تحقيق العدالة من أجل سوريا

ضابط مخابرات مزعوم في ألمانيا

الصورة 1: صور لسوريين احتُجزوا أو تم إخفاؤهم وضعتها منظمة "أسر من أجل الحرية" كجزء من احتجاج أمام المحكمة في كوبلنز في 2 يوليو/تموز 2020. © 2020 ألكسندر ساتور
الصورة 2: القاضية آن كيربر (وسط) تقف في إحدى قاعات المحكمة الإقليمية في كوبلنز بألمانيا في 4 يونيو/حزيران 2020. © 2020 توماس لونيس/بيكتشر-أليانس/دي بي آيه/أسوشيتد برس

كان يوما باردا ملبدا بالغيوم من فبراير/شباط 2015 عندما دخل أنور ر. إلى مركز شرطة في برلين لتقديم شكوى. قال أنور ر.، ضابط المخابرات العسكرية السورية السابق الذي يعيش الآن في ألمانيا، إنه يعتقد أن عملاء الحكومة السورية كانوا يتتبعونه في برلين. أعرب عن خشيته من أن يُختَطَف، وفي أسفل شكواه المكتوبة، وقّع اسمه مستخدما لقبه العسكري - "عقيد".

لم تتمكن الشرطة من العثور على دليل على أنه مُلاحَق، لكنها درست بعناية التفاصيل الدقيقة التي شاركها أنور ر. حول مهنته الاستخباراتية المزعومة.

اليوم، أنور ر. (58 عاما) يحاكَم في كوبلنز، مدينة صغيرة غرب ألمانيا، بتهمة ارتكاب جرائم مزعومة ضد الإنسانية قبل انشقاقه عام 2012.  بدأت المحاكمة في أبريل/نيسان 2020 حيث اتُهم بـ  4 آلاف واقعة تعذيب، و58 جريمة قتل، وبالاغتصاب والاعتداء الجنسي، بينما كان يترأس تحقيقات في منشأة استخبارات عسكرية تُعرف بـ "الفرع 251" في دمشق. من المتوقع إصدار الحكم بشأن الإدانة والعقوبة في يناير/كانون الثاني.

أنور ر. (تتطلب قوانين الخصوصية في ألمانيا إخفاء الاسم الكامل للمتهم) هو أكبر مسؤول حكومي سوري سابق مزعوم يُحاكم في أوروبا على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا.

هذه المحاكمة جاءت بفضل مزيج من المبادرات الفردية، والجهود الجماعية الدؤوبة، والتكنولوجيا المبتكرة - والصدفة والهفوات البشرية.

لكن مسرح محاكمة كوبلنز كان مُعدّا قبل وقت طويل من اعتقال أنور ر. عام 2019. كانت السلطات الألمانية تحقق في الجرائم في سوريا منذ بدء الانتفاضة في البلاد عام 2011. ثم في 2015، وصلت أعداد كبيرة من السوريين من مختلف مناطق سوريا إلى ألمانيا. أثناء البحث عن بداية جديدة في وطن جديد، لم يكن محو تاريخهم في سوريا التي مزقتها الحرب ممكنا. هذا يعني أيضا أن الضحايا والشهود والأدلة المادية - وحتى بعض المشتبه بهم - غير المتوفرين سابقا- أصبحوا في متناول السلطات القضائية الأوروبية.

عنصر أساسي آخر: تسمح قوانين ألمانيا بمحاكمة الجرائم الخطرة هناك، حتى دون وجود صلة لألمانيا بالجرائم، وهو مبدأ يُعرف باسم "الولاية القضائية العالمية". قد يبدو حدوث هذه المحاكمة محض صدفة.

هذه المحاكمة فريدة من نوعها أيضا.

بعد قرابة عقد على اندلاع الحرب، انتهى القتال في سوريا تقريبا. أحكم الرئيس بشار الأسد ومسؤولون حكوميون آخرون قبضتهم على السلطة واستعادوا السيطرة على معظم البلاد. بالتالي عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية الجنائية عن الجرائم في سوريا، تعتبر فكرة المحاكمات العادلة داخل البلاد بعيدة المنال. في الوقت نفسه، محاولات إشراك "المحكمة الجنائية الدولية" أو المحاكم الدولية الخاصة قد أُحبِطَت. مع انعدام المساءلة، تستمر الانتهاكات الجسيمة من قبل جميع الأطراف دون رادع. العدالة الهادفة في سوريا - أقلّه حاليا - غير ممكنة. 

إذن، لماذا تعتبر القضية المرفوعة ضد عميل استخباراتي مزعوم متوسط ​​المستوى على بعد آلاف الأميال من مكان وقوع الفظائع مهمة؟

المحاكمة

أ- الشاهد

دخل عامر مطر، صحفي ومخرج وثائقي سوري، إلى قاعة المحكمة في كوبلنز لمواجهة الرجل الذي زعم أنه عذّبه قبل عقد من الزمن. كان ذلك في 7 أبريل/نيسان 2021 – اليوم الـ 67 من جلسات محكمة أنور ر.

جلس مطر (34 عاما) إلى طاولة مقابل القضاة الخمسة. كان أنور ر. عن يمينه على طاولة أخرى.

قال مطر لـ "هيومن رايتس ووتش" في أكتوبر/تشرين الأول 2021: "اتخذت قرارا واعيا منذ البداية بعدم توجيه أي من كلامي أو أي من شهادتي تجاه أنور ر. أخبرنا أيضا أنه يكتم منذ زمن ما حدث له في الفرع 251. لكن في المحكمة، وبينما كان يستعد لمخاطبة القضاة، تلاشت تفاصيل الغرفة - النوافذ الطويلة، والفواصل الشفافة الموضوعة بين المكاتب بسبب تفشي فيروس "كورونا"، والجدار المكسو بالكتب خلف القضاة. قال: "عدت إلى السجن وإلى الزنزانة وإلى سوريا".

Amer Matarعامر مطر

عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العاصمة السورية دمشق في أوائل 2011، ألقى مطر بنفسه في المعركة، وأدلى بشهادته في المحكمة، وغطى المظاهرات وناقشها على شاشات التلفزيون.

ثم في 28 مارس/آذار من ذلك العام، قال للمحكمة إن قوات الأمن داهمت منزله. في تلك اللحظة، اعتقد مطر أن حياته انتهت. ضربته قوات الأمن السورية وأهانته وبحثت في كل مكان. قال إنه اعتُقل واستُولي على حاسوبه المحمول ومعدات أخرى قبل تفتيشها. ثم قال إنه نُقل إلى الفرع 251.

شهِد مطر بأن قوات الأمن عثرت في حاسوبه المحمول على صورة التقطها لـ أنور ر.

في تلك اللحظة، قال مطر إنه يعرف أنور ر. شكلا وليس اسما.

قال في المحكمة إن أنور ر.  كان في فبراير/شباط 2011 من بين الضباط الذين ضايقوا اثنين من أصدقائه. قال إنهما كانا يخططان للتظاهر قرب البرلمان في دمشق. عندما بدأ بعض الضباط في ضرب أصدقائه، قال مطر إنه مشى إلى أنور ر.، الذي كان يقف بالقرب منه، وطلب منه التدخل.  بدلا من ذلك، ضربه أنور ر. هو أيضا، على حد قوله.

بعد فترة وجيزة من هذه المواجهة المزعومة، قال مطر إنه شاهد أنور ر. في جنازة المخرج الوثائقي السوري عمر أميرالاي، أحد منتقدي الحكومة السورية المعروفين. قال مطر إنه التقط صورة لأنور ر. وحفظها على حاسبه المحمول باسم "الشرير".

شهِد مطر بأنه كان خائفا وعصبيا حيال التقاط تلك الصورة، وأوضح أن مجرد حضور الجنازة كان مخاطرة، لأن تصوير عناصر الأمن ليس بالأمر الهيّن في سوريا.

بمجرد بدء الاحتجاجات في مارس/آذار 2011، كان ضباط الأمن، بمن فيهم أنور ر.، يحضرون المظاهرات، اشتبه مطر في أنهم يريدون حفظ وجوه المتظاهرين، حسبما قال لـ هيومن رايتس ووتش عام 2020.

قال مطر إنه احتُجز في الفرع 251 في غرفة تحت الأرض ليس بها إنارة طبيعية. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه "أُهين، وعُصبت عينيه، وكُبِّلت يديه وضُرب من عدة أشخاص".

عامر مطر يحمل لافتة مكتوب عليها بالعربية، "قبل 10 سنين كنت سجين في فرع الخطيب... واليوم أحاكم سجاني...".  7 آبريل 2021. © 2021

شبّه التجربة بـ "الدفن في قبر" وقال: "تتعرض للتعذيب دون منطق."

قال في المحكمة إن المحققين ضربوه في البداية بكبل، ثم استخدموا السوط لاحقا. توسّل إليهم أن يتوقفوا. وفي إحدى المرات، قال إن المحققين أمروه بالوقوف، لكنه لم يقوَ على ذلك.

كان يسمع صراخ المعتقلين في غرف الاستجواب الأخرى طوال الوقت.

قال مطر للمحكمة إنه احتُجز في عدة زنازين داخل الفرع 251، بعضها كان يضم 20 أو 30 شخصا.

لم يكن هناك مساحة كافية. كان البعض يقف أحيانا حتى يتمكن الآخرون من النوم، وفقا لشهادة مطر. كان الحراس أحيانا لا يتركونهم ينامون، وهو ما وصفه بالتعذيب النفسي. قال إنه كان يرى أشخاصا في زنازين أخرى مقيدي اليدين إلى قضبان النوافذ، مما منعهم من الجلوس.

ذات مرة قال إنه كان معصوب العينين، وسأله أحد المحققين: "صورة من هذه على كومبيوترك المحمول؟". قال مطر إنه أجاب: "لا أعرف".

خلع الرجل العصابة عن عيني مطر، ووصفه بـ "ابن العاهرة" وضربه على وجهه.  كان أنور ر.، كما أوضح مطر للمحكمة.

بحسب مطر، أعاد أنور ر. عصابة عيني مطر، وقال مطر إنه في تلك المرحلة كان يخشى على حياته.

لكنه نجا. بعد 12 أو 13 يوما في الفرع 251، نُقل مطر إلى سجن آخر، على حد قوله. بعد أيام قليلة، نُقل مع نحو 100 معتقل آخرين إلى فناء السجن، حيث وصفهم المسؤولون بالخونة والمجرمين، ثم أخبروهم أنهم طُلقاء بعفو رئاسي. قال مطر للمحكمة إنهم نُقلوا إلى حافلات، وإنه ذهب إلى شقة أحد الأصدقاء، ولم يعد إلى منزله بعد ذلك.

وصل إلى ألمانيا عام 2012.

قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الإدلاء بشهادته في محاكمة أنور ر. كان "من أصعب التجارب التي مررت بها على الإطلاق". أجبره ذلك على "مواجهة الماضي من جديد". قال إنه عانى من الشقيقة لأسابيع بعد الإدلاء بشهادته.

لكنه قال إن الشهادة شيء يجب على السوريين أمثاله الذين يريدون "الحقيقة والمصالحة" أن "يمروا به".

الخلفية

قتلت الحرب في سوريا أكثر من 350 ألف شخص، وأجبرت أكثر من 12 مليون على ترك منازلهم، وتركت أكثر من 12.3 مليون سوري يعانون من الجوع. بينما ارتكب الفرقاء من جميع أطراف النزاع جرائم خطيرة، تعتبر الحكومة السورية والقوات الموالية لها مسؤولة عن غالبية الفظائع المرتكبة ضد المدنيين.

نساء يسرن في حي تضرر بشدة من الغارات الجوية في إدلب بسوريا، 12 مارس/آذار 2020. محافظة إدلب هي آخر منطقة خاضعة لسيطرة المعارضين للحكومة في سوريا. © 2020 أسوشيتد برس/فيليبي دانا

هناك عنف فوق الأرض: قصف المستشفيات والأسواق والمدارس، وكذلك الهجمات القاتلة بالأسلحة الكيماوية ضد المدنيين بمن فيهم الأطفال. لكن هناك أيضا عنف لا يمكن رؤيته بسهولة: السجون المخفية ومراكز التعذيب، التي اختفى فيها عشرات الآلاف من السوريين - ظهروا منها بعد سنوات أحيانا، وأحيانا أخرى لم يُسمع منهم مرة أخرى.

استمعت المحكمة إلى شهادات عن التعذيب وغيره من الانتهاكات التي تُرتكب في مراكز الاحتجاز التابعة للمخابرات. سمٍع القضاة أثناء المحاكمة أنه منذ بدء عهد حافظ الأسد عام 1971، ساعدت أجهزة مخابرات الدولة في تثبيت حكم الحكومة. راقب ضباط المخابرات السكان، وأجروا عمليات تفتيش واعتقالات واستجوابات، ومنها ما اتسم بالعنف.  تتبعوا أنشطة الجماعات الدينية والجامعات والشركات. كانت الدوائر داخل أجهزة المخابرات تُعرف بأرقامها المكوّنة من ثلاث خانات.

كان الفرع 251 واحدا من 27 مركز احتجاز تديرها أجهزة استخبارات سورية حددتها هيومن رايتس ووتش وكانت موجودة بين 2011 و2012، عندما كان أنور ر. في سوريا. (هذا التقرير وتقرير آخر أعدتهما هيومن رايتس ووتش أشير إليهما في المحكمة). لأن الفرع 251 كان يقع في حي الخطيب داخل دمشق، أطلق عليه الناس في كثير من الأحيان بشكل غير رسمي اسم "فرع الخطيب". وفقا لشهود في كوبلنز، كان سجن الفرع وغرف الاستجواب في الطابق السفلي من المبنى.

ب - المتهم

أنور ر. متهم بلعب دور في هذا الجزء السري من آلة الحرب والقمع لدى بشار الأسد. علمت المحكمة في كوبلنز أنه انضم إلى المخابرات السورية عام 1993. منذ 2006 وحتى 2008، عمل في المخابرات قبل نقله إلى الفرع 251. قال شهود للقضاة إنه في يناير/كانون الثاني 2011 كان رئيس التحقيق في مركز الاعتقال.

المتهم أنور ر. يصل إلى المحكمة في كوبلنز يوم 23 أبريل/نيسان 2020 لمحاكمة غير مسبوقة بشأن التعذيب الذي ترعاه الدولة في سوريا. © 2020 توماس لونز/ أ ف ب عبر غيتي إيمجز

فر من سوريا في 2012 بعد مذبحة في مسقط رأسه في الحولة بمحافظة حمص، وبعد مقتل أحد أحفاده، كما علمت المحكمة. في ذلك الوقت، كانت العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غارقة في اضطرابات سياسية كبيرة. الاحتجاجات أطاحت بالحكومة في تونس في أوائل 2011. بعد فترة وجيزة، سقطت الحكومة المصرية القائمة منذ عقود، واعتُقل الزعيم الليبي معمر القذافي وقُتل.

استمعت المحكمة إلى أنه هرب بداية مع عائلته إلى الأردن في ديسمبر/كانون الأول 2012، وفقا لشهادة في المحكمة. سمعت المحكمة أنه انضم إلى المعارضة وفي 2014 شارك في مؤتمر سلام في جنيف كممثل للمعارضة. في نفس العام، وبناء على توصية من زعماء المعارضة السوريين، منحته وزارة الخارجية الألمانية تأشيرة.

خلال محاكمته، لم يصعد أنور ر. إلى المنصة مطلقا. لكن في 18 مايو/أيار 2020، اليوم الخامس من جلسات الاستماع، قرأ محاموه بيانا مُعدا للمحكمة. ذكر أنور ر. فيه نحو 20 شخصا اعتمد المدعون العامون على أقوالهم في بناء قضيتهم، ثم حاول نفي رواياتهم. قالت ريم علي، فنانة سورية، إن أنور ر. استجوبها، وفقا للبيان. زعم أنور ر. أنهما تجاذبا أطراف محادثة ودية واحتسيا القهوة وأنه لم يستجوبها. قال هـ. محمود إن أنور ر. ضربه، وقال أنور ر. إن ذلك غير صحيح.  ادعى شاهد مجهول الهوية أنه احتُجز 45 يوما وشاهد سجينا يموت كل يوم. قال أنور ر. إنه كان في مكتبه فقط.

قرأ محامي أنور ر. "لم تكن لدي أي علاقة بالتعذيب".

 باتريك كروكر، المحامي المنتسب إلى "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" ومقره برلين والذي يمثل عددا من السوريين في محاكمة أنور ر.، "فوجئ" بأن تصريح أنور ر. كان مجرد "دحض قاطع" للجرائم المتهم بارتكابها. لكنه قال لـ هيومن رايتس ووتش إن "من حقه" الإدلاء بهذه التصريحات.

Patrick Krokerباتريك كروكر

أنور ر. ليس أول مسؤول حكومي مزعوم سابق يحاكَم في ألمانيا. حوكم مع إياد أ.، موظف أقل مستوى من الفرع 251، والذي حُكم عليه في 24 فبراير/شباط 2021 بالسجن 4 سنوات و6 أشهر للمساعدة والتحريض على جرائم ضد الإنسانية لدوره في نقل المتظاهرين إلى الفرع 251، رغم علمه بالتعذيب الممنهج هناك.

المتهم إياد غ.، مختبئا وراء ملف، يقف في محكمة في كوبلنز يوم 24 فبراير/شباط 2021 لسماع الحكم ضده بشأن الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في النزاع السوري. © 2020 توماس لونز/ أ ف ب عبر غيتي إيمجز

قال القضاة إن مشاركة إياد أ. للمعلومات حول الهيكل الداخلي للفرع 251 ودور أنور ر. كان عاملا مخففا في إصدار الحكم، لأنه كان دليلا قيما ساهم في إدانة أنور ر.

جـ- المحامي

كان لدى أنور البني، الناشط والمحامي السوري، معلومات سرية خاصة به حول التعذيب في مرافق المخابرات السورية، ويقول إنه كان يعلم بأمر أنور ر. قبل فترة طويلة من محاكمة كوبلنز، عندما شهد أمام المحكمة في 4 و5 يونيو/حزيران 2020.

في 2006، اعتُقل البني في دمشق.  اقتاده رجال إلى شاحنة وضربوه.  رغم أنه لم يضرب البني قط، إلا أن أنور ر. كان أحد هؤلاء الرجال، على حد قول البني في المحكمة.

البني، المولود عام 1959 لعائلة سياسية في محافظة حماة في سوريا، قال لباحثة هيومن رايتس ووتش إنه دخل معمعة النشطاء في سن مبكرة، وإن عمله في الدفاع عن السجناء السياسيين جعله هدفا لنظام الأسد.

بعد هذا الاعتقال عام 2006، سُجن البني خمس سنوات، حتى مايو/أيار 2011. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه تعرض للتعذيب أثناء الاحتجاز.

هربت عائلته من سوريا ووصل البني إلى ألمانيا بعد فترة وجيزة. قال البني إنه بعد ذلك بوقت قصير، كان هو وزوجته يتسوقان قرب مركز مارينفيلدي للاجئين في برلين حيث يعيشان، عندما لمح شخصا ظنّه مألوفا للغاية، لكنه لم يحدد هويته.

لم تتضح الأمور للبني سوى لاحقا، عندما أخبره أحد الأصدقاء أن أنور ر. يقيم أيضا في مارينفيلدي.  قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الرجل كان أنور ر.

Anwar al-Bunniأنور البني

واصل البني نشاطه في ألمانيا، وواصل، مثل غيره من السوريين في أوروبا، بمن فيهم المحامي مازن درويش الذي شهِد في كوبلنز، السعي لتحقيق العدالة في سوريا. قال إنهما عملا مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وجمعا شهادات عن الانتهاكات من السوريين لمشاركتها مع الشرطة والمدعين العامين الألمان الذين حققوا في الجرائم الخطيرة المرتكبة في الخارج. في 2017، قدم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان شكوى جنائية إلى السلطات الألمانية نيابة عن العديد من السوريين ضد ستة مسؤولين سوريين رفيعي المستوى منهم علي مملوك، الذي يُزعم أنه أشرف، بصفته رئيس "مكتب الأمن الوطني" والمستشار الشخصي للأسد، على مرافق الاحتجاز الاستخباراتية في البلاد.

ردا على سؤال حول مشاهدته لأنور ر. في برلين، قال البني: "الأمر ليس شخصيا، لا علاقة له باعتقاله أو ضربه لي من عدمهما، بل يتعلق بالنظام وما يفعله".

النضال من أجل العدالة

ما فعلته الحكومة السورية هو تدمير أحياء بأكملها بالبراميل المتفجرة، واستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد آلاف المدنيين.  من أجل استعادة السيطرة على الأراضي، أقامت الحكومة السورية تحالفات مع القوات الروسية والإيرانية، والتي استخدمت جميعها بشكل مروّع تكتيكات غير قانونية. اتُهمت القوات السورية والروسية بارتكاب جرائم خطيرة، وكذلك أطراف أخرى في النزاع مثل الموالون لـ "تنظيم الدولة الإسلامية" (المعروف أيضا بـ’داعش‘) و و"القاعدة".

أجبِر أكثر من 5 ملايين سوري على الفرار من البلاد بسبب الحرب، يعيش معظمهم في تركيا والأردن ولبنان. نزح 6.8 مليون سوري آخر داخليا - أي أكثر من نصف إجمالي سكان سوريا عام 2010. اليوم، أكثر من 80٪ من السكان يعيش تحت خط الفقر.

صورة التُقطت بطائرة بدون طيار في 21 أبريل/نيسان 2020 تُظهر صورة عامة لمخيم النازحين قرب قاح، في محافظة إدلب الشمالية قرب الحدود مع تركيا. © 2020 عمر حاج قدور/وكالة فرانس برس

ليس هناك ما يشير إلى أن الحكومة السورية ستوقف العنف أو ستقوم بإصلاحات، خاصة مع استعادة حكومة الأسد للاعتراف الدبلوماسي بشكل متزايد. دول عديدة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، أعادت علاقاتها مع الأسد، بينما أعاد الأردن الاتصال على أعلى مستوى وأعاد فتح حدوده مع سوريا.

إجراء محاكمة مثل محاكمة أنور ر. في سوريا اليوم أمر بعيد المنال. حُظرت مسارات أخرى للعدالة أيضا.  المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ليس لديها ولاية تلقائية لأن سوريا ليست عضوا في المحكمة. يمكن "لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة"، الهيئة المسؤولة عن الحفاظ على السلام والأمن، أن يمنح المحكمة هذا الاختصاص، لكن الصين وروسيا استخدمتا حق النقض ضد هذا الإجراء عام 2014.

هذا يجعل المحاكمات الوطنية في البلدان الأجنبية الوسيلة الوحيدة للعدالة الجنائية في هذا الوقت.

رُفعت القضية ضد أنور ر. في ألمانيا لأن الدولة تعترف بالولاية القضائية العالمية. هذا يمنح السلطات الألمانية سلطة التحقيق في بعض الجرائم الأكثر خطورة ومقاضاة مرتكبيها، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مكان ارتكابها وبغض النظر عن جنسية المشتبه بهم والضحايا.

Alexander Suttorألكسندر ساتور

ألمانيا واحدة من عدة دول في العالم، مثل السويد وهولندا وفرنسا، لديها قوانين من هذا النوع.

 ألمانيا، بالطبع، لها تاريخها الخاص في الجرائم الخطيرة. قال كلاوس كريس، أستاذ القانون الدولي والجنائي في جامعة كولون، إن محاكمات نورمبرغ كانت "ثورة في المفهوم الحديث للقانون الجنائي الدولي"، في إشارة إلى محاكمات 1945 - 1946 التي حاسبت الألمان على جرائم ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية.

Claus Kressكلاوس كريس

التجهيز للمحاكمة

تقع محكمة كوبلنز في شارع بالقرب من نقطة التقاء نهري الراين وموزيل، على مسافة ليست بعيدة من قلعة بروسية تعود للقرن التاسع عشر، وعلى بُعد مسافة قصيرة سيرا على الأقدام من منطقة المدينة القديمة التي تعود إلى العصور الوسطى. وهي أعلى محكمة في ولاية راينلاند-بالاتيناته الألمانية. كوبلنز مدينة أكثر هدوء، ومن المؤلم "الخروج إلى هذا المشهد الشاعري بعد سماع شهادة وحشية في قاعة المحكمة"، على حد قول ألكسندر ساتور، المحامي في " كليفورد تشانس"، شركة قانونية راقبت المحاكمة نيابة عن هيومن رايتس ووتش.

مبنى المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، ألمانيا. © 2021 توماس فراي/بيكتشر أليانس عبر غيتي إيميجز

اعتمدت محاكمة أنور ر. على أدلة جُمعَت ودُعمَت بصعوبة، إثر غربلة دقيقة للحقائق من مصادرها.

إضافة لمقابلة الشهود، احتاج محققو الشرطة إلى تحديد سياق جرائم أنور ر. المزعومة. ماذا كان يحدث في سوريا في عامي 2011 و2012؟

وثّق الكثير من الأشخاص الحرب في سوريا: باحثو حقوق الإنسان، والصحفيون، ومحققو الأمم المتحدة، ومحققو الشرطة، فضلا عن المنظمات السورية غير الحكومية مثل "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، و"المركز القانوني السوري"، و"منظمة ملفات قيصر".

منذ إنشائها من قبل "مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة" في 2011، جمعت "لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا" العديد من المواد - مقابلات مع الناجين، وتقارير الطب الشرعي، ومقاطع الفيديو، وصور الأقمار الصناعية - لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا. تقريران، أحدهما يعود لـ 2011 والآخر لـ 2012، قُرِآ في المحكمة في كوبلنز.

قال جيمس رودهفر، المنسق السابق "للجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا"، والذي يعمل الآن في ميانمار: "تحاول بذل قصارى جهدك لإعلاء أصوات الضحايا". وثّق هو وفريقه انتهاكات حقوقية وخروقات قوانين الحرب عبر استجواب عدد مهول من الشهود وتأييد رواياتهم، وحيثما أمكن، تحديد الأطراف المسؤولة عن الجرائم الموثقة.

الأمم المتحدة، والعديد من المجموعات الأخرى التي توثق الجرائم في سوريا، استخدمت التكنولوجيا بطرق مبتكرة. مثلا، اعتمدت هيومن رايتس ووتش، التي أعدت تقريرين أُشير إليهما في المحكمة، على مواد مفتوحة المصدر وصور الأقمار الصناعية لتوثيق ما عرفنا بحدوثه في السجون الاستخباراتية والجرائم المرتكبة في سوريا والتي لم تتم محاكمتها في كوبلنز مثل الهجمات بالأسلحة الكيماوية والمذابح. تواصلنا أيضا عبر سكايب مع شهود على هذه المجازر واستخدمنا "غوغل إيرث" الذي يعرض صورا جوية وأرضية المدن - لاطلاع الشهود على ما حدث.

قالت ديانا سمعان، مساعدة أبحاث سابقة في هيومن رايتس ووتش، وهي الآن باحثة سوريا في "منظمة العفو الدولية": "كنت أطلب منهم أن يبينوا لي على الخارطة" أين رأوا قوات الأمن أو الجثث. ثم يقوم فريق هيومن رايتس ووتش بتحديد الموقع الجغرافي والتقاط صور الأقمار الصناعية للموقع.

Diana Semaan — ديانا سمعان

لكن كيف ساعدت هذه الأدلة في تقديم رجل انتهى به المطاف في ألمانيا للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا؟

أ. محققو الشرطة

من المفيد أن يثير المُرتكب بنفسه اهتمام الشرطة الألمانية.

في 30 أغسطس/آب 2017، أجرى مارتن هولسكي، كبير مفتشي شرطة ولاية بادن فورتمبيرغ، مقابلة مع أنور ر. لجمع أدلة ضد سوري آخر يشتبه بإطلاقه النار على مدنيين خلال مظاهرة في حماة، حسبما قال هولسكي في شهادته بالمحكمة. قال له أنور ر إنه في الأيام الأولى للانتفاضة، اعتقل "الحرس الجمهوري" السوري 17,500 شخص ومررهم عبر فرع أنور ر، وإنهم استُجوبوا وأفرج عن غالبيتهم بينما سُجن وعُذب آخرون.

شهد هولسكي أنه عندما سأل أنور ر بشكل أكثر تحديدا عن التعذيب، أجاب أنور ر: "مع هذا العدد الكبير من الاستجوابات في يوم واحد، لا يمكنك دائما أن تكون مهذبا. مع الجماعات المسلحة، عليك أحيانا أن تكون أكثر صرامة".

أخبر أنور ر أيضا هولسكي عن وقت إحضار أكثر من 700 شخص، من بينهم جثث، إلى الفرع 251، وأنه بصفته المسؤول عن التحقيقات لا علاقة له بالجثث.

أُرسِلت المعلومات إلى مانويل ديوسينغ من الشرطة الفيدرالية الألمانية، الذي فتح تحقيقا في قضية أنور ر.

شهد ديوسينغ في المحكمة أنه اتصل بشرطة ولاية برلين الذين أخبروه بما علموه عن أنور ر عندما اشتبه في أن ضباط المخابرات السورية كانوا يلاحقونه في 2015. طلب ديوسينغ أيضا من "مركز العدالة الدولية والمحاسبة" أن يشاركه أي وثائق مهربة من سوريا فيما يتعلق بأنور ر. أرسلت المجموعة إلى ديوسينغ مذكرات مقلقة بشأن استجوابات السجناء التي يُزعم أن أنور ر قدمها إلى رئيس فرعه، حسبما قال ديوسينغ. عرّفت الوثائق أيضا أنور ر. كعضو في "لجنة الاستجواب المركزية".

قال ديوسينغ في المحكمة إن التنسيق مع السلطات الأوروبية الأخرى ساعد في دفع عجلة التحقيق. بدأت سلطات إنفاذ القانون الألمانية تحقيقا مشتركا مع السلطات الفرنسية، وتبادلت المعلومات واستجواب الشهود في فرنسا. يسّرت السلطات السويدية والنرويجية إجراء مقابلات مع شهود يعيشون هناك.

إجمالا، قابلت الشرطة الفيدرالية الألمانية أكثر من 70 شخصا أثناء التحقيق مع أنور ر.

قال ديوسينغ إنه بدأ بمراقبة هاتف أنور ر وفتّش منزله. صادرت الشرطة أجهزة خليوي وجهاز كمبيوتر محمول وأقراص مدمجة، ووجدوا دفتر عناوين صغير يحوي معلومات اتصال لمسؤولين سوريين رفيعي المستوى ونسخا من شارته من مديرية المخابرات العامة.

في 12 فبراير/شباط 2019 اعتُقل أنور ر وإياد ا.

 

 ب. مدير المدرسة

كان الاعتقال أكثر من مجرد نتيجة لمراقبة الشرطة الألمانية، كان تتويجا لنحو 10 سنوات من التوثيق المضني للجرائم في سوريا. قام عديد من المشاركين في هذا العمل بذلك من خلال التحدث مع آلاف السوريين الذين قدموا شهاداتهم عما حدث لهم ولأصدقائهم وأقاربهم في قرى ومدن في جميع أنحاء البلاد.

وصف ديوسينغ في المحكمة كيف استخدم فريقه من المحققين تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش التي وثقت الوفيات والأمراض الناجمة عن ظروف السجون في سوريا: الاكتظاظ، ظروف النظافة الفظيعة، ونقص الطعام والدواء، والتعذيب.

استندت هذه التقارير على شهود العيان والحسابات والتحليل من قبل الباحثين على الأرض، وعمل السوريين الذين يفهمون المشهد السياسي والجغرافي للمنطقة، والذين قرروا مساعدة الباحثين والصحفيين في التعرف على الناجين لإجراء المقابلات على أمل فضح الانتهاكات سعيا للتغيير. دون هؤلاء السوريين، لن يكون عمل منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وعديد من المراسلين الأجانب ممكنا.

محمود موس، لاجئ فر من منزله في إدلب السورية إلى تركيا في 2011، ساعد عديدا من وسائل الإعلام وكذلك باحثي هيومن رايتس ووتش. ساعد موس، مدير مدرسة سابق ومدرس للغة الإنغليزية، في عبور الناس بأمان عبر نقاط العبور المتغيرة باستمرار على الحدود السورية التركية، معتمدا في كثير من الأحيان على مساعدة آخرين، بعضهم من طلابه السابقين. بالنسبة لموس، كان من الضروري أن يعرف العالم ما كان يحدث في سوريا، وعن القرى المدمرة والناس الذين قتلوا.

Mahmoud Mosa — محمود موسى

ساعد أيضا في نقل الصحفيين إلى المناطق الكردية في سوريا وحتى إلى مدينة حلب بعد احتلالها من قبل داعش.

في 2011، عمل باحثان من هيومن رايتس ووتش مع موس في مخيمات اللاجئين بتركيا. قابلوا سوريين كانوا محتجزين في معتقلات الأسد، بما فيه الفرع 251، وسمعوا وحفظوا أسماء الضباط وغيرهم من العاملين في السجون. عززت هذه المقابلات تقرير لهيومن رايتس ووتش عام 2012 الذي يوثق السجون العسكرية في سوريا، وأساليب التعذيب المستخدمة هناك، وحتى من كان يديرها.

قُرأ التقرير في محكمة كوبلنز، ليوضح الجهد الهائل الذي يمكن أن يحققه رجل واحد، موس، حتى بعد مرور نحو عشر سنوات على نشر التقرير، وقوة السوريين القادرين على سرد قصصهم.

ج.  المصور وصديقه

ثم نظرت المحكمة في صور "قيصر".

قبل الانتفاضة، عمل قيصر (اسم مستعار) كمصور للشرطة العسكرية في دمشق وانشق لاحقا. بعد فترة وجيزة من بدء المظاهرات عام 2011، كُلّف وفريقه بتصوير جثث المتظاهرين الذين أطلقت عليهم القوات الحكومية الرصاص في درعا، وهي مدينة رئيسية في الانتفاضة ضد الأسد، وفقا للصحفية الفرنسية غارانس لوكين التي كانت من بين الأوائل والقلة الذين أجروا مقابلة مباشرة مع قيصر. قالت لوكين لـ هيومن رايتس ووتش إنه خلال الأشهر التالية، طُلب منهم تصوير جثث أشخاص ماتوا في الحجز.

لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي تستمع إلى شهادة العسكري السوري المنشق "قيصر" بشأن الفظائع في سوريا، في واشنطن، 11 مارس/آذار 2020. © 2020 سول لويب/وكالة فرانس برس عبر غيتي إيميجز

قالت لوكين إن قيصر أراد الانشقاق، لكن صديقه المقرب سامي، المعارض لحكومة الأسد، أقنعه بالبقاء في مكانه من أجل نسخ الصور وتوثيق الانتهاكات. بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013، يُعتقد أن قيصر نسخ حوالي 53 ألف صورة للجثث. حفظها سامي في قرص صلب في المنزل، ثم هُرّبت الصور من سوريا.

Garance Le Caisne — غارنس لو كاين

قُبلت بعض صور قيصر، التي نُشرت عام 2014، كدليل في محاكمات أنور ر. وإياد ال. (في 2015، تعرفت هيومن رايتس ووتش على 27 من الضحايا في الصور، وتحققت من صحتها). فحص د. ماركوس روتشيلد، خبير الطب الشرعي من جامعة كولونيا، الصور وعرضها على قاعة المحكمة وشرح النتائج التي توصل إليها.

شهد روتشيلد أن فريقه حلل ما يقرب من 27 ألف صورة لـ 6,821 شخص، وقدّر أن 110 من هؤلاء الأشخاص احتجزوا في الفرع 251، استنادا جزئيا إلى رقم على جباههم.

من بين 110 قتلى من الفرع 251، قال إن كثيرين تعرضوا للتجويع و7.3٪ ربما جُوّعوا حتى الموت على الأرجح. أظهرت خمسة وخمسون جثة إصابات رضيّة بشكل رئيسي، ناتجة عن الضرب، أو الدفع، أو الركل.

أدلى روتشيلد بشهادته في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وكان لاستخدامه للصور في شرح كيف يُفترض أن المعتقلين ماتوا وقعا قويا على الناس في قاعة المحكمة.

حتى أن قوة الصور أقنعت أحد المتهمين بالتحدث علانية. في 9 ديسمبر/كانون الأول، قرأ محامي إياد ا بيانا محضّرا من قبله، وهي المرة الوحيدة التي خاطب فيها إياد ا قاعة المحكمة. قرأ محاميه: "مشاعري تجاه الصور هي: حطّمت قلبي. أثناء عودتي إلى السجن، بكيت".

عندما أصدرت رئيسة المحكمة الحكم بحق إياد ال في فبراير/شباط، قالت عن صور قيصر: "ملاحظة شخصية في هذا: لن أنسى تلك الصور".

قالت لوكين: "يتحدث الناس عن ملفات قيصر ويتحدث الناس عن قيصر. لكني أود أن أقول إن هناك مئات من قيصر في سوريا، حقا"- أناس يقفون في وجه الحكومة السورية ويفعلون كل ما في وسعهم لتوثيق جرائمها وشجبها.

ماذا تعني المحاكمة للسوريين

مثل ملايين السوريين الآخرين، قيصر اليوم لاجئ يعيش خارج وطنه.

لكن في السنوات الأخيرة، تحول الحديث حول اللاجئين السوريين بشكل خطير. يتزايد الضغط في دول مثل الدنمارك ولبنان وتركيا، التي فتحت أبوابها سابقا للاجئين (وإن كان ذلك بتردد)، لإجبارهم على العودة إلى ديارهم في سوريا رغم الخطر.

لاجئون سوريون متجمعون في مركباتهم استعدادا للعبور إلى سوريا من بلدة عرسال على الحدود اللبنانية الشرقية في 28 يونيو/حزيران 2018. © 2018 أسوشيتد برس/بلال حسين

بالنسبة لهذه الدول، الصراع السوري "انتهى". لكن الحقيقة هي أن الأسباب الكامنة وراء الصراع - القمع والانتهاكات التعسفية والخوف الدائم على الحياة - لا تزال حقيقية. وثّقت هيومن رايتس ووتش وآخرون كيف واجه اللاجئون من لبنان والأردن الذين عادوا إلى سوريا الإخفاء القسري والتعذيب وحتى العنف الجنسي على أيدي الحكومة السورية والميليشيات التابعة لها.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ناقشت وزارة الداخلية الألمانية ما إذا كان من الآمن إعادة السوريين المدانين بجرائم في ألمانيا إلى سوريا، رغم المخاطر التي قد يتعرضون لها عند عودتهم. أثارت هذه المناقشات مخاوف بين السوريين من أن السلطات الألمانية ربما تسعى إلى تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية.

بالنسبة للاجئين، من الصعب بالفعل تأسيس الحياة، ناهيك عن القيام بذلك مع معرفة التناقض بين الكيفية التي يصف بها السياسيون الألمان الذين "يحاولون الفوز" في الانتخابات سوريا مقابل الواقع هناك، حسبما قالت بينت شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "مؤسسة هاينريش بول".

Bente Schellerبنت شيلر

كانت محاكمة إياد ا جدلية أيضا بالنسبة لبعض الأشخاص. تظهر تقارير إعلامية عقب صدور حكم إياد ا أن إدانته والحكم عليه أدى إلى تقسيم السوريين، رغم أن السلطات الألمانية ملزمة بمحاكمة الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة. أراد بعض السوريين سجن إياد ا لفترة أطول. تساءل آخرون لماذا كلفت السلطات الألمانية نفسها عناء رفع قضية ضد إياد ا، إذ أنه لم يكن ضابطا رفيع المستوى، وكم عدد الأشخاص الذين فعلوا هذا الشيء أو أسوأ منه؟

كما هو الحال مع أنور ر، طرح بعض السوريين سؤال بشأن إياد ا: هل يمكنك تغيير انتمائك؟ وإذا كنت مذنبا بارتكاب جرائم، فهل تغيير الانتماء يعفيك من هذا الذنب؟ قلق بعض السوريين من أنه أثناء محاكمة المنشقين، قد يخشى المسؤولون السوريون الآخرون الملاحقة القضائية، مما يعني أنهم لن يشاركوا معلوماتهم السرية الخاصة عن الانتهاكات المرتكبة. إلى جانب شهادات الشهود، هذه المعلومات هي التي تساعد في بناء المحاكمات.

يواجه اللاجئون السوريون تحديا آخرا بشأن محاكمة كوبلنز: لا توجد ترجمة فورية باللغة العربية. صحيح أن أنور ر والشهود السوريين لديهم مترجمين، لكن هذا لا يساعد الحضور من السوريين في قاعة المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، لا تُترجم البيانات الصحفية للمحكمة إلى اللغة العربية.

قالت أمينة صوان، الناشطة في "حملة سوريا": "كان الأمر محبطا حقا"، فرغم تحدثها اللغة الألمانية بشكل جيد لم تستطع فهم اللغة القانونية المستخدمة في قاعة المحكمة. مع ذلك، عندما قُرأ حكم إياد ا. باللغتين الألمانية والعربية، وهو "أحدث فرقا كبيرا"، حسبما قالت لـ هيومن رايتس ووتش.

Ameenah Sawwanأمينة صوان

حتى أغسطس/آب 2020، كانت الإجراءات تُترجم إلى اللغة العربية للأطراف الرسمية في القضية فقط. رغم أن المحكمة الدستورية الألمانية أصدرت ردا على التماس أمرا مؤقتا لتوسيع نطاق الترجمة لتشمل الصحفيين الناطقين بالعربية المعتمدين مسبقا، إلا أن المحاكمة لا تزال غير متاحة للحضور من غير المتحدثين بالألمانية. كما ستكون الأحكام المكتوبة متاحة باللغة الألمانية فقط، ولن يكون هناك أي توثيق كامل مكتوب بأي لغة بعد انتهاء المحاكمة التاريخية.

Alex Dünkelsbühler —  أليكس دوينكلسبولير

مع ذلك، حضر عدد من السوريين المحاكمة، ومن المستحيل إحصاء عدد متابعيها. لكن ماذا تعني لهم المحاكمة؟

 

أ. "المختفون"

عندما سمعت وفاء مصطفى عن المحاكمة، أدركت أنها قد تكون فرصة للفت الانتباه إلى حالات الإخفاء القسري في سوريا.

وفاء مصطفى (30 عاما) تفتقد والدها. في يوم مشمس من يوليو/تموز أثناء محاكمة أنور ر، جلست متربعة على الرصيف خارج محكمة كوبلنز، وهي تحمل صورة والدها علي، الذي اختفى عام 2013. كان لوفاء حضورا جذب الناس إلى عشرات الصور المؤطرة لسوريين أقرباء أشخاص تعرفهم أو تعمل معهم. فُقد هؤلاء الأشخاص واختفوا قسريا على يد القوات السورية، أو اختطفهم داعش أو جماعات أخرى.

Wafa Mustafa وفاء مصطفى

في ذلك اليوم من يوليو/تموز، غادر السوريون الذين شاهدوا الصور وهم يذرفون الدموع، بحسب ألكسندر دوينكيلسبويلر، المحامي والمراقب في قاعة المحكمة من كليفورد تشانس.

تعرض عدد لا يحصى من الأشخاص للإخفاء القسري في سوريا، معظمهم في مراكز الاحتجاز. ظهر بعضهم مجدداً وعادوا إلى عائلاتهم، بينما لم يحظ بذلك آخرين.

اصطحب علي ابنته وفاء مصطفى إلى احتجاجها الأول عندما كانت في التاسعة أو العاشرة من عمرها، كما قالت لـ هيومن رايتس ووتش. عندما بدأت الاحتجاجات في دمشق عام 2011، قالت إنها شاركت "بدون تردد".

بعد وقت قصير من اعتقال والدها في مسقط رأسها، قالت إن ضباطا سوريين احتجزوها وشقيقتها، لكن في دمشق. أُطلِق سراحهما بسرعة، وبعد ذلك بقليل فروا من البلاد. انفصلت مصطفى عن عائلتها وجاءت إلى ألمانيا عام 2016.

والد وفاء مفقود منذ ما يزيد قليلا عن 8 سنوات. كل صباح، تشارك وفاء في تويتر عدد الأيام التي انقضت منذ اختفائه. قالت: "لست متأكدة مما إذا كان ذلك سليما، لكن كل ما أفعله في حياتي يتمحور حول والدي".

تستخدم الاهتمام الإعلامي الذي أحدثته المحاكمة لتذكير العالم بأن الناس ما زالوا يختفون قسريا في سوريا، وأنه بعد عقد من الزمن، لا يمكن للمجتمع الدولي الاستمرار في سماع الفظائع في سوريا وعدم اتخاذ أي إجراء. لدى المجتمع الدولي دورا يضطلع به في وقف الانتهاكات - بما فيه إطلاق سراح المحتجزين.

قالت: "لا يزال هناك أشخاص يمكننا إنقاذهم" من الموت بسبب التعذيب أو من الإصابة بكورونا في السجن. بمن فيهم، كما تأمل، والدها.

سماء محمود أيضا تتألم على عمها حيان المختفي. والدها حسان محمود أحد الضحايا الممثلين في محاكمة أنور ر، واتهم أنور ر في المحكمة بتعذيب شقيقه حيان، الذي اختفى قسريا عام 2012. قال حسان محمود في شهادته إنه سمع أن حيان أُخِذ إلى الفرع 251 ومات هناك.

Samaa Mahmoud سماء محمود

هربت سماء محمود من سوريا عندما كانت طفلة ووصلت إلى ألمانيا عام 2015 حيث تدرس الآن العمل الاجتماعي في إحدى الجامعات الألمانية. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنها فخورة بوالدها لكفاحه من أجل حيان وتحدثه عن اعتقاله مرتين (لم يكن محتجزا في الفرع 251). قرأت جميع المقالات المتعلقة بالمحاكمة، لكنها لم تذهب شخصيا. قالت: " لا أستطيع تحمل ذلك نفسيا ".

تقول إن قدرة المحتجزين السابقين على مواجهة أنور ر في المحكمة "أمر يستحق حقا أن نكون متفائلين بشأنه". تعتقد أن المحاكمة "ستغير حياتنا، حتى ولو قليلا، لكن للأفضل".

"يجب بناء الطريق إلى دمشق"

بعد جلسات استماع دامت أكثر من سنة ونصف، تضمنت إفادات أكثر من 60 شاهدا، من المقرر اختتام محاكمة أنور ر. في يناير/كانون الثاني.

لم تمنع الشهادات المؤلمة- بما فيه الشهادات المباشرة عن التعذيب أو المقابر الجماعية - ولا الموقع البعيد لكوبلنز بعض السوريين من القدوم إلى المحكمة.

حضر خالد رواس 11 جلسة من المحاكمة بحلول يوليو/يوليو 2020، وهو مهندس ميكانيكي، يقول إنه اعتُقل مرتين في سوريا بسبب الاحتجاجات (لم يُنقل إلى الفرع 251)، وهرب من البلاد عام 2013. يعيش في ألمانيا منذ خمس سنوات ويعمل الآن في صناعة بناء السفن.

قال رواس لباحثة هيومن رايتس ووتش: "ذات مرة، كنت محتجزا، واستجوبت بطريقة لا تشبه الطريقة التي يُستَجوب فيها أنور ر. قال: "لأكون صادقا، أشعر ببعض الغيرة حين أشاهد كيف يُعامل أنور ر في محكمة كوبلنز، وحقوقه محمية.

Khaled Rawwasخالد رواس

وصف لنا رواس الوقت الذي قضاه في محكمة في سوريا: "كانت دقيقتين. سألني القاضي سؤالا واحدا".

بالنسبة له، كانت النقطة المهمة في المحاكمة هي البيان الافتتاحي للمدعي العام الألماني، والذي وصف احتجاجات عام 2011 والصراع الذي أعقب ذلك في سوريا بأنها "ثورة".

قال رواس: "بالنسبة لي، هذا أمر ضخم جدا". بالنسبة له، ما حدث في سوريا لم يكن حربا أهلية، بل كان "ثورة على نظام فاسد".

أخبرنا رواس أن حدوث المحاكمة في ألمانيا وليس سوريا سبّب "نوعا من حسرة القلب".

أضاف: "لكن، على الأقل بدأ شيئا ما" لضحايا العنف أو القمع مثله ولآخرين أيضا.

مختار (اسم مستعار) سوري يدير مطعما صغيرا في ألمانيا. فيه طاولات وكراسي خشبية وصور لسوريا على الجدران. الطماطم والخيار خلف المنضدة، والفلافل المقلي يصدر صوتا عال. تشمل قائمة الطعام سندويشات مقالي، وكذلك بيتزا وبطاطا مقلية.

قال مختار لـ هيومن رايتس ووتش إنه لم يشارك في محاكمة أنور ر، ولم يكن محتجزا في سوريا. قال إنه غادر بعد أن شهد مذبحة. استغرق الأمر عامين، لكن الحكومة الألمانية اعترفت في النهاية بطلب اللجوء الذي قدمه.

James Rodehaver — جيمس رودهفر

في البداية، كانت فكرة افتتاح مطعم "مزحة" مع أصدقائه، على حد قوله. كان في حوزته ألف يورو فقط. لكنه اقترض المال من الأصدقاء، وسرعان ما افتتح المكان. قال: "بعد عام ونصف، دفعت جميع المبالغ المطلوبة بالكامل". اليوم، يرسل 20% من أرباحه إلى المحتاجين في إدلب ودمشق.

يجادل جيمس رودهفر من الأمم المتحدة بأنه " يجب بناء الطريق إلى دمشق"، وهذا الطريق قد يمر عبر كوبلنز. قال رودهفر إن محاكمة أنور ر. هي "حجر الأساس الأول" لإعادة بناء العدالة في سوريا.

Mokhtarمختار

عند التفكير في مسقط رأسه دمشق، يقول مختار، صاحب المطعم: "أنا فخور بثورتنا، وفخور بشعبي الذي وقف بأعجوبة في وجه ديكتاتور".

بالإضافة إلى ذلك، توجه المحاكمة رسالة إلى مسؤولين آخرين وموظفين في الحكومة السورية. قال مختار: "حتى لو ذهبوا إلى أقاصي العالم، سيصل إليهم شخص ما. أنا سعيد جدا بذلك".

هذا المقال نتيجة تعاون فِرق العدالة الدولية، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والإعلام في هيومن رايتس ووتش. تود هيومن رايتس ووتش أن تعرب عن تقديرها لجميع الذين وافقوا على إجراء مقابلة معهم من أجل هذه المقالة، وخاصة جميع السوريين الذين شاركوا معنا تجاربهم. تعرب هيومن رايتس ووتش أيضا عن امتنانها لشركة المحاماة الدولية كليفورد تشانس - لا سيما مكتب الشركة في فرانكفورت الذي راقب المحاكمة في كوبلنز لمدة عامين تقريبا. ننوّه كذلك بالمساعدة القيّمة التي قدمها كل من كارولين كيتلمان، وألكسندر سوتور، وألكسندر دونكيلسبولر. يحظى عمل هيومن رايتس ووتش بشأن الولاية القضائية العالمية في ألمانيا بدعم مالي من "دويتشه بوستكود لوتيري"، وكليفورد تشانس، و" مؤسسة هامبورغ لتعزيز العلم والثقافة".