2015 إلى يونيو/حزيران 2016، أجرى باحثو هيومن رايتس ووتش مقابلات إضافية بالفرنسية وبالإنغليزية مع مسؤولين بالأمم المتحدة، دبلوماسيين غربيين وأفارقة، مسؤولين بالمحكمة الجنائية الدولية، ومسؤولين بحكومة غينيا في نيويورك ولاهاي، وعلى الهاتف. أجريت أغلب المقابلات بالفرنسية وعدد قليل منها بالإنغليزية.
المملكة المتحدة
يستند هذا الفصل بالأساس إلى معلومات جمعت أثناء بحوث هيومن رايتس ووتش في لندن وبرلين ولاهاي بين نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ويوليو/تموز 2017. تحدث باحثو هيومن رايتس ووتش إلى 23 فردا سواء وجها لوجه أو على الهاتف، ومنهم صحفيون، محامون، خبراء بالقانون الجنائي الدولي، مسؤولون حكوميون حاليون وسابقون، نواب برلمانيون، ممثلون عن المجتمع المدني، وعاملون بمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية. أجريت المقابلات بالإنغليزية.
كما استعرضت هيومن رايتس ووتش وفحصت جملة من الوثائق المتوفرة للعموم، ومنها تقارير للمحكمة الجنائية الدولية وأوراق سياسات، أحكام صادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أحكام قضائية محلية، تقارير تحقيقات علنية وقضائية، تقارير ذات صلة من منظمات مجتمع مدني، تصريحات وبيانات وتقارير حكومية، ومقالات بالصحافة البريطانية.
المملكة المتحدة
أ. الصورة العامة
شاركت القوات البريطانية بين مارس/آذار 2003 ومايو/أيار 2009 في غزو العراق واحتلاله وحُكمه. ظهرت أثناء تلك الفترة وبعدها معلومات تشير إلى وقوع انتهاكات كثيرة وجسيمة بحق العراقيين في مراكز الاحتجاز البريطانية، بما يشمل اعتداءات وأعمال تعذيب ووفيات.
كانت بعض مزاعم الانتهاكات محط تركيز تحقيقات عامة بموجب قانون التحقيقات لعام 2005 في المملكة المتحدة. وافقت الحكومات البريطانية المتعاقبة على التسويات المالية مع مواطنين عراقيين على صلة بالسلوك المزعوم للقوات البريطانية في العراق. كما كانت العديد من الادعاءات محل تركيز تحقيقات جنائية تحت إشراف "فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق" (فريق الادعاءات) الذي شكلته السلطات البريطانية في 2010.
لم تسفر إجراءات فريق الادعاءات عن أية ملاحقات حتى إنهاء أعمال الفريق فعليا في 2017، مع إحالة القليل من القضايا إلى هيئة انتصاف أخرى لمزيد من التحقيق.[18] وإلى الحين، تم إنزال عقوبة حبسية بجندي بريطاني واحد، لمدة عام، على جرائم حرب وقعت في العراق. لم تحدث محاسبة جنائية لكبار الشخصيات العسكرية والسياسية البريطانية على صلة بانتهاكات القوات البريطانية في العراق.[19]
على هذه الخلفية، وفي 13 مايو/أيار 2014، أعلن مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية أنه سيعيد فتح الدراسة الأولية – المُغلقة عام 2006 – في ادعاءات جرائم الحرب البريطانية في العراق.[20] ورغم أن العراق ليس دولة عضو بالمحكمة الجنائية الدولية، فللمحكمة اختصاص بالجرائم الخطيرة المزعوم ارتكابها من قبل مواطنين من الدول الأعضاء بالمحكمة، وهم من بريطانيا في هذه الحالة.[21]
في 4 ديسمبر/كانون الأول 2017، أعلن مكتب الادعاء وجود أسانيد معقولة للاعتقاد بأن عناصر من القوات المسلحة البريطانية ارتكبوا جرائم حرب تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في العراق، بحق أفراد كانوا يحتجزونهم، بما يشمل القتل المتعمد، والتعذيب، والمعاملة القاسية/اللاإنسانية، والاغتصاب، وأشكالا أخرى من العنف الجنسي. انعكس هذا الاستنتاج في قرار الادعاء بالانتقال رسميا من المرحلة 2 (الاختصاص الموضوعي) إلى المرحلة 3 (المقبولية).[22]
تركز البحوث في هذا الفصل على الفترة التي كان الفحص خلالها في المرحلة 2. يستعرض الفصل أولا مزاعم الانتهاكات الموجهة إلى القوات البريطانية وتعامل الحكومة مع هذه المزاعم. ثم يسلط الضوء على أنشطة مكتب المدعي العام للمحكمة المتصلة بالانتهاكات المحتملة للمملكة المتحدة في العراق حتى تاريخه، ويفحص أثر هذه الأنشطة على منهج تعامل الحكومة البريطانية مع المسألة.
كما نناقش في المرفق I، فإن مكتب الادعاء العام، وبموجب ممارساته ذات الصلة التي أصبحت الآن واضحة ومتسقة، لا يشجّع صراحة على الملاحقات القضائية المحلية إلى أن يتبين له – على الأقل – كون الملاحقات القضائية قد تدخل في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. أثناء مرحلة إجراء بحوث هذا التقرير، كانت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية لم يفعل هذا بعد فيما يخص فحص حالة المملكة المتحدة/العراق.
بشكل عام، ونظرا لهذا الأمر، فليس من المدهش أن تشير بحوثنا إلى أن فحص مكتب الادعاء العام لم يحفّز ويسرع أنشطة التحقيق الوطنية في المملكة المتحدة، ولم يؤثر إيجابا على البنية المحلية القائمة للتعامل مع ادعاءات انتهاكات القوات المسلحة البريطانية في العراق. إنما ومن خلال قيام مكتب الادعاء العام بإخضاع جهود التحقيق المحلية لمزيد من التدقيق، فربما كان لفحصه دور إيجابي في إحجام السلطات البريطانية عن إيقاف التحقيقات المتصلة بالانتهاكات المحتملة، وهذا رغم ضغوط من الرأي العام في هذا الاتجاه. وبما أن التقرير يركز على أثر تصرفات مكتب الادعاء في المملكة المتحدة، لم نفحص رد فعل وسائل الإعلام أو المجتمع المدني أو الرأي العام في العراق إزاء الدراسة الأولية للمحكمة الجنائية الدولية.
ب. الخلفية والجرائم المزعومة
صادقت المملكة المتحدة على "نظام روما الأساسي" في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2001، فأعطت المحكمة الجنائية الدولية اختصاصا على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية المُرتكبة على أراض بريطانية أو من قبل مواطنين بريطانيين، بدءا من 1 يوليو/تموز 2002. ومباشرة قبل انضمام المملكة المتحدة إلى المحكمة، أصدرت أيضا "قانون المحكمة الجنائية الدولية"، الذي نصّ على دمج مبدأ مسؤولية القيادة في القوانين البريطانية.[23]
في 20 مارس/آذار 2003، بعد 19 شهرا تقريبا من بدء نفاذ القانون، انضمت القوات البريطانية إلى التحالف بقيادة الولايات المتحدة الذي غزا العراق ومكث هناك حتى أُعلن رسميا عن انتهاء عمليات القتال. كانت أغلب القوات البريطانية قد غادرت العراق بحلول يوليو/تموز 2009.[24] أثناء تلك السنوات الست، أدارت المملكة المتحدة مراكز احتجاز جنوبيّ العراق، دخلها آلاف المحتجزين وخرجوا منها، وتم فيها استجواب بعضهم على أيدي أفراد من الجيش والاستخبارات البريطانيين.[25]
دقّت نواقيس الخطر منذ وقت مبكر. فخلال أول أسبوعين من الغزو، أخطرت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" السلطات البريطانية بوقائع إساءة معاملة للعراقيين وحرمانهن من حريتهم في أحد المعسكرات، وهو أم قصر، بما يشمل تغمية الرؤوس والتقييد بالقيود البلاستيكية.[26] وفي الوقت نفسه، أثار استشاري قانوني عسكري بريطاني رفيع المستوى في العراق، هو نيكولاس ميرسر، وبعض كبار الشخصيات العسكرية الأخرى، بواعث قلقهم مع القادة حول معاملة السجناء، بما يشمل قانونية ومشروعية بعض تقنيات الاستجواب التي حظرتها الحكومة البريطانية منذ أكثر من 3 عقود.[27]
أثناء التواجد البريطاني في العراق وخلال السنوات التالية، أشارت منظمات المجتمع المدني مثل "منظمة العفو الدولية" و"ريدرس"، فضلا عن العديد من الدعاوى أمام محاكم بريطانية، وتحقيقات رسمية علنية، وتقصيات أخرى، إلى ارتكاب القوات البريطانية جملة من الانتهاكات في العراق.[28]
في يناير/كانون الثاني 2014، قدم كل من مؤسسة المحاماة البريطانية (لم تعد قائمة) "محامون للصالح العام" و"المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان"، وهي منظمة غير حكومية في برلين، مراسلة مطولة إلى ادعاء المحكمة الجنائية الدولية حول المعاملة السيئة المزعومة لمحتجزين عراقيين والقتل غير القانوني لعراقيين على يد القوات البريطانية في العراق منذ 2003 وحتى 2008.[29] شمل ذلك المسؤولية المحتملة لبعض كبار الشخصيات العسكرية والسياسية البريطانية عن انتهاكات يُدعى ارتكاب قوات بريطانية إياها بحق محتجزين في عدد من المنشآت التي كانت تسيطر عليها المملكة المتحدة في العراق.[30] أدت المراسلة إلى معاودة فتح الدراسة الأولية.
بحسب مكتب الادعاء العام، ففي الفترة من يناير/كانون الثاني 2014 إلى يونيو/حزيران 2016، قدّمت مؤسسة محامون للصالح العام 1,390 شهادة من ضحايا، ومنها 1,071 شهادة متصلة بالمعاملة السيئة المزعومة بحق المحتجزين و319 شهادة متصلة بالقتل غير القانوني المزعوم.[31] وقعت الجرائم المزعومة في "مراكز احتجاز عسكرية ومواقع أخرى تخضع لسيطرة أفراد بهيئات بريطانية جنوبيّ العراق، بما يشمل منشآت احتجاز/تعامل مؤقتة وفي مرافق احتجاز وتحفظ أخرى لآجال أطول".[32]
ج. رد فعل المملكة المتحدة إزاء الجرائم المزعومة
بدءا من 2004 – وحتى بعد رحيل القوات البريطانية عن العراق – سعى عراقيون زعموا أن القوات البريطانية قتلت أشخاص بصفة غير قانونية أو احتجزتهم أو أساءت إليهم أو إلى أقاربهم وراء عدد من قنوات الانتصاف القانونية في المملكة المتحدة.
كان تعامل السلطات البريطانية مع هذه الدعاوى والشكاوى القانونية مجزأ ومرتجلا، ويكاد يكون محركه الوحيد هو جهود الضحايا من الأفراد وعائلاتهم ومحاميّهم. أدى هذا إلى قضايا عديدة متداخلة – بعضها ما زال قائما – تمتد لأكثر من 10 سنوات ووصلت إلى أعلى المحاكم البريطانية، بل وحتى إلى "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان".[33] نناقش أدناه العديد من هذه المبادرات.
1. التحقيقات العامة
دفعت سنوات من التقاضي، باستخدام "قانون حقوق الإنسان" البريطاني، الحكومة البريطانية إلى إجراء تحقيقين عامين على صلة بمزاعم ارتكاب القوات البريطانية في العراق لأعمال معاملة سيئة وقتل غير قانوني.[34]
أول تحقيق عام، في 2008، كان بشأن بهاء موسى – وهو موظف استقبال بفندق توصل تحقيق إلى وفاته رهن الاحتجاز من قبل القوات البريطانية بمدينة البصرة جنوبيّ العراق في سبتمبر/أيلول 2003 بعد أيام من الانتهاكات الخطيرة.[35] احتجزت القوات البريطانية بهاء موسى في قاعدة بالبصرة، حيث تعرض هو و36 محتجزا آخرين لمدة 36 ساعة إلى انتهاكات شملت الركل والصفع والضرب والحرمان من النوم والإجبار على اتخاذ أوضاع مؤلمة.[36] أظهر التشريح أن بهاء موسى تعرض لـ 93 إصابة منفصلة.[37]
تقرير تحقيق بهاء موسى الذي نُشر في سبتمبر/أيلول 2011 توصل إلى "إخفاق مؤسسي" من قبل الجيش البريطاني في منع استخدام تقنيات الاستجواب المحظورة.[38] أدين جندي واحد – العريف دونالد باين – قبل 5 سنوات، جراء جرائم تتصل بانتهاكات لقانون المحكمة الجنائية الدولية البريطاني، وحُكم عليه بالسجن عاما واحدا.[39]
في نوفمبر/تشرين الثاني 2009، أطلقت الحكومة البريطانية التحقيق العام الثاني حول مزاعم التعذيب والقتل غير القانوني بحق عراقيين إثر تبادل لإطلاق النار بين قوات بريطانية ومقاتلين من "جيش المهدي" عام 2004.[40] تحقيق "السويدي"، الذي نُشرت نتائجه في ديسمبر/كانون الأول 2014، رفض أخطر المزاعم بالقتل لمحتجزين عراقيين كونها "دون أساس تماما وليست إلا نتاج أكاذيب مقصودة وتخمينات متهورة وعدوانية متأصلة".[41]
لكن التحقيق توصل إلى أدلة على إساءة معاملة المحتجزين العراقيين، بما يشمل الحرمان المقصود من الطعام والنوم لأغراض الاستجواب؛ وهما أسلوبان من "الأساليب الخمسة " التي أعلنت الحكومة البريطانية حظرها في 1972 وفيما بعد توصلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى كونها تمثل معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة.[42] وصف رئيس لجنة التحقيق هذه النتائج بأنها "ضئيلة نسبيا مقارنة بالمزاعم الأصلية بالغة الخطورة".[43]
لم تؤد النتائج المتصلة بالانتهاكات في تحقيق بهاء موسى أو تحقيق السويدي إلى ملاحقات قضائية جديدة.
في فبراير/شباط 2010، بدأت مؤسسة محامون للصالح العام، نيابة عن مجموعة مدعين ضمت في نهاية المطاف أكثر من 100 عراقي، دعوة قضائية أمام محكمة بريطانية، تطالب فيها بفتح تحقيق عام واحد في ادعاءات تعذيب القوات المسلحة البريطانية وإساءتها معاملة المدعين في مراكز احتجاز بالعراق في فترة 2003-2008.[44]
حاجج المدعون في القضية – التي عُرفت فيما بعد باسم المدّعي الأساسي علي زكي موسى – بأن المعاملة السيئة بلغت مصاف "الانتهاكات الممنهجة" وأن على الحكومة فتح تحقيق شامل من أجل الوفاء بالتزام المملكة المتحدة بموجب المادة 3 من "الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان"، التي تحظر التعذيب أو المعاملة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة، وتطالب بأن تفتح الدولة تحقيقات فعالة في المزاعم القابلة بالتصديق بوقوع أعمال تعذيب من قبل قوات الدولة.[45]
لكن بدلا من فتح تحقيق عام كامل، أنشأت الحكومة في مارس/آذار 2010 فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق. في ديسمبر/كانون الأول 2010، رفضت محكمة بريطانية طلب المدعين في قضية علي زكي موسى مراجعة قرار الحكومة القاضي بعدم فتح تحقيق شامل.[46] وبدلا من هذا صدّقت على قرار الحكومة بأن "تنتظر وترى" إذا كان ضروريا فتح تحقيق عام آخر في الانتهاكات بحق المحتجزين العراقيين، إلى حين ظهور نتائج تحقيقات فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق ونتائج تحقيقات بهاء موسى والسويدي، وكانت حتى ذلك الحين لم تُنشَر نتائجها.[47] فيما بعد حاجج المدعون العراقيون بأن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق ليس مستقلا بالقدر الكافي للتحقيق في الادعاءات (انظر أدناه).
في 2011، بنهاية سلسلة من المداولات القضائية المنفصلة التي بدأت عام 2004 في محاكم بريطانية، وعُرفت باسم المدعي مازن جمعة قاطع السكيني، رفض قضاة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان دفع الحكومة البريطانية بأن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لا تمتد لتغطي سلوك المملكة المتحدة في العراق.[48] توصلت المحكمة إلى أن المملكة المتحدة انتهكت الحق في الحياة لأن نظام تحقيقاتها العسكرية في أعمال القتل غير القانوني المزعومة على يد قوات بريطانية لم تكن مستقلة – مؤسسيا – عن سلسلة القيادة العسكرية.
2. فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق
في 1 مارس/آذار 2010، أعلنت الحكومة عن إنشاء فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
كُلف الفريق باختصاص بـ "التحقيق بأسرع وقت ممكن في ادعاءات السلوك الإجرامي من قبل القوات [البريطانية] في العراق... من أجل ضمان أنه قد تم التحقيق، أو جاري التحقيق، في جميع هذه الادعاءات بالشكل المناسب".[49]
أشار وزير الدولة للقوات المسلحة إلى صعوبات التحقيق في الادعاءات وشدد على أن تشكيل فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق لم يمثل اعترافا بارتكاب أخطاء. وقال، واصفا العديد من الادعاءات بأنها "عامة وغير مكتملة"، إن الحكومة ترى أن الفريق سيتوصل إلى أن أغلب القوات البريطانية تصرف بشكل مهني ومسؤول في العراق.[50]
بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أصبح الفريق جاهزا للعمل وكان المُنتظر أن يختتم تحقيقاته في غضون عامين.[51]
كان فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق مسؤولا بشكل حصري عن إدارة وتنفيذ التحقيقات المتعلقة بالوفيات أو المعاملة السيئة على يد القوات المسلحة البريطانية في العراق بين 2003 و2009. كما كان مسؤولا عن الوصول إلى نتائج حول وجوب إحالة قضايا فردية إلى سلطة الادعاء العسكرية حتى يتخذ مدير خدمات الادعاء قراره: أولا، إذا كان يجب فتح ملاحقات قضائية بناء على توقعات الإدانة الواقعية، ثانيا، ما إذا كان نسب اتهامات يصب في الصالح العام وفي مصلحة الادعاء.[52]
كما لعب الفريق دورا في الإبلاغ، إذ أصدر تقارير التحقيق خاصته للفريق العامل بوزارة الدفاع المعني بالمشكلات الممنهجة، وهو هيئة "مسؤولة عن التعرف على المشكلات الممنهجة وضمان اتخاذ تدابير تصحيحية فعالة بشأنها".[53] نشر الفريق العامل 3 تقارير سنوية يوضح فيها ما فعلته وزارة الدفاع للتعامل مع المشكلات الممنهجة التي تم التعرف عليها أثناء استعراضه تحقيقات فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.[54]
لم تؤد أعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق إلى أي ملاحقة قضائية. بحلول 30 يونيو/حزيران 2017، أفاد الفريق عن تلقيه مزاعم بجرائم تتصل بـ 3,405 ضحايا. من بينها لم يتم التقصي بشأن 1,668 ضحية بعد إجراء التقدير الأوّلي، في حين ما زالت 40 حالة في مرحلة التقييم التمهيدي. ومن المزاعم الأخرى المتصلة بـ 1,697 شخصا من الضحايا المحتملين، تتصل 325 حالة بمزاعم قتل غير قانوني و1,372 حالة بأشكال أخرى من المعاملة السيئة المزعومة. أفاد فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق بوجود 34 تحقيقا قائما بشأن 108 ضحايا، وأنه أغلق – أو في طور إغلاق – 700 ادعاء.[55]
في ديسمبر/كانون الأول 2016، قال وزير الدولة للدفاع مايكل فالون للجنة فرعية برلمانية إن عدد الادعاءات التي ينظرها الفريق سينحسر إلى 250 ادعاءً بحلول يناير/كانون الثاني 2017 وإلى 60 ادعاءً بحلول منتصف 2017.[56] في مذكرة صدرت في يونيو/حزيران 2017 موجهة إلى مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، أعرب المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان عن قلقه إزاء قرار فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق بإيقاف "التحقيقات في مئات القضايا لأسباب تنقصها الشفافية".[57]
بحسب التحديث ربع السنوي الأخير للفريق، أحيل جنديان إلى سلطة الادعاء العسكرية، التي رفضت فتح ملاحقات في قضية كل منهما. هناك جندي أحيل إلى قائده لاتخاذ تدابير تأديبية وتغريمه 3,000 جنيه أسترليني، في حين أُرسلت قضيتان أخريان إلى شرطة القوات الجوية الملكية لمزيد من التحقيق.[58] أشار التحديث إلى أن هناك قضية واحدة تشتمل على القتل غير القانوني أُحيلت إلى سلطة الادعاء العسكري لتنظر في أمر بدء ملاحقة قضائية فيها.[59]
رغم التوقعات المبدئية بأن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سينتهي من أعماله في عام 2012، فقد تم تمديد موعد اختتام أعماله الخاصة بالتحقيق إلى ديسمبر/كانون الأول 2019.[60]
منذ البداية، كانت هناك تساؤلات حول ما إذا كان الفريق يتمتع بالتكوين المناسب ودرجة كافية من الاستقلال.
في البداية كان الفريق مجهزا بخليط من عناصر الشرطة العسكرية الملكية والمدنيين، بقيادة مدني مسؤول أمام مارشال الجيش (أي رئيس الشرطة العسكرية الملكية).[61] أصبحت مشاركة الشرطة العسكرية الملكية محط الأنظار في قضية علي زكي موسى، إذ رأت محكمة استئناف في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 أن فريق الادعاءات التاريخية ليس مستقلا بالقدر الكافي بما يستوفي التزامات المملكة المتحدة الخاصة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.[62]
بدل إصدار أمر بفتح تحقيق عام شامل كما طالب المدعون العراقيون، ردّ وزير الدولة للقوات المسلحة على الحُكم باستبدال الشرطة العسكرية الملكية بشرطة البحرية الملكية، في أبريل/نيسان 2012، برئاسة المارشال المعني بالقوات البحرية.[63] كما أعلن الوزير أن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سيتابع بشأن تقرير تحقيق بهاء موسى وحُكم السكيني الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.[64] بنهاية المطاف أصبح الفريق مكونا من 145 عضوا، من الشرطة البحرية الملكية والمدنيين، برئاسة محقق شرطة مدني متقاعد رفيع الرتبة، مارك وارويك.[65]
استُحدثت مراجعة قضائية أخرى في 2012 سعيا إلى فتح تحقيق عام شامل. رغم دفع المدعين بأن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق استمر في أدائه دون التوقعات رغم التعديلات الأخيرة في إدارته، فقد رأت محكمة عليا أن الفريق مستقل بالقدر الكافي بما يسمح له بإجراء تحقيقات تستوفي التزامات المملكة المتحدة بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
في الوقت نفسه، قرّرت المحكمة أن إجراء يشابه تشريح الطب الشرعي – يُعرف حاليا بـ "التحقيقات في الوفيات العراقية" – برئاسة القاضي السابق سير جورج نيومان، يجب أن يلبي التزامات المملكة المتحدة بموجب المادة 2 من الاتفاقية الأوروبية، بشأن التحقيق في قضايا العراقيين الذين ماتوا رهن الاحتجاز من قبل القوات البريطانية.[66] حتى وقت كتابة هذه السطور، كان فريق التحقيقات في الوفيات العراقية قد أتمّ النظر في 5 قضايا.[67]
كما عيّنت المحكمة لاحقا قاضيا بمحكمة عليا هو جورج ليغات، ليشرف على مختلف الدعاوى المقدمة بشأن انتهاكات القوات البريطانية المزعومة في العراق.[68] وبحسب السلطات البريطانية، فقد تولى "الإشراف على التزام كافة الأطراف بالأطر الزمنية والفعالية، فيما يخص الإجراءات التي وضعتها وزارة الدولة [للدفاع] للنظر في واجبات تحقيق المملكة المتحدة بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ويمكنه أن يطالب وزارة الدولة وهيئة الادعاء العسكري بتقديم الأدلة حول التقدم المُحرز".[69] عقد القاضي ليغات عدة جلسات إدارة قضايا بين 2014 و2017 لهذه الغاية.[70]
لكن تباطؤ وتيرة عمل فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق وإنتاجه المحدود، بالإضافة إلى مزاعم متزايدة في أعقاب تقرير تحقيق السويدي بأن مكاتب المحاماة التي تمثل مدعين على صلة بمزاعم انتهاكات في العراق تمثل "تجارة بالمزاعم الكيدية"، أدى إلى انتقادات من وزراء وبرلمانيين ومسؤولين آخرين ومن الجمهور، ما زاد من الضغوط على فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق لكي يسرع عجلة أنشطته.[71]
في أبريل/نيسان 2016، دعا المحامي العام السير ديفيد كالفيرت-سميث – وهو قاض متقاعد والمدير السابق للادعاء العام – إلى إجراء استعراض مستقل لنشاط فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق "بسبب استمرار القلق إزاء مدة العملية ونفقاتها".[72] توصل تقرير كالفيرت-سميث الذي نُشر في سبتمبر/أيلول 2016 إلى أن الفريق سيتمكن من إتمام عمله في نهاية 2019 إذا تم تنفيذ توصيات التقرير وإذا "لم تظهر موجة جديدة من الدعاوى".[73]
وفي الشهر نفسه، في أبريل/نيسان 2016، كلفت لجنة الدفاع بمجلس العموم البريطاني لجنة فرعية برئاسة النائب البرلماني وضابط الجيش البريطاني المتقاعد جوني ميرسر، بتولي فحص الدعم الذي قدمته وزارة الدفاع حتى تاريخه للعاملين السابقين والحاليين بالقوات المسلحة الخاضعين لإجراءات قضائية، لا سيما الإجراءات التي تمت عن طريق فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.[74]
في 10 فبراير/شباط 2017، أوصت اللجنة الفرعية بأنه ومن واقع فقدان الثقة في العملية، يجب تسريع عجلة أعمال الفريق بحيث تنهي أعمالها وتحيل ما تبقى أمامها من قضايا إلى الشرطة العسكرية التي تتولى القضايا بدعم من الشرطة المدنية.[75] في اليوم نفسه، أعلن وزير الدفاع مايكل فالون أن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سيختتم أعماله ويتم حله بحلول صيف 2017.[76] جاء إعلان فالون وتقرير اللجنة الفرعية بعد أيام من إعلان المحكمة التأديبية للمحامين – وهي هيئة بريطانية مكلفة بالنظر في المخالفات المهنية لأخلاق المهنة السارية على المحامين – بشطب المحامي الرئيسي بمؤسسة محامون للصالح العام، فيل شاينر، مع منعه من مزاولة مهنة المحاماة.[77]
بحسب الحكومة البريطانية، اتخذ الفريق "خطوات فورية لتقدير الأثر" الناتج عن قرار إيقاف شاينر عن مزاولة المهنة وشطبه من نقابة المحامين، بما يشمل إجراء مشاورات مع مدير الادعاء العسكري، وتوصل الفريق في 8 فبراير/شباط إلى أن "عددا كبيرا من القضايا التي تشوب مصداقيتها صلة شاينر بها، يمكن أن يتم حفظه".[78] أدى هذا بوزير الدفاع إلى "استنتاج أن نشاط فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق، ككيان مستقل، يمكن أن ينتهي" بسبب الانحسار في عدد القضايا وأنه "يمكن دمج هذه الوحدة بمنظومة الشرطة العسكرية".[79]
خضعت كل من مؤسسة محامون للصالح العام ومؤسسة محاماة أخرى هي "لي داي" لاستعراض ومراجعة الهيئة التنظيمية للمحامين البريطانيين (وهي الهيئة المسؤولة عن الإشراف على مهنة المحاماة في المملكة المتحدة) في 2014، على صلة بتحقيق السويدي.[80] أشار وزير الدفاع البريطاني إلى أنه وجّه وزارة الدفاع إلى تقديم أدلة على مخالفات شاينر إلى الهيئة التنظيمية للمحامين في 2015، وأن القضية ضد لي داي – حسب التقارير – قد تم رفعها إثر ضغوط من وزارة الدفاع.[81]
أحالت الهيئة التنظيمية للمحامين مكتبي المحاماة المذكورين وبعض المحامين بهما إلى "محكمة تأديب المحامين" في يناير/كانون الثاني 2016 وأبريل/نيسان 2016 على التوالي.[82] أنكرت مؤسسة لي داي ارتكاب أية مخالفات وبرأت المحكمة التأديبية للمحامين ساحة محامييها الثلاثة من كافة الاتهامات في يونيو/حزيران 2017.[83] وفي أغسطس/آب 2016، أوصدت مؤسسة محامين للصالح العام أبوابها بعد إيقاف تمويل المساعدة القانونية الذي كانت تحصل عليه، جراء مخالفة العقد.[84] في ديسمبر/كانون الأول 2016، أقر شاينر بصحة اتهامات مخالفة السلوك المهني. تم شطبه من نقابة المحامين بعد شهرين.[85]
في 5 أبريل/نيسان 2017، أكد فالون أن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سينهي أعماله رسميا في 30 يونيو/حزيران 2017، مع إحالة أية قضايا لم يتم نظرها – ومتوقع أن تكون نحو 20 قضية – إلى الشرطة العسكرية (مزيج من شرطة البحرية الملكية وشرطة القوات الجوية الملكية) للتحقيق فيها.[86] هذا الجُهد الذي سُمي "التحقيقات المُحالة للشرطة العسكرية" يقوده ضابط رفيع المستوى في الشرطة العسكرية البحرية، مع غياب معلومات معلنة عن تكوين فريق التحقيق أو العاملين فيه أو طريقة عمله.
نصّ البيان الصحفي الذي أصدرته وزارة الدفاع لإعلان إنهاء أعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق على: "كشف عدم نزاهة السيد شاينر كان معناه أن الكثير من المزاعم التي تقدمت بها مؤسسته القانونية الموقوفة – محامون للصالح العام – هي غير ذات مصداقية بما يمكّن وزير الدفاع من اتخاذ قرار إنهاء أعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق".[87] وقد ورد في وثيقة تخطيط أخرى للوزارة، لا صلة لها بالبيان، أن الأموال التي دفعها شاينر دون تصريح للمدعين أدت بالفريق إلى الاستنتاج بأن أغلب القضايا "لا يمكن إحالتها إلى القضاء".[88]
قبل بضعة أشهر، كان المحامي العام قد قال للجنة الفرعية البرلمانية التي تقيّم أعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق إنه لم يُثبت بعد أن "كل قضية من القضايا التي أحالها السيد شاينر إلى الفريق قضية ملفقة". وذكر أنه رغم حكم المحكمة التأديبية للمحامين في قضية شاينر، فما زالت هناك حاجة إلى تحقيق لحصر وتصنيف الادعاءات المختلفة، مشددا على أن مؤسسة محامون للصالح العام ليست مصدر جميع الادعاءات.[89]
في مذكرة رفعها في سبتمبر/أيلول 2017 المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان إلى مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية، حاجج المركز بأن "تأكيدات الحكومة البريطانية على أن المداولات القضائية ضد فيل شاينر تحيل بالضرورة إلى أن الادعاءات الخاصة بالانتهاكات في العراق ملفقة، وهي التأكيدات الواجب رفضها" نظرا لكثرة المصادر الأخرى "التي تؤكد هذه المزاعم".[90] من ثم، حثت الادعاء على "رفض جهود وزارة الدفاع لاستخدام المداولات القضائية المذكورة ضد فيل شاينر كوسيلة لوصم جميع الادعاءات الخاصة بالإساءة للمحتجزين في العراق بأنها "لا أساس لها من الصحة" أو "كيدية"".[91]
د. أنشطة الدراسة الأولية الخاصة بادعاء المحكمة الجنائية الدولية
بدأ مكتب الادعاء العام للمحكمة الجنائية الدولية في تلقي المراسلات المتصلة بادعاءات الانتهاكات في العراق أثناء السنة الأولى لعمل المحكمة.[92] لكن في 2006، قرر المدعي العام حينئذ لويس مورينو-أوكامبو، عدم فتح تحقيق رسمي قائلا إنه رغم وجود سند معقول للاعتقاد بارتكاب جرائم حرب تتمثل في القتل العمد والمعاملة اللاإنسانية، فليس عددها كافيا لدفع المحكمة الجنائية الدولية للتدخل.[93] بعد تلقي مراسلة أخرى أكثر استفاضة من محامون للصالح العام والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان بعد 8 سنوات، في يناير/كانون الثاني 2014، أعلن المكتب في مايو/أيار من ذلك العام إنه سيعيد فتح الدراسة الأولية.[94]
بين مايو/أيار 2014 وديسمبر/كانون الأول 2017، ركز مكتب الادعاء العام على تقييم ما إذا كانت المحكمة الجنائية الدولية لها اختصاص موضوعي في الجرائم المزعوم وقوعها خلال التواجد البريطاني في العراق، أي أن تحليل المكتب كان ما زال في المرحلة 2.[95] واتساقا مع نهج التعامل على مراحل، استقبل مكتب ادعاء المحكمة وفحص معلومات حول التقدم المُحرز في المداولات القضائية الوطنية ذات الصلة خلال تلك المرحلة، لكن لم يقيّم ما إذا كانت المداولات حقيقية بما يجعلها تسمو إلى مستوى الاختصاص القضائي الوطني.[96]
على مدار تلك السنوات الثلاث، عقد مكتب الادعاء العام عدة لقاءات مع مسؤولين بريطانيين ومع الجهات التي وجهت المراسلات، في لاهاي والمملكة المتحدة، بما يشمل لقاءات مع مدير فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق، ومدير الادعاء العسكري، ومسؤولون بوزارة الخارجية والكومنولث.[97] تواصل المكتب بقدر ضئيل مع المنظمات الحقوقية غير الحكومية في المملكة المتحدة.[98]
غطّت اجتماعات مكتب الادعاء مع السلطات البريطانية جملة من القضايا، منها عملية الدراسة الأولية التي يجريها المكتب ونطاق ومنهجية المداولات والتحقيقات الوطنية.[99] كما قدمت السلطات البريطانية لمكتب ادعاء المحكمة معلومات أثناء اللقاءات مع العاملين بالمكتب، وفي صيغة كتابية، 4 مرات على الأقل بين 2014 و2016، وإن لم يتم الكشف للغير عن أي من هذه المذكرات، بما يشمل موجهي المراسلات للمكتب بموجب مادة 15.[100] قال مكتب الادعاء بالمحكمة إن أصحاب المصلحة، ومنهم الحكومة البريطانية، تعاونوا بالكامل أثناء مرحلة الدراسة.[101]
مع مضي الدراسة الأولية قدما، ركز مكتب الادعاء على إجراء "تقييم لمدى مصداقية المصادر ومصداقية المعلومات التي تم استقبالها حول الجرائم المُدعى وقوعها"، بما يشمل زيارة مكتب الادعاء لمقر مؤسسة محامون للصالح العام في أكتوبر/تشرين الأول 2015 لفحص "المواد الداعمة للادعاءات"، ودولة ثالثة غير معلنة لإجراء "تقييم للمصادر".[102] في تقرير الدراسة الأولية السنوي الصادر عن مكتب الادعاء في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أشار الأخير إلى أنه يتابع ويتعقب "أمورا مؤثرة تحديدا على مصداقية مقدمي المعلومات"، وفي ديسمبر/كانون الأول 2017 أشار إلى أنه "فحص جميع الظروف ذات الصلة التي لها أثر على صدقية" مؤسسة محامون للصالح العام، بما يشمل نتائج وحيثيات المحكمة التأديبية للمحامين بشأن فيل شاينر.[103]
كان ما نشره مكتب الادعاء بالمحكمة حول دراسته الأولية للمملكة المتحدة محدودا. زارت مدعية المحكمة فاتو بنسودة المملكة المتحدة مرتين على الأقل منذ مايو/أيار 2014. لكن لم يتم النشر حول هذه الزيارات كونها متصلة بتحليل مكتب الادعاء الجاري للادعاءات المزعومة بحق قوات بريطانية في العراق.[104] قال أفراد بالمملكة المتحدة يتابعون نشاط المحكمة عن كثب، وتحديدا يتابعون الدراسة الأولية الخاصة بالمملكة المتحدة والعراق، لـ هيومن رايتس ووتش، إنهم لم يعرفوا بتواجد مدعية المحكمة بالمملكة المتحدة أثناء تلك الزيارات.[105]
أثناء رحلة لبنسودة إلى لندن في ديسمبر/كانون الأول 2015، تحدثت في فعاليتين، لكن لم تتناول في أي منهما بالحديث ما يمس الدراسة الأولية لملف المملكة المتحدة والعراق.[106]
لم يصدر مكتب ادعاء المحكمة أية بيانات صحفية بعد الزيارات للمملكة المتحدة وأوضح أنه في العادة لا يفعل هذا بعد بعثات على مستوى العمل.[107] بالفعل، وبمعزل عن تصحيح التأكيدات الواردة في مقال نُشر في "ذا تلغراف" في يوليو/تموز 2016، لم يصدر مكتب الادعاء أية تصريحات علنية منفصلة حول الدراسة الأولية للمملكة المتحدة والعراق منذ مايو/أيار 2014.[108]
وبحسب عاملين في مكتب الادعاء، فالعلانية وسيلة للضغط لم تُستخدم في الدراسة الأولية لملف المملكة المتحدة والعراق بما أن السلطات البريطانية تتعاون مع المحكمة.[109] كما قال عاملون بمكتب الادعاء إن المكتب تعمد عدم الإدلاء بتصريحات كثيرة حول هذا الملف بما أنه لم يتوصل إلى نتيجة بعد حول الاختصاص الموضوعي للمحكمة. أشار مكتب الادعاء إلى عدم الحاجة إلى قدر أكبر من العلانية حول العراق لصالح التوصل إلى ادعاءات إضافية، بما أنه قد تلقى بالفعل العديد من الادعاءات من مؤسسة محامون للصالح العام ويعكف على دراستها.[110]
هـ. تأثير الدراسة الأولية لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية على جهود العدالة الوطنية
مع وجود العديد من العمليات المحلية المختلفة من تحقيقات وقضايا قبل مايو/أيار 2014، لا يمكن القول إن أخر أنشطة مكتب الادعاء بالمحكمة حول هذا الملف حفّزت جهود القضاء الوطني في المملكة المتحدة. لكن يمكن لمكتب الادعاء أن يدفع بالتشجيع على التحرك إذا تحّرى وببساطة التواصل والتفاعل مع السلطات المحلية.[111]
يبحث هذا القسم في التفاعلات حتى تاريخه مع إعادة فتح مكتب ادعاء المحكمة للدراسة الأولية، في أروقة الحكومة البريطانية، وسلطات التقاضي المحلية، والإعلام والمجتمع المدني، من أجل تقييم إلى أي مدى قد تساعد دراسة المحكمة الجنائية الدولية في الدفع بجهود القضاء الوطنية قدما.
1. رد فعل الحكومة
أدى إقبال مكتب ادعاء المحكمة على إعادة فتح الدراسة الأولية الخاصة بالسلطات البريطانية إلى التعاون مع المكتب بعدة سبل، مع صدور بيانات عامة عديدة، وقد أثر الأمر على مشاركة الحكومة البريطانية في الاجتماعات الرسمية حول المحكمة الجنائية الدولية.
فإعادة فتح مكتب ادعاء المحكمة للدراسة الأولية ألزمت عدد من الهيئات الحكومية البريطانية بالردّ عبر التعاون المباشر مع المكتب، بما يشمل مشاركة المعلومات وعقد اجتماعات مع العاملين بمكتب الادعاء.
كما أدى الأمر إلى صدور بيانات عامة. حتى قبل إعادة فتح الدراسة الأولية، عندما روّجت مؤسسة محامون للصالح العام والمركز الأوروبي لمراسلتهم الأولى مع المحكمة في يناير/كانون الثاني 2014، أوضح ناطق باسم وزارة الدفاع أنهم سيقومون "بتوضيح النشاط الموسع للغاية المبذول حاليا [لمكتب الادعاء] فيما يخص الادعاءات التاريخية بالانتهاكات" إذا أصبحت المحكمة الجنائية الدولية طرفا في الأمر.[112] وعلى المسار نفسه، قال ويليام هايغ وزير الخارجية السابق إن "المزاعم إما قيد التحقيق أو تم التعامل معها بعدة سبل".[113]
ما إن أعلنت بنسودة قرارها إعادة فتح الدراسة الأولية حول المملكة المتحدة والعراق، وهو الإجراء الذي وصفه محام بأنه "استفزاز قوي لرد فعل من الحكومة"،[114] حتى هرعت السلطات البريطانية إلى الإعلام. على سبيل المثال أصدر دومينيك غريف، المحامي العام حينها، بيانا عاما شدد فيه على أنه "حيثما تم الإدلاء بمزاعم... فهي تخضع للتحقيق الشامل [في المملكة المتحدة]"، مضيفا أنه سيقدم إلى مكتب ادعاء المحكمة "كل المطلوب لإظهار أن منظومة العدالة البريطانية تأخذ مجراها السديد".[115]
كما حرصت الحكومة على التصدي استباقيا للدراسة الأولية ضمن جهودها الدبلوماسية المعلنة. ففي اجتماع الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية في 2015، أكد بيان الحكومة على أن المملكة المتحدة أظهرت لادعاء المحكمة أن "هذه الأمور يتم التعامل معها باستفاضة تامة على المستوى الوطني، وهو مؤشر واضح على تكامل التدابير [بين الطرفين]".[116]
2. الأثر على فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق
هناك مؤشرات على أن العاملين بفريق التحقيق في الادعاءات التاريخية، والادعاء العسكري ومسؤولين حكوميين آخرين، كانوا متنبهين بدرجة ما لإعادة فتح الدراسة الأولية، ومؤشرات على أنه كان لتدخل المحكمة الجنائية الدولية بعض الأثر الإيجابي على الدعم الذي لاقاه نشاط الفريق محليا.
هناك شخص أجرينا معه مقابلة قيل له إن تعيين عاملين جدد في فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق والادعاء العسكري كان حصرا لدعم التواصل مع المحكمة الجنائية الدولية جراء إعادة فتح الدراسة الأولية، ما يوحي – في رأي الشخص المذكور – بوجود "قلق إزاء تدخل المحكمة الجنائية الدولية".[117] بالمثل، لم يتواصل فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق مع نيكولاس ميرسر التماسا لتسجيل شهادته إلا بعد أن أعاد مكتب ادعاء المحكمة فتح الدراسة الأولية. أشار ميرسر في شهادته أمام اللجنة البرلمانية الفرعية المعنية باستعراض نشاط فريق الادعاءات التاريخية إلى أن: "على مدار 5 سنوات جاءتني 5 زيارات من الفريق قبل تسجيل شكاواي رسميا في بيان. لماذا استغرق الأمر 5 سنوات؟"[118] يعتقد ميرسر أن دراسة المحكمة الجنائية الدولية دفعت فريق الادعاءات التاريخية بالتواصل معه أخيرا.[119]
في مناسبة أخرى، لفت المدعي العسكري انتباه قاضي إدارة القضايا إلى دراسة المحكمة الجنائية الدولية الأولية، فيما يخص التفاعل بين أنشطة فريق الادعاءات التاريخية والتحقيقات في الوفيات العراقية، قائلا: "يجب ألا يهيئ لأي تصورات ممكنة للتشكيك في استعداد المملكة المتحدة للتحقيق والملاحقة القضائية في القضايا من خلال تقصير عمليات التحقيق الجنائي بشكل غير مناسب".[120]
بحسب مكتب ادعاء المحكمة، قد تكون تغيرت بعض طرق عمل فريق الادعاءات التاريخية بسبب طلبات وأسئلة مكتب الادعاء حول عمليات الفريق وأنشطته. وتحديدا، فقد قيل إن تصنيف فريق الادعاءات التاريخية لمزاعم المعاملة السيئة بتوزيعها على "ملفات المشاكل" من أجل التعرف على الأنساق القائمة وتصنيفات مختلف الادعاءات التي يمكن التحقيق فيها معا، يُمكن أن يُعزى جزئيا إلى تدخل المحكمة الجنائية الدولية وتقصي فريق الادعاء في كيفية تعامل الفريق مع الادعاءات المتكررة.[121]
هناك أيضا بعض المؤشرات على أن إعادة فتح الدراسة الأولية – في البداية على الأقل – عززت دعم المسؤولين الحكوميين لعمل فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق. في واقع الأمر، قال مسؤولون بوزارة الدفاع والمحامي العام إن دراسة مكتب ادعاء المحكمة الحالية وإمكانية فتح تحقيق رسمي للمحكمة، اقتضت أن يستمر عمل فريق الادعاءات التاريخية. قالوا إن فريق الادعاءات التاريخية عنصر أساسي في إظهار الحكومة للمحكمة أنه جاري التعامل مع الادعاءات بشكل مناسب على المستوى المحلي، وأن تدخل المحكمة غير ضروري، وذهبوا إلى أن إنهاء عمل الفريق – على النقيض – يعني المخاطرة بتدخل المحكمة الجنائية الدولية.[122] في ديسمبر/كانون الأول 2016، شدد وزير الدفاع فالون على أن المملكة المتحدة عليها إظهار أنه جاري التحقيق بالشكل المناسب في الادعاءات العراقية، وأنه "غير مستعد لرؤية [المملكة المتحدة] يُزج بها في المحكمة الجنائية الدولية وكأنها نظام ديكتاتوري".[123]
وأخيرا، من الممكن النظر إلى استعراض كالفيرت-سميث لنشاط فريق الادعاءات التاريخية أيضا بصفته تأثير إيجابي لتدخل المحكمة الجنائية الدولية. بعبارة أخرى، فإن هدف الحكومة البريطانية الخاص بإقناع مكتب ادعاء المحكمة بأن تحقيقات المملكة المتحدة الجارية تحول دون حصول المحكمة على الاختصاص، ربما أسهم في دفع الجهود المحلية بتسريع عجلة أعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
في الوقت نفسه، فهناك حدود حقيقية لقوة تأثير الدراسة الأولية على الأمر برمته، سواء من حيث المستوى الهيكلي للفريق أو العاملين أو الموارد أو الإطار الزمني لأنشطة فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
كما فصلنا أعلاه، فقد خضع فريق الادعاءات التاريخية لقدر كبير من التدقيق القضائي في المحاكم البريطانية قبل تدخل مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية في مايو/أيار 2014، ما أدى إلى تغيرات في العاملين فيه ومسار أنشطته. أغلب من تحدثت إليهم هيومن رايتس ووتش يرون أنه وبقدر حدوث تغيرات في البنية التحتية لفريق الادعاءات التاريخية أو ممارساته، فمن الممكن أن يتم نسبها إلى التدقيق القضائي المحلي. فإجراءات الفريق كانت "قائمة وقوية" بالفعل حين أعادت المحكمة الجنائية الدولية فتح الدراسة الأولية في 2014.[124]
هناك عدة أفراد تمت مقابلتهم أثناء إعداد هذا التقرير وصفوا ثقة محسوسة لدى السلطات البريطانية ضد احتمال فتح تحقيق رسمي من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي ربما حدّ من الجهود الحقيقية في الدراسة الأولية التي أعيد فتحها. هؤلاء الأشخاص – وهم محام وصحفي وممثل عن المجتمع المدني – أشاروا إلى أن عدة مسؤولين يعتقدون أن احتمال الملاحقة القضائية في لاهاي "أمر غير وارد الحدوث" وأن تدخل المحكمة الجنائية الدولية يُرجح ألا يتطور إلى تحقيق رسمي.[125] قال ممثلون عن منظمة غير حكومية إن السلطات البريطانية تبدو "قلقة أكثر إزاء صدور أحكام سلبية من محاكم محلية، مقارنة بقلقها إزاء المحكمة الجنائية الدولية".[126]
هذا الرأي بأن مكتب الادعاء بالمحكمة لن يفتح تحقيقا رسميا في النهاية تؤكده بيانات لمسؤولين سابقين وحاليين بالحكومة والقضاء. إذ قال ممثل عن وزارة الدفاع لمحكمة بريطانية في أبريل/نيسان 2015 إنه "واثق" من أن الحكومة البريطانية ستتمكن من أن تُظهر لمكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية أنها تحرز تقدما حقيقيا في التحقيق في الانتهاكات في العراق وفتح ملاحقات قضائية عليها.[127] كذلك قال السير ديفيد كالفيرت-سميث أثناء استعراضه عمل فريق الادعاءات التاريخية إن نشاط الفريق "قطعا يستوفي متطلبات التحقيق المدني وهيئات التقاضي في إنغلترا وويلز، وسيكون متفاجئا إذا كان لمحكمة دولية رأي آخر".[128]
يبدو أن إغلاق مؤسسة محامون للصالح العام في أغسطس/آب 2016، وشطب رئيسها فيل شاينر من نقابة المحامين في فبراير/شباط 2017 بتهمة ارتكاب مخالفة مهنية، قد عزز هذا الشعور أكثر. في الشهر نفسه الذي شهد ظهور أنباء تأديب شاينر، نشرت اللجنة الفرعية المعنية بالدفاع في مجلس العموم تقريرها وأوصت فيه بإغلاق فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق وتسليم ما تبقى أمامه من قضايا إلى الشرطة العسكرية. في بيان صحفي، قالت اللجنة إن الفريق "أصبح آلة قائمة بذاتها لا يمكن وقفها، صماء في مواجهة بواعث قلق القوات المسلحة، وعمياء لا ترى احتياجاتها، وتسرف في إنفاق مواردها".[129]
فيما يخص الدراسة الأولية الخاصة بمكتب ادعاء المحكمة، أشارت اللجنة الفرعية إلى أنها "غير مقتنعة بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تفتح تحقيقا في هذا القدر الكبير من القضايا التي تستند إلى حد بعيد على أدلة لا تتمتع بمصداقية". وأوصت بأن تعرض وزارة الدفاع "حججا قوية على المحكمة الجنائية الدولية لإقناعها بأن القضايا المتبقية سيتم التعامل معها بشكل أسرع وبنفس القدر من التدقيق والحزم، عن طريق القضاء العسكري وليس فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق".[130]
كما توصلت اللجنة الفرعية إلى أن: "كان التركيز على تلبية الالتزامات الدولية وتلك الخاصة بالهيئات الخارجية حسب التصور القائم، مع مراعاة قليلة لمن قاتلوا تحت راية المملكة المتحدة" [الخط المائل من إضافتنا].[131] كما تطرق إعلان وزير الدفاع البريطاني حول إغلاق فريق الادعاءات التاريخية إلى مخالفات شاينر كسبب لعدم تصديق أغلب المزاعم المعروضة على الفريق، لكن دون أن يذكر المحكمة الجنائية الدولية.[132]
يبدو أن المسؤولين البريطانيين يعون بدراسة مكتب ادعاء المحكمة ومهتمون بالأمر، وإن كانوا مهتمون بالأساس بالتدقيق محليا في عملهم.[133]
قال بيتر رايان، مدير إدارة سياسات التواصل مع القضاء بوزارة الدفاع، إن العمل المخصص لتشكيل عملية للتصدي لادعاءات العراق تم بذله لضمان "الوفاء بالتزامات المملكة المتحدة بالتحقيق بموجب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وبموجب أحكام وأوامر المحكمة".[134] كما أوضح المحامي العام جيريمي رايت في أكتوبر/تشرين الأول 2016 أنه "حتى إذا قررت المحكمة الجنائية الدولية أنها لم تعد مهتمة بالأمر، فسوف تبقى هذه الالتزامات مترتبة [على المملكة المتحدة] ويجب التعامل معها".[135]
استمر الاهتمام بإجراءات وتدابير فريق الادعاءات التاريخية ووتيرة عمله بعد إعادة فتح مدعية المحكمة الجنائية الدولية للدراسة الأولية حول المملكة المتحدة والعراق في مايو/أيار 2014، وبلغ الأمر ذروته في استعراض كالفيرت-سميث لعام 2016.[136] من الأمثلة إشارة كالفيرت-سميث إلى أن تحقيق فريق الادعاءات التاريخية كان "يجريه محققون ليست لديهم خبرة في مجال إدارة الجيش و... لا دراية لهم بمفهوم "جريمة الحرب"".[137]
3. الدعاية ودور الإعلام
كما سبقت الإشارة، لم يتواصل مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بشكل نشط مع الإعلام في المملكة المتحدة. لكن بحثنا أشار إلى أن هذا على الأرج لم يكن فرصة ضائعة للضغط على الحكومة نظرا لعداء الإعلام للتحقيق مع العسكريين والعلاقة بين الإعلام المطبوع والرأي العام في المملكة المتحدة.
أعاد مكتب ادعاء المحكمة فتح الدراسة الأولية قبل شهور من نشر تقرير تحقيق السويدي في 2014. في حين نالت الدراسة الأولية اهتماما إعلاميا أقل من أي نشاط قانوني محلي على صلة بادعاءات العراق، فقد تمتع دور المحكمة الجنائية الدولية ببعض الموجات من التغطية[138] فظهرت على سبيل المثال عدة تغطيات صحفية إثر رفع مؤسسة محامون للصالح العام والمركز الأوروبي مراسلة إلى مكتب ادعاء المحكمة في يناير/كانون الثاني 2014.[139]
لكن نظرا لسياسة مكتب ادعاء المحكمة القاضية بعدم الترويج الإعلامي للمراسلات بموجب المادة 15 لأنها تعتبرها غير مُعلنة ما لم يتخذ المرسل خطوات لنشرها، فيبدو أن أية تغطيات إعلامية حول ذلك الأمر تُعزى للبيانات والمؤتمرات الصحفية المنسقة والحملات التي نظمتها مؤسسة محامون للصالح العام والمركز الأوروبي.[140] عندما عاود مكتب ادعاء المحكمة فتح دراسته الأولية في مايو/أيار، غطت مجموعة من الوسائل الإعلامية البريطانية الموضوع يوم إعلانه رسميا من قبل المدعية.[141]
أشار صحفي إلى أن أغلب وسائل الإعلام لم تعرف بطبيعة دور المحكمة الجنائية الدولية في الأمر، وفيما يوجد فهم عام لـ "لاهاي"، فإن أغلب المراسلين البريطانيين لا يفهمون سلطة المحكمة الجنائية الدولية ولا يعتقدون أن الدراسة ستؤدي إلى ملاحقة قضائية فعلية بالخارج.[142] قال صحفي آخر إن محرري الأخبار لا يهتمون عموما بزاوية المحكمة الجنائية الدولية خبريا، لأنهم لا يمكنهم وضع أيديهم على أية خطوات ملموسة اتخذتها المحكمة الجنائية الدولية منذ أعادت فتح الدراسة الأولية.[143] قال مسؤول بريطاني لـ هيومن رايتس ووتش إن الحكومة تلقت أسئلة قليلة جدا من صحفيين حول الدراسة الأولية للمحكمة الجنائية الدولية مقارنة بما تلقت من أسئلة على صلة بقضية ادعاءات العراق بشكل عام.[144]
منذ 2015، بدأت بعض التغطيات الإعلامية تأخذ منحى أكثر عدائية تجاه التحركات القانونية ضد القوات البريطانية.[145] وفي 2016 عاد اهتمام الإعلام لفترة بفريق الادعاءات التاريخية بعد أن قال مارك وارويك إن هناك "أدلة قوية يجب تحصيلها قبل أن يقدم الادعاء العسكري على فتح القضايا وتوجيه الاتهامات".[146] بعد ذلك بقليل رصدت بعض الوسائل الإعلامية ردود فعل عائلات سياسيين وعسكريين، وقد وصفوا المحامين الذين يباشرون قضايا الادعاءات العراقية بأنهم "يتربحون من المصائب".[147]
تم التعليق على رئيس الوزراء ديفيد كاميرون آنذاك في الإعلام إذ طالب بـ "إنهاء تلك الأنشطة القانونية التي تحاول التربح من ادعاءات واهية ضد رجالنا ونسائنا الشجعان في الجيش".[148] حتى إن صحيفة "ذا صن" شنت هجوما شخصيا على مدير فريق الادعاءات التاريخية ووصفت المحامين المسؤولين عن تقديم الادعاءات للفريق بأنهم "جهاديون قانونيون"،[149] فيما نشرت "ذا ديلي ميل" عدة مقالات حول "المطاردة الغاشمة لجنودنا بناء على اتهامات واهية".[150] كما تركز بعض الاهتمام الإعلامي على تكاليف تحقيقات فريق الادعاءات التاريخية التي يتحملها دافعو الضرائب.[151] وقبل اتخاذ قرار إيقاف عمل فريق الادعاءات التاريخية بعدة أشهر، غطت عدة وسائل إعلامية تصريح رئيسة الوزراء تيريزا ماي في مؤتمر لحزب المحافظين بأنها لن تسمح لـ "المحامين الحقوقيين الناشطين من اليسار" بـ "التحرش بأشجع الشجعان ومضايقتهم".[152]
رغم التركيز على نشاط فريق الادعاءات التاريخية ونسب اتهامات بارتكاب مخالفات مهنية إلى حق المحامين الذين ساقوا ادعاءات العراق، لم تظهر المحكمة الجنائية الدولية بقوة في التغطية الإعلامية. اقتصرت تغطية الإعلام البريطاني فيما يخص المحكمة والدراسة الأولية لمكتب الادعاء على أوقات شهدت أحداثا لا تتصل بالدراسة الأولية. على سبيل المثال، في بداية 2017 ظهرت إشارات في الإعلام البريطاني إلى المحكمة الجنائية الدولية من جديد، في سياق تحقيق للجنة فرعية برلمانية في أعمال فريق الادعاءات التاريخية، وقرار وزارة الدفاع بإنهاء أعمال الفريق، وشطب رئيس محامون للصالح العام فيل شاينر من نقابة المحامين.[153]
نظرا للطابع السلبي للتغطية الإعلامية فيما يخص ادعاءات العراق، يرى عدد ممن تحدثت إليهم هيومن رايتس ووتش أن اهتمام مكتب ادعاء المحكمة بالتواصل مع الإعلام ربما كان ليؤدي إلى نتيجة عكسية. في تقديرهم، كان هذا من شأنه المخاطرة بتلقي انتقادات من وسائل إعلامية نافذة لديها معرفة محدودة بالمحكمة واختصاصاتها. قال البعض بأن ثمة حاجة إلى خبرات بالإعلام والعلاقات العامة في مكتب الادعاء إذا كان يريد تجنب الوقوع فريسة للصحف الصفراء البريطانية القوية، وهي المهارات – حسب قول أحد محادثينا – التي يفتقر إليها مكتب الادعاء حاليا.[154]
4. دور المجتمع المدني والجمهور
تاريخيا، ركز انخراط المجتمع المدني في مسألة المحاسبة على انتهاكات العراق بشكل عام على تسليط الضوء على الادعاءات بالإساءة،[155] وعلى تقديم مذكرات في قضايا متصلة بالادعاءات،[156] وأنشطة المناصرة المرتبطة بالتحقيقات العامة.[157]
بحلول موعد معاودة مكتب ادعاء المحكمة فتح دراسته الأولية في مايو/أيار 2014، كانت أنشطة المناصرة المتصلة بادعاءات الانتهاكات في العراق قد انحسرت.[158]
قال عاملون في مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية لـ هيومن رايتس ووتش إن المكتب مهتم بآراء منظمات المجتمع المدني وأطراف أخرى في نظام القضاء المحلي البريطاني، إذا ومتى بلغت الدراسة الأولية المرحلة 3.[159] لكن فيما يخص الإعلام، فليس من الواضح إن كان اهتمامه المحدود إلى الآن يمثل فرصة ضائعة للتحفيز على اهتمام وحراك أكبر على المستوى المحلي فيما يتصل بالادعاءات محل النظر.
يبدو أن المنظمات غير الحكومية في المملكة المتحدة لم تركز كثيرا على دور المحكمة الجنائية الدولية في ادعاءات العراق. مع وجود استثناءات قليلة، لم تسع منظمات حقوق الإنسان إلى الاستفادة من إعادة فتح مكتب ادعاء المحكمة للدراسة الأولية أو الاستفادة من وجود احتمال قائم بفتح تحقيق رسمي، كأداة لأنشطة المناصرة.[160]
منذ أعادت مدعية المحكمة الجنائية الدولية فتح دراستها الأولية في مايو/أيار 2014، تصدّى عدد من المنظمات لخطط مزعومة من قبل السلطات البريطانية للتقليل من شأن المحكمة الأوروبية الأوروبية لحقوق الإنسان في العمليات العسكرية المستقبلية بالخارج، مع انتقادها للهجمات على المحامين المشاركين في الادعاءات المتصلة بالعراق، والتعاطي مع نتائج التحقيق العام المتصل بالعراق، كما علقت على قرار الحكومة بإنهاء أعمال فريق الادعاءات التاريخية.[161] لكن لم تكن دراسة مكتب ادعاء المحكمة محورية في أنشطة المناصرة هذه.
لكن هناك استثناء هام، إذ قامت 7 منظمات حقوقية، منها هيومن رايتس ووتش، بالكتابة إلى رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون في يناير/كانون الثاني 2016 لتدين الإضرار بأعمال فريق الادعاءات التاريخية عبر التصريح الذي أدلى به هو ووزير الدفاع مايكل فالون حول المحامين المشاركين في تحضير وجمع الادعاءات بارتكاب القوات البريطانية لانتهاكات في العراق.[162]
كما أشارت المنظمات إلى الدراسة الأولية الجارية من قبل مكتب ادعاء المحكمة. وقد تناولت وزارة الدفاع في ردها على المنظمات بالتعليق دراسة المحكمة، قائلة إن "الحكومة واعية بالدراسة الأولية" وإنها "على ثقة بأن مدعية [المحكمة الجنائية الدولية] سوف تتوصل إلى نتيجة مفادها أن المملكة المتحدة تلبي التزاماتها بإجراء تحقيقات حقيقية في الادعاءات القابلة للتصديق".[163]
وهناك أنشطة محدودة أخرى للمجتمع المدني على صلة بدراسة مكتب ادعاء المحكمة، وقد اتخذت هيئة عدد صغير من البيانات العلنية من قبل "ريدريس" وهيومن رايتس ووتش.[164] يبدو أن ما تبقى من نشاط ملموس بُذل، على مسار التواصل بين منظمات المجتمع المدني ومكتب ادعاء المحكمة، كان البحوث التي أجرتها هيومن رايتس ووتش في سياق هذا التقرير.
إضافة إلى التوقيت، فهناك سبب محتمل آخر لاقتصار تواصل المجتمع المدني مع دراسة مكتب الادعاء الأولية، ربما كان الغياب العام للدعم الجماهيري في المملكة المتحدة للعدالة على الجرائم المدعى بها.
هناك صحفي رأى أن الجمهور البريطاني متعاطف مع الجنود، على النقيض من نقص تعاطفه مع العراقيين، ناهيك عن تعاطفه مع المحتجزين العراقيين.[165] كما يبدو أن هناك تعاطفا عاما مع التوجه القائل بمحاسبة السياسيين، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، على قرارهم بدخول الحرب وما وقع من أحداث بعد دخولها، لكن ليس بالضرورة مع محاسبة المسؤولين العسكريين والجنود. لا شك أن هذا يهيئ لمناخ صعب للاستفادة من المحكمة الجنائية الدولية واختصاصاتها القضائية في الدعوة للمحاسبة، لا سيما في مناخ أصبح الآن معاد للمؤسسات الدولية أيضا.
و. النتائج
أعاد مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية فتح دراسته الأولية أثناء فترة من الحراك والشحن المعنوي ضد الادعاءات بارتكاب القوات البريطانية انتهاكات في العراق.
وعلى هذه الخلفية، تشير بحوثنا إلى أن تدخل المحكمة الجنائية الدولية إلى الآن لم يحثّ تحديدا أو يؤثر على المداولات القضائية الوطنية بشكل يُعتد به. إنما وبقدر إحراز تقدم في التحقيقات الجنائية، فالأمر يُعزى جُله إلى التقاضي المحلي السابق للدراسة الأولية من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
مع بدء مكتب ادعاء المحكمة في النظر في أمر تقييم مقبولية القضية والنظر فيما إذا كان انتهاج مقاربة نشطة للتشجيع على الملاحقات القضائية الوطنية مسألة مجدية، هناك عوامل عدة تهيئ لبيئة عمل صعبة: المناخ السياسي في المملكة المتحدة، لا سيما العداء تجاه الملاحقة القضائية لأفراد قواتها المسلحة؛ نقص الفهم لدور المحكمة في الإعلام والرأي العام؛ وقلة المطالبة الجماهيرية، إن وجدت، بالمحاسبة في المملكة المتحدة على الجرائم في العراق.
من جهة أخرى، يبدو أن الدراسة الأولية من قبل المحكمة الجنائية الدولية كانت من العوامل التي دفعت ببقاء المؤسسات المحلية المُشكّلة قبل تدخل مكتب ادعاء المحكمة في 2014، مع زيادة العمل على التصدي بشكل فعال لمختلف ادعاءات الانتهاكات بحق مواطنين عراقيين على يد قوات بريطانية.
لكن ما زال الأثر الرئيسي لدراسة مكتب الادعاء الأولية غير مؤكد، نظرا للتساؤلات القائمة حول إنهاء نشاط فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق، وبأي شكل ستتولى هيئة أخرى القضايا التي لم يتم نظرها بعد. هناك محام وصف مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بأنه "لاعب هامشي"، لكن "له أهمية محتملة".[166]
هناك عدة دروس مستفادة فيما يخص تدخل مكتب ادعاء المحكمة في المملكة المتحدة حتى الآن.
أولا، ورغم أن مكتب ادعاء المحكمة لم ينتهج مقاربة نشطة إزاء التكامل الإيجابي في المرحلة 2 من دراسته الأولية التي أعاد فتحها، يبدو أنه ما زال قادرا على ممارسة بعض الضغط على نهج السلطات البريطانية إزاء الادعاءات العراقية. وتحديدا، يظهر من الجهود الدبلوماسية المُركزة للمملكة المتحدة لإظهار استمرار جهودها المحلية ذات الصلة، أن الحكومة تخشى على صورتها، ومن ثم فهي قابلة للتدخل الهادئ. إذن، فإن مقاربة مكتب ادعاء المحكمة بالعمل من وراء الكواليس مع حكومة متعاونة قد تكون له آثار إيجابية محدودة، وهي الملاحظة التي قد تكون مهمة إذا ربطناها بعدد من الحالات الأخرى الخاضعة للتحليل هنا.
ثانيا، وبغض النظر عن التزام مكتب ادعاء المحكمة بانتهاج مقاربة العمل على مراحل في دراساته الأولية، فمن الواضح أن طرح أسئلة تفصيلية حول المداولات المحلية القائمة يمكن أن يؤدي إلى نتائج قيّمة، إذ يبدو أن هذا ربما هو ما حدث فيما يخص مناهج عمل فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
ثالثا، قيام المحكمة الجنائية الدولية بإعادة فتح الدراسة الأولية أدى إلى ردود علنية من عدّة مسؤولين حكوميين بريطانيين، أكدوا فيها أن أية ادعاءات بانتهاكات تظهر يتم التعامل معها محليا، ما يُظهر القوة المحتملة والقائمة للإعلام.[167] وبشكل عام، فالمسؤولون الحكوميين في المملكة المتحدة مُلزمون بالتعاطي مع القضايا الخاضعة للمتابعة الإعلامية.
في الوقت نفسه، ونظرا لتعقد واستقطاب سوق الإعلام البريطاني، وعدوانية بعض القطاعات الإعلامية تجاه التحقيق مع العسكريين، كان من تحدثت إليهم هيومن رايتس ووتش عموما غير مقتنعين بأن غياب النهج النشط من مكتب ادعاء المحكمة إزاء الإعلام يمثل فرصة ضائعة.
على ذلك، فالتواصل بشكل استراتيجي ومحدد مع الإعلام ربما كان من شأنه المساعدة في توعية الرأي العام بالمحكمة الجنائية الدولية ودورها، مع تحسين مستوى الاهتمام بأهمية المحاسبة.
لتحقيق هذا الأمر، يحتاج مكتب ادعاء المحكمة إلى خبرات متخصصة، والنظر في أمر العمل مع أقسام أخرى بالمحكمة، بما يشمل أمانة المحكمة، التي يمكن أن تلعب دورا في تنظيم حملات توعية جماهيرية محايدة.
بالمثل، ومن خلال قصر تعاملات مكتب ادعاء المحكمة على المشاركين المباشرين (تحديدا السلطات البريطانية ومُرسلي مراسلات المادة 15)، ربما حدّ مكتب الادعاء من قدرته على تعريف نفسه بالمشهد القضائي والقانوني متعدد الأوجه الذي راح يتطور على مدار سنوات عديدة. نظرا لاقتصار موارد مكتب ادعاء المحكمة، فربما يستفيد المكتب إذن من التواصل الأوسع مع منظمات المجتمع المدني والأطراف المهتمة الأخرى التي شاركت بقوة في موضوع الادعاءات العراقية، حتى يحسّن فهمه للتفاصيل والتعقيدات ذات الصلة بالأمر.
وأخيرا، على مكتب ادعاء المحكمة أن يبحث في أمر إضفاء طابع رسمي على إجراءات تعامله مع موجهي المراسلات. قد يشمل هذا إمدادهم بتقدير لطبيعة الردود التي استقبلها من الهيئات الحكومية، مع تعريفهم بالمعلومات التي يحتاجها المكتب في مراحل التحليل التالية التي هو مقبل عليها.
ملحق: التطورات الأساسية في دراسات الحالة
د. التسلسل الزمني لملف المملكة المتحدة
1 سبتمبر/أيلول 2001: بدء نفاذ قانون المحكمة الجنائية الدولية في المملكة المتحدة.
4 أكتوبر/تشرين الأول 2001: تصديق المملكة المتحدة على نظام روما الأساسي، المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، مع إعطاء المحكمة الاختصاص في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، المرتكبة على أراض بريطانية أو من قبل مواطنين بريطانيين، بدءا من 1 يوليو/تموز 2002.
1 يوليو/تموز 2002: بدء نفاذ نظام روما الأساسي.
20 مارس/آذار 2003: انضمام القوات البريطانية إلى غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة.
16 يوليو/تموز 2003: إعلان مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية عن استقباله مراسلات متصلة بانتهاكات مزعومة في العراق.
15 سبتمبر/أيلول 2003: وفاة بهاء موسى، عامل استقبال بفندق عراقي، رهن الاحتجاز من قبل القوات البريطانية بمدينة البصرة جنوبي العراق.
19 يوليو/تموز 2005: مواجهة 7 جنود بريطانيين بينهم العريف دونالد باين عدة اتهامات، منها اتهامات تحت طائلة قانون المحكمة الجنائية الدولية البريطاني، على صلة بإساءة معاملة مواطنين عراقيين أثناء احتجازهم، ومنهم بهاء موسى.
9 فبراير/شباط 2006: إغلاق مدعي المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو أول دراسة أولية لمكتب الادعاء في الادعاءات بانتهاكات للقوات البريطانية في العراق، قائلا إنه رغم وجود سند معقول للاعتقاد بارتكاب جرائم الحرب الخاصة بالقتل العمد والمعاملة اللاإنسانية، فأعداد الحالات غير كافية لتستأهل تدخل المحكمة الجنائية الدولية. ترك الباب مفتوحا أمام "إعادة النظر في القرار إذا ظهرت حقائق أو أدلة جديدة".
19 سبتمبر/أيلول 2006: إعلان العريف دونالد باين أنه مذنب بجريمة حرب بموجب قانون المحكمة الجنائية الدولية البريطاني، بسبب دوره في مقتل بهاء موسى. حُكم عليه بالسجن عاما واحدا في 30 أبريل/نيسان 2007. أعلن باين ذنبه بارتكاب معاملة لاإنسانية. في 14 فبراير/شباط، تم إسقاط الاتهامات عن 4 من بين 6 جنود آخرين، مع تبرئة الجنديين المتبقيين في 13 مارس/آذار 2007.
2 أغسطس/آب 2008: إنشاء هيئة عامة للتحقيق في وفاة بهاء موسى رهن الاحتجاز من قبل القوات البريطانية وإعداد التقارير عنها، وحول معاملة المدنيين العراقيين الذين كانوا محتجزين برفقته. بدأ التحقيق بموجب دعوى قضائية رفعها والد بهاء موسى، حيث طالب بفتح تحقيق عام في مقتل ابنه.
30 يوليو/تموز 2009: الإطلاق الرسمي لتحقيق عام برئاسة السير جون تشيلكوت، للنظر في أمر مشاركة المملكة المتحدة في العراق والخروج بدروس مستفادة.
9 نوفمبر/تشرين الثاني 2009: إطلاق الحكومة البريطانية لتحقيق السويدي للنظر في ادعاءات التعذيب والقتل غير القانوني لعراقيين إثر تبادل لإطلاق النار بين القوات البريطانية ومقاتلين من جيش المهدي عام 2004. تم إطلاق التحقيق للنظر في ادعاءات ضمن عملية مراجعة قضائية أخرى، بعد أن توصل القضاة إلى أن منهج وزارة الدفاع في الكشف عن الوثائق المطلوبة في القضية هو منهج "مؤسف". تم اختيار السير ثاين فوربس رئيسا للجنة.
فبراير/شباط 2010: بدء مؤسسة محامون للصالح العام – كوكلاء عن مجموعة من المدعين ضموا في نهاية المطاف أكثر من 100 عراقي – في دعاوى قانونية بمحكمة بريطانية للمطالبة بفتح تحقيق عام واحد في الادعاءات بارتكاب القوات المسلحة البريطانية التعذيب وإساءة المعاملة بحق المدعين أثناء احتجازهم في العراق في الفترة من 2003 إلى 2008. عُرفت هذه القضية فيما بعد باسم المدعي الأساسي فيها، علي زكي موسى.
1 مارس/آذار 2010: ردا على قضية علي زكي موسى، وبدلا من فتح تحقيق عام كامل، أنشأت الحكومة البريطانية فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق. الفريق يبدأ عمله في نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
21 ديسمبر/كانون الأول 2010: رفض محكمة بريطانية طلب المدعين في قضية علي زكي موسى بمراجعة قرار الحكومة القاضي بعدم فتح تحقيق شامل. وصدقت المحكمة على قرار الحكومة بأن "ننتظر ونرى" إذا كان ضروريا فتح تحقيق عام في الانتهاكات بحق المحتجزين العراقيين، وذلك على ذمة انتهاء تحقيقات فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق وتحقيقيّ بهاء موسى والسويدي.
22 مايو/أيار 2011: انسحاب آخر القوات البريطانية من العراق.
7 يوليو/تموز 2011: صدور حكم القضاة في قضية السكيني بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، برفض قول الحكومة البريطانية إن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لا تنطبق على سلوك المملكة المتحدة في العراق. جاءت هذه القضية في أعقاب المداولات القانونية التي بدأت بالمملكة المتحدة في 2004 وانتهت في 2007 بقرار من مجلس اللوردات. توصل القضاة إلى أن التحقيقات البريطانية في أعمال القتل غير القانونية المحتملة، في العراق، على يد عناصر من القوات المسلحة البريطانية، تنتهك الحق في الحياة، إذ إن من نفذوا هذه التحقيقات لم يكونوا مستقلين (أي خارج سلسلة القيادة العسكرية) عن الخاضعين للتحقيق.
8 سبتمبر/أيلول 2011: نشر تقرير تحقيق بهاء موسى. توصل التقرير إلى "إخفاقات مؤسسية" من قبل الجيش البريطاني فيما يخص منع استخدام تقنيات الاستجواب المحظورة.
22 نوفمبر/تشرين الثاني 2011: إثر ظهور ادعاءات من المدعين في قضية علي زكي موسى بأن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق غير مستقل، تتوصل محكمة استئناف إلى أن الفريق ليس مستقلا بالقدر الكافي لتلبية التزام المملكة المتحدة بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، بسبب مشاركة أعضاء من الشرطة العسكرية الملكية فيه.
1 أبريل/نيسان 2012: إعادة تنظيم فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق بنقله من الخضوع لإشراف الشرطة العسكرية الملكية إلى شرطة البحرية الملكية، ردا على حكم محكمة بأنه غير مستقل بالقدر الكافي. هو مُكلف بالمتابعة بشأن تقرير تحقيق بهاء موسى وبشأن حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الخاص بقضية السكيني.
23 أكتوبر/تشرين الأول 2012: الفريق العامل المعني بالمشاكل المنهجية بوزارة الدفاع يبدأ في الإشراف على إدارة سياسة التواصل مع القضاء بوزارة الدفاع، في استعراضها للمشاكل المنهجية وتقارير فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق حول الموضوع.
2 أكتوبر/تشرين الأول 2013: تعيين القاضي ليغات "قاضي إدارة قضايا" (قاضيا تمهيديا) للإشراف على مختلف الادعاءات الخاصة بإساءة المعاملة المزعومة من قبل القوات البريطانية في العراق.
10 أكتوبر/تشرين الأول 2013: حكمت محكمة عليا – إثر مراجعة قضائية إضافية طلبها المدعون في قضية علي زكي موسى سعيا إلى فتح تحقيق عام شامل – بأن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق ليس مستقلا بالقدر الكافي بما يمكنه من تولي التحقيقات للوفاء بالتزامات المملكة المتحدة بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. في الوقت نفسه، قررت المحكمة ضرورة إنشاء عملية مماثلة لتقارير الطب الشرعي – تُعرف الآن بمسمى التحقيقات في الوفيات العراقية – للوفاء بالتزام المملكة المتحدة بالتحقيق في قضايا العراقيين المتوفين رهن الاحتجاز من قبل القوات البريطانية.
10 يناير/كانون الثاني 2014: تقديم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ومؤسسة محامين للصالح العام مراسلة مطولة إلى ادعاء المحكمة الجنائية الدولية حول المعاملة السيئة المزعومة للمحتجزين العراقيين والقتل غير القانوني على يد القوات البريطانية في العراق من 2003 إلى 2008.
13 مايو/أيار 2014: إعلان مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية عن إعادة فتح دراسته الأولية الخاصة بادعاءات انتهاكات القوات البريطانية في العراق.
5 يونيو/حزيران 2014: تقديم رئيس التحقيقات في الوفيات العراقية المشكلة حديثا، السير جورج نيومان، كلمته الافتتاحية.
24-26 يونيو/حزيران 2014: تنفيذ مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية أولى بعثاته إلى المملكة المتحدة ومقابلة فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق والادعاء العسكري.
17 ديسمبر/كانون الأول 2014: نشر تقرير تحقيق السويدي، وفيه رفض لأغلب الادعاءات الخطيرة بقتل محتجزين عراقيين خارج القانون، مع التوصل إلى أدلة على معاملة سيئة للمحتجزين العراقيين على يد قوات بريطانية.
12 يناير/كانون الثاني 2015: إعلان الهيئة التنظيمية للمحامين –إثر إصدار تقرير السويدي – عن فتح تحقيق في مخالفات مهنية تمس كل من مؤسسة محامين للصالح العام ولي داي.
7 أبريل/نيسان 2015: تقديم السلطات البريطانية رد على الادعاءات الواردة في مراسلة مؤسسة محامين للصالح العام والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان بتاريخ يناير/كانون الثاني 2014.
7 مايو/أيار 2015: اجتماع فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق ووزارة الخارجية والكومنولث بمسؤولين من مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وأثناء الاجتماع قدم الوفد البريطاني إجابات شفاهية على الأسئلة المكتوبة التي أرسلها مكتب الادعاء.
1-2 أكتوبر/تشرين الأول 2015: تنظيم مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية زيارة إلى مقر مؤسسة محامين للصالح العام في المملكة المتحدة لفحص الأدلة والمواد الداعمة لادعاءات المؤسسة.
5 أكتوبر/تشرين الأول 2015: تيريزا ماي تقول في إحدى أولى خطبها الكبرى كرئيسة وزراء بريطانيا: "لن نسمح مطلقا في أي نزاع في المستقبل لهؤلاء المحامين الحقوقيين الناشطين من اليسار بالتحرش بأشجع الشجعان ومضايقتهم: رجال ونساء قواتنا المسلحة".
23 أكتوبر/تشرين الأول 2015: انعقاد اجتماع آخر لمسؤولي فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق ووزارة الخارجية والكومنولث مع مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
1 يناير/كانون الثاني 2016: قول مارك وارويك رئيس فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق في مقابلة إعلامية إن هناك "أدلة كافية يمكن استخلاصها لتبدأ هيئة الادعاء العسكري في الملاحقة القضائية ونسب الاتهامات".
6 يناير/كانون الثاني 2016: الهيئة التنظيمية للمحامين تحيل لي داي إلى المحكمة التأديبية للمحامين.
أبريل/نيسان 2016: إصدار المحامي العام توجيهاته للقاضي المتقاعد والمدير السابق للادعاء العام السير ديفيد كالفيرت-سميث بإجراء مراجعة مستقلة لأعمال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
7 أبريل/نيسان 2016: قيام الهيئة التنظيمية للمحامين بإحالة مؤسسة محامين للصالح العام إلى المحكمة التأديبية للمحامين.
28 أبريل/نيسان 2016: قيام لجنة الدفاع بمجلس العموم البريطاني بتكليف لجنة فرعية برئاسة النائب وضابط الجيش البريطاني المتقاعد جوني ميرسر، بفحص مدى دعم وزارة الدفاع لأفراد القوات المسلحة السابقين والحاليين الخاضعين لإجراءات قضائية، لا سيما من خلال فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
4 يوليو/تموز 2016: نشر مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بيان يصحح بعض الادعاءات التي وردت في مقال نُشر بصحيفة "ذا تليغراف".
6 يوليو/تموز 2016: نشر تقرير تحقيق تشيلكوت. رغم نظر التحقيق في احتمال فحص مشاكل منهجية محتملة متصلة باحتجاز ومعاملة المحتجزين في العراق، فقد قرر العدول عن هذا الفحص، بدعوى عدم تكرار الإجراءات التي تقوم بها أطراف أخرى.
31 أغسطس/آب 2016: إغلاق مؤسسة محامين للصالح العام بعد تجريدها من تمويل المساعدة القانونية.
15 سبتمبر/أيلول 2016: قيام السير ديفيد كالفرت-سميث بنشر تقريره الخاص بمراجعة أداء فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
14 ديسمبر/كانون الأول 2016: إخبار وزير الدفاع مايكل فالون اللجنة الفرعية المعنية بالدفاع أن عدد الدعاوى أمام فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سينحسر إلى 250 دعوى بحلول يناير/كانون الثاني 2017 وإلى 60 بحلول أواسط 2017.
2 فبراير/شباط 2017: قيام المحكمة التأديبية للمحامين بشطب فيل شاينر من سجل نقابة المحامين، مع حرمانه من مزاولة المحاماة.
10 فبراير/شباط 2017: نشر لجنة الدفاع بمجلس العموم تقريرا حول فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق أوصت فيه بإنهاء أعماله بعد تراجع عدد الدعاوى التي ينظرها إلى 60.
10 فبراير/شباط 2017: إعلان وزير الدفاع مايكل فالون أن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سيصفي أعماله بحلول صيف 2017.
13-14 فبراير/شباط 2017: تنظيم مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية زيارته الثالثة إلى المملكة المتحدة.
5 أبريل/نيسان 2017: تأكيد وزير الدفاع مايكل فالون أن فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق سنهي نشاطه رسميا في 30 يونيو/حزيران 2017 مع إحالة أية قضايا عالقة – ومتوقع أن تكون في حدود 20 قضية – إلى الشرطة العسكرية لتحقق فيها.
21 أبريل/نيسان 2017: تقديم الحكومة البريطانية ردها على تقرير لجنة الدفاع حول فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
9 يونيو/حزيران 2017: إعلان المحكمة التأديبية للمحامين براءة لي داي من مزاعم ارتكاب مخالفات مهنية.
29 يونيو/حزيران 2017: المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان يوجه رسالة إلى مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية يعرب فيها عن قلقه إزاء قرار فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق بوقف تحقيقاته في مئات القضايا.
30 يونيو/حزيران 2017: توقف فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق عن التحقيق في ادعاءات الانتهاكات بحق مدنيين عراقيين على يد القوات المسلحة البريطانية من 2003 إلى 2009. إحالة التحقيقات الباقية إلى الشرطة العسكرية ضمن "التحقيقات المُحالة للشرطة العسكرية".
1 سبتمبر/أيلول 2017: المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان يوجه رسالة إلى مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية يدعوه فيها إلى فتح تحقيق رسمي.
13 سبتمبر/أيلول 2017: نشر وزارة الدفاع البريطانية آخرتحديثين حول نشاط فريق الادعاءات التاريخية الخاصة بالعراق.
4 ديسمبر/كانون الأول 2017: أعلن مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية يعلن عن وجود أسانيد معقولة للاعتقاد بارتكاب عناصر من القوات المسلحة البريطانية لجرائم حرب، وهو ما يدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشأن العراق، بحق أشخاص محتجزين من قبلهم، بما يشمل أعمال القتل العمد، والتعذيب، والمعاملة اللاإنسانية/القاسية، والاغتصاب، وأشكال أخرى من العنف الجنسي. يعكس هذا الاستنتاج قرار مكتب ادعاء المحكمة بالانتقال رسميا في دراسة الوضع الخاص بالمملكة المتحدة والعراق إلى المرحلة 3.