Skip to main content

استرجاع زمام المبادرة من مُفسدي حركة حقوق الإنسان

مقدمة التقرير العالمي السنوي لعام 2009 بقلم كينيث روث

   

لابد ألا يُقاس احترام الحكومات لحقوق الإنسان إلا بناء على كيفية معاملتها لشعوبها بالإضافة لدرجة حمايتها لحقوق الإنسان في علاقاتها بالدول الأخرى. ومع إحياء الذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن استجابة الحكومات إزاء مصاب الشعوب بالخارج هي في أغلب الأحوال هزيلة. وبالفعل فمن المُحزن أنه فيما يتعلق بالحماية الدولية لحقوق الإنسان، فإن الحكومات ذات الرؤية الأوضح في هذا الصدد هي في أغلب الأحوال تلك الحكومات التي تسعى لتقويض نفاذ حماية الحقوق دولياً. لقد ولت الأيام التي كنا ننظر فيها لواشنطن أو بروكسل أو العواصم الأوروبية الأخرى انتظاراً لمبادرات تُطرح أثناء المباحثات بين الحكومات بشأن حقوق الإنسان. فاليوم فإن من بين من ينخرطون في العلاقات الدبلوماسية الأكثر نشاطاً بشأن حقوق الإنسان تجدهم في أماكن مثل الجزائر والقاهرة وإسلام آباد، بدعم من بكين وموسكو. لكن المشكلة أنهم يدفعون للتحرك في الاتجاه العكسي.

خصوم حقوق الإنسان هؤلاء يدافعون عن امتياز الحكومات في أن تفعل ما تشاء بشعوبها. إنهم يختبئون وراء مبادئ السيادة وعدم التدخل وتضامن الجنوب، لكن هدفهم الحقيقي هو شل الانتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان من قبل حكوماتهم ومن قبل حلفائهم وأصدقائهم. والأنشطة التي يبذلها هؤلاء "المفسدون" باتت تهيمن على المحادثات الخاصة بحقوق الإنسان. على سبيل المثال وضعوا حداً لنظر الأمم المتحدة في القمع الجسيم في أوزبكستان وإيران وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وفرضوا ضغوطاً مشددة على انتقاد الجيش البورمي والملاحقة القضائية المحتملة للرئيس السوداني عمر البشير. كما قللوا كثيراً من جدية العمل بمجلس حقوق الإنسان الجديد التابع للأمم المتحدة.

والسبب وراء نجاحهم لا يكمن في جاذبية رؤاهم قدر ما يكمن في التزام الحكومات الضعيف وغير المتسق عادة، الحكومات التي تقف في صف الدفاع عن حقوق الإنسان. ليس الأمر وكأن شعوب العالم قد أصبحت تتيه فجأة حباً بالدكتاتورية والقمع. فرغبتهم في الحقوق الأساسية تظل على حالها لم تتغير، سواء في مخيمات الأشخاص النازحين في دارفور أو في مناطق القبائل في باكستان، أو في السجون المصرية. إلا أن قوة الحملة المضادة لحقوق الإنسان، في مفارقة غريبة، تشهد على قوة مبادئ حقوق الإنسان. فما كان المفسدون سيلقون بالاً إذا كان الوصم بأنهم منتهكون لحقوق الإنسان ليس بالوصم المؤلم.

لقد جعل التغير في ميزان القوى العالمي الحكومات المُفسدة تتجرأ في المحافل الدولية على تحدي حقوق الإنسان والطعن في "غربيتها" أو نعتها بأنها طرح "إمبريالي". وقوة النموذج الشمولي الصيني والعضلات "النفطية" الروسية جعلت من اليسير رفض مبادئ حقوق الإنسان. كما أن الموقف الأخلاقي لدولة مثل جنوب أفريقيا بتاريخها المُظلم يعني أن تحديها لأجندة حقوق الإنسان الدولية هو أمر غير مؤثر بالمرة.

إلا أن الحكومات المعنية بحقوق الإنسان على مستوى العالم ما زال لديها ما يكفي من قوة لبناء تحالف واسع لمكافحة القمع، إذا كانت مستعدة لاستخدام ما لديها من قوة. وبدلاً من هذا هجرت هذه الحكومات هذا الميدان. إذ أنها جراء المصالح ومشكلات المصداقية في أفعالها ذاتها أدت بها إلى المناورة والجلوس على مقاعد المتفرجين في حلبات الأمم المتحدة، مثل مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، وفي محادثات السياسات التي تُشكل الدبلوماسية متعددة الأطراف إزاء بورما ودارفور وسريلانكا وزيمبابوي ومناطق ساخنة أخرى.

وبالنسبة للولايات المتحدة فإن الانسحاب يُعد نتيجة منطقية إبان قرار إدارة بوش بمكافحة الإرهاب دون مراعاة للمبادئ الأساسية القاضية بعدم تعريض الأفراد للتعذيب و"الاختفاء" أو الاحتجاز دون محاكمة. فعلى هذه الخلفية تقوضت كثيراً جهود واشنطن الدورية المتكررة لمناقشة حقوق الإنسان، بفعل مزاعم لها ما يبررها بالنفاق والكيل بمكيالين. والتراجع على هذا المسار المخزي يجب أن يكون الأولوية الأساسية لإدارة باراك أوباما الجديدة إذا ما أرادت الحكومة الأميركية أن تتبوأ منصب القيادة الموثوقة بمجال حقوق الإنسان.

وكثيراً ما أدى تخلي واشنطن عن واجباتها إلى إجبار الاتحاد الأوروبي على التحرك وحده على عاتقه. وأحياناً ما أدى الاتحاد عمله على نحو مثير للإعجاب، كما حدث في النزاع الروسي الجورجي، حين خفف نشر مراقبين من الاتحاد الأوروبي من التوترات وساعد على حماية المدنيين، أو كما في شرق تشاد، حين أرسل الاتحاد 3300 عنصر من قواته ضمن بعثة أممية لحماية المدنيين. لكن أداء الاتحاد الأوروبي كان ضعيفاً نظراً لتأثيره المُجمل، في أماكن مثل بورما والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية. إذ سعى الاتحاد الأوروبي كثيراً إلى تفادي السقطة السياسية المتمثلة في عدم فعل أي شيء، بأن اختبأ وراء آلية صنع القرار المعقدة في الاتحاد الأوروبي، والتي تنزع إلى عدم الفعل بطبيعتها. فضلاً عن أن تردد الاتحاد الأوروبي المتكرر في الوقوف في مواجهة إدارة بوش احتجاجاً على سياسات مكافحة الإرهاب المسيئة أدى إلى تعريض الاتحاد الأوروبي لاتهامات بالأخذ بالمعايير المزدوجة، مما أدى إلى تسميم الحوار العالمي بشأن حقوق الإنسان وأدى إلى تيسير الأمر على المُفسدين.

وليست الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما وحدهما من يروجان لحقوق الإنسان خارجياً. إذ وبشكل متزايد يمكن النظر إلى بعض الحكومات في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا كجهات قادرة على تقديم الدعم لمبادرات الحقوق الدولية. ومن بين هذه الحكومات الأرجنتين وتشيلي وكوستاريكا والمكسيك وأوروغواي في أمريكا اللاتينية، وبوتسوانا وغانا وليبيريا وزامبيا في أفريقيا. وفي آسيا اليابان وكوريا الجنوبية، اللتان تميلان لجانب التعاطف مع حقوق الإنسان لكنهما يترددان بشكل عام عن اتخاذ مواقف علنية قوية.

إلا أن في ظل الإجبار على التحرك دون الدعم القوي والمستمر من الديمقراطيات الغربية الكبرى، نادراً ما تتمكن هذه الأصوات الهامة من بذل جهودها الدبلوماسية الدولية الخاصة للتصدي لإساءات حقوق الإنسان الجسيمة. وحتى القوى المتوسطة القدرة ذات أفضل النوايا لا يمكنها الخروج بحلول للأوضاع الأكثر قمعية في العالم، دون أن تعمل بالشراكة مع بعض القوى الغربية الأكبر التي ما زالت تهيمن على مجريات العمل في الأمم المتحدة، والتي لها سلك دبلوماسي نشط ويمكنها نشر موارد عسكرية واقتصادية كثيرة.

إذن وبطبيعة الحال فإن من يصيغون عادة أجندة حقوق الإنسان في المحافل الدولية هم عناصر يعادون إنفاذ حقوق الإنسان؛ أي حكومات لدول مثل الجزائر والصين ومصر والهند وباكستان وروسيا. إنهم يريدون العودة القهقرى إلى عصر كان الدفاع فيه عن حقوق الإنسان متروك عهدة كل حكومة على حدة، وعندما كانت الانتهاكات ذات كلفة دولية زهيدة.

ومقاومة هذا المطمح تتطلب إرادة غائبة في أغلب الأحيان. فبادئ ذي بدء، لأن سبل الدفاع الأقوى عن حقوق الإنسان هي بضرب الأمثلة، فإن الحكومات الرامية للدفاع عن حقوق الإنسان في الخارج عليها أن تُلزم نفسها أولاً باحترام حقوق الإنسان على أرضها. وكما هو موصوف بقدر أكبر من التفاصيل أدناه، فهذا يعني بمجال مكافحة الإرهاب وضع حد لإساءات مثل استخدام التعذيب وغير ذلك من التقنيات الإكراهية في الاستجواب، وعدم "إخفاء" المشتبهين في مراكز احتجاز سرية والاحتجاز لفترات مطولة دون محاكمة، وكذلك الاستعداد للتحدث علناً وفوراً إذا قامت أية حكومة، ولو حكومة حليفة، بالعودة لهذه الممارسات. كما يعني هذا التصدي لإساءات مستمرة وقائمة مثل العنصرية في نظام العدالة الجنائية، وإساءة معاملة المهاجرين، واستخدام عقوبة الإعدام.

ثانياً، وكما هي الحال في أكثر انتهاكات حقوق الإنسان جسامة، يجب تحميل الجناة المسؤولية. مثلاً فلا يمكن لواشنطن أن تبدأ في بناء مصداقيتها كحكومة تمارس ما تُبشر به بمجال حقوق الإنسان إلا بعدم تكرار الإساءات والتحقيق فيما وقع منها والإقرار بوقوعها والاعتذار عنها ومقاضاة الجناة في الجرائم الجسيمة، ثم اتخاذ خطوات تعويضية بشأنها لضمان عدم تكرارها.

ثالثاً، يجب بذل جهود جدية من أجل بناء تحالف دولي واسع لدعم حقوق الإنسان. وفي حالة الولايات المتحدة، يجب عليها أن تسعى للانضمام إلى المؤسسات متعددة الأطراف مثل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وأن تصدق على المعاهدات الأساسية مثل الخاصة بحقوق المرأة والطفل، والاختفاء القسري، والذخائر العنقودية، والألغام المضادة للأفراد. وعليها أن تتبنى سياسة تراعي سيادة القانون، بأن تعيد التوقيع على الاتفاقية المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، وأن تدعم المحكمة بقوة، وأن تبادر بعملية للتصديق النهائي على الاتفاقية. وعليها أن تدعم وبشكل نشط - سياسياً ومالياً وعسكرياً - الجهود متعددة الأطراف الرامية لحماية المدنيين من الأعمال الوحشية الجماعية.

وفي حالة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معاً، فيجب بذل جهود حثيثة من أجل التواصل مع حكومات الجنوب، لاسيما تلك البلدان التي تحترم حقوق الإنسان على أرضها لكنها مستمرة في مقاومة الدفاع عن حقوق الإنسان في سياستها الخارجية. ويتطلب هذا التصدي لمشكلات تخص حكومات الجنوب بشكل خاص، مثل مشكلات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتمييز العنصري وحقوق المهاجرين. كما يتطلب الأمر تفادي الكيل بمكيالين والتزام الانفتاح في الحوار وانتقاء الخيارات السياسية السليمة.

وعلى حكومات الجنوب بدورها أن تعيد النظر في مواقفها في ردود أفعالها بحيث تكون على مستوى القائمين بالقمع وليس ضحاياه. وهذا التضامن سيئ التوجيه يثير الإحباط بصفة خاصة في حالة حكومات مثل الهند وجنوب أفريقيا، والتي تعتبر حالياً دول ديمقراطية تحترم حقوق شعوبها لكنها تسعى لصياغة سياسة خارجية توحي بأن الشعوب الأخرى لا تستحق الحقوق نفسها. ويجب ألا يصبح التضامن في تكتلات هو البديل لاعتناق قيم أساسية تخص حقوق الإنسان.

وأخيراً، فإن على إدارة أوباما الجديدة أن تتخلى عن سياسة إدارة بوش التي يمكن وصفها بـ "المغالاة في السيادة". إن مما يسر حكومات الصين وروسيا والهند كثيراً أن تسمع واشنطن ترفض انتقاد حقوق الإنسان بناء على مبدأ السيادة. فهذا المنهج يعود بالزمن إلى عصر ما قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبل صياغة الكثير من الآليات القانونية والمؤسسية. هنالك حاجة ماسة إلى إعادة تقييم شاملة للسياسة الأميركية، وقد وعد الرئيس أوباما بإحداث مثل هذه التغييرات. والاختبار هو ما إذا كان سيقاوم الضغوط التي تريد بقاء الوضع في زمن إدارة بوش على ما هو عليه.

تضامن صلب

اليوم وبعد ستين عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا يمكن ببساطة إنكار جدارة وأهلية مبادئ حقوق الإنسان. وبالنتيجة فإن المفسدين الذين يريدون تقويض النظام الدولي لحقوق الإنسان نادراً ما يصفوا نواياهم على هذا النحو. وبدلاً من هذا فإن الحكومات تنزع إلى القول بأنها تدعم حقوق الإنسان من حيث المبدأ، لكنها لا تعارض إلا المنهاج الذي يُزعم أن هذه الحقوق تُستغل به، أو الأسلوب الذي تستغل به الدول الأقوى هذه الحقوق. إنهم يتظاهرون بالتحدث بأسلوب المعارضين للإمبريالية والاستعمار والتضامن مع المضطهدين، لكن في واقع الأمر فإن المفسدين ليسوا أصدقاء للمُضطهدين. إنهم يجدون أرضاً مشتركة مع الديكتاتوريات والطغاة في عالمنا، وليس مع الأشخاص العاديين الذين يواجهون الاضطهاد. إنهم يدعون لتضامن الجنوب، لكن وراء الشعارات الرنانة فإن التضامن الذي يضمرونه هو تضامن الحكومات القمعية، وليس ضحايا العالم من دول الجنوب.

وثمة أسباب متعددة كثيرة وراء اختيار بعض الحكومات لعب أدوار سلبية أو محايدة فيما يتعلق بحقوق الإنسان. فثمة جناة جديون، مثل بيلاروسيا والسودان وزيمبابوي، يدفعون بمعارضة أي تحقيق في حقوق الإنسان من أجل عرقلة الجهود الدولية الخاصة بالتحقيق في إساءاتهم الخاصة. إنهم ليسوا قادة أو زعماء في المحافل الدولية لكنهم يتحدثون علناً ولهم حق التصويت. إنهم يسعون لتفادي أي تدقيق خارجي على كيفية معاملتهم لشعوبهم. والسيادة - وليست الحقوق - هي ركنهم الركين. وتلعب دول أخرى دوراً قيادياً أكبر في محاولة الحد من التدقيق في حقوق الإنسان. ومنها حكومات لدول ذات سجل حقوقي ضعيف، مثل الجزائر والصين ومصر وباكستان وروسيا. ومنها أيضاً دول ديمقراطية من العالم النامي، مثل الهند وجنوب أفريقيا، التي تفخر بأن لديها ضمانات مؤسسية قوية لحماية الحقوق رغم ارتكاب بعض الانتهاكات. وبعض هذه الحكومات تريد بالمثل تفادي النظر في ممارساتها الحقوقية الداخلية، لكن يحركها أيضاً رفض ما يرونه رؤية أميركية إمبريالية في السياسة والتنمية الدوليتين. فضلاً عن أن بعض أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي يعارضون ما يرونه حرباً ضد الإسلام تشنها الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى.

والحكومات الساعية لتخريب حقوق الإنسان لديها طيف واسع من الأعذار لما تبذل من أعمال وجهود. وهي تتذرع بالمعايير المزدوجة للغرب في الترويج للحقوق، وهي حقيقة مؤسفة، لكن لا علاقة لها بما ينال الضحايا من مصاب. ولا شك أن الحكومات الغربية تعتبر مسؤولة في بعض الحالات عن ارتكاب ودعم وتجاهل انتهاكات حقوقية جسيمة، وهي تستحق الانتقاد على هذه التعديات. لكن الأشخاص الذين يواجهون المذابح والاغتصاب والاحتجاز التعسفي لن يرضوا بالتنازل عن حقهم في الإنقاذ لمجرد أن معاناة ضحايا غيرهم في أماكن أخرى تتعرض للتجاهل. ولا يجب أن يُجبروا على هذا جراء فِكر المُفسدين الذي صاغوه لراحتهم.

والأمر نفسه ينسحب على تذرع المفسدين بالتركة الاستعمارية لبعض الدول التي تريد وضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان. نعم، للغرب تاريخ من الاستغلال الاستعماري القاسي، لكن قليل من الأشخاص ممن يواجهون القمع الآن سيرفضون المساعدة لمجرد أن من يمدون أيديهم بالمساعدة لهم أجداد كانوا هم أنفسهم قمعيون. حري بالمفسدين ألا يمنعون هذه المساعدة عن هؤلاء الضحايا.

ومن الأمثلة المُحبطة على هذا التحيز العدواني ضد الحماية الدولية لحقوق الإنسان هو رد فعل حكومة جنوب أفريقيا إزاء الأزمة في زيمبابوي. فالمؤتمر الأفريقي الوطني قام بتشكيل تحالف دولي في كفاحه ضد الأبارتيد. وحين خذلتهم الحكومات الغربية وجدوا حلفاءً في حركة حقوق الإنسان العالمية. وأثناء رئاسة نيلسن مانديلا بدا أن جنوب أفريقيا تعانق قضية حقوق الإنسان وأنها تؤسس لديمقراطية دستورية ذات ضمانات قانونية قوية لحقوق الأفراد. لكن تحت حكم الرئيس ثابو مبيكي، بدلاً من الانضمام للحركة العالمية لفرض الضغوط على حكومة زيمبابوي لكي توقف قمعها، رفضت بريتوريا التحدث علناً عن القضية. وبررت هذا المنهج الأنعم لنفسها والخاص بتفسير صراع مناهضة الأبارتيد على أنه بالأساس كفاح ضد الإمبريالية واعتبار روبرت موغابي الوريث الشرعي لهذا الدرع. وبالنتيجة رؤيت جنوب أفريقيا على أنها تدعم زعيم قمعي بدلاً من دعم ضحاياه الذين يزرحون تحت عبء المعاناة.

ومع انغماس الحكومة الجنوب أفريقية في ذاكرتها القصيرة من الكفاح، فقد أدارت ظهرها لشعب بورما. وساعد الضغط الدولي على وضع حد لنظام الأبارتيد العنصري. لكن الآن فإن بريتوريا تعارض تدخل مجلس الأمن لصالح شعب بورما لأنه من المفترض أن القمع العسكري الجسيم يقع خارج ولاية مجلس الأمن. وتقول جنوب أفريقيا إنها تفضل مؤسسات الأمم المتحدة الديمقراطية مثل الجمعية العامة أو مجلس حقوق الإنسان، لكن قلما دافعت عن حقوق الإنسان في بورما ضمن هذه القنوات التي تبدي تفضيلها لها.

كما لم تحول حكومة باكستان الجديدة بعد كفاحها ضد الديكتاتورية إلى دعم للجهود المشابهة في أماكن أخرى من العالم. فالحكومة المدنية المنتخبة برئاسة الرئيس آصف علي زرداري استفادت فائدة مباشرة من تدخل المجتمع الدولي لحقوق الإنسان. وعلى مدار العامين الماضيين فرضت جماعات حقوق الإنسان ضغوطاً هائلة على الجنرال برويز مشرف ونظامه العسكري من أجل إخلاء سبيل العناصر المؤيدين للديمقراطية، وإعادة القضاة المخلوعين، والسماح بالانتخابات البرلمانية الحرة والنزيهة. والآن وبعد استقالة مشرف بعد التهديد بتوجيه الاتهامات الرسمية إليه، فثمة بعض المؤشرات على أن حكومة زرداري تعيد النظر في عدائية باكستان التقليدية إزاء مبادرات حقوق الإنسان الدولية. إذ وقعت على اتفاقية مناهضة التعذيب والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وسفيرها في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قلل من هجوم باكستان المألوف على مفوض الأمم المتحدة السامي المعني بحقوق الإنسان، وقبل بلباقة تعليقات من المنظمات غير الحكومية على سجل باكستان الحقوقي. إلا أن الدبلوماسيين الباكستانيين في الأمم المتحدة ما زالوا يدفعون في أحيان كثيرة بأجندة معادية لحقوق الإنسان، وكأن مشرف ما زال في السلطة. مثلاً كانوا في مقدمة من يدفعون بالجهود من أجل الحد من تعليقات المنظمات غير الحكومية على السجل الحقوقي للحكومات الخاضع لـ "المراجعة الشاملة الدورية" الجديدة في مجلس حقوق الإنسان.

يجب ألا نساوي بين المفسدين والجنوب ككل. فالكثير من حكومات الجنوب هي اليوم في مقدمة من يبذلون الجهود لإنفاذ الحقوق. في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، فإن حكومات الأرجنتين وتشيلي وكوستاريكا والأورغواي تدعم مبادرات حقوق الإنسان، من المحكمة الجنائية الدولية إلى مجلس حقوق الإنسان. ولعبت المكسيك دوراً هاماً في مجلس حقوق الإنسان (بالانخراط بنشاط في فحص كافة الدول الخاضعة للمراجعة الدورية الشاملة)، وفي الجمعية العامة (دفاعاً عن استقلال المفوضية السامية لحقوق الإنسان وبرنامجها). إلا أنه من المؤسف أن المكسيك كانت بطيئة في التصدي لعدة مشكلات حقوقية مزمنة وقائمة على أرضها، مع رفضها ربط حقوق الإنسان بمساعدات الولايات المتحدة بمجال مكافحة الإتجار في المخدرات، والمعروفة باسم مبادرة ميريدا، والضغط لإبعاد ممثل مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان جراء تعليقاته الانتقادية لسجل المكسيك الحقوقي. وفي السنوات الأخيرة دعمت البرازيل آليات حقوق الإنسان في منظمة الدول الأميركية، لكنها في أوقات أخرى أبدت التعاطف مع آراء غلبة السيادة على حقوق الإنسان التي يبديها المفسدون، مثل الحال في المفاوضات على معاهدة حظر الذخائر العنقودية. وفي الوقت نفسه فإن كوبا - التي ما زالت مجتمعاً مغلقاً في الأمريكتين بعد نقل السلطة من فيدل كاسترو إلى شقيقه راؤول - قد خففت من دورها القيادي بين المفسدين، ولكن في ظل الفهم الضمني لأن مجلس حقوق الإنسان لن يعود لإحياء القرارات الخطيرة المتعلقة بهافانا.

وفي أفريقيا ثمة مجموعة من الحكومات لم تخضع للزعامة غير المفيدة من قبل الجزائر ومصر وجنوب أفريقيا. على سبيل المثال حاولت بوتسوانا وليبيريا ونيجريا وسيراليون وزامبيا أن تضغط على الاتحاد الأفريقي لكي يتصدى لروبرت موغابي في زيمبابوي. كما أن نيجيريا تحظى بتمثيل جيد في جنيف من قبل سفيرها الذي يرأس مجلس حقوق الإنسان وأظهر الالتزام بنزع الاستقطاب عن مجريات العمل فيه. وقدمت عدة حكومات أفريقية قوات لبعثات حفظ السلام في بوروندي ودارفور والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث المهمة الأساسية هي حماية المدنيين. ولعب المغرب دوراً بناءً في المفاوضات على اتفاقية جديدة ضد الاختفاءات القسرية. حتى جنوب أفريقيا، وبعد عدم الالتزام بدعم عقد جلسة خاصة بمجلس حقوق الإنسان عن بورما، تحدثت أخيراً علناً ضد القمع البورمي ما إن بدأت الجلسة. لكن هذه الأمثلة الإيجابية عادة ما تخفيها ظلال الجهود التدميرية الحثيثة التي يبذلها المفسدون.

مقاومة العدل الدولي

تحرك المفسدون في الآونة الأخيرة إثر طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية إصدار أمر توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير، بناء على اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور. وسعى السودان لإقناع مجلس الأمن بتجميد عملية المقاضاة. والمعركة السياسية القائمة تخص حكومة مسؤولة عن عمليات قتل جماعي واغتصاب وتشريد للضحايا في مسعاهم للعدالة. وقد يتمنى المرء أن تنضم الحكومات الأفريقية إلى صف الضحايا. لكن باسم التضامن الأفريقي قامت جنوب أفريقيا، بصحبة الجزائر ومصر وليبيا بدعم حملة من أجل وقف مقاضاة البشير المتهم بأعمال القتل الجماعي. والواضح أن هذه الحكومات قد غاب عن ذهنها معاناة الإنسان الأفريقي العادي. والمؤسف أن كل من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية وحركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي قد انضمت جميعاً إلى الحملة.

وتشتكي بعض حكومات الجنوب الأفريقي من أن المحكمة الجنائية الدولية قد انتقت أفريقيا دون غيرها للمقاضاة على نحو بعيد عن الإنصاف. ورغم أن أربعة من الدول التي نظرت فيها المحكمة الجنائية الدولية في قضايا هي بالفعل أفريقية، فلم تقم المحكمة بنفسها باختيار العمل في أي من هذه الدول. إذ قامت ثلاث حكومات أفريقية (أوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية) بتقديم طلبات للمحكمة للنظر في قضايا بلدانهم، وأحال مجلس الأمن القضية الرابعة (السودان) إلى المحكمة للنظر في الأعمال الوحشية التي يتم ارتكابها في دارفور. كما يتجاهل الانتقاد جهد العدل الدولي الأوسع المبذول. مثلاً فإن المحكمة الجنائية الدولية المنعقدة ليوغوسلافيا السابقة قاضت مشتبهين أكثر ممن قاضتهم المحكمة الجنائية الدولية. وفي العام الماضي أوقفت زعيم صرب البوسنة السياسي السابق رادوفان كاراديتش لمحاكمته بتهمة الإبادة الجماعية.

وبعض من ينبذون العدل الدولي بقوة هم زعماء يخشون أن يتعرضون هم أو من يخضعون لقيادتهم للمحاسبة جراء السلوك الإجرامي. فالرئيس الرواندي بول كاغامى، على سبيل المثال، يسعى لتفادي المقاضاة المستقلة لجنود الجبهة الوطنية الرواندية، وهي مجموعة متمردين قام بقيادتها من قبل، بتهم جرائم الحرب المرتكبة أثناء وبعد حملة الإبادة الجماعية الرواندية، بما في ذلك مقتل زهاء 30 ألف شخص. والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا مخولة ولاية مقاضاة الأفراد عن مثل هذه الجرائم، لكن بدلاً من الحرص على أن تحاكم جنود الجبهة الوطنية الرواندية، حرصت الحكومة الرواندية على نقل القضية الوحيدة الباقية ضمن اختصاص تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية المعنية برواندا إلى محاكمها الخاصة، حيث يمكنها بيسر أكبر أن تحدد وتحد من نتائج وعواقب المحاكمة.

وحين سعت أسر الضحايا الفرنسيين والإسبان الذين قتلهم جنود الجبهة للانتصاف في محاكمهم الوطنية، أصدر القضاة المسؤولون عن التحقيق في هذه الجرائم أوامر اعتقال بحق مسؤولين روانديين أرادوا التحقيق معهم. وانتقمت رواندا بزيادة مشاعر الكراهية الأفريقية ضد هذا "الانتهاك الصريح للسيادة والوحدة الأقليمية" المزعوم. وبعد أن أمسكت رواندا بدرع مقاومة الاستعمار، قامت برفض الاختصاص القضائي العالمي (أي سلطة أي حكومة في مقاضاة الأشخاص على الجرائم الأكثر جسامة حيثما وقعت) باعتبار أن هذا الاختصاص إهانة لأفريقيا. لكن هذا الزعم يتجاهل حقيقة أن رواندا نفسها استفادت أكثر من أية دولة أخرى من الاختصاص القضائي العالمي، مع محاسبة بعض المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية. كما يتجاهل الزعم تاريخاً طويلاً من استخدام الاختصاص القضائي العالمي ضد الجناة غير الأفريقيين، مثل عملاء "الحروب القذرة" في السبعينات والثمانينات في أمريكا اللاتينية، ومنهم الرئيس التشيلي السابق أوغوستو بينوشيه، وكذلك أفراد ضالعين في أعمال إبادة جماعية في البوسنة وجرائم حرب في أفغانستان.

مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان

قام المفسدون - عبر إظهار روح المبادرة ووضوح الرؤية أكثر من المؤيدين التقليديين لحقوق الإنسان - باتخاذ خطوات واسعة لإضعاف مجلس حقوق الإنسان الجديد، وهو الجهة الحكومية الأساسية بالأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، بسبب قدرته على تحميلهم هم أو حلفاؤهم المسؤولية. والأجدر بالملاحظة والذكر أنهم يقاومون القرارات الأساسية بشأن بلدان معينة، ما لم يكن بالإمكان إخلاء القرار من مغزاه بحيث توافق عليه الدولة المقصودة به ذاتها.

وشمل المفسدون في جنيف في مختلف الأوقات الجزائر والصين ومصر والهند وباكستان وروسيا وجنوب أفريقيا. ولعبت كل من الجزائر ومصر دوراً رسمياً في مجلس حقوق الإنسان بصفتهما قادة مجلس حقوق الإنسان عن المجموعة الأفريقية. وعلى مدار العام أو العامين الماضيين أسفر عن هذا الطابع من التحالف:

  • رعاية استصدار قرار بنجاح بشأن إنهاء ولاية الخبير المستقل في جمهورية الكونغو الديمقراطية رغم الأعمال الوحشية الجماعية هناك. ومصر، إذ زعمت أنها تتحرك بالنيابة عن الاتحاد الأفريقي، هي التي قادت هذه الحملة.
  • إنهاء مراجعة حقوق الإنسان في إيران وأوزبكستان.
  • معارضة أو الامتناع عن التصويت على قرار بشأن كوريا الشمالية، رغم تبنيه على أية حال.
  • الفشل بصفة عامة في دعم الدعوة لعقد جلسة خاصة بشأن دارفور، وعدم الالتزام بالدعوة لجلسة مماثلة عن بورما.

الاستثناء الوحيد على هذه الحملة ضد القرارات الموجهة للدول كان دعم المفسدين القوي لانتقاد إسرائيل وسلوكها في الضفة الغربية وغزة وحربها في لبنان. وإسرائيل تستحق الانتقاد بلا شك، لكن هذه الإدانات تفقد قوتها لأن المفسدين - ومن ثم المجلس - يترددون عن انتقاد مثيلاتها من الانتهاكات في بلدان أخرى.

ويبرر المفسدون معارضتهم لأغلب القرارات الموجهة للدول بالتأكيد على أن المجلس يجب ألا يسعى إلا للانخراط في الحوار مع الحكومات، وألا يضغط عليها قط. لكن في هذا افتراض خاطئ بأن كل الحكومات لديها رغبة ونية حسنة في احترام حقوق الإنسان، وأنها لا ترتكب الإساءات إلا لنقص القدرة التقنية لديها والتي يمكن أن توفرها المساعدات التعاونية. وفي واقع الأمر فإن الحكومات كثيراً ما ترتكب الإساءات عمداً. والرد المناسب الوحيد على مثل هذه الحالات هو فرض الضغوط، بواسطة ردود مثل قرارات الأمم المتحدة، إلى أن تكف هذه الحكومات عن إساءاتها.

ومع تمكن المفسدين من تجميع الأغلبية من بين 47 حكومة من الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، فقد سعوا إلى تدشين سيطرتهم بالحد من تأثير الأصوات المستقلة. وهذه الأصوات - ومنها المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان والعاملين معها، والمقررين الخاصين والخبراء المستقلين وكذلك المنظمات غير الحكومية - تعمل كترياق هام ضد المحادثات المُسيسة بين الحكومات والتي تميل للهيمنة على مجريات العمل بالمجلس. وقد حاول المفسدون إسكات هذه الأصوات المستقلة.

على سبيل المثال، فإن المشكلة الأكبر التي تواجه الخبراء والمقررين الخاصين والمراقبين المستقلين من نظام الأمم المتحدة هي نقص التعاون من قبل الحكومات. ومن الأمثلة على هذه المشكلة ما وقع في أنجولا، وهي دولة يتزايد فيها تأثير المجموعة الأفريقية، إذ أغلقت مكتب محلي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بعد عام واحد من التعهد بزيادة مستوى التعاون مع المكتب كجزء من حملتها لانتخابها في مجلس حقوق الإنسان. إلا أن المفسدين يروجون للقول بأن المشكلة هي سوء تصرف هؤلاء المراقبين أنفسهم، وأن الحل يكمن في فرض المزيد من رقابة الدول عليهم. إذن فإن المفسدين، بقيادة الجزائر، زادوا من سلطة الحكومات في اختيار الخبراء والمقررين الخاصين، وألزموهم بـ "مبادئ عمل" جديدة فيها قدر كبير من التدخل في عملهم.

كما حاول المفسدون ترويض المراجعة الدورية الشاملة لسجل الحكومات الحقوقي، بالإصرار على أن يستند بالأساس إلى معلومات توفرها الحكومات الخاضعة للمراجعة وليس المعلومات الواردة من الخبراء أو جماعات حقوق الإنسان. فضلاً عن أنهم يحاولون حالياً زيادة إشراف المجلس على المفوضية السامية لحقوق الإنسان.

في الجمعية العامة للأمم المتحدة

كانت أغلب جهود المفسدين في الأمم المتحدة ضمن مجلس حقوق الإنسان، لكنهم سعوا أيضاً لتقويض مبادرات حقوق الإنسان في الجمعية العامة. إلا أنهم في الجمعية العامة نالوا قدراً أقل من النجاح. على سبيل المثال:

  • بزعم التحدث بالنيابة عن المجموعة الأفريقية، عارضت جنوب أفريقيا قراراً للجمعية العامة يدين الاغتصاب بصفته جريمة حرب. ومنطقها في هذا: القرار "سيتم فرضه على الدول الأفريقية". ومن حسن الطالع أن أغلب الحكومات رفضت هذا العذر القاسي.
  • عارضت كل من الجزائر ومصر وليبيا والسودان وزيمبابوي قراراً للجمعية العامة ينتقد بورما على احتجاز واستخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين. وكان هذا بالكثير على أغلب الدول، ومنها الدول الأفريقية، التي إما امتنعت عن التصويت أو صوتت لصالح القرار، مما أدى لإقراره.

الصين: احتمال تطور أحد المفسدين

مع رفض الصين للانتقاد الدولي لسجلها الحقوقي منذ فترة طويلة، فهي عادة ما ترددت عن انتقاد الإساءات التي يرتكبها آخرون. وهي بهذا تنضم إلى قائمة المفسدين. إلا أن في السنوات الأخيرة ظهرت بعض الاستثناءات. في دارفور على سبيل المثال استخدمت الصين في بعض الأحيان نفوذها كأكبر مشتري لنفط السودان وأهم مصدر للأسلحة من أجل دفع الخرطوم إلى قبول نشر قوة حفظ سلام دولية من حيث المبدأ. إلا أن في أغلب الأحوال ظلت الحكومة الصينية عدوانية إزاء إنفاذ حقوق الإنسان. وهي تقاوم على الأخص فرض العقوبات، أو جعل علاقاتها الخاصة بالمساعدات أكثر شفافية، أو التحرك بناء على مبدأ "مسؤولية الحماية" الذي تم تبنيه في القمة العالمية لعام 2005. وفي بعض الحالات الأسوأ، فإن إصرارها على أن التدخل الدولي لا يُقدر له النجاح لهو قناع لعدم مراعاتها لمصلحة الضحايا.

على سبيل المثال، فإن الصين برفقة روسيا اعترضت على قرار لمجلس الأمن من شأنه أن يزيد من العقوبات على زيمبابوي رداً على رفض الرئيس موغابي العنيف لقبول انتصار خصمه في الانتخابات، مورغان تسفانجيراي. بالإضافة إلى أن في ذروة قمع موغابي، ومنه تفشي العنف ضد المؤيدين السلميين للمعارضة، أرسلت الصين بحمولة من الأسلحة إلى الجيش الزيمبابوي. وكانت حكومة جنوب أفريقيا لتُرسل أسلحة إلى هراري لولا احتجاح عمال الميناء الجنوب أفريقيين.

وبالمثل، فقد بذلت بكين بعض الجهود من وراء الستار للضغط على الجيش البورمي للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى البلاد إثر إعصار نرجس المدمر، لكنها منعت جهود مجلس الأمن من أجل التصدي للمشكلة. كما حاولت منع مجلس الأمن من أن يناقش حتى استخدام بورما للجنود الأطفال، دعك من فرض حظر أوسع على الأسلحة جراء هذه الإساءة المنتشرة، حتى رغم تصديق الصين على معاهدة حظر استخدام الجنود الأطفال.

وعلى الرغم من كلامها الكثير عن كونها مواطن صالح في الأمم المتحدة، فلم تقف الصين عند حد توبيخ المفوضية السامية لحقوق الإنسان بل أيضاً خمسة مقررين خاصين أرادوا زيارة التبت إبان اندلاع أعمال العنف هناك في مارس/آذار 2008. كما فرضت الصين الضغوط على نيبال لكي تداهم التبتيين الذين تظاهروا في كاتموندو ضد القمع الصيني في بلدهم.

روسيا

رغم تصديق روسيا الرسمي على احترام حقوق الإنسان، إلا أنها عادة ما تنضم إلى المفسدين في محافل الأمم المتحدة لحماية حلفائها وإبعاد الانتقاد في زيادة ممارساتها القمعية داخلياً. وتؤكد على أن السيادة الوطنية تعلو النشاط بمجال حقوق الإنسان، وتركز على أهمية تفادي الكيل بمكيالين وفرض "نظم قيمية مُستعارة". وفي مجلس الأمن على سبيل المثال، تميل لمعارضة النظر في انتهاكات حقوق الإنسان. كما أنها استعانت بحق الفيتو أو لوحت باستخدامه لمنع القرارات الهامة بشأن بورما وزيمبابوي. وفي نهاية المطاف أيدت روسيا نشر قوة حفظ سلام دولية في دارفور، لكنها تعارض التحرك لزيادة الضغوط على الحكومة السودانية.

كما تستخدم روسيا عضويتها في مختلف  المحافل الرسمية الأوروبية لحقوق الإنسان لتقويضها. على سبيل المثال فإن روسيا وحدها ضمن أعضاء مجلس الدول الأوروبية هي التي تمنع العمل على إصلاح المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُمكن المحكمة من تقليل التأخر الواسع في نظرها القضايا المطروحة أمامها. وأحد الأسباب الظاهرية لهذا أن المحكمة تكرر حُكمها على روسيا في قضايا تخص الإعدام بعيداً عن القضاء و"الاختفاء" في الشيشان. كما لم تقم روسيا بفرض إصلاحات هيكلية أمرت بها المحكمة.

فضلاً عن أن روسيا نجحت في إبعاد التدقيق في سلوكها الخاص، لاسيما في الشيشان، وضغطت على دول أوروبية أخرى من أجل الامتناع عن الاحتجاج على سلوكها. ولأكثر من عام منعت مجلس البرلمان الأوروبي من تنفيذ عمليات مراقبة ميدانية لحقوق الإنسان في الشيشان وعقد جلسات حوار علنية بشأن القضية. كما تستمر في منع نشر التقارير عن الشيشان من قبل لجنة مناهضة التعذيب في المجلس الأوروبي.

كما تلعب روسيا دوراً سلبياً في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وقد هددت - بلا نجاح حتى الآن - بـ "إصلاح" مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع للمنظمة. وسعت موسكو للاعتراض على تقارير مراقبة الانتخابات الصادرة عن مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض الموافقة عليها بالإجماع من قبل كافة دول منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، مما مكن كل الدول (ومنها روسيا) من الاعتراض على الانتقادات وإضعاف عمل مكتب المؤسسات إلى حد كبير. كما حاولت روسيا أن تقصر المشاركة في اجتماعات منظمة الأمن والتعاون الأوروبي على المنظمات غير الحكومية المسجلة في روسيا والتي يوافق عليها الوفد الروسي بالمنظمة، وهو أسلوب آخر تتبعه الحكومات المُسيئة من أجل إسكات منتقديها.

الهند

بصفتها أكثر دول العالم الديمقراطية سكاناً، فربما من المتوقع من الهند أن تكون في الصف الأول ضمن الجهود العالمية للترويج لحقوق الإنسان. وفي الماضي أحياناً ما تولت الهند دوراً قيادياً في الدفاع عن الحقوق، مثل معارضتها لنظام الأبارتيد العنصري في جنوب أفريقيا، ودعمها للحركة الديمقراطية في بورما عام 1988. إلا أن سياستها الخارجية الحالية من شأنها أن تجعل أي ديكتاتور يتيه فخراً بنفسه.

ثمة عدة أسباب لهذا الأداء المؤسف. أولاً، فعلى الرغم من الضمانات القانونية القوية والكثيرة ووجود نظام قضائي مستقل، فإن الحكومة الهندية ما زالت ترتكب إساءات جسيمة، على سبيل المثال في كشمير ومانيبور أثناء قمعها لمتمردي ناكاسليت ومؤيديهم المزعومين، وفي معاملة الداليت - إذ تميل لمعارضة العمل الدولي بمجال الحقوق خشية وقوع سابقة قد تُستخدم ضدها فيما بعد. ثانياً، وفي ظل اقتصادها المتنامي والعالمي، فإن الهند تزيد من منحها الأولوية للمصالح والخطط الاقتصادية وتعليها على الترويج لحقوق الإنسان، لاسيما في محاولتها (في العادة بلا نجاح) التقليل من التأثير الصيني في جنوب آسيا ومنافسة الصين في بلدان مثل بورما.

وأخيراً، فمثل جنوب أفريقيا، فإن الحكومة الهندية تنضم إلى التضامن الجنوبي الذي في غير محله. فالحكومة وجهاز الدولة البيروقراطي، ولهما الغلبة على عملية صنع القرار، لهما رؤية عالمية تربط بعمق بين حماية الحقوق دولياً بالاستعمار. وللهند كل الحق في تذكير القوى الغربية بخطاياها الماضية، لكن من الخطأ أن تربط احتياج الناس الذين يكابدون الإساءات حالياً بسياسة تُركز على الماضي. ومن المؤسف أن الكثير من المسؤولين الهنود يبدو أنهم لا يشعرون بمسؤولية رؤية الأشخاص في الدول الأخرى يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الهندي.

وثمة بعض الاستثناءات. ففي لحظة هامة في نيبال على سبيل المثال، ساعدت الهند على تمهيد الطريق أمام إنشاء مكتب للمفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة (جزئياً خشية الحركة الماوية بشكل عام)، رغم أنها تحاول الآن إخراج البعثة السياسية للأمم المتحدة. وفيما يتعلق ببورما، يبدو أن الهند جمدت مساعداتها العسكرية لها رداً على حملة بورما عام 2007 على المتظاهرين السلميين وعلى القيود التي فرضتها بورما على المساعدات الدولية لضحايا إعصار نرجس عام 2008، لكن دبلوماسيتها الخاصة توصلت في أفضل الأحوال لنتائج غير واضحة.

إلا أن الأكثر وضوحاً هو أن الهند تعادي الحماية الدولية لحقوق الإنسان، وعادة ما تقوم بالتصويت ضد القرارات الموجهة للدول في مجلس حقوق الإنسان. على سبيل المثال قامت بالتصويت لصالح منع أي نقاش حول السودان، وامتنعت عن التصويت على قرار ينتقد كوريا الشمالية، وصوتت ضد قرار على كوبا، وصدقت على طلب بـ "عدم التحرك" بشأن بيلاروسيا. ولتبرير هذه العدوانية للدفاع عن حقوق الإنسان، تمتطي الهند عادة منطق الإيمان بالانخراط الخاص بمجال حقوق الإنسان وليس الضغوط العلنية. وبعيداً عن الموقف المُعلن قال المسؤولون إن مثل هذا الإنفاذ يستهدف في كل الأحوال تقريباً الدول الفقيرة فيما تفلت الدول القوية بإساءاتها الجسيمة، وهو ظلم واقع بالفعل لكن وكما سبق الذكر فهو ليس مبرراً مشروعاً لعدم التحرك لإنقاذ الضحايا الأفقر.

وما زالت الهند حساسة لأي نقاش علني لسجلها الحقوقي. وكثيراً ما تعارض الزيارات التي يعتزم محققون بمجال حقوق الإنسان من الأمم المتحدة إجراءها للهند، ولم تسمح إلا بزيارات للمقررين الخاصين بشأن الحق في الغذاء عام 2005، وبشأن العنف ضد المرأة عام 2000، وبشأن حرية المعتقد الديني في عام 1996. وفي الوقت نفسه فقد تجاهلت طلبات بالزيارة تقدم بها المقررون الخاصون المعنيون بالتعذيب والإعدام دون محاكمة، منذ عام 1993، وكذلك طلبات صدرت مؤخراً من قبل محققي الأمم المتحدة المعنيين بالعنصرية، وبالنفايات السامة، وبالمدافعين عن حقوق الإنسان، وبالاحتجاز التعسفي.

سنوات بوش الكارثية

كما أسلفنا فإن صعود المفسدين كان ليقل أثره إذا لم تتنازل حكومات ألزمت نفسها بالدفاع عن حقوق الإنسان عن قيادتها في هذا الصدد. فأكثر الحكومات التي تلقى اللوم على تنازلها عن هذه القيادة هي الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وكما هو معروف فإن إدارة بوش اختارت الرد على تحدي الإرهاب الأمني الجدي بتجاهل المتطلبات الأساسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقرارها - الذي لم يصدر عن "قلة قليلة" من المسؤولين منخفضي الرتبة، بل من أعلى المستويات الحكومية - كان بـ "إخفاء" المشتبهين في مراكز احتجاز سرية تديرها وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي آيه) وفيها لم يتم الاعتراف باحتجاز الأفراد وتعريضهم للتعذيب وغيره من التقنيات المُسيئة المعروفة بـ "محاكاة الإغراق" وتقنيات "الإجهاد" العديدة، واحتجازهم لسنوات دون توجيه اتهامات إليهم أو محاكمتهم في غوانتانامو. وكانت النتائج كارثية. فهذا الانتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان تمخض عن كراهية للولايات المتحدة كانت خير مُعين لمن يجندون الأفراد للقيام بالأعمال الإرهابية، وثبط العزم عن المضي قدماً في التعاون الدولي ضمن جهود إنفاذ القانون، لاسيما من قبل الدول التي يُرجح أن تعرف أكثر من غيرها بالضحايا والأنشطة المشبوهة.

وسوء سلوك إدارة بوش قوض كثيراً من تأثير الولايات المتحدة بمجال حقوق الإنسان. لكن أحياناً ما كان بإمكان واشنطن أن تبذل الجهود المثمرة بمجال حقوق الإنسان: فحين تكون القضية متعلقة بالحق في حرية التعبير أو التجمع، وهي الحقوق التي ما زالت تُحترم لأقصى حد في الولايات المتحدة، وحين كان للحكومة الأميركية القدرة على الضغط لما لها من علاقات تمويل مع الحكومات المعنية، أو حين تكون الأعمال الوحشية موسعة للغاية، مثل تفشي المذابح الإثنية أو السياسية التي يمكن للولايات المتحدة أن تعارضها دون أن تواجه اتهامات بالنفاق.

إلا أن الأكثر مشاهدة أنه حين كانت إساءات حقوق الإنسان من بين ما اعتادت إدارة بوش أن تمارس، كانت الولايات المتحدة تضطر لإخلاء المجال والانسحاب. ولا يتجسد هذا أكثر مما تجسد في مجلس حقوق الإنسان. فقد انتقدت واشنطن من بعيد بعض مثالب هذه المؤسسة الجديدة، لكن وكما سيُذكر بقدر أكبر من التفصيل أدناه، فهذه المؤسسة - المجلس - بعيدة كل البعد عن كونها قضية خاسرة. وبدلاً من العمل على السمو بها لتبلغ قوتها التي يمكن لهذه المؤسسة أن تبلغها، تخلت إدارة بوش عن المشروع منذ بدايته.

وربما كان هذا جزئياً إقراراً بالواقع، نظراً لسجل إدارة بوش الحقوقي، إذ كانت الولايات المتحدة لتواجه أبلغ المشقة في نيل عضويتها في المجلس بالانتخاب. لكن جزء هام من الدافع يبدو أنه منهج إدارة بوش المتكبر إزاء المؤسسات متعددة الأطراف. إذ بدلاً من القيام بمهمة شاقة ولكنها ضرورية تتمثل في بناء التحالف العالمي الواسع لحقوق الإنسان، مالت واشنطن نحو إلقاء قنابل كلامية من على الخط الجانبي حين لم تسر الأمور على هواها. ومع استسلام أحد أهم الحلفاء التقليديين لحركة حقوق الإنسان دون مقاومة، فليس من المدهش أن حلفاء الحركة الذين ظلوا في المجلس يواجهون كل المشقة في العمل.

الفشل في الإمساك بزمام المبادرة

كما سبق الذكر فإن المفسدين احتلوا الصدارة في الحوار العالمي حول حقوق الإنسان، ويرجع هذا جزئياً لأن أغلب الدول الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان قد اختارت أن تختبئ بعيداً عن أضواء الصدارة. وبالطبع فإن الكثير من النظم الديمقراطية لم تكن على الإطلاق من المدافعين بلا هوادة عن حقوق الإنسان، بتاريخها الطويل من تجاهل وفي بعض الأحيان رعاية الإساءات التي يرتكبها الحلفاء والشركاء الإستراتيجيين. لكن الآمال في أن القرن الجديد قد يأتي برفقة سياسات خارجية ترمي لبناء وقفة دفاعية متسقة ومستندة إلى المبادئ عن حقوق الإنسان، قد تقوضت جراء التنازلات التي ظهرت في معرض مكافحة الإرهاب وغياب الالتزام المثير للآسف. وقد شهدت السنوات الأخيرة على الأخص ضعفاً في الأداء. وتزايد تنازل الحكومات عن حقوق الإنسان مقابل الدخول في علاقات مع المنبوذين والخصوم.

وفي بعض الأمثلة على عدم الفعالية في العلاقات الثنائية، تحملت الولايات المتحدة المسؤولية الأساسية، على سبيل المثال:

  • قدمت واشنطن مساعدات هائلة للجيش الباكستاني فيما بذلت القليل من أجل تقييد استخدام الاستخبارات للتعذيب و"إخفاء" المشتبهين. وبالفعل تعاونت وكالة الاستخبارات المركزية مع المخابرات الباكستانية في احتجاز المشتبهين بالإرهاب واستجوابهم في سجون سرية. وإصرار القضاء الباكستاني المستند إلى المبادئ على النظر في هذه الاختفاءات القسرية، وكذلك عدم استعداده لمباركة انتخاب الرئيس مشرف رئيساً وهو ما زال في صفوف الجيش، هو ما أدى بمشرف إلى خلع رئيس القضاة افتخار شودري، وغيره من قضاة المحكمة العليا. ولم تبذل واشنطن إلا القليل على مسار الضغط من أجل إعادتهم أو دعوة مشرف إلى إخضاع نفسه لسيادة القانون. وفي نهاية المطاف استقال مشرف استجابة للضغوط الداخلية، لكن أعاقت واشنطن جهود تحميله المسؤولية على عدم التزامه بالقانون، مع حرص واشنطن على عدم إهانة حليفها المُقرب.
  • كانت أثيوبيا من بين أسوأ الدول من حيث سجل حقوق الإنسان في أفريقيا. وقد استخدمت قواتها سياسات إحراق الأرض في مكافحة التمرد، بما في ذلك قتل الأشخاص وحرق القرى وتشريد سكان القرى في منطقة أوغادين الصومالية الإثنية. وفي الصومال قامت القوات الأثيوبية بالقصف العشوائي لمناطق مكتظة بالمدنيين وعذبت وأعدمت مؤيدين مزعومين للجماعات المتمردة. وفي الوقت نفسه استخدمت الحكومة الأثيوبية العنف والاحتجاز التعسفي في قمع المعارضين السلميين داخلياً. لكن بصفتها حليف إقليمي هام في مكافحة الإرهاب، تستفيد أثيوبيا من زهاء 700 مليون دولار سنوياً من الولايات المتحدة، بالإضافة إلى سكوت علني ملحوظ من واشنطن إزاء هذه الأعمال الوحشية.
  • أظهرت واشنطن في عام 2005 ولفترة وجيزة قدرتها على كسب تنازلات بمجال حقوق الإنسان من الحكومة المصرية، لكنها تراجعت عن ضغطها بالإصلاح حين منحت الانتخابات البرلمانية مكاسب كبيرة للإخوان المسلمين. ومع استعادة الدعم غير المشروط - إذ ما زالت مصر ثاني أكبر دولة في العالم تتلقى الدعم الأميركي - لجأت الحكومة إلى اعتقال وضرب النشطاء الديمقراطيين، ومنهم آلاف الأعضاء بالإخوان المسلمين، ومقاضاة الصحفيين والناشرين والكُتاب الذين يدعون للانتخابات النزيهة أو يعلقون حتى على صحة الرئيس حسني مبارك، مع ارتكاب أعمال التعذيب على نطاق واسع، وإساءة معاملة اللاجئين بإعادتهم قسراً إلى إريتريا والسودان، وقتل 32 مهاجراً على الأقل منذ عام 2007 كانوا يحاولون عبور الحدود إلى إسرائيل.

وفي حالات أخرى أخطأ الاتحاد الأوروبي أو دوله الأعضاء في ردود الفعل الضعيفة على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان:

  • فرض الاتحاد الأوروبي العقوبات - حظر للأسلحة وقيود على تأشيرات دخول مسؤولين كبار مُختارين - على أوزبكستان إبان مذبحة عام 2005 بحق المتظاهرين في بلدة أنديجان. ومنذ ذلك الحين تُعد سياسة الاتحاد الأوروبي نحو أوزبكستان دراسة حالة نموذجية في التنازل التدريجي. إذ أن عقوبات الاتحاد الأوروبي المبدئية اشترطت أن توافق طشقند على تحقيق دولي مستقل في المذبحة. ورفضت الحكومة الأوزبكية وبدلاً من هذا اعتقلت الشهود على عمليات القتل وأجبرتهم على تبرئة الحكومة. إلا أن الاتحاد الأوروبي راح يُضعف تدريجياً من العقوبات، مبرراً تحركه هذا بأنه "لمسات بناءة" لتشجيع الحكومة الأوزبكية على إجراء الإصلاحات الضرورية. ومما يُحسب للاتحاد الأوروبي أن الاتحاد ربط العقوبات بالإفراج عن جميع المدافعين عن حقوق الإنسان المسجونين. إلا أنه حين رفضت طشقند، هز الاتحاد الأوروبي كتفيه لامبالياً ورفع العقوبات على أية حال. ومن بين الأمثلة على "التقدم" المذكور بصفته مبرراً للتنازل هو إخلاء سبيل طشقند لبعض السجناء السياسيين رغم سجنها لآخرين غيرهم، وعقدها جلسة نقاش حول الحريات الإعلامية رغم غياب أية حرية فعلية للإعلام في أوزبكستان.
  • حين سعى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية إلى استصدار أمر توقيف بحق رئيس السودان عمر البشير؛ قام البشير بالتهديد ضمنياً بإلحاق الأضرار بالمدنيين بكافة السبل، وكذلك بالعاملين بالإغاثة الإنسانية وعناصر حفظ السلام الدوليين، ما لم يجمد مجلس الأمن المقاضاة. وبدلاً من إدانة ورفض هذا الابتزاز بدأت بريطانيا وفرنسا في التفاوض على الشروط (وفي الوقت نفسه ينكرون أنهم يتفاوضون، ويقولون بأنهم يبحثون سبلاً يمكن حل المشكلة بواسطتها). وكانت الشروط التي فرضوها قوية، لكن البشير سرعان ما أظهر نيته عدم الوفاء بها، إلا أن الرسالة الخطيرة التي تم إرسالها ضمنياً كانت أنه قد يحصل على مكافأة جراء الأعمال الوحشية الجماعية إذا هدد بالمزيد من الأعمال الوحشية الجماعية.
  • مع مهاجمة قوات زعيم المتمردين لورينت نكوندا وتهديدها المدنيين في المنطقة الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ تولت الحكومتان البريطانية والفرنسية زمام المبادرة وأرسلتا بوزراء الخارجية إلى المنطقة، لكن إعلاناتهما التي أبديا فيها القلق لم يتلها دعم موازٍ في القوة من عناصر حماية المدنيين في شرق الكونغو. وبدلاً من إرسال قوة حفظ سلام أوروبية متواضعة إلى هناك على وجه السرعة، تباطئ أداء الاتحاد الأوروبي في أثناء أسابيع حرجة وصعبة من الأزمة. وفوض مجلس الأمن بتوسع قليل في عناصر حفظ السلام الأممية في شرق الكونغو لكن دون تنفيذ، وهذا حتى أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2008، فيما يتعلق بتحسين جودة وسعة القوة المطلوبة لحماية المدنيين. يجدر بالذكر أن الاتحاد الأوروبي أبدى تردده في نشر "مجموعتي قتال" قوام كل منهما 1500 عنصر وكان قد تم تشكيلهما في عام 2007 من أجل هذه الأوضاع خصيصاً، مما يدفع المرء للتساؤل إذا كان سيتم استخدام هذه القوات الحمائية على الإطلاق.
  • رفع الاتحاد الأوروبي حظر السفر عن الرئيس البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكا رغم أنه لم يطرأ تحسن ملحوظ على سجل مينسك الحقوقي المؤسف. وكان الدافع وراء القرار تدهور العلاقات الأوروبية مع روسيا، وأمل الحكومات الأوروبية في تقريب بيلاروسيا أكثر من الغرب.

وبمعزل عن الرد على إساءات الآخرين، فإن بريطانيا مهددة بأن تصبح هي ذاتها متواطئة في الإساءات، باستمرارها في الإصرار على الحق في إرسال المشتبهين في أعمال إرهابية إلى حكومات تمارس التعذيب. وللإفلات بهذا يعتمدون على ضمانات دبلوماسية واهية بالمعاملة الإنسانية من حكومات تخرق التزاماتها التعاقدية بشكل متكرر فيما يتعلق بعدم التعذيب. وكانت الجهود البريطانية الخاصة بصياغة موقف موحد للاتحاد الأوروبي يُصدق على هذه الممارسة هي جهود غير ناجحة إلى الآن، لكن بكونها نموذج سيئ ساعدت على إلهام حكومات أخرى بفعل المثل - منها الدنمارك وإيطاليا وكرقيزستان وروسيا وإسبانيا وسويسرا - مما أضعف من الحظر العالمي على التعذيب. كما سعت بريطانيا إلى تفريغ الاستثناء على حظر إعادة الأشخاص إلى أماكن يواجهون فيها خطر المعاملة السيئة من محتواه بترويجها لقاعدة جديدة من شأنها أن تسمح بمثل عمليات الترحيل هذه إذا كان استمرار وجود المشتبه في الدولة الراسلة يفرض تهديداً أمنياً كبيراً. وقد رفضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا المقترح بالإجماع.

وفي الشرق الأوسط على الأخص يبدو أن الحكومات الغربية كافة شريكة بالتساوي في الفشل في الترويج لحقوق الإنسان وتعزيزها:

  • بسبب إنتاج المملكة العربية السعودية النفطي وموقعها كحليف في مكافحة الإرهاب، فلم تمارس أية حكومة غربية أي ضغوط جدية فيما يتعلق بغياب الحريات السياسية والمجتمع المدني بشكل شبه كامل. وبالفعل قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بالإشادة ببرنامج سعودي ووعدتا بالتعلم منه، وهذا البرنامج يُبقي على الآلاف من المشتبهين بالإرهاب دون توجيه اتهامات إليهم أو محاكمتهم، ويقدم لهم بدلاً من هذا "إعادة التأهيل".
  • سعى الغرب بنشاط إلى تحسين العلاقات مع ليبيا في ظل أقل الانتقاد لسجل حقوق الإنسان الباعث على الأسى في ليبيا. ومقابل تخلي ليبيا عن خطط بشراء أسلحة دمار شامل وتعويض ضحايا لوكربي، كافأ الغرب ليبيا بسخاء باستئناف الزيارات الدبلوماسية وتجديد النشاط الاقتصادي معها. إلا أن الحكومات الغربية لم يكن لديها الكثير لتقوله عن الغياب شبه الكامل لأي حريات مدنية أو سياسية في ليبيا.
  • تكرر حصار إسرائيل لغزة، ومنعت عنها الوقود والأغذية والعقاقير الطبية والمواد الأساسية. وسعت إلى تبرير هذا العقاب الجماعي الذي يستهدف السكان المدنيين بأنه انتقام جراء الهجمات الصاروخية العشوائية التي تشنها جماعات غزاوية مُسلحة على المناطق المدنية في إسرائيل. وتقدمت الحكومات الغربية بإدانات علنية من الحين للآخر، لكنها لم تربط مساعداتها الاقتصادية الهائلة المُقدمة لإسرائيل بأي تغيير على الأرض. ولم تكابد إسرائيل تبعات توسعها الاستيطاني غير القانوني وتشييدها للجدار/الحاجز داخل الضفة الغربية.

وفي مناطق أخرى، سعت أستراليا وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وهولندا - في بادئ الأمر على الأقل - إلى تقويض الحظر المطلق على الذخائر العنقودية بالسعي لفرض استثناءات على أنواع مُعينة تُخزنها هذه الدول ضمن ترسانات الأسلحة لديها بأعداد كبيرة. والحظر المطلق هام لأنه وكما هو الحال بالنسبة لمعاهدة الألغام الأرضية، فإن بعض القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين يمكن أن ترفض المعاهدة، لكن الحظر المطلق الذي يصم هذا النظام من أنظمة التسليح، من شأنه أن يُصعب سياسياً على هذه الدول استخدامه بعد فرض المعاهدة. وقد تجاوز تحالف مكون من النمسا وأيرلندا والمكسيك والنرويج ونيوزيلاندا هذه المقاومة وحقق الحظر المطلق.

وبالمثل فإن اتفاقية عام 1990 لحقوق العمال المهاجرين وذويهم لم تصدق عليها أي من دول الاتحاد الأوروبي أو أستراليا أو كندا أو اليابان أو الولايات المتحدة. وحتى الآن فإن الحكومات الراسلة للعمال فقط هي التي تبنت الاتفاقية، مما يقوض كثيراً من قدرة الاتفاقية على حماية عدد كبير من الأشخاص المعرضين للضرر.

وبعض النظم الديمقراطية الكبرى تكرر إظهارها لدور الزعامة الإيجابي في مجال حقوق الإنسان:

  • رفض رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون حضور قمة بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي لوجود الرئيس الزيمبابوي روبرت موغابي فيها.
  • اقترح دوغلاس ألكساندر، وزير التنمية الدولية البريطاني، أن يتم ربط المساعدات المقدمة لأثيوبيا بوضع حد لإساءاتها في إقليم أوغادين. ويُعد هذا بمثابة نقلة مُحتملة قد تطرأ على صمت بريطانيا المألوف تجاه الإساءات الأثيوبية في الوقت الذي تقدم فيه مساعدات مالية كبيرة للحكومة الأثيوبية.
  • احتجاجاً على دعم رواندا للقوات المُسيئة في صفوف حليفها زعيم المتمردين لورينت نكوندا في شرق الكونغو، أعادت هولندا توجيه مساعدتها التنموية من رواندا إلى شرق الكونغو.
  • فرضت كل من الولايات المتحدة وأستراليا والاتحاد الأوروبي عقوبات على بورما جراء حملتها الوحشية ضد المتظاهرين السلميين، رغم الضغوط المناوئة من الصين ومنظمة الآسيان.
  • قاطعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مراسم افتتاح أولمبيات بكين احتجاجاً على حملة الصين القمعية في التبت.
  • إدارة بوش، ورغم معارضتها للمحكمة الجنائية الدولية، تزعمت جهود مقاومة تجميد عمل المحكمة الخاص بمقاضاة الرئيس السوداني عمر البشير.

إلا أن هذه الأمثلة الإيجابية لم تتكرر بشكل منتظم بما يكفي لبناء الزخم المطلوب للدفاع عن حقوق الإنسان، وعلى النحو الفعال بما يكفي لبناء الضغوط ضد المُفسدين.

الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان

كان ضعف دعم الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان واضحاً بشكل استثنائي في الآليات متعددة الأطراف مثل مجلس حقوق الإنسان. وكما سبق الذكر فإن إدارة بوش لم تحاول حتى أن تُحسِّن من أداء المجلس، وتركت المهمة على عاتق آخرين. وبذل الاتحاد الأوروبي بعض الجهد من أجل الأخذ بزمام القيادة في جنيف، لكن من يتحدث إلى الدبلوماسيين التابعين للاتحاد الأوروبي سيسمع درساً مُحبطاً في الانهزامية.

وأغلب الدرس يكمن في الإجراءات المقوضة للفعالية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي قبل الإجماع على سياسة مشتركة. فالمجلس مقسم بالتساوي بين حكومات تميل لدعم مبادرات حقوق الإنسان، وحكومات تميل لمعارضتها، وبعض الأصوات المتأرجحة بين هذا وذاك، وهي حكومات كانت تميل للانضمام إلى المفسدين لكن يمكن زحزحتها إلى جانب تأييد حقوق الإنسان. وبمنح توجيه إستراتيجي موسع وعام، ربما يُمكن الاتحاد الأوروبي دبلوماسييه من التحرك بشكل خلاق وجريء لصياغة وبلوغ أغلبية متعددة الأطراف إقليمياً ومؤيدة لحقوق الإنسان من بين الأصوات المتأرجحة.

وبدلاً من هذا قاد الاتحاد الأوروبي عملية بناء الإجماع الداخلي فيما يُعتبر درساً نموذجياً على الإدارة متناهية الصغر. إذ أنفق الدبلوماسيون الأوروبيون وقتاً طويلاً في التفاوض على تفاصيل دقيقة للإجماع فيما بينهم، وهو ما يتمثل في العادة في الموافقة على أي قرار مُقترح كلمة بكلمة، حتى إنهم عندما بلغوا الاتفاق فيما بين الدول الأعضاء الـ 27 جميعاً، كانوا قد أنهكوا تماماً، ولم تبق لديهم الطاقة أو المرونة لتحقيق الإجماع فيما بين الحلفاء المحتملين. ولتفادي البدء من جديد في عملية مؤلمة وشاقة لبناء الإجماع الجديد في الاتحاد الأوروبي، ينبغي على الدبلوماسيين الأوروبيين أن يتفادوا سياسة الأخذ والعطاء ويحاولون بدلاً من هذا إقناع الآخرين بقبول الموقف الأوروبي المتفق عليه داخلياً دون تعديل. ومما لا حاجة لقوله أن هذا ليس موقفاً تفاوضياً فعالاً.

ويميل هذا المنهج لأن يؤدي لمزيد من التدهور في أجواء "الغرب ضد الباقين" التي تسود كثيراً في أروقة الأمم المتحدة. فهذا الاستقطاب و"ذهنية التكتل" تجعل من الصعب على الدول المعتدلة أن تفصل نفسها عن المفسدين من أمثال الجزائر ومصر وجنوب أفريقيا، والتي تميل للهيمنة على المداولات في أروقة الاتحاد الأفريقي، مما يُصعب من بناء أغلبية متعددة الأقاليم ومؤيدة لحقوق الإنسان.

حتى عندما أراد الاتحاد الأوروبي أن يتحرك، فإن تردده في انتقاد واشنطن جراء سياسات مكافحة الإرهاب المسيئة تركه عرضة لاتهامات بالكيل بمكيالين والمعايير المزدوجة. مثلاً برفضه التصديق على الجهود التي تزعمتها كوبا في مجلس حقوق الإنسان من أجل انتقاد غوانتانامو (حتى رغم أن القرار المقترح كُتب عمداً بصيغة كان قد سبق للمجلس الأوروبي أن استخدمها في قرار له)، فإن الاتحاد الأوروبي أسهم في نشر ذهنية "احم نفسك" التي تسود في مجلس حقوق الإنسان حالياً. وبالمثل فإنه بالموافقة على وضع حد لمراقبة الأمم المتحدة للأوضاع في العراق وأفغانستان بعد انتهاء الغزو الأميركي للدولتين، فإن الاتحاد الأوروبي يسهل على الآخرين معارضة القرارات التي تستهدف الدول الصديقة.

ومع عدم القدرة بناء على هذه الأسباب على حشد أغلبية مؤيدة لحقوق الإنسان في المجلس، فإن الاتحاد الأوروبي يميل للنأي بنفسه إلى جانب القرارات التي يسهل الإجماع حولها، مثل القرار المعني بالسودان، أو يترك نفسه فريسة الهزيمة مثل القرارات الخاصة بإنهاء عمل جماعات الخبراء في دارفور أو قرارات وضع حد للمراقبة في بيلاروسيا وكوبا. وبالمثل فعلى الرغم من الأعمال الوحشية الموسعة التي تجري حالياً شرقي الكونغو الديمقراطية، فإن الاتحاد الأوروبي قد أذعن لقرار "ترضية" برعاية مصر يضع حداً لولاية الخبير الأممي المستقل في الكونغو، وقد قبل الاتحاد الأوروبي ورقة التوت المتمثلة في تحديد موعد لمناقشة أخرى حول الكونغو العام المقبل.

استرجاع زمام المبادرة

إن حقيقة أن زمام مبادرة حقوق الإنسان قد استولت عليه حكومات لا تضمر خيراً للحماية الدولية يجب ألا يولد اليأس بل التصميم على المقاومة. وإدارة أوباما الجديدة في واشنطن توفر أملاً بأن تتمكن الحكومة الأميركية من استئناف دورها القيادي في الترويج لحقوق الإنسان وتعزيزها. وإذا أمكن للاتحاد الأوروبي أن يحشد الإرادة السياسية الكافية وأن يتغلب على شلله الإجرائي الذي يفرضه على نفسه، فسوف يصبح في وضع يساعده على بناء تحالف عالمي صادق بمجال حقوق الإنسان، يمكنه - التحالف - استرجاع زمام المبادرة من المفسدين.

إن الحكومات التي تزعم الترويج لحقوق الإنسان ينبغي عليها الالتزام ببعض القواعد الأساسية التي يجب أن تصبح نافذة وقائمة. أولاً ينبغي عليهم أن يضمنوا احترامهم الحقيقي والحازم بحقوق الإنسان؛ لأن القانون الدولي يُلزمهم بهذا ولأن هذا مثال إيجابي، ولأن الالتزام يساعد على إسكات الاتهامات بالنفاق. وينبغي عليهم أن يتخلوا عن الجهود الرامية لتقويض معايير حقوق الإنسان، مثل مبدأ الحظر على التعذيب في إطار مكافحة الإرهاب أو حماية اللاجئين في خضم الهرولة لصياغة سياسة مشتركة للجوء. وحين تواجه الحكومات الانتقاد على انتهاكها لحقوق الإنسان، عليها أن تقبله - الانتقاد - بصفته طرحٌ مشروع بدلاً من مواجهته بالرفض التلقائي.

وفي سياستها الخارجية، على هذه الحكومات أن تروج لحقوق الإنسان بشكل ينطوي على المساواة قدر الإمكان. ويعني هذا عدم انتقاد الدول المنبوذة فقط، بل أيضاً الحلفاء والأصدقاء الذين يرتكبون انتهاكات حقوقية جسيمة. وينبغي عليها أيضاً أن ترفع من أهمية حقوق الإنسان في علاقاتها بالحكومات الأخرى، وأن تُكلف كبار المسؤولين بالقضية، وتصر على أن تحتل حقوق الإنسان مكانة بارزة على أجندة المحادثات الثنائية، وأن تفرض نقاط مرجعية واضحة لا لبس فيها من أجل التغيير وفيها تبعات مُحددة لتجاهل الإصلاح أو التراجع على مساره.

وفي العلاقات متعددة الأطراف، ينبغي أن تكون الأولوية العظمى لهذه الحكومات هي حشد الأغلبية المؤيدة لحقوق الإنسان بتشجيع الحكومات التي تحترم الحقوق من كافة المناطق على التحدث علناً عن حقوق الإنسان. وفيما يتعلق بمجلس حقوق الإنسان على سبيل المثال، فإن على الدول المُحترمة للحقوق أن تتشجع وتتقدم للترشيح، في ظل معارضة ترشيح المفسدين وحلفاءهم. وهزيمة مرشحي بيلاروسيا وسريلانكا في السنوات الأخيرة تُظهر ما يجب عمله بشكل أكثر انتظاماً ومنهجية على هذا المسار.

وينبغي أيضاً بذل الجهود من أجل ضمان أن الحكومات التي تعرقل الدفاع عن حقوق الإنسان تدفع ثمناً سياسياً باهظاً داخلياً. فالحكومات الديمقراطية ذات المجتمعات المدنية القوية مثل الهند وجنوب أفريقيا تتمكن من الإفلات بمواقفها السلبية إزاء حقوق الإنسان لأن قلة داخل هذه البلدان يتعقبون سجلات الحكومة الخاصة بالتصويت في المحافل الحكومية الدولية ونادراً ما تتحدث وسائل الإعلام الوطنية هناك عن سلوك الحكومة خارجياً في هذه المحافل. لذا فحين تصوت بشأن بورما أو السودان أو زيمبابوي فهي لا تواجه الانتقاد الذي كانت لتواجهه بلا شك إذا كانت تتبنى سياسات داخلية قمعية مثيلة. ومساعدة الصحفيين والمجتمع المدني على زيارة نيويورك وجنيف والعواصم الإقليمية لمراقبة حكوماتهم والضغط عليها خارجياً يُعد خطوة أولى مفيدة في هذا الصدد.

كما أنه من المهم الإقرار بأن حكومات كثيرة من الجنوب لديها شكاوى مشروعة إزاء سلوك الحكومات الغربية. وهذه الشكاوى لا تبرر عدوانيتها نحو حقوق الإنسان، لكنها تؤثر على رؤية هذه الحكومات لها بلا شك. وزيادة عدد الحكومات الجنوبية المستعدة للترويج لحقوق الإنسان يتطلب التصدي لإحساسها بأن اهتمام الغرب بحقوق الإنسان يختلف مع مستوى المصلحة الإستراتيجية المعني، وبأن الدول القوية يُسمح لها الإفلات من العقاب جراء سلوكها السيئ، وأن الأجزاء الغنية من العالم غير معنية على نحو كافي بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجنوب، مثل الحق في الغذاء في سياق ارتفاع الأسعار أو الحق في الرعاية الصحية الأساسية في خضم الاقتصاد المتدهور. والالتزام الصادق بالإقرار بهذه المسؤوليات يساعد على التعاون مع دول مثل غانا وزامبيا والمكسيك وبيرو وأندونيسيا والفلبين، وهي دول حري بها أن تمارس دوراً قيادياً أكبر بمجال حقوق الإنسان في المحافل الدولية والإقليمية.

وأخيراً فثمة حاجة إلى كسر ذهنية التكتل التي تؤدي بحكومات كثيرة إلى التصويت - بشكل شبه دائم - لصالح جماعاتها الإقليمية، بينما آرائها الخاصة أكثر تقدمية. والدول المعتدلة بحاجة للتشجيع على النأي بنفسها عن المفسدين الذين يميلون للهيمنة على التصويت التكتلي. وفي أفريقيا مثلاً ينبغي تشجيع غانا وزامبيا على مفارقة الجزائر ومصر. وفي آسيا ينبغي إبعاد الفلبين وتايلاند عن بورما وفيتنام. والنجاح يحتاج لإستراتيجية ورؤية، وإلى الانخراط في قنوات التعاون والعمل الدبلوماسي، وأن يتم تصميم كل هذه الأنشطة من أجل مد اليد إلى الدول المعتدلة، وأخذ آرائها على محمل الجد، ونقلها إلى المجموعة المؤيدة لحقوق الإنسان.

توجه جديد في واشنطن

إن نجاح أي جهود من أجل استعادة زمام المبادرة من المفسدين يعتمد إلى حد كبير على واشنطن. وينبغي على إدارة أوباما أن تتراجع عما تسبب في أضرار جسيمة من قبل إدارة بوش، وأن تبدأ في استعادة سمعة الولايات المتحدة وفعاليتها كمُدافع عن حقوق الإنسان. وتغيير سياسة الولايات المتحدة حول كيفية مكافحة الإرهاب هي خطوة أساسية ينبغي البدء منها. ومن بين الخطوات التي ينبغي على الرئيس أوباما أن يخطوها:

  • إغلاق مراكز احتجاز الاستخبارات المركزية السرية بشكل دائم لا رجعة فيه. وقد اقترح بوش إفراغها مؤقتاً.
  • تطبيق قواعد العسكرية الأميركية الجديدة على الاستخبارات المركزية (تمت مراجعتها إبان فضيحة أبو غريب) التي تحظر الاستجواب تحت الإكراه. وقد حاول الكونغرس فرض الشرعية على هذه الخطوة لكن بوش اعترض على مشروع القانون، ولم يكن لدى الكونغرس الأغلبية الكافية لتجاوز الاعتراض.
  • إغلاق مركز احتجاز غوانتانامو دون نقله إلى الشاطئ الأميركي عبر السماح بالاحتجاز دون محاكمة على الأراضي الأميركية. ويعني هذا إعادة أو مقاضاة جميع المحتجزين وضمان أن المحاكمات تتم في محاكم نظامية وليس في لجان عسكرية مجريات العمل بها أقل من الحد الأدنى، والتي تسمح بالإدانة الجنائية بناء على اعترافات مُنتزعة بالإكراه، أو في أية محاكم "خاصة" لا تلتزم بإجراءات التقاضي السليمة. ويعني هذا أيضاً التخلي عن النظرية الراديكالية الخاصة بأن المشتبهين الإرهابيين الذين يُقبض عليهم في أي مكان في العالم، حتى بعيداً عن أي ميدان قتال معروف، يمكن احتجازهم بصفتهم مقاتلين أعداء دون النظر إلى ضمانات الحماية في قانون حقوق الإنسان.
  • المبادرة بتشكيل لجنة تحقيق غير حزبية ومهنية، ولديها سلطة الأمر بالمثول أمام المحكمة، من أجل معرفة من صرح بهذه الإساءات الجسيمة وكيف يمكن محاسبته، وما هي الخطوات الواجب اتخاذها لضمان عدم تكرار هذه الحقبة القبيحة من التاريخ الأميركي مجدداً. وعملية التعرية والإقرار والتعويض هذه ضرورية كي لا تصبح إساءات إدارة بوش سوابق تُحتذى في المستقبل حين تطرأ تهديدات أمنية.

كما ينبغي على إدارة أوباما أن تقر بأنه من الآن فصاعداً سوف تقدم الحكومة الأميركية كل المتطلبات الواردة في القانون الدولي لحقوق الإنسان وتعود للانخراط مع المؤسسات الدولية من أجل إنفاذ هذا القانون. وعلى الرئيس أوباما أن:

  • يتقدم بترشيح الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بغية جعلها مؤسسة فعالة للترويج لحقوق الإنسان. وبينما كان يُرجح أن يُمنى الترشيح في ظل إدارة بوش بالفشل، فمن المرجح أن تربح الولايات المتحدة الترشيح في أثناء إدارة أوباما.
  • إبداء النية في العودة للانخراط البناء مع المحكمة الجنائية الدولية والتوقيع على معاهدة المحكمة، وإبطال العمل بموجب قانون حماية أعضاء الخدمة الأميركية (الذي يقطع المساعدات عن الحكومات التي لا تقسم على تسليم مواطن أميركي للمحاكمة والذي ينتهك سلطة لاهاي في تحرير أي سجين أميركي)، ودعم المحكمة الجنائية الدولية سياسياً وعملياً. وعلى الإدارة الجديدة أيضاً أن تبدأ في العمل السياسي داخلياً من أجل تصديق الولايات المتحدة على المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية.
  • يجب التصديق على معاهدات حقوقية هامة، مثل الاتفاقية الجديدة لمناهضة الاختفاءات القسرية (كبادرة على الالتزام بعدم العودة أبداً إلى هذه الممارسة الحقيرة)، واتفاقيات تم تجاهلها منذ فترة طويلة بشأن حقوق المرأة والطفل (وما زال لم تصدق عليها في العالم كله تقريباً سوى الولايات المتحدة)، واتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (لتأمين شبكة أمن داخلياً في ظل المساعدة على بناء تحالف أوسع يشمل كل الأقاليم من أجل حقوق الإنسان في الخارج)، وعلى البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (يحدد معايير الحرب التي تقبلها بالفعل الولايات المتحدة بصفتها تدخل ضمن القانون العرفي)، ومعاهدات إنقاذ الحياة الأخيرة التي تحظر الذخائر العنقودية والألغام الأرضية المضادة للأفراد (وهي أسلحة نظراً لوصمها يجد الجيش الأميركي عموماً مشقة في استخدامها على أية حال).

وأخيراً على الرئيس أوباما أن يعيد تقييم العلاقات الثنائية الأميركية مع حكومات أدت أهميتها كحليفة إستراتيجية أو ضمن جهود مكافحة الإرهاب إلى تجاوز إدارة بوش لإساءاتها. وينبغي على الولايات المتحدة أن تستخدم ما لديها من قدرة اقتصادية للدفع بوضع حد لإساءات الحلفاء المقربين، مثل الأعمال الوحشية الأثيوبية في أوغادين والصومال، واستخدام الجيش في باكستان للتعذيب و"الاختفاء"، وقمع مصر للمعارضة السياسية، واستخدام إسرائيل للعقوبات الجماعية رداً على الهجمات الصاروخية الفلسطينية على المدنيين، وإعاقة كولومبيا للتحقيق في الصلات بين المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى وقوات الميليشيات القاتلة.

استنتاج

كحال جميع التحركات العالمية، فإن الترويج لحقوق الإنسان وتعزيزها لا يمكن أن يمر في ظل تجاهل التغيرات في ميزان القوى العالمية. إذ لم يعد الدور التقليدي للغرب في الترويج لحقوق الإنسان كافياً. وينبغي بناء تحالفات جديدة بمد الأيدي إلى نظم ديمقراطية أخرى تحترم كثيراً حقوق الإنسان داخلياً ويمكن إقناعها بالانضمام إلى مساعي الترويج لحقوق الإنسان حول العالم. لكن مثل هذه التحالفات لا يمكن حشدها دون تحولات موسعة في السياسات والمناهج التي تتبعها النظم الديمقراطية الرئيسية في العالم.

واليوم فإن الدفاع الفعال عن حقوق الإنسان يتطلب وجود التزامات جديدة، من أجل احترام حقوق الإنسان بجدية داخلياً، وللإصرار على محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة بغض النظر عن هويتهم، والترويج لحقوق الإنسان بشكل متسق دون تفضيل الحلفاء أو الشركاء الإستراتيجيين، ومد الأيدي إلى حلفاء محتملين جدد لديهم الانفتاح الكافي للتصدي لبواعث القلق الخاصة بحقوق الإنسان. وليس أي من المذكور مستحيل، ومن يعتقدون أن التحولات العالمية في ميزان القوى سوف تطلق بوق نهاية إنفاذ حقوق الإنسان يخلطون بين الواقع المُعاش على جانب وضعف أداء النظم الديمقراطية الأساسية في الوقت الحالي على جانب آخر.

إلا أن الدفاع بنجاح عن حقوق الإنسان يتطلب الجدية في الصدق مع الذات من جانب هذه النظم الديمقراطية والاستعداد لتغيير مجرى السياسات. ووصول إدارة أوباما إلى واشنطن في ظل تصميم الإدارة الظاهر على وضع حد للإساءات الكارثية التي وقعت في سنوات بوش يُعد فرصة نموذجية. والمهمة التي تواجه مجتمع حقوق الإنسان هي إقناع مؤيدي حقوق الإنسان - سواء الحلفاء التقليديين أو الحلفاء المحتملين الجدد - بانتهاز هذه الفرصة. ويُعد هذا - إذا ما تحقق - خير احتفاء بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

هذا التقرير

هذا التقرير هو تقرير هيومن رايتس ووتش العالمي السنوي التاسع عشر المعني بممارسات حقوق الإنسان في شتى أرجاء العالم. وهو يعرض بشكل ملخص قضايا حقوق الإنسان في أكثر من 90 دولة ومنطقة في شتى أرجاء العالم، ويستند إلى أحداث وقعت منذ مطلع 2008 حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2008.

والجزء الخاص بكل دولة يعرض تفصيلاً القضايا الحقوقية الهامة، وينظر في حرية المدافعين المحليين عن حقوق الإنسان في أداء عملهم، ويعرض ردود أفعال الفاعلين الدوليين الأساسيين، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والولايات المتحدة والعديد من المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية.

ويشمل هذا التقرير أعمالاً بحثية مُكثفة جرت في أثناء عام 2008 من قبل العاملين بالبحوث في هيومن رايتس ووتش، وهذا في أغلب الأحوال بالشراكة مع نشطاء حقوق الإنسان في الدول المعنية. كما يشمل عمل فريق الترويج للحقوق والعمل الإعلامي، والذي يراقب تطورات السياسات المتعلقة بحقوق الإنسان ويسعى لإقناع الحكومات والمؤسسات الدولية بالحد من الإساءات والترويج لحقوق الإنسان. ومطبوعات هيومن رايتس ووتش، الصادرة أثناء هذا العام، تضم روايات أكثر تفصيلاً عن الكثير من القضايا الواردة في الملخصات الموجزة المعروضة ضمن هذا التقرير. ويمكن الاطلاع عليها على موقع هيومن رايتس ووتش: http://www.hrw.org/

وكما هو الحال في الأعوام السابقة، فلا يضم هذا التقرير فصلاً عن كل دولة قامت هيومن رايتس ووتش بالعمل فيها، ولا يناقش كل القضايا المهمة. وعدم عرض دولة بعينها أو موضوع بعينه سببه في الأغلب اقتصار عدد العاملين ويجب ألا يُعتبر دالاً على حجم أو درجة جسامة المشكلة. وتوجد انتهاكات حقوقية جسيمة كثيرة تعوز هيومن رايتس ووتش الإمكانات الكافية لتغطيتها والتصدي لها.

والعوامل المشمولة بتحديد بؤرة التركيز في عملنا لعام 2008 (ومن ثم محتوى هذا التقرير) تشمل عدد الأشخاص المتأثرين بجسامة الإساءات، والقدرة على الدخول إلى الدولة وتوافر المعلومات بشأنها، ومدى انكشاف الجناة المُسيئين وتأثرهم بالضغوط، وفي معرض التصدي لبعض القضايا المحددة، ومن أجل تعزيز عمل منظمات حقوق الإنسان المحلية.

ولا يضم التقرير العالمي فصولاً منفصلة تخص العمل في هيومن رايتس ووتش تبعاً للتقسيم الموضوعي، وبدلاً من هذا يتم عرض هذه التفاصيل بشكل مباشر في فصول الدول. يُرجى الاطلاع على موقع هيومن رايتس ووتش لمعرفة المزيد من التفاصيل عن تغطيتنا لحقوق الطفل والمرأة والأسلحة والقضايا العسكرية والأعمال وحقوق الإنسان وفيروس ومرض الإيدز وحقوق الإنسان، والعدل الدولي، والإرهاب ومكافحة الإرهاب، واللاجئين والأشخاص المُشردين، وحقوق المثليات والمثليين وذوي التفضيل الجنسي المزدوج والمتحولين جنسياً، ولمعرفة معلومات عن مهرجانات الأفلام الدولية التي تنظمها هيومن رايتس ووتش.

كينيث روث هو المدير التنفيذي لـ هيومن رايتس ووتش.